مونولوغ لرجل الطربال …. محمد عبدالوكيل جازم

مونولوغ لرجل الطربال …. محمد عبدالوكيل جازم

منذ ساعات وصديقه يُعانق ذاكرته، يأبى مُغادرتها يعبث بها ويبعثر كل محتويات غُرفتها..! صديقه كان يعمل في إحدى المنظمات الإغاثية… تتراءى أمامهُ صور لوجه صديقه الشارد وهو يَمرُّ على تلك الطرابيل والمرارة تسري في جسده وقلبه ليتفقد أحوال النازحين من الحرب..!

حربٌ لم تترك مكانًا إلا افترشتهُ وسلبت نضارته..، حربٌ سَرت في المدن والقرى والتباب وكأنها انسيابٌ من أبواب الجحيم التي فُتحت..! كم يؤلمهُ ذلك الرجل «صاحب الطربال الأزرق» يُقيم هو وزوجتهُ الذابلة وأطفالهُ الذين يتوسدون الحجارة كي ينالوا قسطًا من القسوة.. بل إنهم ينالون القسوة كُلها…لا يجدون حضنًا لهم سوى ذلك العراء..! داهمهُ الوجع المُضجر «ادعى الضجر ليرحل باحثًا عن زاوية يَحلُّ البكاء فيها» أراد البكاء بعيدًا عن الأنظار.. همّ بالمغادرة إلى اللامكان.. قادتهُ خُطاهُ إلى مبنى مُكفهر..! انطوى في تلك الزاوية وجاشت عيناه.. مر صديقه من أمام ذلك المبنى وسمع نحيبًا خافتًا، دخل إلى هُناك ووجده قد مسح دموعهُ ولكن اللمعة ما زالت تتحدث في عينيه..!

قال صديقه وقد تراكمت في صدره الزفرات: لا تقل لي كيف حدث ذلك لأنني لم أنم منذ البارحة، وتمنى قلبي التائهُ في الظلام الصراخ في كل القراصنة: دعوا مساكين الجبال يعيشون..!!

أأقول شيئًا؟ طوال الساعات الماضية وأنا أفكر بحل ينقذ هذه العائلة؛ كيف لهم أن يتدثروا بطربال ثبته الأب بمسامير صدئة إلى جدار ذلك السور الطويل الذي يخفي مبنى البرلمان المتعثر.. نعم يا صديقي، لقد أحسست بأن والدهم المصاب بثقب في القلب يتحدث بسعادة أحيانًا.. كان ينظر إلى أطفاله حين همس لي :«لقد هربنا…!!» البيوت التي تركنا بياضها طحنتها الدبابات والمدفعية؛ شوارع وبنايات وقرى تفتّت وتناثرت وتلاشت كما لو أنها الرماد.. كنت أرى ضحكته فأحس لثانية أن زعيق الانفجارات نهشت من عقله..

لن أُخفي عليك يا صديقي أنني في الحقيقة أجللته وأكبرته، لقد استطاع أن ينقذ هذه الطفولة من مخالب الارتطامات المهولة التي سببها بعض أفواه المدافع… حاول الفتى فك قيود صدره ومحاولة النهوض والهروب من تلك الزاوية المكفهرة..! إلا أن صديقه لحق به في أروقة المبنى، وحين انتهوا إلى حديقة خلفية قال: لا تخف يا صديقي رُبما سينتهي بنا الأمر إلى حديقة!!

ههه لكل نفق نهاية، ولكن ألا ترى بأننا في الظل المعتم لم نكن سوى أصوات؟ هل تتذكر الكهرباء العمومية كيف كانت تضيء الممرات والردهات وتعيننا على السير؟

حقًّا كل نفق يحتاج إلى إضاءة يا صديقي!! صمت الشاب المتحمس للعنة للحرب وكأن صبره قد نفد.. جلس على أحد الكراسي المتّسخة بالغبار وهو يردد: أعتقد بأن رجل الطربال شخص جبان، وعليه أن يحيا تحت الطربال طويلًا..!!

هه مخطئ أنت يا صديقي..

آه كم هو شجاع، لو رأيته لمرة واحدة وهو يتمزق في الجولة القريبة من قصر الرئاسة؛ مستنفرًا كل قواه الواهنة عارضًا المناديل الورقية على المارة..!

إنه العمل الوحيد والمتاح أمامه.. أنت لم تره لأنك لا تذهب بعيدًا عن الحي الذي تسكنه.. ولا تعتلف القات إلا مع الجوقة التي تناسب صوتك.. حين رأيته ظننت بأنني قد رأيته من قبل، وتذكرت أنه كان يعمل في إحدى المكتبات التي أحرقها القصف بمدينة تعز.. آه لو رأيته كيف يؤلب أطفاله وكأنه يلتقيهم أول مرّة.. لو رأيت كيف أخرج الخبز اليابس من كيس حراري وألقمه طفلته، التي نهضت من نومها للتو.. أعرف أنك تتململ، تريد أن تقول شيئًا، ولكن أرجوك لا تقل فقط تعال معي لزيارته..

تعال واسمع حكايات الآباء الذين قتلوا أبناءهم لمجرد أن اليأس دب في حياتهم.. أعرف جيدًا ما يدور في داخلك، وما تفكر! أعرف أنك تريد أن تقول: إنه ميت لا محالة؛ تريد أن تقول: لماذا يموت رجل الطربال في ساحة المعركة؟ ولكن يا صديقي أنت تجتزئه من عائلته، تقصيه من فلذات كبده.. تريد منعه من إيصال رسالته التي آمن بها، دعني أتخيل الآن هذه الأسرة المنكوبة العارية، وأولئك الأطفال الذين رأيتهم ذات ليل يحملون الحقائب المدرسية ينتظرون مولودًا خلال الأيام القادمة!!

ربما انتهى الكلام بينهما، لكن الحرب لا تزال مستمرة في ثرثرة تشبه حممًا بركانية، أو جحيمًا مفتوحة إلى الأبد.

القلم.. في عصر الصف الضوئي والرسائل الخلوية أداة التدوين الأولى تخوض معركة البقاء أمام تسارع طفرة الأتمتة والثورة التقنية

القلم.. في عصر الصف الضوئي والرسائل الخلوية أداة التدوين الأولى تخوض معركة البقاء أمام تسارع طفرة الأتمتة والثورة التقنية

في حالةٍ من الصدمة الذهنية، تذكّرَتْ أن آخر قلم رأتْهُ كان قبل شهرين.. كان ذلك عندما طلبت منها صديقتها قلمًا؛ لتوقِّع على ورقة مالية.. فأجابتها: على الفور.. لكنها حين فتحت حقيبة الكمبيوتر وجدت كل شيء إلا القلم.. لتفتش وصديقتها المنزل -المليء بالإلكترونيات- للبحث عن قلم، في المكتب، والمطبخ والأدراج، وغرف النوم، وحتى في السيارة، ولكن دون جدوى، فقررت أنها تنعي حياة القلم في عصر الكمبيوتر… هذه القصة ليست من قبيل المبالغة، فقد ورد فحواها في مقالٍ حزين تحت عنوان: «مات القلم» للكاتبة والصحفية الأميركية إيلين واينستين في صحيفة «نيويورك تايمز» في يوليو 2014م.

