مسرحي مغربي عابر للثقافات خالد أمين.. من تناسج ثقافات الفرجة إلى فنون طنجة المشهدية

مسرحي مغربي عابر للثقافات خالد أمين.. من تناسج ثقافات الفرجة إلى فنون طنجة المشهدية

كيف يمكن لسؤال مباغت من أستاذ جامعي لطالبه أن يتحول إلى ما يشبه صفعة قوية، ستقلب اهتمامات هذا الطالب الشاب رأسًا على عقب؟ ذلك ما حدث للمسرحي والأكاديمي خالد أمين، الذي أضحى بعد تلك الصفعة، من أهم المشتغلين في المسرح ليس في المنطقة العربية إنما في أوربا أيضًا. يقول خالد أمين، بينما يسرد بداياته مع دراسات المسرح أكاديميًّا: «عندما كنت أدرس لنيل درجة الماجستير من جامعة «إسكس» Essex في إنجلترا، سألني البروفيسور الكبير روجر هاورد، رئيس قسم الدراما بالجامعة، عما أعرفه عن المسرح المغربي. جاء السؤال كالصفعة المفاجئة، فقد كنت سافرت إلى إنجلترا محملًا بالمعلومات حول مسرح شكسبير وبيكيت، أو غيرهما من المؤلفين الغربيين، لكني لم أكن أعلم شيئًا عن المسرح المغربي خارج هذا النطاق». سيعود الباحث الشاب يومها من إنجلترا في عام ١٩٩١م وهو يحمل بداخله السؤال- الصفعة الذي حَوَّل مساره المهني. أصر خالد على التوغل في معرفة مسرح بلده والخروج من عباءة المعارف النظرية الغربية. وهكذا حدث السؤال الذي أدى إلى التحول، وكان مفتاحًا لمسيرة بكاملها.

قضى خالد، الذي يُعد اليوم صاحب تجربة نموذجية من ناحية إسهامه في تطوير الحقل المسرحي سواء أكاديميًّا أو إنتاجيًّا، أعوامًا طويلةً وهو صامت، يقرأ النصوص المسرحية ويشاهد العروض، حتى جاء عام ٢٠٠٠م وناقش رسالة الدكتوراه عن تناولات شكسبير في المسرح المغربي. ومن بعدها تركزت جهوده على الوصل بين المجال الأكاديمي والبحثي ومجال الإنتاج المسرحي، وهو الوصل الذي يراه ضروريًّا كي لا نعيش كجُزر منعزلة بلا رابط بينها؛ لذلك قام بتنظيم عروض عدة داخل الجامعة كي يشاهدها الطلبة ويعيشوا تجربة العرض المسرحي مباشرة وليس فقط من طريق القراءة، كما نظم ندوات وطنية عن المسرح في الوقت نفسه، هكذا حاول أن يخرج بالباحث الأكاديمي إلى الفضاء العمومي وإلى فضاء العرض، وحاول أن يجذب مجال العرض إلى داخل الحرم الجامعي والحيز الأكاديمي.

ترك خالد أمين بصمته في المجال الأكاديمي في المغرب بعد أن حصل على درجة الماجستير في عام ١٩٩١م من جامعة «إسكس» Essex بإنجلترا، ثم على الدكتوراه (بالإشراف المشترك بين إنجلترا والمغرب) في عام ٢٠٠٠م عن تناولات شكسبير في المسرح العربي. ثم التحق بالتدريس بجامعة عبدالمالك السعدي بتطوان وبجامعة نيو إنجلند بطنجة. وسرعان ما تطورت إسهاماته لتخرج من النطاق الأكاديمي إلى فضاء التنشيط المسرحي. أسس أمين، الذي نجح في شكل مبدع في إقامة الجسور بين مجالي التنظير الأكاديمي والفعل المسرحي، بل بين المجتمعين المسرحيين: العربي والغربي، المركز الدولي لدراسات الفرجة الذي أنتج فيما بعد المهرجان المسرحي الدولي السنوي «فنون طنجة المشهدية»، وتوسع بتعاوناته الدولية وإسهاماته البحثية ليصبح ضمن المجلس الاستشاري لأهم المراكز البحثية المسرحية في ألمانيا «المركز البحثي الدولي لتناسج ثقافات العرض» التابع لجامعة برلين الحرة، الذي أسسته وترأسته -حتى اليوم- رائدة الدراسات المسرحية الألمانية إيريكا فيشر ليشتي.

