في غياب الموهبة: مصنع لتفريخ الأدباء!

في غياب الموهبة: مصنع لتفريخ الأدباء!

يتزايد في الغرب تيار انفتاح أبواب الفنون والآداب للكتابة دون شروط أو قواعد أو مؤهلات محددة، ما يتيح لأفراد يتخذون قرارًا أو يرغبون -بحسب كليشهات الدعاية- في أن يصبحوا كتابًا، أن ينتظموا في دورات أو معاهد أشبه بمصانع لتفريخ الأدباء وفق نصائح وتطبيقات ساذجة، كالوصفات السريعة لتعلم اللغات في سبعة أيام من دون معلم.

يتزامن ذلك مع صعود موجات ما بعد الحداثة أو بسببها في الأحرى، وبتأثير النزعة الشعبوية التي تستهدف تسطيح الفن والثقافة عمومًا، بدعوى جعلها جماهيرية وانتزاعها من نخبويتها وانغلاقها، والاعتقاد بإمكان توليد المهارات والمواهب من دون استعداد نفسي سابق أو تهيئة ذاتية؛ لذا انتشرت في الغرب مدارس ومواقع لتعليم الشعر والفن خارج الأهداف أو البرامج البيداغوجية التي تعتمد تعليمًا منظمًا، يساعد في تمكين الموهوبين وتقوية قدراتهم بدراسات منظمة شاملة، وتزويدهم بعدة الفن والأدب التي لا تعني بالضرورة أن يكونوا أدباء أو فنانين.

والمفارقة الكبرى تكمن في اختلاط تلك المقترحات الشعبوية مع الدعوة النظرية لمناهج ما بعد الحداثة لإعلاء الهوامش والمهمشين: سواء أكانت فنونًا كتابية أو صنفًا من الكتّاب – النساء مثلًا كجنس، والسيرة الذاتية كنوع أدبي- وإذ نقرّ بضرورة نبذ التهميش ونشارك في الاهتمام المستحق لأدب الهوامش المقصاة اجتماعيًّا بسبب الهيمنة التقليدية، ونؤمن بتنشيط الفنون المقصاة لأسباب معروفة كالكتابة السيرية، فنحن لا نقرّ بأن يغدو ذلك مبررًا لإلغاء شرط الموهبة الفردية، أو التقليل من شأنها في الكتابة الإبداعية والفنون عامة. ولا تقنعنا بجدوى تلك المصانع التي يراد لها أن تفرخ الكتاب والفنانين بإخضاعهم لبرنامج زمني، وعبر مواد يتصور واضعوها أنها كافية للخلق والإبداع، فيصفون قوالب وأطرًا معينة توقع مقلديها في البساطة والهشاشة، ويصبحون مستنسخين للنماذج المتصورة، يذكروننا بكتب الرسائل الجاهزة للمناسبات، التي يقتدي بها المراهقون وأنصاف الأميين للتعبير عن مشاعرهم من خلال تلك الوسائط الجاهزة. والأخطر هو ما تبع ذلك من ازدراء الموهبة، والحديث عنها كما لو كانت تهمة أو نقصًا في المبدع، أو كأنها المقابل العدائي للثقافة.