من منا لم يصادفه نفس هذا الحدث! مع فارق سبب غياب القلم الذي بات هامشيًّا في حياتنا المشغولة حدّ التشويش بما حولنا وبما في أناملنا من عصف الرسائل الخلوية والصف والضوئي. لكن هل هذا كافيًا لأن يغادر القلم قائمة أدوات تواصلنا وتبادل أفكارنا وتدوين يومياتنا؟! قبل الإجابة عن هذا السؤال في هذا العمل الصحفي سنعرّج على مفردة القلم مكانةً، وتطورًا صناعيًّا وباختزال يغني عن التفاصيل الكثيرة التي لا يتسع لها هذا المقام.

«القلم».. أداة التدوين الأولى والقاسم المشترك الأسمى مكانةً في الثقافات الإنسانية المختلفة، ليس لأنه ارتبط بفك المدارك المعرفية لطفولتنا في المدرسة فحسب، بل لارتباطه الأزلي بتنوير الأجيال التي تعاقبت على مرّ الحياة البشرية، ليصير القلم بناء على هذا المعطى نبراس الذاكرة، وميلاد تاريخ التدوين، وما لم يدونه القلم كان يسمى بـ«ما قبل التاريخ». غير أن نزول القرآن باللغة العربية وانتشار الإسلام وتأسيس دولته شكّل نقطة التحول المحورية باتجاه تطور صناعة الأقلام عند العرب والمسلمين؛ ليكونوا هم أصحاب الريادة الأولى في البُعْد النظري والتجريبي لاختزال أدوات المقلمة التي كانت تتألف من تفاصيل كثيرة جدًّا إذا تعطلت أو تغيبت واحدة من هذه الأدوات تعثرت وظيفة الكاتب. ورغم سباق الخلفاء والولاة على صنعة هذه الأقلام المختزلة لفسيفساء المقلمة، إلّا أن المحبرة والريشة والقلم المصنوع من القصب وآلية الغمر في المحبرة ظلت زمنًا طويلًا(1).

دوافع التطوير

لعل أبرز دوافع مساعي التطوير الحرفي والصناعي لوسيلة الكتابة «القلم» هو تعليم الصغار للقراءة والكتابة؛ إذ كانت أدوات الريشة والمحبرة واللوح الخشبي والدواة، صعبة بالنسبة لهم؛ لذا ظل العقل الإنساني باحثًا عن وسيلة كتابية تكون خفيفة على الطفل ويكون أثرها المكتوب قابل للكشط على غرار الأصابع الطباشيرية أو الفحمية. فكان اكتشاف الغرافيت عام 1500م، بــــــ(إنجلترا) هو بداية التفكير باستخدام هذه المادة المشابهة للرصاص في تعليم الصغار الكتابة(2) بما يسمى قلم الرصاص الذي بدأ إنتاجه في ألمانيا عام 1662م. وفي عام 1795م اكتشف «نيكولاس جاك» طريقة لخلط مسحوق الغرافيت مع الطمي، وتشكيل هذا الخليط في شكل أعواد تُحرَق في فرن حراري «أتون» وباختلاف نسب خلط الغرافيت إلى الطمي تختلف درجة صلابة الأعواد. وفي عام 1812م صنع النجار الأميركي «ويليام مونرو» من «كونكورد» بولاية «ماساشوستس» أول قلم رصاص خشبي أميركي، وفي عام 1858م حصل «هايمن ليبمان» على أول براءة اختراع، بإضافته ممحاة إلى طرف القلم(3). وفي عام 1890م أعطى صانعو أقلام الرصاص منتجاتهم أسماء وعلامات تجارية خاصة بها، وميَّز كل صانع أو منتج أقلامه الرصاصية -المصنوعة من خشب الصنوبر أو الأرز الشرقي الأحمر في ولاية «تينيس» والأجزاء الأخرى بجنوب شرق الولايات المتحدة- بألوان تميزه عن غيره(4). وفي مطلع القرن العشرين، ظهرت الأقلام الملوّنة، وعودها مصنوع من أصباغ، ممزوجة بالصلصال، والأصماغ.

قصة التحول الكبير

«في أحد أيام 1884م كان أحد عملائه يتأهب للتوقيع على طلب عقد تأمين ذي قيمة كبيرة. ولحظة التماسه مقلمته -المكونة من ريشة ومحبرة سهلة الحمل- أغرق طوفان المداد الوثيقة، مغضبًا العميل، الذي أحال الصفقة إلى وكيل منافس، ليترك رجل الأعمال الأميركي «لويس أديسون ووترمان»، مهنته كبائعٍ لعقود التأمين، متجهًا لاستخدام مواهبه الطبيعية الميكانيكية في اختراع قلم حبر عملي يستطيع توزيع المداد في انسياب مستمر، ومنفذ ضابط لسيل الحبر، يحركه الكاتب ويوقفه حسب حاجته. ولكي يضمن ووترمان فيضًا منتظمًا من الحبر، استخدم الخاصية الشعرية، وهي خاصية السوائل الطبيعية في الانسياب إلى أعلى في الأنابيب الضيقة ضد الجاذبية الأرضية، لتبقى نظرية ضبط المداد بالخاصية الشعرية تستخدم في كل أقلام الحبر حتى اليوم(5)، وفي عام 1888م سجل الأميركي «جون لاود» براءة اختراع قلم الحبر الجاف ذي السن الكروي بنمطه الجديد، ليصل هذا النوع إلى أوج الشهرة في عام 1945م، غير أن الأمور انقلبت رأسًا على عقب، حين انخفض ثمن هذا النوع من الأقلام من خمسة عشر دولارًا إلى خمسة عشر سنتًا نظرًا لما كان يحدثه القلم من بقع حبرية في الورق(6). وفي عام 1949م اكتشف المجري «فران سيخ» التركيب السري الذي فك به أزمة قلم الحبر الجاف، ولمع اسمه بعد ذلك الاختراع، إلا أن الشاب «باتريك فراولي» -من سان فرانسسكو- تمكن من اختراع حبر يسمى «سيخ الجديد» ليمد به قلم الحبر الجاف منهيًا مشكلة البقع، ليتجه التطوير الصناعي نحو التفنن في شكل القلم بما يوافق ثقافة الكتابة، حيث استشعرت الشركات المصنعة لسباق الثراء والتفاخر بالقلم كرمز للكتابة والتنوير والشهرة، لتتنافس في مضمار صناعة الأقلام الفاخرة والثمينة المرصعة بالذهب والفضة، والأحجار الكريمة(7).

