مقاربة ثقافية لمفهوم الترفيه في السعودية

مقاربة ثقافية لمفهوم الترفيه في السعودية

مفهوم الترفيه يشير -في إطاره العلمي العام- إلى الأنشطة التي من شأنها التسلية عن الناس في أوقات فراغهم؛ وفق إطارهم الثقافي، وأمزجتهم الخاصة. قد يكون من المناسب أن نركب مقاربتنا الثقافية التنموية للترفيه في المجتمع السعودي على هذا المفهوم، عبر عمليتي التحليل والتعليق على الكلمات المفتاحية الواردة في هذا المفهوم، وليكن ذلك في ثلاثة محاور كبيرة.

رفّه عن نفسك بقدر إنتاجك!

وردت في المفهوم عبارة «في أوقات فراغهم»، فماذا عساها تعني؟ ماذا عن أولئك العاطلين أصلًا الذين لا يعملون ولا ينتجون، وكل أوقاتهم فراغ في فراغ، هل هم بحاجة إلى ترفيه؟ أم أنهم يحتاجون بالدرجة الأولى إلى العمل والإنتاج؟ هذه المسألة تجرنا إلى التأكيد على أن الترفيه هو نشاط مكمل للإنتاج، لا معوضًا عنه، ولا مسلِّيًا عن فقده أو ضعفه. الترفيه ليس هدفًا بحد ذاته، بل هو مجرد وسيلة. الترفيه ليس هو الطعام، بل الملح الذي يزينه. لقد تشكل وعي مجتمعي يقود إلى عدم القناعة بإنفاق الأموال الطائلة على مشاريع ترفيهية على حساب تشغيل الطاقات الشابة أو الوفاء بالاحتياجات الأساسية للناس. يخطئ كل من يعاند هذه الحقائق أو يتجاهلها، وسيكون للترفية -حينها- حمولات سلبية كبيرة في المخيلة الشعبية، وهذه خسارة فادحة يسعنا تجنبها. ويتأكد خطورة ما قلناه، بالنظر إلى تنامي تطبيق فكر الليبرالية الجديدة في المسار الاقتصادي المجتمعي في بيئاتنا العربية. إن الليبرالية الجديدة لا تؤمن بفكرة ربط الترفيه بالعمل والإنتاج، بقدر ما تهتم بتحصيل العوائد والأرباح، ولو كان على حساب إشغال الناس وإضعاف تفكيرهم وإنتاجهم، وحقنهم بالتفاهة والسذاجة (للمزيد يمكن القراءة حول مفهوم Tittytainment). لقد أفلحت هذه الليبرالية في إعادة تشكيل المكون الوجودي للإنسان المعاصر ليكون مندغمًا مع الترفيه وصادرًا عنه: أنا أترفّه، إذن أنا موجود. وهذا ما يجعلنا نرى ترفيهًا تافهًا لمترفهين تافهين، لا ينتجون شيئًا ولا يقدمون إسهامًا لمجتمعاتهم.

وتأسيسًا على ما سبق، أضع بعض النقاط التي أرى أن على الهيئة العامة للترفيه التفكير حيالها:

أولًا: إعادة النظر في الافتراضات الأساسية التي تشكل الخطاطة العامة للترفيه، بحيث يكون المكون التنموي ركيزة تخطيطية، إن في الغايات، أو في المراحل، أو في المشاريع، أو في الميزانيات.

ثانيًا: الحاجة إلى الترفيه تزداد كلما نجحنا فعليًّا في توظيف الشباب والشابات وجعلهم منتجين، وزودناهم بمهارات العمل في المستقبل.

ثالثًا: إيجاد تشريعات وآليات مشجعة على تبني الترفيه من قبل الشركات والمنظمات، لترسيخ فكرة الارتباط بين الترفيه والإنتاج.

رابعًا: إدخال خبراء محليين في مجال الربط بين مسائل الترفيه والأبعاد التنموية والمجتمعية، وهذا يعين على إيجاد هندسة مجتمعية ذكية لبرامج الترفيه.

خامسًا: تذويب أفكار «الترفيه التنموي» في المناهج والمقررات، وتسويقها في البرامج الإعلامية والتوعوية.

رفّه عن نفسك وَفْق ثقافتك!

لو جسدنا المعنى الوارد في هذا العنوان الفرعي، لقلنا: الترفيه صورة بروازها الثقافة. لا يستطيع الترفيه الانفلات من قبضة الثقافة؛ لا من حيث التشكيل الأولي الأصلي، ولا من جهة التطور المرحلي المتتابع، ولا من زاوية ما يقبل وما يرفض منه. إنها إطار مشكّل حاكم. هذه المسألة نجدها في كل مجتمع، وهي طبيعية جدًّا، غير أنها تمثل معضلة في المجتمع السعودي على وجه التحديد؛ لماذا؟ لأن الثقافة مأزومة! نعم، هي مأزومة من جراء أسباب عديدة ذات طبيعة تراكمية معقدة. ومن أهمها السبب الذي يعود إلى اشتباك «الثقافي المتنوع» بـ«الديني المنمط» في مسائل الترفيه وبرامجه ومساراته. الديني المنمط (الفكر السلفي) يصدر «فتاوى جماعية حازمة» لمسائل مختلف حولها دينيًّا وفقهيًّا، كمسائل المسرح والموسيقا والغناء، ويجعلها في مرتبة عالية في «هرم التدين السعودي»، الأمر الذي يُوجِد احتقانًا شديدًا لدى الفئات المحافظة إزاء البرامج التي تتضمن شيئًا من هذا، ويدفعهم إلى ممارسات احتجاجية فوضوية. الحقيقة عندي أن الجميع يتحمل قدرًا من المسؤولية حيال ترسخ الذهنية الدينية المنمطة، وعليهم جميعًا (السياسي والمجتمعي) أن يعترفوا بجسارة وشجاعة، وأن يتقبلوا دفع التكاليف والقيام بالاستحقاقات الواجبة، من خلال برامح إصلاحية ذكية ممرحلة.