جابر عصفور والترويج لبضائع متنافرة

أذكر استطرادًا أن الدكتور جابر عصفور كان يناديني بالناقد الموهوب كلما جمعنا لقاء. وكتب ذلك بخطه وهو يهديني أحد كتبه. كنت أعلم أن ذلك الوصف- في المسكوت عنه من خطاب الدكتور عصفور- هو أنني لا أعبأ بالجانب النظري مثله وبعض الزملاء الآخرين. وذلك يعني أنه يربط جهدي النقدي بدافع واحد هو الموهبة التي تقف من وجهة نظره بمقابل أو بمعاداة النظرية التي يضمر تقسيمه هذا انتماءه إليها. والحق أن صلة الدكتور عصفور بالنظرية هو دور تعريفي. أي أنه يقدم خلاصاتها للقراء ويعرّف بروادها وكتبهم وما تقوم عليه نظرياتهم من منطلقات فكرية وممارسات نقدية في لغاتهم وبأدب بلدانهم نموذجًا للتطبيق أو الإجراء؛ لذا لم ينعكس ذلك في دراساته ومقالاته التي تقوم على حرية منهجية كافية لتقديم مقاربة للموضوع أو النص قيد الدرس أو النقد. أما كتبه ذات الحمولة النظرية وأكثرها ترجمة فهي والقليل المؤلف في التنظير ليست إلا انحباسًا تامًّا فيما تقوله تلك النظريات دون حوار ندّي معها، يرفض ويقبل أو يقوم بتكييفها لتلائم مادة الدرس النقدي العربي. وهذا جانب تشكو منه بعض كتابات الزملاء المعرَّفين بالنظرية دون إسقاطها على النصوص أو الموضوعات والظواهر؛ لتجربتها عبر إجراءات منهجية تفضي إلى تحليل مدروس وتأويل مقنع. كنت أجد لهؤلاء شبهًا بمن يصف عمل آلة كهربائية أو أجزاءها بدقة، استنادًا إلى تعليماتها المصاحبة لها. ثم يتركها دون تشغيل؛ لذا نجد في كتبهم تناقضات منهجية كأنهم مروِّجو بضائع متنافرة، فيكتبون عن البنيوية والواقعية والأسلوبية في كتب متتالية من تأليفهم. وهذا الهوس النظري يرادف النظر للنقد والشعر بكونهما حرفة تُعَلَّم، أو (صنعة) بتعبير المصطلح النقدي العربي القديم الذي وضع وصايا وقواعد لصناعة الشعر وكتابته مثلًا، لكنها تنتج نظّامين في الواقع يسبكون أشعارهم بطرائق تقليدية متشابهة، حين لا يمتلكون موهبة تمييز المفردة وتركيب العبارة، ولا يمتلكون الخيال المطلوب والمؤثر الشعوري لقول الشعر.

وأعتقد أن هذه القضية- موهبة الناقد أو ثقافته- مُرحَّلة من الشعر خاصة، إذ ناقش النقاد العرب قديمًا وحديثًا مدى حاجة الشعراء للموهبة والثقافة. وكانوا معتدلين غالبًا في طلب توفر الأمرين. فالموهبة تتمثل في قدرة الناقد على التذوق والاختيار والفهم ثم الحكم على النصوص، فيما تعضد الثقافة عمل الموهبة ودورها، فتكون عدة الناقد لغوية وعروضية وبلاغية، وهي أمور تطلب استعدادًا خاصًّا وتعلمًا ودراية؛ لذا قرنوا ثقافة الناقد بالنصوص ذاتها التي ترتبط بدورها بشروط الصناعة التي استخدموها للتدليل على أهمية المعرفة العلمية في نظم الشعر، أي التوفر على عدة لغوية وبلاغية وعروضية بجانب المقدرة الخيالية والتصوير العاطفي.

وقد تنبه المنظّرون الحداثيون ومن تلاهم إلى ذلك؛ فأكدوا ضرورة التثقف والتزود بالمعرفة، بما يشبه صناعة الشعر العربية. ولكن إغفال دور الموهبة أو الملكة الأولية أضر كثيرًا في عافية الشعر والنقد معًا.

الشعر والموهبة

وقد قيل في السياب: إنه يتوفر على موهبة فحسب، دون ثقافة كافية، وإن مصادره الثقافية محدودة وقراءاته لا تشي بمؤثر معرفي. وهذا الرأي ومن أبرز دعاته الشاعر العراقي الستيني سامي مهدي تعرض لنقاش مطول وردود. من بينها ما فصل فيه الناقد والمترجم الدكتور عبدالواحد لؤلؤة إذ قال في معرض التنبيه على ما قدمه السياب في مجال الرمز والأسطورة مبكرًا: «يرتبط تطويع الإشارة الثقافية إلى صيغ محلية، لا يقوى عليه سوى صاحب موهبة كبرى». في إشارة لما أخذه السياب من إديث سِتويل في قصيدته «أنشودة المطر».