وفي عام ٢٠٠٤م بدأت سلسلة التعاونات الدولية بالتعاون مع المركز الألماني من خلال المركز الدولي لدراسات الفرجة الذي يعتبره خالد امتدادًا لـ«مجموعة البحث في المسرح والدراما» التابعة لجامعة عبدالمالك السعدي بتطوان. هكذا خرج خالد بمشروعه من الجامعة مؤسسًا مركزه الخاص لكنه ظل أيضًا محافظًا على ارتباطه بها بسبب الشراكة الممتدة بينهما، التي تلتها شراكات مع المجتمع المدني والفرق المسرحية وصناديق الدعم الثقافية والمؤسسات الأكاديمية الدولية؛ مثل: «المركز البحثي الدولي لتناسج ثقافات العرض»، وجامعة لندن.

جسور بين الأنا والآخر

يرى البروفيسور خالد أمين أن مد الجسور بين الأنا والآخر هي مسألة ضرورية لحياة المسرح، فبالانفتاح وحده يحدث التطور والنمو، والانفتاح شيء مفتاحي. وفي رحلته نحو الانفتاح، ومعه، التقى البروفيسورة الألمانية إيريكا فيشر ليشتي عندما كانت رئيسة الفيدرالية الدولية للبحث المسرحي ورئيسة تحرير مجلة الفيدرالية Theatre Research International، وكانت إيريكا قد قرأت بحثًا لخالد منشورًا بالمجلة واتصلت به من فورها كي يشاركها في تأسيس مركزها البحثي لتناسج فنون العرض ببرلين في عام ٢٠٠٨م. ومنذ ذلك الوقت ظل التعاون بينهما متصلًا. ترجم خالد كتاب إيريكا «من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافات العرض» إلى العربية في عام ٢٠١٦م عن المركز الدولي لدراسات الفرجة. ويُعَد الكتاب الثاني من أعمال إيريكا الذي يصدر بالعربية بعد كتابها الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر بترجمة للدكتورة مروة مهدي في عام ٢٠١٠م. يلح خالد على أهمية الترجمة للحركة المسرحية، معطيًا إصدارات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي كنموذج لما يمكن الإسهام به من خلال ترجمات مركز اللغات والترجمة بأكاديمية الفنون، التي توقفت للأسف منذ عام ٢٠١١م، ويحاول من خلال التعاون بين مركزه والمجلة العربية لدراسات الفرجة أن يقدم ما يستطيع تسهيله من ترجمات لكنها تظل مجهودات فردية، في حين أن الأمر يحتاج إلى سياسة ثقافية واضحة ونطاق واسع من أجل دعم حركة الترجمة في المسرح.

خالد أمين

«مهرجان طنجة للفنون المشهدية هو تتويج لمسار كامل بدأ في عام ١٩٩٨م، مع الندوة الأولى لمجموعة البحث في المسرح والدراما، ومع فلسفة الانفتاح على عالم المسرح وعلى ثقافة الآخر بكل تجلياتها ومكوناتها»، يقول خالد أمين في سياق حديثه عن المهرجان الذي أسسه، ويضيف: «كان المهرجان ضرورة، لكننا وصلنا إليه بعد محطات عديدة من ندوات وخلافه. ومنذ عام ٢٠٠٤م أصبح المهرجان حاضرًا حتى الآن، أي ثلاث عشرة دورة دون انقطاع». صمم أمين مهرجانه ليتسق مع فلسفته العامة، فالمهرجان يضم ندوة بحثية وورشًا مسرحية وإصدارات للكتب والترجمات، إضافة إلى عروض مسرحية عربية ودولية، وبذلك يدمج بين محاور عمله المختلفة ويربط بينها من خلال ثيمة واحدة تُتناوَل من مختلف الزوايا. يصف خالد المهرجان بأنه حدث مسرحي يؤطره الباحث ويقوده الفنان.

وأضحى مهرجان طنجة للفنون المشهدية يحتل اليوم موقعًا خاصًّا بين المهرجانات المسرحية الدولية، فهو مهرجان مستقل على العكس من معظم المهرجانات المسرحية الدولية التي تنتمي للقطاع الحكومي وتتمتع بالضمانات التمويلية وغطاء الدولة؛ لذلك فهو يتطلب مجهودًا مضاعفًا للحصول على التمويل كل عام لإقامته بالمستوى نفسه. وفي الحقيقة أن هذه المخاطرة وهذا الإصرار لم ينقطعا طوال ثلاثة عشر عامًا هي عمر المهرجان، بل يمكننا اعتبار كل التحديات والعقبات التي واجهها فريق المهرجان بمنزلة تجارب تقوي من أساسه ومن إيمان أصحابه برسالتهم. من هذا المنظور يمكن النظر إلى المحنة بوصفها تجربة نمو وقوة، وهي التجربة التي ربما تُحرَم منها التجارب الحكومية؛ لأنها خارج إطار المخاطرة ومن ثَم فنموها هو دومًا داخل إطار السيطرة.