طلائع العصر التقني

القلم-والكمبيوترفي عام 1889م دوّن الكاتب القانوني السيّد «واريل» ملاحظات عدة بشأن مستقبل القلم قال في إحداها: «تسود إشاعات كثيرة في السنة الحالية تفيد بأن آلة تدعى «الآلة الكاتبة» سَتحلّ مكان الناسخ. وقد رأيتها تعمل بنفسي، والشخص الذي يطبع عليها سيدة أخبرتني أنها تستطيع طباعة 40 صفحة في ساعة واحدة فقط» ويعلق مؤلف كتاب تاريخ الكتابة الرسام البريطاني دونالد جاكسون الذي أورد هذه الملاحظات، متسائلًا عن الزحف الأهم الذي اجتاح مساحة وخارطة الحاجة إلى القلم طوال اليوم: ماذا سيقول السيد «واريل» بوجود أجهزة الهاتف والآلات الكاتبة وطرق معالجة الكلمات إلكترونيًّا والحواسب الآلية التي تستطيع من خلال لمس أحد مفاتيحها أن تنتج (2000) حرف مطبوع في الساعة الواحدة؟ يبدو أن الفاعلية المتزايدة للأشكال الميكانيكية من الاتصالات ستقلص الحاجة الماسّة إلى الكتابة السريعة (الخربشة) التي نقوم بها اليوم، فنحن لم نعد نتحدث بالحرف الواحد كما كان يفعل أسلافنا الأوائل، لكننا جميعًا نشعر بأداة الكتابة، وبنوع الإشارة التي تصنعها هذه الأداة وأثرها في سلوكنا من حيث آلية الكتابة نفسها. أما «ألفرد فيربانك» فقال في هذا الشأن: إن الكتابة باليد كانت «نظامًا حركيًّا يقتضي اللمس»، وفي الحقيقة إن الإحساس بالقلم والإحساس بالورقة وسيلان الحبر تؤثر جميعًا على الطريقة التي نعبر فيها عن مشاعرنا وأفكارنا(8).

هكذا عبّر هواة وعشاق الكتابة -الذين صار القلم جزءًا من إلهام أفكارهم- عن مخاوفهم، من تلاشي دور القلم، في طفرة الكتابة الرقمية التي بدأت في منتصف القرن الماضي. لكن مجيء هذا التطور وسط مستوى عالٍ من ثقافة الكتابة بالقلم، دفع مصنعي الأقلام إلى مجاراة الأتمتة ليأخذ القلم تعريفًا أجد، حيث ظهر القلم الإلكتروني، الذي يستخدم في الكتابة كأي قلم عاديّ ولكن عندما تقوم بكتابة الكلمات فإنَّه يقوم أوتوماتيكيًّا بتسجيل الشرح وتخزين ملفات صوتية داخله، وعند الانتهاء من الكتابة يمكنك الاستماع إلى ما قمت بكتابته بالصوت.. وفي العقدين الماضيين ظهر القلم الرقمي الخاص بالهواتف الخلوية حيث ركز هذا الاختراع على أن تكون الأقلام أكثر دقة فتساعد على الرسم والكتابة، غير أن تقنية اللمس أنهت جميع الأقلام الإلكترونية، وفي نفس الوقت قلّصَت كثيرًا الحاجة اليومية للقلم العادي إلى أدنى مستوياتها(9).

القلم‭ ‬ومعركة‭ ‬البقاء

قلمبالعودة إلى القصة المختصرة -في مقدمة هذه التناولة الصحفية- التي نعت فيها الكاتبة الأميركية «إيلين واينستين» حياة القلم في عصر الكمبيوتر. لكن تلك القصة بما حملته من نعي حزين، اشتملت على دلالة ضمنية لم نشر لها في المقدمة. وهي أن مجريات بحث الصديقتين عن القلم بتلك الطريقة، عكست مؤشرًا قويًّا على أهمية الحاجة للقلم، لتؤكد أن طفرة الكتابة الضوئية والرقمية، وبلوغ ثورة الأتمتة داخل غرف النوم، وانبلاج تقنية الرسائل المكتوبة خلويًّا، وغيرها من العوامل لم تنه حضور القلم في قلب العصر، بل ظلّ وسيبقى متربعًا على عرش الذاكرة كذبال معرفي لا ينطفئ، محافظًا على مكانته في ثقافة العامة والخاصة والنخبة كرمز ثقافي إنساني. وفي هذا المضمار يؤكد الشاعر الأميركي «روبرت كاندل»، أحد رواد القصيدة الرقمية في الولايات المتحدة، أنّ الكتابة ليست سوى ضرب من التقنية، متسائلًا –في نظريته حول كتابة الشعر إلكترونيًّا- عن أي الاتجاهات سوف تتحوّل تقنيات الكتابة الحديثة في مجاراة عصر الإعلام الرقمي؟ وهل ستنتقل أدوات الكتابة الإبداعية، نتيجة لهذا التحوّل في حال وقوعه، من عوالم الحبر إلى إحداثيات «النقاط الضوئية» محقّقة نقلتها النوعية من طواعية القلم إلى غواية الحرف الإلكتروني على الشاشة؟

وأكد كاندل بناء على تلك التساؤلات أن فعل الكتابة الإلكترونية لن يلغي أصالة الخط على الورق وخصوصية الكتابة بالقلم(10) وهذا الحكم الثقافي، يؤكد أن الحداثة والتطور الصناعي والتقني والكهروضوئي في أدوات الكتابة مثل الآلات الكاتبة لا يلغيان القلم بل سيظل جزءًا من هوية الإنسان وذاكرته وإكسسواره المعرفي. وتبنَّى رجل الأعمال الأميركي «بيك»، أحد صانعي الأقلام الأسطورية تحت عنوان: «قاتل من أجل كتابتك». وأكدت «بام ألين» خبيرة محو الأمية والناطقة بلسان الحملة، أن الكتابة بالقلم تساعد الطفل على تنمية حس الهوية. وأجرت «مولر» -باحثة في قسم علم النفس في جامعة برنستون- دراسة لافتة، عنوانها: «القلم أقوى من الكمبيوتر»(11).

أما مجلة «علم وحياة» الفرنسية فنشرت تقريرًا علميًّا تحت عنوان (لا! لم يمت) أكدت فيه أن النظام التربوي الفرنسي يتمسك –على عكس النظام الأميركي- تمسكًا شديدًا بالورق والقلم في المدرسة، مشيرة إلى أن العلماء أخضعوا (76) طفلًا في سن الحضانة، لاختبار قدراتهم على القراءة والكتابة، فصلوهم إلى فئتين، الأولى عليها أن تتعلم الحروف بكتابتها، والثانية بطباعتها على لوحة الكمبيوتر. وبعد أربعة أسابيع، اختبروا قدرة كل من الفئتين على القراءة. لقد تعرف الأطفال على الحروف التي كتبوها باليد، أفضل من الحروف التي طبعوها.

