عندما يتجاهل السياسيون العرب ابن خلدون

عندما يتجاهل السياسيون العرب ابن خلدون

اهتم الغرب بابن خلدون (1332- 1406م)، منذ بداية القرن التاسع عشر، فراح المستشرقون يترجمون «المقدمة» وأجزاءً من «كتاب العبر» منذ عام 1810م، مع سيلفستردي ساسي الفرنسي، وهامِر بورغشتال الألماني، ورينهارتدوزي الهولندي، وإدوارد بوكوك الإنجليزي، ودسلان الفرنسي، وألفريد فون كريمر النمساوي، وعبداللطيف صبحي باشا التركي… وفي القرن العشرين ترجمت المقدمة إلى معظم اللغات الكبرى في العالم، ومن بينها الترجمة اليابانية عام 1964- 1987م، والعبرية عام 1967م.

وظهرت في السنوات الأخيرة ترجمات علمية محققة ومذيَّلة بشروحات وتعليقات مفيدة، ومن بينها الترجمة الرائعة التي أنجزها الأستاذ المغربي عبدالسلام شدّادي، وتبنَّتها دار غاليمار الباريسية الفرنسية، وطبعتها في أجمل سلسلة أوربية وهي «مكتبة لابلياد» (2004، 1559 صفحة) التي تُعَدّ مفخرة للكتاب الفرنسي. وكتب الأستاذ شدادي مقدمة وافية لترجمته، وأرفدها بعدد كبير من الحواشي والتعليقات والفهارس. وأدرج ترجمة السيرة الذاتية لابن خلدون قبل المقدمة، وهي من أجمل السير الذاتية العربية في القرون الوسطى. وأضاف إلى متن «المقدمة» عددًا من الخرائط والمراجع المتعددة اللغات، فأتت ترجمته وافية جمعت كمًّا هائلًا من المعلومات يفيد منها القارئ الفرنسي كثيرًا. ولا نجد طبعة عربية للـ«مقدمة» بهذه الدقة العلمية، مع أنها من عيون تراثنا العربي.

وصدرت في الربع الأخير من القرن العشرين دراسات فلسفية وتاريخية وأنثروبولوجية حول «مقدمة» ابن خلدون في معظم اللغات؛ مما دفع بعضهم إلى القول بأن ابن خلدون هو مؤسس فلسفة التاريخ ومكتشف محرِّكه، وبأنه تفوَّق في كتابه هذا على أعمال المؤرخين القدامى كهيرودوت وسوثوكيذيذيس وأفتيخوس، والمسعودي، وابن العبري، والطبري… ويذكر آخرون أنه رسم الخطوط العريضة لـ«علم الاجتماع الإنساني» أو للأنثروبولوجيا الاجتماعية والسياسية التي صارت علومًا مهمة في الإنسانيات، ونوَّه بفضلها كلّ من إميل دوركايم وألكسيس دو توكفيل، وإدوارد إيفانز– بريتشارد.

الغرب لا العرب من أفاد من ابن خلدون

كتاب-ابن-خلدونعلى الرغم من ذلك، لم يستفد العرب كثيرًا من أفكار ابن خلدون ليخلقوا نظامًا سياسيًّا حديثًا، نظامًا يأخذ بعين الاعتبار تطور المجتمعات علميًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا؛ بل نلاحظ أن الغرب هو الذي استفاد من أفكار ابن خلدون التي تنطبق على جميع المجتمعات البشرية بعامة، مع أن أمثلته مأخوذٌ جلُّها من تاريخ المغرب والأندلس والمشرق. وطبّق عدد من الباحثين المعاصرين نظريات ابن خلدون على مجتمعاتنا المعاصرة وعلى الجيوسياسة التي نشهدها الآن. وتمثيلًا لا حصرًا، هذا ما فعله الباحث الفرنسي غابرييل مارتينيز غرو في كتابه: «موجز في تاريخ الإمبراطوريات. كيف تنشأ، وكيف تضمحلّ» ترجمة د. علي نجيب إبراهيم (دار الكتاب العربي، 2017م). فبعد أن استعرض بروز الإمبراطوريات عبر التاريخ (آشور، والفرس، والإغريق، وروما، والصين) توقف عند الكسوف الإمبراطوري لجميع هذه الإمبراطوريات. لقد اندثرت الإمبراطورية العباسية وحلَّت محلَّها الإمبراطورية السلجوقية، واندثرت الإمبراطورية البريطانية وحلت محلها الإمبراطورية الأميركية، واندثرت الممالك الصليبية في المشرق وحلت محلها السلطنة الأيوبية، واندثرت الإمبراطورية المملوكية وحلت محلها الإمبراطورية العثمانية، وهكذا.

ويعزف على النغمة ذاتها المؤرخ البريطاني إريك هوبزباوم الذي يرى في كتابه «عصر التطرفات» ترجمة فايز الصُّياغ (المنظمة العربية للترجمة، 2011م) أن الاستعمار الأوربي انحسر تدريجيًّا بعد الحرب العالمية الثانية، وفتح الطريق أمام الدول القومية في العالم الثالث الذي خلخلته الثوراتُ الاجتماعية والسياسية، التي اندلعت في عدد من بلداننا العربية بعد عام 2010م.