ومستندًا إلى مقالة إليوت ذات الشهرة والأهمية «التراث والموهبة الفردية» حيث تعرض لضرورة تجديد الموروث بقراءته وتحديثه، بالاستعانة بالموهبة الفردية للشاعر. حتى حين يدعو مسترسلًا إلى قراءة القصائد الخالدة منذ هوميروس حتى المعاصرين فإنه يشترط بجانب تلك الثقافة المتحصلة من القراءة أن تتوفر لدى الشاعر الموهبة. ويذكرنا الدكتور لؤلؤة بأن السياب «كانت موهبته الشعرية أكبر بكثير مما تعلمه من الشعر الإنجليزي» رغم ما قيل عن ثقافته بسبب دراسته في قسم اللغة الإنجليزية في دار المعلمين العالية ببغداد في الأربعينيات، تلك الموهبة هي التي رأى إليوت أن أمثالها قادرة على تجديد التراث وإعادته حيًّا معاصرًا. وكذلك فعل السياب إذ توفر على الرموز التراثية ولم يكتفِ بمراجعها العالمية، بل اتخذ من واقعه ومحيطه وثقافته العربية كثيرًا من رموز المنطقة وإشاراتها الثقافية. فالموهبة أعانته على التقاط تلك القيمة الشعرية للموروث شعبيًّا أو دينيًّا أو أسطوريًّا. موهبة ارتقت بشعره وأهَّلته لفتح كبير في الشعرية العربية.

وليكن! فالسياب موهوب في كيفية امتصاص المرجع الثقافي. كتاب واحد أعاره إياه جبرا إبراهيم جبرا هو «الغصن الذهبي» جعله ينصرف إلى الأساطير والرموز ويكيّف الفكرة عراقيًّا؛ ليعود بكنز من رموز العراق القديم بجانب ما أدخله في شعره من التراث العربي والعالمي؛ فارتبطت باسمه أسطورة تموز وعشتار. وكذلك رموزه الأثيرة كأيوب والمسيح وبروميثيوس وسيزيف وغيرها. وقريبًا من أمثولة التحديث والفعل الشعري تأثرًا بمصدر واحد مع استثمار الموهبة ما ذكره إليوت في مقالته تلك من أن (صاحب موهبة مثل شكسبير أفاد من كتاب واحد ترجمه نورث بعنوان: «مشاهير الإغريق والرومان» أكثر مما أفاد كثيرون من مكتبة المتحف البريطاني برمتها).

٭ ٭ ٭

ولا أحسب تلك المصانع الوهمية قادرة اليوم على أن تصنع موهبة تلتقط بحساسية ورهافة تلك المعارف الساندة لشعرية النص أو للخطاب النقدي اللصيق بالنصوص والمقبل عليها بدقة وحس، تعضدهما المعرفة اللازمة.

حكايات الصقعبي متدثرة بالطفولة والغياب وفتنة الصوت

حكايات الصقعبي متدثرة بالطفولة والغياب وفتنة الصوت

عبدالعزيز الصقعبي

عبدالعزيز الصقعبي

في مجموعته القصصية التاسعة «حارس النهر القديم»، الصادرة عن منشورات ضفاف في بيروت ومنشورات الاختلاف في الجزائر، يأخذنا الروائي والقاص السعودي «عبدالعزيز الصقعبي» إلى مسارات تسريد عوالم ما تعيشه الذوات البشرية في حِلّها وترحالها، في حضورها وغيابها، حضور الآخرين فيها وغيابهم.

تضم هذه المجموعة التي تقع في أربع وستين صفحة من القطْع المتوسط، أربعة عشر نصًّا قصصيًّا قصيرًا، هي: الباب الموارب، جرح، شوق، غبار، قافلة الكلمات، ورد حجري، التنين يحترق من الداخل، بقعة صوت، تفاحة، حارس النهر القديم، حكاية عشق، رغبة خاصة، سبات، هم. وهي عنوانات تتأرجح بين معناها المعجمي والشعري، أو المركب بدلالته الشعرية المنزاحة عن المعنى المعجمي كما هي الحال في العناوين الآتية: قافلة الكلمات، ورد حجري، بقعة صوت. أما عنوان المجموعة «حارس النهر القديم» فهو عنوان القصَّة العاشرة في هذه المجموعة.

في قراءتي الأولى والثانية لهذه المجموعة القصصية، وجدت نفسي بإزاء كتابة دافئة يحدوها الحنين إلى عالم الطفولة؛ هذا الحنين الذي سرعان ما نجده مسرودًا في القصَّة الأولى «جرح»، وهو عنوان بدا عاملًا سرديًّا مولِّدًا لمبنى القصَّة الحكائي، الجرح الجسمي كما بدا جراء شج رأس طفل: «ماذا عساه أن يفعل هذا الطفل ابن السابعة بحجر قذفه طفل آخر فشج رأسه وأدماه؟» (ص 9).