وهذه الدراسات تؤكد ديمومة الحاجة التعليمية أو حاجة التحصيل المعرفي للقلم. بالإضافة إلى ضرورات الاستخدام اليومي في الجانب المالي مثلًا لكتابة شيك، والإمضاء عليه أو إرسال بطاقة بريدية خطية لما لها من معانٍ ودلالات تحتل وجدان الإنسان. أو الإمضاء على معاملات العمل الإداري والتجاري. ناهيك عن كون القلم صار بمنزلة البصمة الحديثة لكل شخص؛ إذ إن خط كل إنسان عبارة عن بصمة تحدد هويته، مفضية إلى معرفة صاحب القلم، كما يمكن للخط الكشف عن: (الفروق بين الجنسين، والعمر، والحالة النفسية، والصحة العامة، والأدوية والعقاقير، والوراثة، والمستوى التعليمي، والبيئة، والمناخ، والوظيفة، والموروث الشعبي، والتطور التكنولوجي، ومستويات ممارسة الكتابة(12). وهذه الحقيقة الملازمة لعلاقة الشخصية بالقلم من الناحية السلوكية أثبتها عِلم «الغرافولوجي»، المَعنيّ بتحليل الشخصية من أشكال الخط، ويعتمد كغيره من العلوم السلوكية على الملاحظة. ويستند هذا العلم إلى حقيقة علمية تقول: إن ما يكتب على الورق ليس اليد، ولكن أعصاب اليد التي تأخذ أوامرها من المخ، فما نراه على الورق هو حركة الجهاز العصبي التي تظهر بأشكال محددة على الورق، ومن هنا يبدأ في فك شفرة هذه الأشكال، ودلالاتها من الناحية السلوكية والانفعالية والتعبيرية لدى الشخص، بمعنى أدق شرح «سمات الشخصية».

————————————

هوامش:

1) تقدم العرب في العلوم والصناعات.. صـ 214.

2) مجلة القافلة –القلم- ملف خاص، د. فكتور سحاب- العدد (6) المجلد (63)، نوفمبر/ديسمبر 2014م، صـ94.

3) المصدر نفسه (4) صــ96.

4) موقع مكتبي الإلكتروني. بوابات كنانة أونلاين – الموضوع: تاريخ القلم الرصاص. الرابط:

http://kenanaonline.com/users/Almarakby/posts/298487

5) امسك أدواتك وانطلق لتتعلم، مقال مطول: الرابط :

http://www.mexat.com/vb/showthread.php?t=409379

6) المصدر نفسه.

7) المصدر نفسه.

8) المصدر نفسه، ص25.

9) منتديات ستار تايمز-  أثر التكنولوجيا المعاصرة على القيم الجمالية، د. إياد محمّد الصقر: http://www.startimes.com/?t=28666285

10) المصدر نفسه.

11) المصدر نفسه (4) ص98.

12) مقالة مطولة عن برنامج تحليل الشخصية عن طريق خط اليد للباحث جابر محمد بيومي، الرابط:

http://saihat.net/vb/archive/index.php/t-5421.html

انتكاسة التنوير والبنى الاجتماعية والسياسية

انتكاسة التنوير والبنى الاجتماعية والسياسية

ali-oumlil

علي أومليل

لكي يكون التشخيص دقيقًا وعلميًّا لمعرفة داء انتكاسة التنوير في الوطن العربي، فلا بد من قراءة عميقة ودقيقة لنشأة «الدولة القُطْرية»، وللتدخلات الاستعمارية في هذه المنطقة، بما فيها اتفاقات سايكس بيكو، واصطناع دول قُطْرية بحدود اصطناعية خصوصًا: سوريا ولبنان والعراق، ووعد بلفور 1917م، ونكبة 48، وهزيمة 67.

فشل التنوير يُبحث عنه، وعن جذوره في البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. شهد الوطن العربي التشظي منذ البدايات الباكرة لبناء الدولة القُطْرية، وغياب أو تغييب الكيان الواحد، أو وجود كيانات حضارية تتوافر لها شروط الديمومة والتطور.

لكي يكون التشخيص دقيقًا وعلميًّا لمعرفة داء انتكاسة التنوير في الوطن العربي، فلا بد من قراءة عميقة ودقيقة لنشأة «الدولة القُطْرية»، وللتدخلات الاستعمارية في هذه المنطقة، بما فيها اتفاقات سايكس بيكو، واصطناع دول قُطْرية بحدود اصطناعية خصوصًا: سوريا ولبنان والعراق، ووعد بلفور 1917م، ونكبة 48، وهزيمة 67.

فشل التنوير يُبحث عنه، وعن جذوره في البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. شهد الوطن العربي التشظي منذ البدايات الباكرة لبناء الدولة القُطْرية، وغياب أو تغييب الكيان الواحد، أو وجود كيانات حضارية تتوافر لها شروط الديمومة والتطور.

ولدت الدولة القُطْرية مصابة بوباء ما يسميه قسطنطين زريق بـ «العجز العربي».  معظم الأقطار العربية خرجت من دائرة أو مركز ما قبل عصر الدولة، وتحقق الاستقلال للعديد من هذه البلدان، ولكنها جلها لم تفلت من إرث القبيلة والطائفة، ولعب الاستعمار دورًا في الهيمنة على مصاير هذه البلدان وثرواتها، وهو ما باعد بينها وبين الانفتاح على عصور التنوير وتياراته، وحرمها الحداثة والتجديد.

يرى المفكر العربي علي أومليل في كتابه «الإصلاحية العربية والدولة الوطنية» أنه في العصر الوسيط، ثم في مستهل العصور الحديثة، التحقت ببلاد الإسلام هزيمتان كبيرتان أمام قوى أوربية، انتهت باحتلال مناطق من العالم الإسلامي: الأولى في مواجهة الحروب الصليبية، والثانية: أمام القوى الإيبيرية، ويرى أنه لم يجد ردة فعل إصلاحية، ولا وعيًا بالتأخر تجاه الأجنبي الغالب، ولا تساؤلًا عما يكون وراء تغلبه.

يستشهد أومليل بكتاب «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي، ويرى أنه محاولة لإصلاح الإسلام من داخله، وأضيف أيضًا كتابي الإمامين: أحمد بن تيمية الحراني (ت 728هـ) «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية»، وتلميذه ابن قيم الجوزية (ت 751هـ) «الطرق الحكمية في السياسة الشرعية»؛ فالإسلام المكتفي بذاته – كما رآه الغزالي وابن تيمية وابن القيم- لم يعد قائمًا بعد تدخل أوربا الحديثة منذ النصف الثاني للقرن الثامن عشر؛ فلم يعد مفكرو المسلمين يعبرون عن إسلام عليه أن يرتد إلى ذاته وحدها لكشف الخلل وطلب الإصلاح، إنما سيدخل الآخر كبعد أساسي، ولعل طرح سؤال التأخر الذي طرحه شكيب أرسلان ومفكرون عديدون في مراحل متأخرة يعبر عن هذا المنحى المغاير.

دولة ملغومة بالعنف

ولدت الدولة العربية ملغومة بالعنف، ومسكونة بالقوة؛ فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، كما قال عثمان بن عفان، أو السيف أصدق أنباء من الكتب، كقول أبي تمام، أو كقول المتنبي وهو شاعر (شغل الناس والأقلام والكتبا): حتى رجعت وأقلامي قوائل لي: المجد للسيف ليس المجد للقلم.