قرأ هذان المفكران الحاضرَ على ضوء ما ذكره ابن خلدون القائل: إن الأنظمة السياسية تشبه كل الكائنات الحية، تنشأ صغيرة ثم تكبر وتبلغ أوجها ذات يوم، ثم تبدأ بالانحسار وتتلاشى وتضمحلّ. فيأتي فريق آخر أشد قوة وفتوَّة ويستلم زمام الأمور. إذًا: عصبية ← مُلك ← عصبية ← مُلك… إلى ما لا نهاية. هذه هي حركة التاريخ، وهي قائمة على التغيير وليس الثبات. التأبيد غير وارد، حسب منطق ابن خلدون؛ لأن حركة التاريخ زوبعية ولا تتوقف؛ ولن توجد أمَّة أو سلالة خُلِّد سلطانُها ورفعت شعار التأبيد الذي ينتشر بسذاجة في بعض أنظمة الحكم المتخلفة. رأى ابن خلدون أن العنف هو عصب التاريخ، وأنه يخلق صنوَه: العنف ينشئ العنف. ولا يبقى إلا وجه ربك ذي الإكرام والجلال؛ لهذا السبب يكره سياسيو العالم الثالث ابن خلدون، ويَعُدُّونه نذير شؤم يهدد كراسيهم، في حين أن المجتمعات المتقدمة بنت أنظمتها على القوانين الحديثة والمؤسسات؛ وهذه الأخيرة هي التي تبقى بعد زوال الأشخاص وانتقال السلطة دستوريًّا. إذا شئتَ أن يخلدك التاريخ، ابْنِ، أَنشِئْ، عَمِّرْ ثم ارحل. هذا هو علم الاجتماع الإنساني الذي طرحته «مقدمة» ابن خلدون التي استفاد منها الغرب كثيرًا وكرهتها أنظمتنا السياسية المتخلفة التي لا تعرف أن تقرأ التاريخ.

الذاكرة الجمعية والوقائع البشرية

من ينظر في التاريخ، عليه أن يبرز العلاقة بين التاريخ والذاكرة الجمعية وأن يحفز دور هذه الذاكرة في استجلاء الوقائع البشرية. وقد أكبّ المؤرخ الفرنسي بيير نورا على إظهار مطارح الذاكرة في التاريخ، وهي التي تبنيها الأمة عبر مسيرتها خلال قرون وقرون. فأصدر عام 1997م أربعة مجلدات كتبتها مجموعة من المؤرخين، عن المعالم والرموز والأوابد والمؤسسات والوثائق التي ترتكز على هذه الذاكرة الجمعية. ذلك أن الأمة المصابة بمرض «النساوة Amnésie» هي أمة آيلة للسقوط والاندثار اللذين تكلم عنهما ابن خلدون، كما سلف. وكان نورا وجاك لوغوف قد أصدرا عام 2011م كتابًا جماعيًّا عنوانه: «الاشتغال بالتاريخ» ساهم في إعداده 29 باحثًا عكفوا على دراسة فلسفة التاريخ وعلاقة التاريخ بشتى العلوم الإنسانية والمجالات الفكرية والاجتماعية، ودرسوا أيضًا صلة التاريخ بالأساطير والذهنيات واللغات والأجيال الشابة والسينما والفنون والآداب الاجتماعية وتفاصيل الحياة اليومية… (وستصدر ترجمته قريبًا عبر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مشروع ترجمان).

كل هذا لأقول: إن مهمة السياسي الناجح هي أن يعقل زمانَه ويربط السوابق باللواحق؛ كي تتوافر لديه الرؤية الشمولية للواقع الذي يعيش فيه، وكي لا يتوغل في أدغال متاهية ودروب قصيرة المدى. وإذا انقلبت الأمور عليه، يجب أن يتحلى بالتخلي عن السلطة تاركًا نهر التاريخ يمضي حسب مجراه. وهذا ما فعله عدد من رؤساء وزعماء العالم، بعد خسارتهم في الانتخابات أو عجزهم الصحي: باراك أوباما مؤخرًا، وديفيد كاميرون، والبابا يوحنا بولس الثاني. ومنهم من استبق الأمور فامتنع عن الترشُّح للانتخابات، لعلمه أن استطلاعات الرأي لم تكن لصالحه، كما فعل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند. لئنْ كانت الدراسات التاريخية قد خطت خطوات جبَّارة خلال العقود المنصرمة، لا سيَّما مع مدرسة «الحوليات» التي أطلقها كلٌّ من مارك بلوخولوسيان فيفر وفرنان بروديل (عام 1972م)، فإنها ما زالت تستكمل مدرسة ابن خلدون ولم تخرج من عباءته. وإذا أهمل العرب ابن خلدون خلال القرون الماضية –على عكس ما فعله الغربيون منذ مطلع القرن التاسع عشر- فلأنهم استشعروا خطر نظرياته على أنظمتهم السياسية ومصالحهم الآنية.