هذا السؤال سيتواصل مع أثر الجرح في الطفل والأب والأم، في الراهن والمستقبل، وهي عوامل مُشاركة في حكاية القصَّة، سيتحوَّل الجرح الذي جاءت موجوديته كحادث في مدينة الطائف، سيتحوّل إلى «علامة بالرأس بقيت سنوات طويلة» (ص 10)، لكنه سيتحوَّل أيضًا إلى قيمة تأريخية، بل كونها دالة على أحداث موضوعية تبدو أكبر من مجرَّد جرح جسمي ابتلي به رأس طفل.

في قصَّة «شوق» يعود الناصّ (Textor) = عبدالعزيز الصقعبي، إلى الطفولة ثانية حيث «ذاكرتي تنبض بالطفولة» (ص 11) كما يقول الراوي بضمير المتكلِّم، وكذلك الملفوظ الإخباري: «كنتُ طفلًا وكانوا يتحدثون عن أجمل نساء الحيس» (ص 12). ومرة أخرى يحضر عالم الطفولة في النَّص ذاته حيث اسم المرأة، موضوع الشوق، مكتوب بالذاكرة من دون أن يُمحى حتى يستعيد وجوده بعد حين ليسأل الناص بضمير الغائب: «هل يتجرأ ذلك الطفل ويقول لتلك المرأة: كم أنت رائعة أيتها العزيزة؟» (ص 12).

في نص «ورد حجري» ترد الطفولة بملفوظات حكائية مسردة: «كنتَ أنت الطفل حينها..» (ص 18)، ومن ثم: «ذلك الذي غادر أرضًا وطئتها أقدام أطفال يلعبون» (ص 18). إن حضور الطفولة المسرودة تضفي على حكائية هذه المجموعة طابع البراءة، لكنّها البراءة غير العابرة حتى لتبدو علامة ثاوية في نفس الناص وذاكرته التي تموج بالكثير مما راح ينجلي مسرودًا بعد حين.

في عمق الطفولة يوجد الغياب الذي تسعى مسارات السَّرد في هذه المجموعة إلى استحضاره عبر استذكار بعض الصور المتعلقة به. في «الباب الموارب» نجد الأب ذلك الذي رحل (ص 7)، وفي «جرح» نقرأ عن «الجرح القديم» (ص 10)، وفي «شوق» نقرأ عن «الذاكرة التي تنبض بالطفولة والتوق» (ص 11)، ومن ثم تساؤل الراوي الشريك في الحكي بلسانه عن «الشوق الذي يكبلني من ذاكرتي ليتجه سنوات إلى الوراء..» (ص 12).  وفي «حارس النهر القديم» يتوق «أبو سيل» إلى نهره المتدفق وقد طمرته حداثة المدن، يتوق إلى والديه اللذين جرفهما سيل النهر فماتا، وما حراسته للنهر المتهالك سوى استعادة للغائبين ربما وهمًا لكنّه الانتظار المثقل بالأسى.  وفي «رغبة خاصة» يستشعر الراوي العاشق غياب الحبيبة تحت سطوة الأمنيات: «فقط.. هي أمنيتي بأن نتحدَّث..» (ص 40). وفي «ورد حجري» يخاطب الراوي ذاته مخاطبًا إياها عن أمس مضى في ظل سطوة الرغبة الجامعة بالتواصل مع الآخر المفتقَد إليه دومًا، وتلك عذابات الذات المنعزلة التي تستشعر الغياب بحساسية مفرطة الحضور.

تتضح الكتابة في مجموعة «حارس النهر القديم» مدارًا كثير التكرار، وذلك موئل يدفعك إلى التوقف عنده؛ ففي «ورد حجري» يخاطب الراوي ذاته عن أمس مضى، يخاطبها قائلًا: «ها أنتَ أكتبك.. ألونك بألوان مسخت إلى الرمادي.. كم أنت مسحوق فدعني ألملم بقاياك وأشكِّل منها مدينة حلم جديد» (ص 18). هذا يعني أن الكتابة هنا هي تشكيل وجودي قد يستحضر الماضي على نحو مبدع وخلاق لكنّه يبقى الأثر الجديد الذي يمكن أن يكون معادلًا للغياب صوب الحضور الذي يأمله الناص/ الراوي وهو يعيد ذاته عبر التذكر، ففي «ذات مساء»، يقول الراوي: «حلمتُ بامرأة.. تقرأ نصًّا كتبته.. تسخر من كلمة قلتها.. تقرأ عليَّ مَقاطعَ شعرية.. لها.. لكل من أحب، امرأة.. لي… لكل من غادرته النساء» (ص 20).

