الثوابت والمتغيرات في المجتمع والدولة في الخليج  محمد اليحيائي

الثوابت والمتغيرات في المجتمع والدولة في الخليج محمد اليحيائي

أود أن أركز مساهمتي المتواضعة في هذا الملف الذي يأتي في توقيت بالغ الأهمية بالنسبة لعلاقتنا، نحن أبناء وسكان هذه المنطقة بالنفط، والذي بدا وكأنه يلوّح لنا مودِّعًا، أركزها على الجزء الأخير من محاور الملف: ما الذي أعطاه النفط للمنطقة، وما الذي أخذه منها؟ الإجابة أو الإجابات عن هذا السؤال كثيرة ومتعددة، بعضها بسيط ومباشر، وبعضها عميق ومعقد، ويشتبك مع علم الاجتماع وعلم الإنسان والسياسة. على المستوى البسيط والمباشر، أعطى النفط هذه المنطقة الكثير، وأخذ منها الكثير. هذه المنطقة انتقلت بفضل العائدات المالية الهائلة من حالة معيشية واقتصادية إلى حالة أخرى جديدة، غيّر في الجغرافيا والديموغرافيا، في المجتمع والناس والدولة، وحوَّل منطقة الخليج من هامش بعيد معزول، ومن محطة لصراعات المستعمِرين، وممرّ لأطماعهم، إلى مركز استقطاب مالي وتجاري، وهذه المرة للمُستعمِرين والمُستعمَرين معًا، فالمُستَعمِر الأوربي السابق، أصبح في حالات كثيرة، مُستخدَمًا (مُستَعمَرًا بالمعنى المادي) لدى المُستَعمَر السابق في عواصم ومدن هذه المنطقة. وهذا تحول مهم في العلاقة بين الطرفين أنتجه النفط.

المدينة الخليجية كـ«دبي» مثلًا، أصبحت، بفضل الثروة النفطية والمشاريع الاقتصادية والتجارية الأخرى التي تحققت انطلاقًا من الوفرة المالية للنفط، مدينة كوزموبوليتانية بكل ما يعنيه المصطلح من تنوع واختلاط هويات ولغات وألوان (أقلها حضورًا هو الهوية واللغة واللون المحلي). هذا «الاجتماع البشري» بلغة ابن خلدون، في المدينة الخليجية الجديدة صاغ شكلًا جديدًا من أشكال التعايش التي لم تكن معروفة في المنطقة قبل النفط؛ تعايش قِيَم الكرم والوفادة التي عُرف بها سكان الخليج مع النفعية، والانتهازية، والغرور، والتدافع المادي الذي اكتُسب وطُوِّر، ومُورِس، ولا سيما على مستوى مؤسسات الريع الرسمية والخاصة.

على هذا المستوى أيضًا، جعلت الثروة النفطية من ثلاث مدن خليجية هي: «دبي» و«أبو ظبي» و«الدوحة»، جعلت منها محطات عالمية كبري في شبكة النقل الجوي العالمية، حتى إن الصينيّ والهنديّ لم يعد بمقدورهما السفر إلى أوربا أو الولايات المتحدة الأميركية، إلا عبر التوقف في واحدة من هذه المحطات الثلاث على الأغلب، كما أن ليس بمقدور الأميركي أو الأوربي السفر إلى الهند أو الصين إلا عبر التوقف في واحدة من هذه المحطات العالمية الثلاث. أما على المستوى الآخر، العميق والمعقد، فإن البحث في التغييرات التي أحدثتها الطفرة النفطية على البنى الاجتماعية والثقافية (بما فيها الكتابة والأدب) يتطلب تجاوزًا للصور الظاهرة، اللمّاعة، والمدهشة والمُثيرة للإعجاب. وسيبدو من الصعب، التأريخ (من زاوية الأدب أو زاوية الكتابة عمومًا) للتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي شهدتها منطقة الخليج العربية نتيجة للوفرة المالية الكبيرة وريع النفط، ما لم تُصبح تلك التحولات منظومة قيم راسخة، ينتج عنها تغيير جذري: أولًا- في البنى والهياكل الاجتماعية أو المجتمعية. وثانيًا- في أنماط السلوك وطبيعة العلاقات. وثالثًا- في شكل وطبيعة الدولة «الخليجية». فهل تمكَّنت الثروة النفطية الهائلة التي تدفقت على شعوب هذه المنطقة من تحقيق التغيير الجذري الذي يُمكن قراءته في النصوص المُنتَجة من داخل هذه المجتمعات، التي تكون –هي ذاتها– جزءًا من تلك التحولات ونتيجة لها. للإجابة عن هذا السؤال، نحتاج إلى قراءة سريعة (بما تسمح به المساحة المُتاحة لهذه المساهمة) لنقاط التحول أو التغيرات الثلاث المشار إليها أعلاه: غير أنه من المناسب أولًا أن نأخذ في الاعتبار ثلاثة أمور مهمة تتقاطع مع تلك النقاط الثلاث: الأول- يتعلق بشكل وطبيعة بنى الدولة والمجتمع التي كانت قائمة قبل اكتشاف النفط وإنتاجه بكميات تجارية، وكيف أثر فيها، وكيف غيّرها، أو كيف لم يؤثِّر، ولم يُغيِّر؟ الثاني- حجم الإنتاج، أو حجم الدخل المالي من النفط، وأثر ذلك على هذه التحولات.

