«البيت الأزرق»… شخصيات استسلمت فغلبها الموت!

«البيت الأزرق»… شخصيات استسلمت فغلبها الموت!

لعلّ الجنون الذي رمز إليه عبده وازن في روايته الجديدة «البيت الأزرق» (منشورات ضفاف – والاختلاف)، هو النهاية الحتمية لمَن يعيش في عالمنا الراهن، عارفًا الحقيقة كاملة، حقيقة عبثيّة الوجود من جهة، وواقع الخوف والظلم والنفاق الذي نحياه من جهة ثانية. أماكن كثيرة تنقّل فيها بطل وازن، المنطوي على ذاته، المشرّد، المشّاء، اليتيم، المحبَط، الرقيق، وآخرها المظلوم، الصامت والمنتحِر. أماكن كثيرة سكنها، إلا أنّ الكاتب آثَر وضع «البيت الأزرق» عنوانًا، وهو المكان الذي يوضَع فيه المسجون، ذو الحالة النفسيّة أو العصبيّة المريضة، ثم لا يلبث أن يتحوّل في نظر المجتمع إلى مجنون منسي، وقد يموت من دون أن يأتي أحد من ذويه لتسلم جثته ودفنها.

نبدأ من أسلوب عبده وازن الروائي المتقدّم جدًّا، انطلاقًا من إدخال القارئ، منذ الصفحات الأولى للرواية، أجواء الكاتب، حتى أشعرنا أنه صديق يتحدّث إلينا عن هواجسه ويوميّاته، متسائلًا أمامنا، طالبًا نصيحتنا، انتقالًا إلى احترافه تقنية التشويق، وعرض الحدث تلو الحدث، حيث لا ملل ولا نفور، ولا سعي إلى تقليب صفحات الرواية بسرعة. بل يهتم القارئ بمعرفة التفاصيل، والشخصيات المثيرة للجدل، التي غلب عليها طابَع الشذوذ. وقد بدا واضحًا ميل الراوي إلى أنسنة هذا السلوك، من دون أن يصدر حكمًا مباشرًا. قصة تنبعث من مثيلتها، وشخصية من أخرى، وظاهرة من ظاهرة. من شأنها كلّها أن تطرح موضوعات اجتماعيّة قديمة حديثة، بدءًا من الفساد الديني والسياسي والأمني، كذلك الدعارة، والمشاكل العائليّة، والمثليّة الجنسيّة، والحرية، والحب والجنس…

خرس إرادي

عبده وازن

بدأت مأساة بطل وازن، في القسم الأول، منذ طفولته، ووفاة والدته وهجرة والده. هجرة أثّرت كثيرًا في ذات بول، الذي لم يراسله والده سوى مرّات قليلة ثمّ انقطع عن التواصل معه. هذا الإهمال الذي لم يمح أثره اهتمام خالته التي أوكلت إليها مهمة تربيته، ولا حتى العثور على حبيبة. فالخالة ما لبثت أن توفيت والحبيبة هجرت. إلا أنّ اللجوء إلى الخرَس الإرادي، ربما دليل على إدراك بول لعدم جدوى الكلام، وعلى الشعور بالنقص، وانعدام الثقة بالذات. فعلى الصعيد الاجتماعي، لم يكن ينقصه أي شيء: حنان خالته، منزل وأراضٍ كثيرة، شهادة جامعيّة رفض تسلمها، أو المضي في الدراسة لنيلها. لذلك، وبتحليل بسيط، نجد أنّ بول يستسلم قبل حصوله على مبتغاه بمدّة قصيرة، سواء في حال الحب، أو الدراسة أو حتى الصداقة. صداقته للراهب التي أدرك أنّها نوع من الغرام، لا تناسب مبادئه، ولا حتى إحساسه، حب من طرف الراهب، الأب ألبير. وصداقة جاره، ثم صداقات في السجن. ربما لم يحاول مرة أخرى، لانعدام ثقته بعودة الماضي.