في عصر بناء الدولة القُطْرية بعد الحربين الكونيتين: 1914- 1918م، و1937- 1945م طُرح سؤال التأخر والتقدم، طرحه النهضويون العرب، وإن كان لا يعم المنطقة العربية كلها. الإسلام المكتفي بذاته عند الغزالي وابن تيمية وابن القيم، ظل حاضرًا في العديد من بلدان الجزيرة والخليج، وظلت البدعة والتكفير قائمين في العديد من مناهج التدريس ووعظ المساجد والإعلام الرسمي.

أدى تراجع المد التنويري بعد هزيمة 67 إلى عودة هذه الإشكالية إلى بلدان مثل مصر، وكانت قد بدأت التجاوز منذ محمد علي باشا وكتاب (الإبريز في تلخيص باريز)، وطرحت الإشكالية مجددًا في تونس بعد بروز تيار النهضة الإسلامي كامتداد للإخوان المسلمين في مصر مطلع الثمانينيات، لكن تونس التي عرفت كتاب (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) لخير الدين التونسي أبي النهضة منذ عام 1873م، كان الوضع فيها مختلفًا نوعًا ما؛ فخير الدين التونسي كالحاكم المصري محمد علي باشا، والسلطان محمود ومدحت باشا في تركيا يجمعهم موقف موحد قوامه كقراءة خير الدين ورفاعة الطهطاوي في مصر: أن المسلمين ضعفاء، وأن الطريق إلى عودة القوة إليهم إنما  يكمن في أخذهم بالتكنيك والعلم اللذين أعطيا الغرب قوته.

voltaire

فولتير

يتوافق هؤلاء الزعماء والمفكرون أيضًا على أن الأخذ بمعالم الحياة الأوربية لا يتعارض مع دعائم الدين الإسلامي، ولا يبتعد بالمسلمين من تعاليم دينهم. ساد موقفهم وقناعاتهم طابع التبسيط الذي أراد أن يسد الهوة بين الثقافتين: الإسلامية والأوربية عن طريق القفز فوق المشكلات الأساسية، والاكتفاء بموقف تبريري دفاعي، ولعل ذلك مصدر تأخر الإصلاحات، أو بالأحرى انتكاستها في تونس والمغرب العربي لعدة عقود، وهي أيضًا سبب تراجع المشروطية في تركيا، وانتكاستها في إيران حتى اليوم.

في كتابها (التنويري) تطرح دوريندا أوترام سؤالًا: ما التنوير؟ يعرِّف كانْت التنوير بكونه: «عملية خلاص الإنسان من سذاجته التي جلبها لنفسه، وذلك عن طريق استخدامه للعقل دون أن يشوه التعصب تفكيره».

إلى جانب اجتهادات وأعمال زمرة من الكتاب الآخرين مثل: فولتير، ومونتسكيو، وديدرو، ودالين برت، وروسو، وليسنغ، تضيف أن عملية التنوير لم تكن مقصورة على أوربا، وتحدد أسس التنوير بمحو الأمية، وشيوع المعرفة والتعلم، وزيادة الإنتاج الزراعي، والثورة الصناعية التي كان التنوير مدماكها الأساسي، وتربط بين الدين والتنوير في ثلاث قضايا: حركات الإصلاح الديني، والعلاقة بين الدين والعقل، والدين والتسامح. وإذا قرأنا المقدمات الضرورية والأساسية لعصر الأنوار في أوربا وأميركا، وعمدنا للمقاربة مع الحالة الراهنة عربيًّا، أو حتى بدايات القرن الماضي، فإن الوضع اليوم أن الأمية حسب إحصاءات منظمات دولية تصل إلى 60%، بما فيها أقدم البلدان تحضرًا: مصر. أما عن علاقة الدين بالعقل فقد افتعلت عداوات مقيتة بين الدين والعقل بما يزري بسلفية العلامة المجتهد أحمد بن تيمية الذي ألف كتابًا سماه (درء تعارض العقل والنقل)؛ فقد ساد في العديد من البلدان العربية معاداة بين العقل والدين، لكأن الدين ضد العقل بما يتصادم مع جوهر الدين ونصوص القرآن في غير آية.

وغاب عن أمتنا العربية الإصلاح الديني والتسامح أيضًا، وسادت موجة من التكفير والتخوين عمت البلاد والعباد، وضحاياها كثر في غير منطقة؛ وكلها أسباب رئيسة لانتكاسة التنوير الذي بدأ خجولًا متأولًا ومتواضعًا، وتعرض لهزات عنيفة وانتكاسات متتالية؛ فالطهطاوي يتأول للديمقراطية بالشورى، ولحرية الرأي بالاجتهاد، وللرأي العام بالحسبة.

بنية اجتماعية هرمة

والواقع أن المنطقة العربية كلها ظلت ترزح تحت حكم الغلبة والقوة، محتفظة بالبنية الاجتماعية الهرمة، ولم يجر تحول حقيقي في البنية الاجتماعية الاقتصادية، ولا تغير أساسي في القيم والتقاليد الموروثة من عصور الجهل والظلام، وجاءت الانقلابات العسكرية لتحقيق إنجازات في مجالات معينة، لكنها – وهذا هو الأهم – اتسمت بطبيعة مزدوجة، ووعي ملتبس، قطعت الطريق على التطور السلمي الديمقراطي، وغيبت الحرية، وريفت المدينة، وهمشت المجتمع المدني، وصادرت حرية الرأي والتعبير، وحافظت على العصبيات القبلية، والطائفية والجهوية، وغلبت الإرادوية والاعتداد بالقوة حد العجز عن حماية السيادة والاستقلال والتراب الوطني.

أسهمت الخلافات الداحسية في النظام العربي كله مشرقه ومغربه، ملكياته وجمهورياته، في تمزيق عرى الأخوة العربية، وأضعفت التضامن العربي، بل امتدت الخلافات داخل كل قطر بين الاتجاهات الفكرية والحزبية والسياسية؛ فتصدعت الوحدة الوطنية، وساد الوعي الزائف وعداوات الجاهلية الأولى؛ فتضعضعت حصانة العقل والجسد، وتراجع التنوير. لم تكن الصهيونية العالمية ولا إسرائيل والاستعمار غائبين عن هذا الصراع الذي أسهمت فيه المنظومة العربية جلها، وتنافست في نقش لوحته المفجعة. الخوف من الإبداع، ورفض الاجتهاد، وتجريم التجديد والحداثة، وسد الأبواب والنوافذ أمام التغيير السلمي والتحول الديمقراطي وحرية الرأي والتعبير أعاقت، بل أدت أنوار العصر في الوطن العربي، وأشرعت النوافذ والأبواب لتسيد الجهل، وتطاول ليل الفتن والحروب والمآسي؛ فمقاصل التجريم والتخوين والتكفير لها الأثر المدمر في قتل المواهب وخمود التنوير، ولعل أنموذج اليمن دال وفاجع.