الاستثناء بين مهرجانات بلا هدف

يختلف مهرجان طنجة للفنون المشهدية عن العدد الرهيب من المهرجانات المسرحية التي تقيمها الفرق بالمغرب، فالمغرب يضم عددًا هائلًا من المهرجانات المسرحية التي تقدمها الفرق المسرحية بدعم من الدولة والمدينة من دون أن يكون لمعظمها توجه خاص أو تميز واضح. ويجعلنا هذا الكم من مهرجانات الفرق نتساءل حول الدور الحقيقي للفرقة المسرحية: هل هو إقامة فعاليات تضم عروضًا لفرق أخرى في شكل مهرجانات؟ أم أن دور الفرقة المسرحية هو إنتاج العروض المسرحية التي تمثل مشروعها الفني؟ في حين ينظر خالد أمين إلى المهرجان المسرحي بوصفه وسيلة لدعم وتطوير المشهد المسرحي، فالمهرجان الصحيح ليس مجرد مكان تتجمع فيه العروض والناس، إنما حدث ممتد على مدار العام، حدث يدرس المشهد المسرحي واحتياجاته وقضاياه وينظر في كيفية دعمه وتطويره من خلال أشكال شتى.

أصدر «طنجة للفنون المشهدية» عشرة كتب حتى الآن واستقدم العديد من العلامات المسرحية إلى طنجة، مثل باتريس بافيس الذي كتب عن المهرجان وعروضه، مقدمًا دعمًا من خلال قلمه واعترافًا دوليًّا بعروض لم يكن من الممكن لها أن تخرج من محليتها سوى بهذه الطريقة. كذلك قام المهرجان بتوثيق جميع فعالياته وعروضه نظرًا لأهمية الحفاظ على الذاكرة المسرحية، ولأن التوثيق هو الوسيلة المثلى لإعادة بث العروض المسرحية لاحقًا في قاعات الدرس وإتاحتها للباحثين، مما يطيل من عمر التجربة الفنية ويعطيها بعدًا آخر. وينفتح المهرجان عامًا تلو الآخر على إسهامات الشباب ومشاركات النساء من الباحثات والفنانات، كما خلق منبرًا خاصًّا للباحثين الجدد والشباب للمشاركة والتبادل مع الأساتذة الأكاديميين داخل المهرجان. وأضحى المهرجان يتمتع، بوصفه جمعية أهلية، بدعم من وزارة الثقافة ومدينة طنجة، وعلى الرغم من تفاوت قيمة الدعم من عام إلى آخر فإن المهرجان يقام دومًا وتسد الإسهامات الشخصية لصناعة أية فجوة قد تنشأ من تراوح الدعم. هذه الإسهامات هي إحدى مصادر قوة واستقلالية مهرجان طنجة للفنون المشهدية.

نقد‭ ‬مسرحي‭ ‬متخلف عن‭ ‬واقع‭ ‬المسرح‭ ‬

يضع البروفيسور أمين يده بكل صراحة على واحدة من أهم قضايا واقعنا المسرحي العربي، وهي الفجوة بين النقد المسرحي والأكاديمي وبين واقع الإنتاج المسرحي؛ إذ يوضح قائلًا: «لقد صار النقد المسرحي متخلفًا عن واقع الحركة المسرحية. أصبحت مصطلحات النقد وموضوعاته غير راهنة، مثل الندوات النقدية التي تطالب بالعودة إلى التراث والتي تمثل تيارات اجتررناها حتى النخاع. هناك دومًا معركة بين الأجيال وبين الحساسيات. ولا بد من الإنصات إلى الحساسيات الجديدة والاقتراب منها، ليس بمنظور التقاليد العتيقة التي ورثناها في التحليل الدرامي وإنما بعيون جديدة تسمح لنا بإعادة النظر في آلية اشتغالنا، فهذا هو دور الملتقيات المسرحية؛ لأنها تجدد من التواصل بين المبدعين المسرحيين والأكاديميين على اعتبار أن الجانبين فاعلان، فالحركة المسرحية لا تستقيم بدون أحدهما».