غدر بعد آخر، يعود إلى غدر الأب منذ البداية. والسير على الطرقات. طريق تقود إلى مسار، ربّما في محاولة للوصول إلى ذلك الوالد المهاجِر. والد اختفى وما زال وازن يبحث عنه منذ «غرفة أبي»، فتحوّل مناجاة ومشاعر تتحرّك، تتخللها محاولات تركزت على إعادة بناء ملامح شخصيّة ضاعت. شخصيّات الرواية كثيرة، لكنّ القليل منها سويّ. وأغلب الإشكال يقع بسبب الهوية الجنسيّة الشاذة، في مجتمع، ما زال يطالب بحقوق المرأة، ويسعى للحصول على أبسط حقوقه بألف وسيلة ووسيلة. وكانت نهايات هذه الشخصيات، إمّا السجن وإمّا الهجرة. إنها شخصيات، بالكاد تتّسع لها صفحات رواياتنا، فما بالك بمجتمعاتنا!

من ناحية أخرى، بات اللجوء إلى الغرب، للشعور بالحرية والراحة، مطلب الكتّاب العرب، كمخرَج يحافظ على الفكر المتفتّح لشخصيّة ما، بالتوازن مع عادات مجتمعنا الشرقي وقيَمه. يتيح لنا هذا «البيت الأزرق» اكتشاف عبده وازن الكاتب من جديد. ثقافته واضحة في أجزاء كثيرة، إذا ما حلّلنا النظريات الفلسفية؛ مفردات السجن، اللون الأزرق، عادة المشي، الصمت، البكم، الانتحار… يشارك قارئ «البيت الأزرق» في فك النص، فلا يرضى له وازن أن يكون متلقيًا سلبيًّا إنما قارئًا متفاعلًا مع الأحداث المتشعبة داخل نسيج روائي محكم. هذه الرواية المتطوّرة، والمرتبطة بصيانة المنظورات والهياكل المحافظة في آنٍ، تغطي مجموعة واسعة من الممارسات الروائية المختلفة جدًّا، من القرن السابق إلى القرن الحالي. في القسم الثاني، يفتح الراوي الأول (الكاتب) المغلّف الذي يضمّ مخطوطات بول. يقرأ فيها أنّ الشخصية التي أسرته وحرّضته على ترك روايته الأصلية والمضي في البحث عن حقيقتها من معارفه وأقاربه، لم يكن أخرسَ، لكنّه اختار الخرس علامةً على انسحابه من هذا العالم الذي لم يشعر يومًا أنه ينتمي إليه.

مأساة رهيبة

ثم يعود وازن، بدءًا من هذه المأساة الرهيبة، ليتحدث مرة أخرى عن المثليّة الجنسيّة. لكنّ المسرح الروائي تغيّر وصار السجن الذي يُمثّل بيئة ملائمة جدًّا لتعزيز هذه الواقعة. هكذا تبدو معظم الموضوعات داخل السجن كأنها تدور حول مشاهد الجنس، وإن بنظرةٍ وجودية. وبالعودة إلى شخصية بول، نتساءل: إذا طلب أحدهم منك تفقد الذاكرة الخاصة بك، هل يمكنك أن تذكر ماضيك؟ أو أنك تترك الأمور تسير وحدها لإعادة بناء اللغز في حياتك، وأنت تتخطّى أجزاء معينة منها لتحيا؟ هذا ما لم يقوَ عليه كل من بول وجولييت، وإن كانت الحكايتان منفصلتين.

يستيقظ بول على اليأس. في ذاك الوقت، كان الشاب أخفق في بناء علاقة قوية مع حبيبته. في لحظة، وجد أنّه فقد كلّ شيء، وهو ما أدّى إلى زعزعة الاستقرار داخله، وسرعان ما استسلم. الحياة لم تترك له فرصة ثانية، أو ربما لم تعد الحياة محطّ ثقة، فلم يدافع عن نفسه في قضيّة قتل سامية، وهو بريء. أمّا جولييت، المرأة الأربعينية، بطلة رواية الكاتب/ الراوي، هي أيضًا معادل أنثوي مُتخيّل لشخصية بول، وإن كانت تختلف في تفاصيلها، باعتبار أنّ معاناتها نتيجة عجزها عن خيانة حبيبها لها.