في منتصف القرن الخامس شهد اليمن ظهور فرقة من الزيدية تدعى «المطرفية»، طرحت بعض الآراء الكلامية حول حدوث العالم وإثبات الصانع، وأن الحوادث اليومية كالنباتات والمولدات والآلام ونحوها، حادثة من الطبائع الحاصلة في الأجسام، ويذهبون إلى عدم حصر الإمامة في البطنين (أبناء الحسن والحسين)، كما أشار العلامة الباحث أحمد محمد الشامي في موسوعته الفكرية (تاريخ اليمن الفكري في العصر العباسي)، وتعرضت هذه الفرقة للإبادة، وأسدل الستار على الجريمة.

كتاب الدكتور علي محمد زيد «تيارات معتزلة اليمن» أول من علق الجرس وتتالت الردود. في الأعوام 1937- 1941م صدرت في المتوكلية اليمنية مجلة «الحكمة اليمانية» مثلت البداية الحقيقية للحداثة والتجديد والتنوير، صدر منها 28 عددًا. تبنت المجلة دعوات الإصلاح الديني، والتحديث السياسي، ونشر الجديد: القصيدة الحديثة، والقصة القصيرة، والنقد الأدبي، والمقالة السياسية. كان معظم محرريها من علماء الدين، وشاع عنهم «اختصار القرآن»، وأعدم الكثيرون منهم بعد فشل حركة 48 الدستورية، وكانت الانتكاسة الثانية للتنوير في اليمن، ولكن بحد السيف.

وأصدر مجموعة من الأدباء في المتوكلية اليمنية مجلة «البريد الأدبي»، وقد صدرت منها بضعة أعداد ثم توارت. وفي عدن صدرت مجلة (المستقبل) 1949 -1950م، وكانت الأكثر حداثة وعصرية وتنويرًا، اتهم سكرتيرها المفكر العربي عبدالله عبدالرزاق باذيب بتهمة ازدراء الأديان، وحوكم على مقاله: «مسيح جديد يتكلم الإنجليزية».

مقاصل التخوين والتجريم والتكفير، ابتداء بالإمامة والاستعمار البريطاني والإسلام السياسي والأنظمة الشمولية والدكتاتورية في الشمال والجنوب، هي من تولى كبر إعاقة التنوير ووأده وتقتيل رواده.

أسئلة النهضة والتغيير

أسئلة النهضة والتغيير

%d8%a7%d9%94%d8%a8%d9%88-%d8%a8%d9%83%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%82%d8%a7%d9%81

أبو بكر السقاف

إعادة قراءة تراث التنويريين اليمنيين المبكر، والتعريف به وبأصحابه، في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ اليمن، يعد إسهامًا حيويًّا في التقليل من تأثيرات الردة السياسية، والنكوص الوطني الآخذين في التغلغل في الوعي الجمعي، بفعل أدوات الحرب، ومشروعاتها التفتيتية التي تحاول قوى الاستبداد والتخلف (التاريخي) إعادة إنتاجها في الواقع. وإن بدلت وقتها وأدواتها وخطابها، تظل هي نفسها قوى الاستبداد التي عرّى زيفها وتخلفها أولئك التنويريون، قبل أكثر من ثمانين عامًا، حين وضعوا أول حروف أسئلة النهضة والثورة في سفر التنوير المبجل.

ليس ردًّا لاعتبار منجزهم الذي تعرض للنكران والإهمال والإلغاء، إنما أيضًا استلهامًا لفكرة التمرد الخلاق الملهم لطريق الحرية والمواطنة، الذي بشر به هذا التراث، في بلد يستحق أن يحيا أبناؤه بكرامة.

ظن النخبويون اليمنيون، مطلع عشرينيات القرن الماضي، أن باستطاعة الدولة التي استقلت عن الحكم العثماني غداة الحرب العالمية الأولى (1918م)، وفرضت سيطرتها على اليمنين (الأعلى والأسفل)، الذهاب بعيدًا نحو بناء دولة وطنية قوية وعصرية. لكن بعد عقد ونصف من قيام (المملكة المتوكلية)، سيصحو اليمنيون من وهمهم الكبير؛ فالإمام يحيى أحال مشروع الدولة إلى إقطاعية خاصة به وبأبنائه. وبسبب عقليته التقليدية المحافظة، وتشدده الديني، وشحه الشديد، دمر كل شيء له علاقة ببناء دولة مواطنة وخدمات.

القليلون من مثقفي عاصمة الحكم، وبعض المدن اليمنية الأخرى، الذين كانوا يقرؤون حالة النكوص هذه، عملوا كل ما يستطيعون، ليصل صوتهم الضعيف إلى المجتمع المغلق.  وفي سبيل ذلك قدموا التضحيات الكبيرة، التي لم تقف عند حدود التسفيه والمطاردة، أو تصل للاعتقال، بل امتدت لتنتهي في حالات كثيرة إلى حبال المشانق. غير أن فعلًا مقاومًا مثل هذا، كان يفتح أهم نافذة لدخول النور القليل لفعل التغيير.

العام الكارثة وصوت (الإنتلجنسيا) الناهض

عمر الجاوي

عمر الجاوي

مع عام 1934م بدأ صوت جريء يعبر عن رفضه لطريقة إدارة الإمام للبلاد، بعقلية المالك المتزمت والمتعصب والمنغلق. هذا الصوت، خرج من البنية الثقافية المحافظة نفسها، التي كرسها نظام الحكم، وأدار معاركه (الفكرية) بالأدوات نفسها التي امتلكت، في الوقت عينه، أسلوبها البسيط، في النفاذ إلى عقول كثير من المهجوسين بالسؤال الكبير: من نحن؟ وماذا نريد؟ وعبرت عن تجليات هذا الصوت طلائع التنويريين (العصاميين)، الذين لم يأتوا من حواضن سياسية منظمة، أو مدارس فكرية حديثة، فقط بإمكانياتهم المعرفية البسيطة، خطوا أولى الخطوات، في الطريق الشاق والطويل لمعارضة السلطة الغاشمة، وتعرية أدواتها المستخدمة في الاستبداد الديني. وأكثر الأسماء تمثيلًا لهذا المنزع الجديد الشيخ حسن الدعيس، الفلاح الفيلسوف، الذي حضر في معترك المركز بوعيه الجدلي المختلف والمؤثر، وهو الآتي من أحد جبال اليمن (الأسفل). وخلال مدة قصيرة استقطب العشرات من المثقفين الملولين من حكم الإمام، والذين أصبحوا المشغل الفاعل في نواة المعارضة السياسية، التي بدأت تتحسس طريقها الشاق من «المقايل» وحلقات المسجد، متخذة من الخطاب الديني، وموضوعاته الإشكالية، مدخلًا لنقد منظومة الحكم ورأسها.

