لتبقى المهنة.. تخلصوا من عقلية الورق!

لتبقى المهنة.. تخلصوا من عقلية الورق!

التغيرات والتطورات التي شهدتها السنوات العشر الأخيرة في تقنيات الاتصال واستخدامات أفراد المجتمعات لها، وكذلك مؤشرات الإقبال على الصحف الورقية، إضافة إلى ردود أفعال القائمين عليها؛ تشير بما لا يدع مجالًا للشك إلى أن هناك حالة انحسار كبير في عدد قراء الصحافة الورقية لصالح البدائل الإلكترونية، والشواهد كثيرة؛ فبعض الصحف الورقية اختصر الطريق مباشرة فتوقف، وهذا استسلام يعني عدم الرغبة في الاستمرار، أو ضعف القدرة لسبب أو لآخر على المواكبة، وقد يكون التوقف نتيجة للصدمة وحجم الارتباك. ولا بد من القول بأن الانحسار طبيعي وواقعي، فوسائل الإعلام اليوم هي غير وسائله بالأمس، وأكد ذلك أن الجمهور تفاعل إيجابًا مع وسائل ذات خواص جاذبة أبرزها دخول هذا الجمهور شريكًا مع الوسائل ليس في إبداء الرأي فقط؛ بل في صناعة مواد التحرير وأشكاله، وذلك من خلال متغير «التفاعلية» التي شكلت قيمة مضافة لهذا النوع الجديد من الوسائل.

نقطة مهمة لا بد من التنبيه عليها، أن ردة فعل بعض الصحف الورقية كانت عنيفة، في حين أن بعض رواد الوسائل الجديدة كانوا إقصائيين، وهو ما أدى إلى الاعتقاد بأن هناك نوعين من الصحافة: تقليدي وإلكتروني، وهذا أمر مؤقت وكان يمكن ألّا يوجد لو كانت هناك مبادرة من الصحف الرائدة التي هي الأصل لفهم التغيرات والتعامل معها بواقعية ومهنية، فالحماس لمهنة الصحافة يجب ألّا يختزل في التعصب للشكل الذي تقدم به، فالذين أخذوا بالتصنيف تسببوا وللأسف في تساقط كثير من مقومات صناعة الصحافة، وبخاصة المقومات البشرية التي زُجّ بها في هذا التعصب فخسرت هي الأخرى فرصًا قيمة، وكان على الجميع عدم التعامل مع الصحافة بشكل حدّي يصنفها عبر منظور تقني شكلي؛ من خلال نموذجين لا يمكن أن يتداخلا: أحدهما صحافة تقليدية ورقية، والآخر صحافة جديدة رقمية، في حين أن الأمر بكل بساطة كان ينبغي أن ينظر له على أننا حيال شكل وعاء جديد يجب أن يُتعامَل معه بما يقتضيه هذا الوعاء دون تراشق غير محسوب كلَّف الصحافة الشيء الكثير، واستدعى في كثير من أقطار عالمنا العربي البدء من الصفر من خلال أفراد تنقصهم الخبرة، وبالتالي فهو فهم لم يُبْنَ على تراكمات الماضي كما هو الحال مع صحافة الدول الغربية.