تبدو الكتابة ههنا استعادة وجودية، ورغبة مأمولة، وهمًّا وجوديًّا، فالراوي في قصَّة «بقعة صوت» يبحث، بحسب ما يقول: «عن كلمات قد أعرفها.. قد تعرفني.. قد أفهمها.. قد تمتلكني..» (ص 24). وفي «حكاية عشق» يروي العاشق تجربة قد تكون يومية في مخاطبة الحبيبة التي يبحث عنها يوميًّا: «الواقع الذي يجعلك تجهشين بالبكاء.. وتبحثين عن رجل مثلي يجلس على كرسي وأمامه طاولة صغيرة ليكتب على أوراق بيضاء هموم الآخرين» (ص 34)، ومن ثم يخاطب الحبيبة الغائبة قائلًا: «أوظف عددًا من الكلمات وأجعل لكل كلمة موقعًا خاصًّا… أجند كل الكلمات لتعزف لحنًا يوقظ نخوة الرجال… سأكتب بذلك الدم حكاية عشق لرجل أحب امرأة ذات يوم..» (ص 35).

في «حارس النهر القديم»، أبدى عبدالعزيز الصقعبي بوصفه ناصًّا، أبدى حرصًا لافتًا على تسريد «الصوت» كعلامة سيميائية دالة على توليد الحدث في بعض قصص هذه المجموعة، ومنها قصَّة «بقعة صوت» التي لعب المتخيل السَّردي لديه ابتداء من العنوان على شعرية التسمية والعنونة والحدث، فيمكن أن يقال مثلًا «بقعة لون» أو «بقعة طين»، أما أن يقال بقعة صوت فذلك عدول معنوي وانزياح دلالي مغاير، وتلك هي بعض جماليات الكتابة السَّردية في لعبة القول الإبداعي.

تحكي قصَّة «بقعة صوت» تجربة مسافر من جدة السعودية إلى الدار البيضاء المغربية، مسافر يزعجه صوت الكرسي الذي يجلس عليه في رحلة طيران تستغرق سبع ساعات متواصلة، يتساءل الراوي قائلًا: «لكَمْ هو مزعج… هدير صوته يجعلني أترنح؟ لماذا لا يصمت..؟» (ص 23). ومن ثم يشخص مكانية الصوت كحدث: «المقعد لا يغادرني مطلقًا في زمن يحملني به إلى هنا التي غالبًا ما تكون هناك..» (ص 23).

في تلك الأثناء، يتحوَّل الصوت إلى موضوعة تأمل واستذكار لكل صور الصوت المزعجة التي يعمل الناص على تسريدها، وهي تجربة ستجد صداها في قصَّة «رغبة خاصَّة» التي يتوغَّل الصقعبي فيها، نحو تفكيك بنية الملافظ الصوتية التي تضمُّها كلمات قابعة في ذات البطل المسرود بعمق، إنها تجربة الصوت الوجودية، تجربة العلاقة بين الحروف المنطوقة، أو التي يُراد نطقها ضمن مسار السَّرد، والذوات البشرية، فالمعشوقة من جانب العاشق في نأي تواصلي عنه، وهنا غياب من نمط آخر، بل هو ضياع الأنا من نمط مختلف أيضًا حرص الناصّ على تسريده عبر ملفوظ «مرحبًا» الذي يتمنّى البطل نطقه كصوت كامل في مواجهة المحبوبة التي أسدلت أبواب الاستماع إلى هذه اللفظة، فيبقى يدور ويدور مفككًا هذا الملفوظ التواصلي مع ذاته، لكنَّه في النهاية يجلس مع المرأة المتبناة رغبة وعشقًا، يجلس إلى جانبها:

«- هي أمنيتي.. بأن نتحدَّث.

– فقط.

– لا أدري.. إذا كان هنالك شيء غير التحدث معك.

– كم تدفع؟!» (ص 40).

إنها عوالم غير معتادة يروّدها عبدالعزيز الصقعبي في مجموعة قصصه «حارس النهر القديم»، ما يكشف عن تجربة دافئة التلقِّي في مبنييها؛ السَّردي والحكائي معًا، وهي تجربة استدرجت لغة توصيل سردي تفتح للقارئ آفاق القراءة التأويلية، كون السرد فيها يلاعب فراغات الحكي وبياضات التدوين؛ ما جعل الكتابة لدى الصقعبي تمنح القارئ فضاءات للقراءة الجمالية مفتوحة الأثر.