وإلى جانبه ظهر الأستاذ محمد عبدالله المحلوي، الذي دخل هذا المعترك بوعي عصراني أكثر انفتاحًا؛ بسبب احتكاكه المباشر بمعارضين عثمانيين، نفتهم السلطات العثمانية إلى اليمن كنوع من العقاب، فاكتسب منهم اللغات وبعض علوم العصر، التي قادته بدورها إلى القراءات الفاحصة للفكر الديني، الذي بواسطته كون شخصيته الثقافية الرائدة «فحفظ الحديث والتفاسير، ودرس التاريخ والرياضيات والطب وأحوال البلاد الشرقية والغربية، ولولعه بالبحث والاستطلاع درس العهدين القديم والجديد عند حاخام صنعاء الكبير يحيى الأبيض»، كما قال العزي صالح السنيدار في «الطريق إلى الحرية».

وإلى جوار الاثنين كان أحمد المطاع، الضابط المثقف، وثاني رئيس تحرير لمجلة الحكمة بعد قتل رئيسها أحمد عبدالوهاب الوريث، وفيها استكمل ما ابتدأه الوريث من نشر موضوعات عن الإصلاح (الديني والسياسي) في حلقات متتابعة تحت عنوان «في سبيل الإصلاح»، متخذًا من موضوع اللغة محورًا للمساءلة عن أسباب وعوامل انحطاط وسقوط الفكر. محاكيًا وهو في الطرف القصي والمغلق ذات الأسئلة التي أنتجتها المراكز الثقافية العربية آنذاك.

قبيل هذه الحقبة بقليل، كان المحامي محمد علي لقمان في مدينة عدن يقارب سؤال النهضة والتنوير، بإصداره كتاب «بماذا تقدم الغرب؟» في عام 1933م، والكتاب في توجهه العام خاض في السؤال المركزي، الذي ظل يشغل الحيز الأكبر من تفكير النهضويين العرب، وعد هذا الكتاب تمثيلًا واضحًا للتوجهات التنويرية التي استوعبتها مدينة عدن، التي شهدت في عام 1925م ولادة أول نادٍ أدبي (رَأَسَهُ لقمان نفسه)، وصولًا إلى تشكيل الأحزاب والنقابات فيها بعيد الحرب العالمية الثانية. وكان لقمان أحد المؤثرين الحيويين فيها، بخوض صحيفته «فتاة الجزيرة» هذا المعترك بكل مفرداته الضاجة.

في عام 1937م أصدر الطالب الأزهري أحمد محمد نعمان كتاب «الأنة الأولى»، الذي عُد أول مطبوعة في أدبيات الأحرار اليمنيين، وهي حسب عبدالودود سيف «متميزة على مستوى مرحلتها الوطنية (التنويرية)»، وقدم فيها كما يقول الدكتور أحمد القصير: «رؤية مبكرة حول بعض جوانب التاريخ الاجتماعي لليمن، وشرحًا لأسباب الهجرة وأشكال اضطهاد الرعية باستخدام الإمامة أساليب (الخطاط) و(التنافيذ) و(التخمين) في تحصيل الضرائب».

هذا الطالب الذي سيتحول بعد سبعة أعوام، إلى قائد في حركة الأحرار التي تشكلت في عدن في عام 1944م، وكان أكثرهم إيمانًا بالعلم كمدخل للتحول؛ لأنه رأى، خلال رحلة تعلمه التي ابتدأها في العشرينيات في مدينة زبيد، وأتمها في الأزهر أواخر الثلاثينيات، أنه لا مناص أمام هذا الشعب للخروج من بؤسه وشقائه إلا بالعلم. وقد قضى النعمان سنوات كثيرة في تعليم الآخرين ابتداء من عمله في مدرسة (ذبحان الأهلية)، حيث عاش الصدمة المعرفية الأولى مع الأستاذ (محمد أحمد حيدرة).

وحين قربه الإمام أحمد، حين كان وليًّا للعهد، أوكل إليه تدريس ابنه البدر، وإدارة المعارف. وفي حجة، حيث كان مسجونًا بعد ثورة 1948م، أنشأ (المدرسة المتوسطة) لتعليم الأطفال، وفي ندائه للشعب اليمني لدعم (كلية بلقيس) التي افتتحت في عام 1961م في الشيخ عثمان بعدن قال: «لا بد أن تعد مجموعة من الشباب نفسها لتحمل مهمات التعليم بعقلية متفتحة تعي جيدًا أحوال شعبها، وتدرك المهالك التي طرح فيها بالمواطنين»، لهذا عُد النعمان مثقفًا عضويًّا «اتخذ التعليم مدخلًا للإصلاح السياسي ورأى أن تنوير العقول هو أساس تطوير المجتمع والإنسان»، كما يرى هشام علي في كتابه «المثقفون اليمنيون والنهضة».

الحكمة وأخواتها ومشروع الإصلاح والتغيير

mohammad_abdalwali

محمد عبدالولي

penmbrفي (ديسمبر 1938م) صدر أول أعداد مجلة «الحكمة يمانية»، كوسيلة من وسائل سلطة الإمام يحيى لاحتواء الصوت الشاب (من الأدباء والمثقفين المطالبين بالإصلاح) بإيجاد متنفس يمكن السيطرة عليه، وكان ظهور هذا الصوت معبرًا عن حالة السخط الشديد، التي تملكت هذه الشريحة جراء انتكاسة مشروع الدولة، وانغلاقها المميت فكانت، (ببساطتها وبدائيتها) أول مطبوع يصدر في عاصمة الإمام يحيى، يفتح كوة صغيرة في جدار الانغلاق الصلب والمعتم. وستعد «الحكمة» إضافة إلى صحيفة «فتاة الجزيرة» التي أصدرها الرائد محمد علي لقمان في عدن 1940م، وصحيفة «صوت اليمن» التي صدرت في 1946م عن الأحرار، الأوعية المهمة التي استوعبت الصوتين المطالبين بالإصلاح والتغيير معًا.  لهذا ليس بمستغرب أن يكون قياديو هذه الصحف وكتابها من أبرز شهداء ثورة 1948م ومعتقليها.

أما «البريد الأدبي»  (مجموعة رسائل شخصية ذات طابع أدبي، تبادلها فيما بينهم الأدباء بين صنعاء وذمار وتعز في الأربعينيات)، فسينظر إليها كمكملة للحلقات الثلاث؛ لأنها حسب الدكتور سيد مصطفى سالم: «نتاج مرحلة تاريخية واحدة، وخضعت لظروف سياسية ومؤثرات فكرية واحدة، لذلك كونت الحلقات في مجموعها تيارًا فكريًّا صاحب النشاط السياسي، الذي برز بأشكال مختلفة، وانتهى بثورة 1948م». إضافة إلى صحيفة «السلام» التي أصدرها في (كارديف) عام 1948م، كأول صحيفة عربية تصدر في المملكة المتحدة، الشيخ عبدالله علي الحكيمي، أحد رواد مدرسة الأحرار اليمنيين ومنوريها، لتكون صوتًا جديدًا للمعارضة، يوجه بعناية للمهاجرين اليمنيين المشتتين في الأصقاع، وقد التزمت منذ أعدادها الأولى بحرية الرأي والتعبير، لتكون فضاء ثقافيًّا إنسانيًّا مفتوحًا. وإن صاحبها، بحسب قادري أحمد حيدر في كتابه «المثقفون وحركة الأحرار الدستوريين»: «صوفي وثوري مقاوم، انخرط في تيار حركة التحرر الوطني العربية والقومية في بلدان المغرب العربي من أجل استقلال المنطقة من الاستبداد والاستعمار. ومن أوجهه البارزة دعوته المبكرة لحوار الأديان والثقافات والحضارات».  صحيفة السلام، التنويرية بحسب عبدالباري طاهر، نشرت منذ أعدادها الأولى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