صحافة الفضاء الجديد

يمكن تقسيم حالة الصحف الغربية مع الفضاء الجديد إلى قسمين: قسم يمثل الصحف التي بادرت بإيقاف النسخة الورقية، وحاول تعويض ذلك بالحضور إلكترونيًّا بطريقة تشبه النسخة الورقية، وهو ما لم يحقق له الحضور بالقوة التي كان يتمتع بها على الورق، وهذا التصرف جزء من ردة الفعل التي أشرت لها آنفًا، وجراء الارتباك الذي أصابها؛ لأن الطريق لم تكن واضحة في كيفية التعامل مع هذا الفضاء الجديد، وذلك كصحيفة كريستيان ساينس مونيتور التي ظهرت على النت بشكل متواضع، واكتفت بإصدار نسخة ورقية مرة في الأسبوع، وكذلك مجلة نيوزويك، ولقناعة الصحيفة والمجلة التامة بأن تاريخهما وعراقتهما في الصحافة يوجبان عليهما أن تبقيا حاضرتين في عالَم الإعلام، رجعتا للساحة الإعلامية مرة أخرى، فقد أعلنت الصحيفة في الثامن من شهر مايو 2017م عودتها بشكل مهنيّ إلكترونيّ، أي بعد تسع سنوات من توقفها، كما أن النيوزويك قررت العودة ورقيًّا وإلكترونيًّا بعد أشهر من توقفها مع تغييرات في أسلوب التحرير وسياسة التسويق، وهذا مؤشر على أن الوسائل الجديدة لا يمكن أن تكون بديلة عن الوسائل العريقة، أو على الأقل لا يمكن أن تبدأ من الصفر، وأن المسألة ليست قضية شكل، إنما محتوى.

القسم الثاني من الصحف هو الذي دخل عالم الفضاء الجديد مع الحفاظ على نسخته الورقية كنيويورك تايمز، وواشنطن بوست ويو إس إي توداي وغيرها، لكن بعقلية مدرِكة تمامًا لخصائص الفضاء الإلكتروني، ووفّرت لذلك السبل كافة التي تؤكد هذا، ويحسب لها أنها جادة في صناعة الشكل الجديد للصحافة؛ إذ يلحظ في خطواتها أنها في نسختها الإلكترونية لم تكن مماثلة للورقية (كما هي عليه حال معظم الصحف العربية)، إنما أصبحت جزءًا مهمًّا من التطوير الذي لا يزال يعمل على الوصول إلى الشكل النهائي للصحافة الإلكترونية الحقة، وهو في رأيي لم يتبلور بعد، والمتابع للصحافة الإلكترونية الغربية يلحظ التغييرات المتلاحقة التي تهدف إلى شكل جديد لم يصل بعد.

المواطن الصحفي

أما عن مهنة المراسل الصحفي وسؤال «الفيصل» عن مستقبلها في ظل ما يطرح عن صحافة المواطن وصحافة الهاتف الذكي؛ فهو جزء من التغيير الذي يمليه الشكل الجديد للصحافة، وينبغي لنا ألّا ننظر إليه على أنه إلغاء لمهنة المراسل الصحافي، لكنه تطوير له يلبِّي قيمة تنافسية في الصحافة يدركها المهنيون والمتخصصون وهي السبق الصحفي، وهي على الرغم من أهميتها، فإنها محفوفة بالمخاطر إذا لم يشرف على التعامل معها أصحاب الصنعة، إذ قد تكون لها آثار عكسية في حال فقدان المصداقية، ومع التقدير لما يمكن أن يقوم به ما يعرف بـ«المواطن الصحفي» الذي يستعان به أحيانًا في تغطية حدث ما، فإنه ليس صحافيًّا مهنيًّا مدركًا تمامًا لمهنة الصحافة، إنما هو حالة مؤقتة صادف وجودها في مكان الحدث، واستعين به وفق شروط مهنية محددة. ونحن لا نقلل من أهميته مطلقًا فهو شاهد مهمّ على الحدث بأسلوب أكثر شمولية، لكن لا يمكن أن يُعوَّل على الشخص نفسه الذي وثّق الحدث دائمًا في أحداث أخرى.

عقلية الورق

إن الصحافة العربية، بما في ذلك صحافتنا المحلية، بقيت -ولا تزال في كثير من الحالات- تحتفظ بأخبار اليوم في جعبتها لتنشر في الغد؛ لأنها لا تريد أن تحرق مادة ترى أنها سلعة قيمة للمعلن الذي بدأ يتضاءل في صحف الورق، فالجمهور -في اعتقاد التقليديين- لن يُقبِل على الصحيفة في حال عدم وجود مادة متكاملة وثَرِيَّة حافزة إلى اقتنائها، وهذه المادة المقصودة قد تنطبق على صحافة الرأي والمواد الثقافية، لكن الأمر ليس كذلك مع المادة الخبرية التي لم تعد تلك السلعة القيمة التي تستحق الحفظ للنشر في الغد كما تعتقد بعض الصحف لكونها سريعة الذبول؛ لذا أصبح لا بد من نشرها بشكل فوريّ.