من هنا، على وسطنا المسرحي العربي أن يتجاوز الطبقية المعرفية، وأن يتخلى عن تصنيفه للأكاديميين بوصفهم أصحاب السلطة المعرفية على الحقل الإبداعي المسرحي، في حين يقبع الفنان المسرحي في قالب زائف بوصفه الحرفي الذي لا يرقى إلى علم الناقد والأستاذ الجامعي، ومن ثم عليه الانصياع لأحكامهما حتى إن لم يتمكنا من خبرته الإبداعية. «تلك سلطة وهمية، وتلك التراتبية وهمية»، يقول خالد أمين حول هذه المسألة، فالعالم، في رأيه، يتجه كله «صوب دمقرطة الممارسة المسرحية وإلغاء التراتبيات بين المؤلف والمخرج، وبين النص والعرض». ويمضي قائلًا: «ربما تسبق صناعة العرض على النص الكلامي، وربما يفقد النص قدسيته المعهودة في ثقافتنا العربية. ولا مجال للذهنية التراتبية بتفكيرها المتحجر داخل المجال الإبداعي المسرحي اليوم، فهذه هي الوسيلة الوحيدة لاستيعاب الحساسيات الجديدة الآن». يؤكد خالد أمين ضرورة أن نتعلم جميعًا من الممارسة الفنية، وأن نتبع تحولاتها كنقاد وكأكاديميين من دون أحكام مسبقة.

المثقف العربي…  غيمة في بنطلون

المثقف العربي… غيمة في بنطلون

منذ عدة عقود مضت أخذت مصداقية المثقف العربي داخل مجتمعاته تتراجع شيئًا فشيئًا، ولم يعد فاعلًا، مؤثرًا في اتخاذ القرار المجتمعي مثلما كان قبل ذلك، وبات هذا المثقف بلا مصداقية، وعلى هامش الهامش، حتى إن صورته في الإعلام والأعمال الدرامية صارت مشبوهة، مثيرة للسخرية والتندُّر في كثير من الأحيان.

يحدث ذلك في زمن صعب، تكون المجتمعات العربية فيه في أشد حاجتها إلى المثقف والثقافة، فظلمة الرؤى تشتد، وماضوية الفكر تطال كل صغيرة وكبيرة من الحياة العربية، والمثقف لم يعد منتجًا لأفكار، ولا مخططًا لمشروعات مقترحة تعين هذه المجتمعات على تجاوز عثراتها والخروج من مأزقها، وقد تجلى في بعدها الشاسع عن جوهر العصر بشرقه وغربه، واستسلامها لتلك الغيبوبة الماضوية الدالة على أن العرب يحيون وكأنهم ليسوا من هذا العالم، وهذا الكون الإنساني الراهن بالطبع. يمكن إرجاع ظاهرة تراجع دور المثقف لأسباب كثيرة؛ منها ما هو سياسي، ومنها ما هو اقتصادي أو اجتماعي، فلقد تعددت الأسباب والتراجع ثابت، ولكن يمكن أن يضاف لتلك الأسباب مجتمعةً سبب آخر يتعلق بتحولات المثقف ذاته، وربما كانت هذه التحولات هي المرتكز الرئيس لتراجع دور المثقف.

لقد ظل المثقف منذ بداية العصر العربي الحديث حاملَ مشعلِ النور المضيء لظلمة العصور الوسطى التي طالما رتع فيها العالم العربي، وقد ظل ممسكًا قابضًا على هذا المشعل بيده كالقابض على الجمر، متسقًا مع آرائه وأفكاره، لا يغيرها أو يبدلها أو يبيعها مهما كانت الأثمان، ولطالما كان قادرًا على قول: لا، داحضًا من يقولون: نعم، وهو لم يغرِه ولم يغوِه منصب أو سلطة أو مال، وكان جُلُّ مثقفي أزمنة التنوير العربية فقراءَ، يعملون في مؤسسات التعليم المختلفة يؤدّبون ويعلّمون، فبات لهم تلاميذ ومريدون، وأشياع وأتباع فكر، يولّون وجوههم شطر مجتمعاتهم وهمومها ويسعون للإتيان بأفكار ربما تجبُّ أفكار من ربَّوهم وعلموهم إيجابية وتأثيرًا.

لكن مثقف اليوم وحيد، صنع عزلته بانصياعه لسلطات الاستبداد السياسي، واختار أن يكون مصنع أفكارها الرديئة، ومروّج بضاعتها الخاسرة التي مزقت الخرائط العربية ونكبت الأوطان. ولقد بات المثقف العربي من أكبر جامعي الذهب والدنانير، يلهث وراء كل من يملكها وينثرها له على الأرض، وبات يصارع من أجل الجوائز والعطايا والأكل على موائد اللئام، وفوق ذلك كله يقفز قفزات الأرنب البري بين الفضائيات ليبربر ويبرر ويفتك بكل كلمة حق وقيمة من قيم الخير، وليجعل الحقَّ باطلًا، والزورَ حقًّا، وهو لا يدري أن الناس صارت تدرك حجمه الحقيقي، ودوره التغييبي، وأنه -كما يقول الشاعر الروسي مايكوفيسكي-: ليس إلا غيمة في بنطلون.

mayakovsky

فلاديمير ماياكوفسكي