مفاعيل الثروة النفطية

الأوركسترا السيمفونية السلطانية العمانية

الأوركسترا السيمفونية السلطانية العمانية

هذه الدول لا تتشابه، لا في الأمر الأول، ولا في الثاني. فالبحرين، على سبيل المثال، التي دشّنت مرحلة اكتشاف النفط لأول مرة في هذه المنطقة عام 1932م تختلف في بناها الاجتماعية والسياسية وفي الخطاب الثقافي الاجتماعي الذي كان قائمًا قبل النفط، واستمرّ وتطوَّر، على نحو من الأنحاء، بعد اكتشاف النفط، عن الإمارات التي دخلت مرحلة إنتاج النفط وتصديره بعد البحرين بأكثر من ثلاثين عامًا (بدأت إمارة أبو ظبي إنتاج النفط بكميات تجارية منتصف الستينيات، قبل قيام الاتحاد). كما أن إنتاج البحرين كان وبقي متواضعًا قياسًا بالإمارات التي أصبحت واحدًا من المنتجين الرئيسيين في العالم. الأمر ذاته ينطبق على الدول الأخرى، بدرجات متفاوتة. وهذا، بطبيعة الحال، قياس معياري مهمّ لمعرفة نتيجة مفاعيل الثروة النفطية على مجتمعات هذه الدول، وبالتالي على منظومة القيم والعلاقات وعلى شكل وطبيعة الدولة. الأمر الثاني: التفريق بين ما نعنيه بالتحولات أو التغيرات في البنى والهياكل الاجتماعية وفي أنماط السلوك وطبيعة العلاقات، وبين المشروعات التنموية والعمرانية الهائلة التي غيَّرت وجه الأرض في هذه المنطقة من جهة، وبين ثقافة الاستهلاك التي دخلتها مجتمعات هذه المنطقة بصورة لا توجد، بهذا الحجم والانفلات حتى في المجتمعات الغربية التي صدَّرت هذه الثقافة. فحداثة وكوزموبوليتانية دبي (والدوحة بدرجة أقل) ذات الواجهة المعولمة أمر، وبناها الثقافية والاجتماعية المحلية أمر آخر، وأحيانًا تكون العلاقة بين المسارين طردية؛ توسُّع في الكونكريت، يقابله انغلاق في الثقافة.

على صعيد التبدلات التي أحدثتها الطفرة النفطية على البنى والهياكل الاجتماعية أو المجتمعية، لا يمكن أن ننكر، بأي حال، أن تغييرات كبيرة حصلت، فقد تقلصت المساحات التي كانت تمثل البوادي المجتمعية إلى مساحات حضرية – مدينية، تبدَّلت العلاقات الاجتماعية فيها من علاقات قائمة على وشائج الدم والقرابة والعشيرة إلى وشائج قائمة على المصلحة والمنفعة والجوار بمعناه الإنساني. هنا أيضًا ثمة تباينات واختلافات بين مجتمعات هذه المنطقة، فالمجتمع العماني مثلًا ليس كالمجتمع السعودي، والقطري ليس كالبحريني، والكويتي ليس كالإماراتي. مساحات الفضاءين الحضري والبدوي، قبل عصر النفط، تختلف بين هذه الدول، والبنى الثقافية التي تُنتجها تلك الفضاءات أيضًا تختلف، قبل النفط وبعد النفط. المجال المديني والمجال الريفي في هذه المجتمعات يختلفان، قبل النفط وبعد النفط. هذه الاختلافات يتوقف عليها رصدنا لتأثيرات النفط في البنى والهياكل الاجتماعية، ففي حين أن القبيلة في بلد كعُمان –الذي أعرف تاريخه ومكوناته الثقافية والاجتماعية بصورة أفضل من معرفتي لتاريخ ومكونات الدول الأخرى– تاريخيًّا هي مؤسسة ذات تقاليد سياسية قديمة ومستمرة، وتقوم شبكة العلاقات فيما بين القبائل من جهة وفيما بينها وبين الدولة من جهة أخرى، قديمًا وحديثًا، قبل النفط وبعد النفط، على المنفعة والتحالفات السياسية، فإن القبلية في بلدان خليجية أخرى، تحركت قديمًا وتتحرك حديثًا، قبل النفط وبعده، ضمن دائرة الأعراف البدوية الأصيلة وعصبياتها القارَّة. وفي حالة عُمان كما في حالة النماذج الأخرى، لم يُحدِث النفط تغييرًا جوهريًّا في هذه البني، إلا بقدر ما عمَّق علاقات المصلحة في الحالة الأولى، وخلط المدينية بقِيَم البداوة كما في بعض الحالات الأخرى.