هذا الأسلوب لا يوجد في الصحف العريقة عالميًّا، ولا حتى في المجلات الشهيرة؛ التي واكبت العصر، وتحولت إلى أشبه ما يكون بوكالات أنباء، والمتابع لحساباتها على تويتر يدرك ذلك جيدًا؛ إذ إنها تنشر موادَّ متلاحقة على مدار الساعة، وبمعدل دقائق محدودة لكل مادة. وهو ما قادها إلى العمل على محاولات مبتكرة لا تزال قائمة، حقق بعضها نجاحًا يمكن الاستفادة منه في حال وجد المنتج الصحفي القيم، وشبه الحصري.

لا بد أن تتخلى الصحافة الورقية والقائمون عليها عن التفكير فيما يمكن أن نطلق عليه «عقلية الورق»، حتى تبقى كمهنة وليس كشكل، وعليها أن تفكر بـ«عقلية إلكترونية»، وبكل وضوح يمكن القول بأن عليك إذا أردت أن تتعرف على أيّ سبب لتراجعٍ في صحيفة ما أن تُفتِّش عن «عقلية الورق»، ويجب أن ننظر إلى نجاحات الماضي في عالم الصحافة الورقية على أنها جزء من تراث جميل، وعلى الصحافة العربية أن تدخل بقوة في مرحلة صناعة الشكل الجديد للإعلام، لا أن تنتظر من يبتكر لها أسلوبًا تسير عليه، حتى إن وجدت بعض الأساليب الناجحة، فإن نجاحها مع الصحف العربية ليس بالضرورة مضمونًا كما هو الحال مع مبتكريها؛ ذلك أن ثقافة الجمهور وإمكانات الصحف تختلف من ثقافة لأخرى، هناك نجاحات كبيرة لبعض الصحف العالمية العريقة في الإعلام الجديد، لكن لن تستطيع الصحف العربية مجاراتها لأن ثمن النجاح مكلِّف ويتطلب تنازلات مالية (ومعنوية أحيانًا تتعلق بالمواقع الإدارية). وللأسف العربية والمحلية لا تحبذ هذا الأمر أو لا تستطيع. فعندما أحسّت بعض الصحف التقليدية بالخطر الذي يهدّدها، قامت وبشكل معلن باستجداء تدخل الجهات المعنية والمؤسسات وطلب العون. هذا لا يحدث في الغرب لسبب بسيط يكمن في أنها تعتمد على ذاتها، والأهم من ذلك لتناقض هذا الأسلوب مع مبادئ أساسية في عالم الصحف، أبرزها مبدأ تجنب تعارض المصالح.

أخيرًا لا بد من القول بأن الهاجس الذي ينبغي أن تشترك فيه الجهات المعنية بصناعة الإعلام في ظل التغيرات المربكة؛ هو الإبقاء على مهنة الصحافة التي قد تذوب في عالم الحيرة والتشتت.