أفضل ما فعله عبده وازن أنه قام بدفن بطله، أو بطلَيهِ؛ بول وجولييت، سواء تعدّدت النهايات، والأساليب حول طريقة الموت انتحارًا بتناول جرعات كبيرة من الدواء، أو بالقفز من على سطح البناية، أو بقطع الشرايين، صباحًا أو ظهرًا أو مساءً. الأوقات جميعها ملائمة لاتخاذ هذا القرار! أو حتى ترك النهاية مفتوحة أمام القارئ؛ لأنّ عادات المجتمع كفيلة بالقضاء على الشخصية الضعيفة بدلًا من دعمها. المهم النتيجة، هي الموت، الموت لشخصيّة عاشت على هامش الحياة، ولم تدرك كيف تقول نعم أو لا، لا تعرف كيف ترفض، أو تقبل، كيف تعبّر، ادّعَت الخرس في وقت الحاجة إلى الكلام، ولجأت إلى اللامكان، وأبواب البيت مشرعة.

«البيت الأزرق»… شخصيات استسلمت فغلبها الموت!

«البيت الأزرق»… شخصيات استسلمت فغلبها الموت!

لعلّ الجنون الذي رمز إليه عبده وازن في روايته الجديدة «البيت الأزرق» (منشورات ضفاف – والاختلاف)، هو النهاية الحتمية لمَن يعيش في عالمنا الراهن، عارفًا الحقيقة كاملة، حقيقة عبثيّة الوجود من جهة، وواقع الخوف والظلم والنفاق الذي نحياه من جهة ثانية. أماكن كثيرة تنقّل فيها بطل وازن، المنطوي على ذاته، المشرّد، المشّاء، اليتيم، المحبَط، الرقيق، وآخرها المظلوم، الصامت والمنتحِر. أماكن كثيرة سكنها، إلا أنّ الكاتب آثَر وضع «البيت الأزرق» عنوانًا، وهو المكان الذي يوضَع فيه المسجون، ذو الحالة النفسيّة أو العصبيّة المريضة، ثم لا يلبث أن يتحوّل في نظر المجتمع إلى مجنون منسي، وقد يموت من دون أن يأتي أحد من ذويه لتسلم جثته ودفنها.

نبدأ من أسلوب عبده وازن الروائي المتقدّم جدًّا، انطلاقًا من إدخال القارئ، منذ الصفحات الأولى للرواية، أجواء الكاتب، حتى أشعرنا أنه صديق يتحدّث إلينا عن هواجسه ويوميّاته، متسائلًا أمامنا، طالبًا نصيحتنا، انتقالًا إلى احترافه تقنية التشويق، وعرض الحدث تلو الحدث، حيث لا ملل ولا نفور، ولا سعي إلى تقليب صفحات الرواية بسرعة. بل يهتم القارئ بمعرفة التفاصيل، والشخصيات المثيرة للجدل، التي غلب عليها طابَع الشذوذ. وقد بدا واضحًا ميل الراوي إلى أنسنة هذا السلوك، من دون أن يصدر حكمًا مباشرًا. قصة تنبعث من مثيلتها، وشخصية من أخرى، وظاهرة من ظاهرة. من شأنها كلّها أن تطرح موضوعات اجتماعيّة قديمة حديثة، بدءًا من الفساد الديني والسياسي والأمني، كذلك الدعارة، والمشاكل العائليّة، والمثليّة الجنسيّة، والحرية، والحب والجنس…

خرس إرادي

عبده وازن

بدأت مأساة بطل وازن، في القسم الأول، منذ طفولته، ووفاة والدته وهجرة والده. هجرة أثّرت كثيرًا في ذات بول، الذي لم يراسله والده سوى مرّات قليلة ثمّ انقطع عن التواصل معه. هذا الإهمال الذي لم يمح أثره اهتمام خالته التي أوكلت إليها مهمة تربيته، ولا حتى العثور على حبيبة. فالخالة ما لبثت أن توفيت والحبيبة هجرت. إلا أنّ اللجوء إلى الخرَس الإرادي، ربما دليل على إدراك بول لعدم جدوى الكلام، وعلى الشعور بالنقص، وانعدام الثقة بالذات. فعلى الصعيد الاجتماعي، لم يكن ينقصه أي شيء: حنان خالته، منزل وأراضٍ كثيرة، شهادة جامعيّة رفض تسلمها، أو المضي في الدراسة لنيلها. لذلك، وبتحليل بسيط، نجد أنّ بول يستسلم قبل حصوله على مبتغاه بمدّة قصيرة، سواء في حال الحب، أو الدراسة أو حتى الصداقة. صداقته للراهب التي أدرك أنّها نوع من الغرام، لا تناسب مبادئه، ولا حتى إحساسه، حب من طرف الراهب، الأب ألبير. وصداقة جاره، ثم صداقات في السجن. ربما لم يحاول مرة أخرى، لانعدام ثقته بعودة الماضي.