في يوليو 1947م، غادرت من عدن صوب لبنان أول بعثة تعليمية يمنية لأربعين طالبًا (في سن المراهقة المبكرة تراوح أعمارهم بين الثانية عشرة والخامسة عشرة) من مدن مملكة الإمام الرئيسة (صنعاء – تعز – الحديدة) اختيروا بمقاييس فرضها الأمير عبدالله ابن الإمام وزير المعارف وقتها، لحسابات سياسية في إطار التنافس داخل بيت الحكم. الأربعون طالبًا الذين نقلوا إلى بعض مدن مصر بعد عام واحد فقط من دراستهم في لبنان (وما سيلتحق بهم من طلاب مبتعثين من الشمال والجنوب، ومبتعثي الأندية والأحزاب والأسر في عدن) سيشكلون اللحظة الفارقة في التاريخ السياسي والثقافي اللاحق لليمن.

ففي القاهرة حسب كيفن روزر في كتابه «بعثة الأربعين الشهيرة» كان هؤلاء المبتعثون «منجذبين سلفًا إلى النشاط السياسي، وفي هذه العملية، صاغوا علاقات سياسية قيمة مع حركات يمنية وعربية متعددة. وكانت رؤاهم عن التطور الاقتصادي، والعلاقات الأجنبية، والتركيبة السياسية متكيفة مع نموذج الثورة المصرية»، التي دخلت بكل ثقلها في معترك التحول في اليمن مع بزوغ ثورة سبتمبر، وكان فيها لطلاب البعثات في القاهرة (عسكريين ومدنيين)، الإسهام المميز فيها، من خلال وجودهم ككادر متعلم في دوائرها ومؤسساتها، أو تحولهم إلى قادة سياسيين في الأحزاب (الدينية والقومية واليسارية) التي حضرت في مشهد التحول الجديد، بوصفها حواضن للوعي السياسي، وروافعه المنظمة. ومن هذه البعثات، خرجت أول مرة الحركة الطلابية اليمنية الموحدة، التي ضمت أبناء جميع مناطق اليمن، ودعت في مؤتمرها الدائم المنعقد في يوليو 1956م في القاهرة إلى الوحدة اليمنية، وناهضت كل دعوة تتناقض مع هذا التوجه، وهي بذلك أول من أكد في العصر الحديث على وحدة الشعب اليمني ووحدة الأراضي اليمنية، وهو ما يعني أن فكر تلك الحركة قد اتسم بالعمق، كما انطوى على نظرة استشراف تتسم ببعد النظر حول مستقبل اليمن». كما يرى الدكتور أحمد القصير في مخطوط «إصلاحيون وماركسيون».

ومن هذه الحركة خرج كثير من وجوه التنوير والثورة والفكر والأدب والسياسة، وعبروا بكل وضوح عن وجه اليمن الجديد. وعلى سبيل الذكر لا الحصر يحضر هنا اسم الدكتور أبو بكر السقاف المفكر اليساري الكبير، وعمر الجاوي السياسي والمثقف المختلف، ومحمد أحمد عبدالولي الروائي الرائد، والشعراء إبراهيم صادق، ومحمد أنعم غالب، وسعيد الشيباني.

%d8%b1%d9%8a%d8%b4%d8%a9

التنويريون‭ ‬بين‭ ‬تعالي‭ ‬السياسي‭ ‬وانكسار‭ ‬المثقف

منذ انطلاق رحلة المعارضة السياسية المبكرة في الثلاثينيات، كان الهم الأكبر الذي انشغلت به طلائعهم المثقفة، هو كيفية إخراج البلاد من عزلتها وتخلفها المريع. وفي سبيل ذلك اتبعت هذه المعارضة العديد من الوسائل في توصيل رسالتها الوطنية، ابتداء بنصح الحاكم، ثم الدعوة للإصلاح في إطار منظومة الحكم ذاتها، قبل الانتقال إلى التغيير في إطارها، وصولًا إلى تغيير نظام الحكم برمته، واستبدال نظام آخر به هو النظام الجمهوري، الذي جاءت به ثورة 26 سبتمبر1962م.

وفي كل المراحل ظهر المثقف الرائد، مذوبًا بفعله الحدود، بينه وبين السياسي في الوظائف والأدوار «التي تحولت بمرور الوقت إلى حالة إشكالية، اقتضت الحاجة إلى إعادة مراجعة وفحص هذه المفاهيم، بدلًا من التماهي مع السياسي بوصفه السلطة ورأس المال، وبوصفه أيضًا القوة المادية والرمزية» كما قال علي حسن الفواز.

القوة ورأس المال الرمزي للسياسي، ستتكثف خلال خمسة عقود في الحالة اليمنية، وعلى وجه الدقة فيما كان يعرف بالجمهورية العربية اليمنية، التي امتد تأثيرها إلى الجمهورية اليمنية بعد حرب 1994م، كسلطة تعيد إنتاج نفسها في إطار التحالف القبلي العسكري الديني، ولم تنتج، حسب وليد علاء الدين سوى الخراب «وأخطر مظاهر هذا الخراب تمثلت في كسر إرادة النخبة، التي تحول دورها من كونها تمثيلًا لسلطة المثقف النقدي والنقضي في آن واحد، إلى كونها أدوات تبريرية لخطاب سياسي يفتقر إلى أدنى الروادع القانونية والأخلاقية».

لهذا لا غرابة في أن نشهد الآن وبعد خمسة عقود ونصف من ثورة 26 سبتمبر، هذا الانقسام المريع في بنية النخبة «بفعل الاستقطابات القوية والحادة، التي امتدت إلى شريحة المثقفين، الذين بدؤوا بالتحوصل داخل هوياتهم الضيقة (السياسية والمناطقية والطائفية) حين لم يجدوا مؤسسات الثقافة التي ينتمون إليها، قادرة على حمايتهم، والتعبير عن استقلاليتهم، وقبل هذا إذابة أحاسيسهم بالتمايز داخلها، فصاروا مع الوقت عنوانًا لانقسام المجتمع، عوضًا عن وحدته وتماسكه؛ بل صاروا عنوانًا لمتاريس المتحاربين في كل الجبهات؛ لأنهم ببساطة لم يستطيعوا تشكيل صوت نابذ للحرب ومجرِّمٍ لها، بسبب الضغوط الشديدة عليهم، وبسبب هشاشة تكويناتهم الفكرية، التي من المفترض أن تكون عابرة للجغرافيا والطائفة والعائلة». كما أراد التنويريون الأوائل.