تغيير القيم الثقافية

وما يندرج على صعيد البنى والهياكل الاجتماعية، يندرج على أنماط السلوك وطبيعة العلاقات بين الأفراد، فصورة الرفاهية الاجتماعية التي أوجدتها الثروة النفطية، وضربت عميقًا في حياة الناس، هي صورة، في مركباتها الأعم، استهلاكية، وخارجية، وعابرة، ولم تتمكن الثروة النفطية بما أدخلته على مجتمعات هذه المنطقة من أدوات ووسائط وتقنيات، من تغيير القيم الثقافية العميقة،  ولم تدفع باتجاه المزيد من الانفتاح تجاه الآخر المختلف في الجنس أو اللون أو العرق أو حتى العشيرة والقبيلة، إلا ما كان قائمًا ومستقرًّا من انفتاح قبل النفط. ولعل أبرز دليل هو العلاقة بين الرجال والنساء، والعلاقة بين «المواطن» و«الوافد» في بعض هذه المجتمعات، وهي علاقة مُركَّبة من مجموعة أوهام؛ وهْم الذكورة ووهْم التفوُّق العِرقيّ ووهْم نرجسية المال. ولعل هذا يقود إلى سؤال حول نتائج التعليم الحديث في هذه المنطقة بعد نحو سبعين عامًا على اكتشاف النفط، ونحو خمسين عامًا على قيام الدولة الحديثة، وعن آثاره الثقافية في الأجيال الجديدة؟! غير أن هذا السؤال ليس مكانه هذه المساهمة. أما على صعيد شكل وطبيعة الدولة «الخليجية»، فإن النفط أحدث تغييرات كبيرة على صعيد شكل الدولة، أبرزها قيام ما يُمكن وصفه بـ«الدولة الوطنية» القائمة على بنى ومؤسسات تُدير شؤونها، وفي مقدمة هذه الشؤون إدارة ريع النفط وتوزيعه، ثم إدارة برامج التنمية التحتية التي لم يكن لها أن توجد لولا الثروة النفطية، وإدارة المجتمعات التي بدأت في النمو والتوسع بسبب البنى التحتية (المدن، والطرق، والمطارات، والموانئ، والمدارس، والجامعات، والمستشفيات، والجيش، وأجهزة الأمن…، إلخ)، وأخيرًا إدارة العمالة الوافدة (بحسب تعداد عام 2016م، يبلغ عدد سكان دول الخليج واحدًا وخمسين مليونًا ونصف المليون تقريبًا، منهم ستة وعشرون مليونًا ومئتا ألف مواطن، وخمسة وعشرون مليونًا ومئتا ألف أجنبي) أي أن نسبة غير المواطنين تصل إلى نصف عدد السكان في الدول مجتمعةً، وإلى 89.9% في قطر، و88.5% في دولة الإمارات.

عمانهذا العدد الهائل من العمالة الأجنبية هو أحد نتائج الطفرة النفطية، ويتطلب، بالضرورة، أجهزة ومؤسسات لـ«إدارة الجاليات». على الوجه الآخر، فإن النفط لم يُحدِث تغييرات مهمة على مستوى الثقافة السياسية أو فلسفة الحكم في الدولة الخليجية، فعلى الرغم من مؤسساتها البيروقراطية وأجهزتها الحديثة المختلفة والمتعددة، وعلاقاتها المفتوحة مع العالم، ووجود أعداد كبيرة من المتعلمين ومن النخب الثقافية والسياسية والاقتصادية، ومعالم العولمة التي أشرنا إليها، فإن بنية الدولة من الداخل وفلسفة الحكم فيها بقيت «قبلية» أو «عشائرية»، أو «الأوليغاركية» مغلقة، إلا بقدر ما تفرضه الضرورات من انفتاح على الشعوب وإشراكهم في بعض شؤون الدولة. حتى هذا الانفتاح وتلك المشاركة تحكمهما مفاهيم النفعية و«الزبائنية» أكثر منها الشراكة الوطنية القائمة على مفهوم « الحق والواجب» الذي تعرفه دولة المواطنة. غير أن هذا الانغلاق في بنى الدولة ليس سوى نتيجة لبنى ثقافية واجتماعية قديمة وقارَّة لم تتمكن الثروة النفطية من تفكيكها وكسر قواعدها وأطرها، بل يمكن القول: إن النفط ساعد على ثباتها وتماسكها وإن مَنَحَها لبوسًا حداثية.

غير أن السؤال الذي علينا طرحه ومناقشته في قادم الأيام هو: هل سيكون بمقدور المجتمعات والدولة في الخليج، وقد مكنتها الثروة النفطية من بناء كل هذه المؤسسات؟ هل سيكون بمقدورها الانتقال من مؤسسات المجتمع والدولة إلى دولة المجتمع والمؤسسات؟ ولا سيما أن النفط لم يعد، كما يبدو، بمقدوره مواصلة العطاء، على النحو الذي كان. سؤال في الثقافة، بمعنى الإنتاج والتفاعل والتفكير، وفي المجتمع بمعنى الانفتاح والمشاركة والاشتغال بالشأن العام، وفي السياسية بمعنى التفكير في دولة قائمة على علاقات المواطنة والشراكة والإنتاج، لا علاقات العطاء والمنفعة والتابعية. باختصار سؤال في المستقبل، بالنفط أو بدونه.