غدر بعد آخر، يعود إلى غدر الأب منذ البداية. والسير على الطرقات. طريق تقود إلى مسار، ربّما في محاولة للوصول إلى ذلك الوالد المهاجِر. والد اختفى وما زال وازن يبحث عنه منذ «غرفة أبي»، فتحوّل مناجاة ومشاعر تتحرّك، تتخللها محاولات تركزت على إعادة بناء ملامح شخصيّة ضاعت. شخصيّات الرواية كثيرة، لكنّ القليل منها سويّ. وأغلب الإشكال يقع بسبب الهوية الجنسيّة الشاذة، في مجتمع، ما زال يطالب بحقوق المرأة، ويسعى للحصول على أبسط حقوقه بألف وسيلة ووسيلة. وكانت نهايات هذه الشخصيات، إمّا السجن وإمّا الهجرة. إنها شخصيات، بالكاد تتّسع لها صفحات رواياتنا، فما بالك بمجتمعاتنا!

من ناحية أخرى، بات اللجوء إلى الغرب، للشعور بالحرية والراحة، مطلب الكتّاب العرب، كمخرَج يحافظ على الفكر المتفتّح لشخصيّة ما، بالتوازن مع عادات مجتمعنا الشرقي وقيَمه. يتيح لنا هذا «البيت الأزرق» اكتشاف عبده وازن الكاتب من جديد. ثقافته واضحة في أجزاء كثيرة، إذا ما حلّلنا النظريات الفلسفية؛ مفردات السجن، اللون الأزرق، عادة المشي، الصمت، البكم، الانتحار… يشارك قارئ «البيت الأزرق» في فك النص، فلا يرضى له وازن أن يكون متلقيًا سلبيًّا إنما قارئًا متفاعلًا مع الأحداث المتشعبة داخل نسيج روائي محكم. هذه الرواية المتطوّرة، والمرتبطة بصيانة المنظورات والهياكل المحافظة في آنٍ، تغطي مجموعة واسعة من الممارسات الروائية المختلفة جدًّا، من القرن السابق إلى القرن الحالي. في القسم الثاني، يفتح الراوي الأول (الكاتب) المغلّف الذي يضمّ مخطوطات بول. يقرأ فيها أنّ الشخصية التي أسرته وحرّضته على ترك روايته الأصلية والمضي في البحث عن حقيقتها من معارفه وأقاربه، لم يكن أخرسَ، لكنّه اختار الخرس علامةً على انسحابه من هذا العالم الذي لم يشعر يومًا أنه ينتمي إليه.

مأساة رهيبة

ثم يعود وازن، بدءًا من هذه المأساة الرهيبة، ليتحدث مرة أخرى عن المثليّة الجنسيّة. لكنّ المسرح الروائي تغيّر وصار السجن الذي يُمثّل بيئة ملائمة جدًّا لتعزيز هذه الواقعة. هكذا تبدو معظم الموضوعات داخل السجن كأنها تدور حول مشاهد الجنس، وإن بنظرةٍ وجودية. وبالعودة إلى شخصية بول، نتساءل: إذا طلب أحدهم منك تفقد الذاكرة الخاصة بك، هل يمكنك أن تذكر ماضيك؟ أو أنك تترك الأمور تسير وحدها لإعادة بناء اللغز في حياتك، وأنت تتخطّى أجزاء معينة منها لتحيا؟ هذا ما لم يقوَ عليه كل من بول وجولييت، وإن كانت الحكايتان منفصلتين.