الدخل‭ ‬والعامل‭ ‬الاقتصادي

لا أحد ينكر أن الاقتصاد هو عصب النجاح، لكن أكرر في هذه المرحلة أن على الصحف ألّا تفكر بـ«عقلية الورق»، والمأزق الحقيقي يكمن في صعوبة التخلي عن ثقافة الأمس، الصحف المحلية على سبيل المثال اعتادت على أن تبيع الصفحة الإعلانية بمعدل يراوح بين 60-70 ألف ريال، وشكلت الإعلانات في وقت ما المصدر الرئيس لها، والإعلان الرقمي مع الإعلام الجديد في الصحف المحلية يصعب أن يصل إلى ذلك السعر، خصوصًا في ظل وجود قنوات إعلانية منافسة. التفكير المنطقي بما عليه بيئة الإعلام الجديد يتطلب الشجاعة في اتخاذ القرار والقبول بالقليل في سبيل الحصول على الكثير. وهو ما أقدمت عليه الصحف العالمية العريقة، فعلى سبيل المثال بإمكانك الحصول على اشتراك في صحيفة وول ستريت جورنال مدة ثلاثة أشهر مقابل دولار واحد فقط. قد يبدو هذا المبلغ زهيدًا جدًّا بقيمة الاشتراكات الورقية في السابق، لكنه ربما يحقق دخلًا كبيرًا؛ لسبب بسيط هو أن العالم أجمع أصبح متاحًا لها، وأصبح بإمكانها مضاعفة المشتركين على نحو يحقق أرباحًا مضاعفة.

نعم هناك تجارب دولية يشار لها بالبنان عملت ولا تزال على تطوير حضورها الرقمي، لعل من أبرزها صحيفتي نيويورك تايمز التي استطاعت أن تحقق من اشتراكات القُراء دخلًا كبيرًا عوَّضها عن خسائر الدخل الإعلاني الذي كانت تحققه أيام طفرة النشر الورقي، ومثل ذلك مجلة التايم الأميركية التي وصل عدد مشتركيها 22 مليون مشترك، ومن التجارب الفريدة كذلك صحيفة واشنطن بوست التي اشتراها مالك ومؤسس موقع أمازون السيد جيف بيزوس بصفته الشخصية.
وعلى الرغم من أن بعضًا ظن أنه غامر بشراء صفقة خاسرة، فإن الخطوات التطويرية والتغييرات التي وعد بها في الصحيفة وفقًا لطبيعة التقلبات المرتبطة بالشبكة العنكبوتية، بدأت تؤتي ثمارها، وربما لم يكن ليتحقق لها ذلك لو لم يكن هو المشتري؛ إذ إنه ذو خلفية عميقة عن طبيعة عصر الفضاء الجديد، وبدأ يتعامل مع الصحيفة من منطلق الحاجة -كما قال هو- إلى الابتكار والاختبار للتحقق من تأقلم الصحيفة في ثوبها الجديد مع سلوكيات جمهور النت، مع تأكيده صراحة على احتفاظ الـبوست بقيمها التي أكد على أنها لن تتغير، وهو الجانب الذي أكد أنه لا ينوي التدخل في العمل اليومي للصحيفة التي تدار بفريق إداري ممتاز يعرف جيدًا قطاع الإعلام واستمر في عمله. وكانت المفاجأة أن تُحقق الصحيفة بعد أكثر من عامين نجاحًا لم يكن متوقعًا، وجمعت بين النمو والربح؛ لسبب بسيط هو أنها زاوجت بين أسلوب أمازون التجاري والبوست الإعلامي، وترتب على ذلك تطوير اقتضته طبيعة عصر الإنترنت، أبرزها التعريف بخدمة ما يسمى بـ«موبايل فيديو» التي يقدم عبرها الخبر في 15 ثانية، و«رابد رسبونس» أو الاستجابة السريعة التي تتضمن تحقيقًا معمقًا خلال يوم وليس خلال أشهر أو أسابيع كما كان معمولًا به سابقًا، وكذلك خدمة «خبر عاجل».

أما على المستوى العربي، فللأسف لا توجد –حسب معرفتي- تجارب قوية يعتدّ بها، وإن كان أبرزها إقدام صحيفة النهار اللبنانية مؤخرًا على تشفير نسختها الورقية وإتاحتها فقط للمشتركين، ولا يزال الوقت مبكرًا للحكم على ما إذا كان مضمونها قادرًا على فرض نفسه كما يجب.