يستيقظ بول على اليأس. في ذاك الوقت، كان الشاب أخفق في بناء علاقة قوية مع حبيبته. في لحظة، وجد أنّه فقد كلّ شيء، وهو ما أدّى إلى زعزعة الاستقرار داخله، وسرعان ما استسلم. الحياة لم تترك له فرصة ثانية، أو ربما لم تعد الحياة محطّ ثقة، فلم يدافع عن نفسه في قضيّة قتل سامية، وهو بريء. أمّا جولييت، المرأة الأربعينية، بطلة رواية الكاتب/ الراوي، هي أيضًا معادل أنثوي مُتخيّل لشخصية بول، وإن كانت تختلف في تفاصيلها، باعتبار أنّ معاناتها نتيجة عجزها عن خيانة حبيبها لها.

أفضل ما فعله عبده وازن أنه قام بدفن بطله، أو بطلَيهِ؛ بول وجولييت، سواء تعدّدت النهايات، والأساليب حول طريقة الموت انتحارًا بتناول جرعات كبيرة من الدواء، أو بالقفز من على سطح البناية، أو بقطع الشرايين، صباحًا أو ظهرًا أو مساءً. الأوقات جميعها ملائمة لاتخاذ هذا القرار! أو حتى ترك النهاية مفتوحة أمام القارئ؛ لأنّ عادات المجتمع كفيلة بالقضاء على الشخصية الضعيفة بدلًا من دعمها. المهم النتيجة، هي الموت، الموت لشخصيّة عاشت على هامش الحياة، ولم تدرك كيف تقول نعم أو لا، لا تعرف كيف ترفض، أو تقبل، كيف تعبّر، ادّعَت الخرس في وقت الحاجة إلى الكلام، ولجأت إلى اللامكان، وأبواب البيت مشرعة.

حسرة المثقف على انحساره

حسرة المثقف على انحساره

يتحسّر المثقف اليوم. يلعن التلفزيون والإنترنت، يحمّلهما المسؤولية كاملة. يحزن على ما كانه في ماضيه القريب. يتذكر، وبحنين موجع. الصورة القديمة التي بنى من أجلها دوره كانت مشرقة. وهو لا يستطيع أن ينساها: كان مرموقًا، مسموعًا، نجمًا ساطعًا في محيطه الضيق والأوسع. هو الذي يفسر، ويشرح، ويصف، ويترجم. هو المرجع الفكري. كان هذا هو دوره.

بل جاء من يقول له: إن عليه أن يكون «عضويًّا»؛ أي نازلًا من برجه العاجي المفترض، ومنغمسًا، ومنخرطًا في هموم وأفعال وخطايا المجتمع الذي يريد أن يغيره بالفكر. وهذا إرث عريق، يعود إلى الثوار البلاشفة الروس، وإلى فيلسوف التجديد الشيوعي أنطونيو غراشي، مخترع كلمة «المثقف العضوي». وبعده صفة «النهضوي» التي أذاعها مثقفو عصر النهضة، أصحاب الأفكار الكبيرة، وقد أثروا في التكوينة الذهنية لأجيال بعينها من المثقفين. بحيث صار عصر النهضة المحطة، والمنبع، والمرجعية؛ وإن كانت جلّ أفكارها ونظرياتها منتهية المدة، بحكم الزمن وتعقيداته. الآن، الوضع تغير. تراجع المثقف إلى مصاف المواطن البسيط. مثله يبحث عن دور، أو يئس من البحث عن دور. مثله فاقد التأثير في الجموع، ومحروم من النجومية والامتيازات الرمزية والمادية التي كان يتمتع بها نظيره في عصور الازدهار. فتراه جالسًا في زاويته، يسخر، ويندب، وينقّ، وينظر إلى المهانة بصفتها نهاية تاريخه ودوره، ومعها نهاية السياسة والتاريخ.

بعضهم، الأكثر ذكاء من غيرهم، يريد أن يثبت العكس؛ من أن المثقف ما زال بألف خير. يتجه صوب الأداة الجديدة، مثلًا، التلفزيون، ويفعل المستحيل ليحتل شاشته، ولو برهة من الزمن: كخبير في شؤون قضية أو ملف، كمقدم للبرامج، أو كمحاور مع من يستحق رتبته، أي مثقفين مثله أو أقل منه شأنًا لكنه لا يبلغ مبلغ بقية النجوم، الشيوخ أو مغنيات الفيديو، أو الإعلاميين المخضرمين، فينسحب بعضه. أما بعضه الآخر، فلكي يستمر، عليه أن يغير طبائعه الثقافية، ويتحول إلى «إعلامي»، أي صحافي بالصورة، سطحي، متسرّع، لا يبالي حقًّا بالمادة الثقافية التي «يقدمها», أو ««يناقشها».

أهم مقدم لأهم برنامج ثقافي

أذكر منذ سنوات، لدى صدور كتابي الأول، اتصل بي مثقف كانت له طموحات تلفزيونية، وكان لتوه بادئًا تجربة تلفزيونية ثقافية. قال لي: إنه يريد أن أظهر في برنامجه؛ لأنه سوف يعرض فيه كتابي الجديد ويناقشه. فرحتُ وسألته ما رأيه به، أي بكتابي. أجاب بأنه لم يقرأه. تعجبتُ وطرحتُ عليه السؤال البديهي، وقتها: «كيف تريد أن تقدم كتابًا على الشاشة لم تقرأه؟». أجاب بعبارات مغمغمة فهمتُ منها أن التلفزيون «لا يحتاج إلى قراءة»؛ وأنه يكفي أن يطرح عليّ أسئلة يعرف هو كيف يصيغها من دون العودة إلى الكتاب؛ وبأنه بوسعي إذا شئتُ، أن أقترح عليه الأسئلة، فأسهّل عليه المهمة وغير ذلك. طبعًا رفضت وقتها. أما هو فأصبح الآن أهم مقدم لأهم برنامج ثقافي.

كلهم لم ينجحوا مثل صديقنا هذا: بعضهم لأنهم لا يتمتعون، مثله، بطلَّات بهية، فوتوجينيك، تحبها الكاميرا. وجلّهم لأن البرامج التلفزيونية الثقافية أصلًا ضاقت سُبُلها؛ كأن الطلب عليها تفوق على العرض بمسافات.

على الرغم من خروجه إلى الشاشة، فإن شأن المثقف لم يرتفع، ولا الثقافة معه، وبقيت الحسرة لدى الأكثر جدية وتجهّمًا من أن المثقف ماذا يفعل بالضبط؟ ما دوره؟ هل كان فعلًا في عصره الذهبي، أيام المثقف التقليدي، الثوري، المرغوب، صاحب الهالة والدور؟ بل، هل يمكن الاسترسال في الحسرة إلى الأبد؟ بانتظار انقشاع لن يأتي؟ وما العمل من أجل أن يكون الفعل الثقافي، خصوصًا الكتابي منه، ممارسة محبوبة لنفسها؟ من أجل أن يقرأ المثقف، أن يكتب، أن يسأل الميدان، مادته الحيوية… من دون أن يلهث خلف «الأكثر مشاهدة»، من دون أن يضطر للكتابة الاستفزازية الترفيهية عن الجنس أو الدين أو الرعب المشوِّق…؟

ثلاثة أنواع من النرجسيات

عليه أولًا أن يتخلص من ثلاثة أنواع من النرجسيات، تقف خلف الحسرة على الانحسار: النرجسية الواسعة، أولها، أي التي تنكبّ على نظراء المثقف، أشباهه. أو كل من ينتج نتاجه. وتكتفي بهذا الانكباب، نظرًا لكون لا أحد يستحق فعلًا الكتابة عنه، والاهتمام به إلا أصحاب الكتب، الشهيرة إن أمكن، أو الجوائز، الأسماء «الكبيرة» وغير ذلك. الثانية هي النرجسية المتوسطة، المقتصرة على الشلّة، أو ما يسمى جزافًا «الأصدقاء»؛ الذين يتصورون أنهم «أفضل» ما أنتجته ثقافتنا في مجالات الكتابة، أصحاب الجاه الثقافي. وهذه الحلقة المتوسطة من النرجسيات يمكن أن تكون عابرة للقارات، لكنها ضيقة، قائمة على تبادل المصالح، وحسب؛ تبادل خفي، لا تنتبه إلى تأثيراته إلا بعد حين.

ثم الحلقة النرجسية الأخيرة. هي فردية، باطنية؛ لكنها مفهومة، بفضل مئة إشارة وإشارة. بعضهم لا يخفيها، وصار من عاديات الأمور، أن يتفاعل مع الدنيا كلها على أساس نفسه هو. على أساس استثنائيته، وعلوّه درجات عن بقية أقرانه، خصوصًا إذا كانوا من خارج الدائرة المتوسطة، وقد دخل إليها «المستحقون». وقد يورث هذه الصفة غير المتواضعة لأبنائه، مثله مثل سياسيي بلاده.

فقط عندما يعترف أولًا بإصابته بمرض النرجسيات الثلاث، أو بواحدة منها، ثم يقبل الدخول في «برنامج» التخلص من الحسرة على الانحسار، يستطيع المثقف أن يتابع درب السعادة الثقافية. ويتكوَّن هذا «البرنامج» من نقاط محدّدة.

التواضع أولًا: التحلّي به في هذا الزمن الفايسبوكي، أمر في غاية الصعوبة. كذلك التخلّي عن فكرة أن المثقف سوف يغير العالم بمقالاته وكتبه، أو بمجرد طلّته. يمكن أن يبدأ سلسًا دمثًا، ليس جافًّا جارفًا؛ كأن يقول المثقف لنفسه بأنه سوف يبقي على نرجسياته الثلاث هذه؛ لكنه بموازاتها، سوف يخلق عالمًا جديدًا، قوامه أنه، بالنسبة إلى هذا الكون الذي لا يتوقف عن التوسع، هو ليس إلا ذرة، بالكاد تراها بالمجهر، وأن التواضع يوسع نطاق حريته، مغامراته؛ بحيث لا يخشى لا ارتكاب الخطأ النظري أو المفهومي، ولا يخشى الاعتراف لنفسه بأنه لا يعرف في هذه أو تلك من الموضوعات، أو لم يفهمها.

ثانيًا- الفضول: التواضع يجرّ إلى الفضول، والفضول هو باب المعرفة المتجدّدة. خصوصًا الفضول لعوالم غير معهودة، أو منبوذة، أو «غير نبيلة». مثل أن تخلق مجالًا للمعرفة اسمه عالم الفيديو كليب، سوسيولوجية الفيديو كليب مثلًا، من دون أن تعد بأنك تعالج موضوعًا أقل خطورة من السجال الأبدي بين الحداثة والتقليد. ما يستدعي الخفّة؛ النقطة الثالثة: خفّة الوجود تناقض الحسرة على مجد فارغ. خفّة اللهجة، والموضوع والمقاربة. خفة ألَّا يقبض المثقف نفسه جديًّا. أن يكون قادرًا على السخرية من نفسه، ومن دوائره، قبل السخرية من خصومه وشريريهم.

ورابعًا- الغيرية: أي الفضول بالغير، والاهتمام به، والاستماع إليه، وتحويله إلى مادة سؤال عبر حياته ومجمل حَيَوات غيره، وإعطاء الوقت للغير، واقتطاع هذا الوقت من ذاك الذي يسخره في عمليات التسويق لشخصه أو اسمه.

والجاذبية أخيرًا: ألَّا يكتب بتلك اللغة المفخّمة، وألَّا ينتحل صفة المنظّر، أو أن ينظّر بحرية، من دون «تعريفات» إنجليزية أو فرنسية، غالبها لا يفهمها القارئ، ولا هو يفهمها، وأن يختار الموضوعات التي تجذبه حقيقةً، وأن يتخلص من انفصاميته، من أنه في السر يفكر بهيفاء وهبي، ويطلب من أصدقائه ان ينظموا له موعدًا سريًّا معها.. وفي العلن ينشد الأشعار المكرَّرة من أجل الوطن والإنسان. كما حصل مع أحد شعرائنا الكبار، وقد يكون حاصلًا، أيضًا، مع أدنى منه.