بدون هذا الاعتراف وهاتهِ البرامج، لن يتطور المشهد الترفيهي السعودي، ولن يكون قادرًا على الانعتاق من الإسار الديني الممانع. وللتدليل على ذلك، أعود إلى خزانة الحكايا المجتمعية؛ لأستدعي قصة واقعية ظريفة حصلت في المعهد العلمي الديني في مدينة بريدة قبل ما يقارب 50 سنة (في حدود عام 1391هـ/ 1971م). هذي الخزانة تقول: قامت ثلة من طلبة المعهد (ممن كانوا روادًا لمكتبة الثقافة العامة ببريدة، وهذه لها قصة ثقافية يجب أن تروى) بإعداد مسرحية تدور حول الأدوار الشريرة التي يلعبها الشيطان في حياة الناس، ومنها حثهم على الكذب والغيبة والنميمة. اقترح أحدهم تسميتها بـ«برلمان إبليس». نُفذت المسرحية على حين غفلة من شيوخ المعهد، الذين علموا بها بعد ذلك، وهو ما استدعى إصدار عقوبات تأديبية صارمة للطلبة المشاركين، وقد وصلت أحيانًا إلى نَفْيِهم إلى معاهد علمية خارج المدينة (نُفي بعضهم إلى المعهد المناظر في الرياض). وحين ننظر إلى ردود الأفعال المجتمعية لفئات محافظة عريضة حيال بعض برامج الترفيه في الآونة الأخيرة، ندرك أن النهج الممانع في الخطاب الديني التقليدي لا يزال هو سيد المشهد، ولم تفلح السنوات الطوال في زحزحته نحو المرونة الفقهية الممارَسة في بقية الدول العربية والإسلامية، وهي المرونة التي تنتج تنوعًا في الفتاوى والاجتهادات والتطبيقات. هناك إخفاق كبير في تشجيع الفئات المحافظة على إعادة الترتيب للمسائل الجزئية في المنظومة الدينية وهرم التدين السعودي. معالجة هذه المسألة في إطارها التفصيلي تخرج عن نطاق هذه المقالة المختصرة؛ لذا سوف نعاود التركيز على مسائل الترفيه.

لا أحسب أن الترفيه في السعودية سينجح في تخطي هذه العقبة الكَأْداء دون تغيير في طريقة التعاطي معها، من زاوية التشخيص والتحليل والتخطيط والتنفيذ، وعلى رأس ذلك الاعتراف الجماعي الجسور الذي أومأتُ إليه آنفًا، على أنني لست متفائلًا بحدوثه قريبًا؛ لضعف المؤشرات الدالة عليه، ومنها عدم تبلور القناعة الكافية بفك الاشتباك بين السياسي والديني، على نحو يقذف بنا خارج أسوار السلفية المقيدة.

على كلٍّ، سأطرح جملة من الأفكار التي ربما تعين في حل جزء من هذه الإشكالية من زاوية أو أخرى. ويمكن لهيئة الترفيه مع الجهات المعنية النظر في كيفية تطبيق هذه الأفكار:

أولًا: تعزيز فكرة «دولة القانون» في المجتمع السعودي. قد يقال: ما دَخْل القانون في هذه المسألة التي قلنا عنها: إنها ذات طبيعة دينية مجتمعية؟ باختصار، أقول بأن كثيرًا من مسائل الترفيه مختلف حولها دينيًّا، ولهذا فإن الحاكم على ذلك والضابط له ليس هو الرأي الفقهي لفئة مجتمعية معينة، إنما هو «القانون»، فما دام القانون لا يعارض إقامة برامج ترفيهية معينة نظرًا لصدوره عن رأي فقهي معين، فإنه لا يُسمح لأحد بمعارضة إقامتها باحتجاجاته الفعلية، أما طرح الآراء فقضية حرية تعبير، ويجب أن تكون مكفولة للجميع.

ثانيًا:صدور بيان من المؤسسات والشخصيات الدينية الرسمية وغير الرسمية تعزز هذه القضايا والأفكار، وتحذر من السلوكيات الاحتجاجية على برامج الترفيه المصرح بها قانونًا.

ثالثًا: ترسيخ هذه الأفكار في المناهج والمقررات والبرامج الإعلامية والتوعوية، بما يتناسب مع الشرائح المستهدفة.

رفّه عن نفسك وَفْق مزاجك!

لكل مجتمع محلي مزاجه الخاص. هذا المزاج يُنتج طرائق وأساليب محببة وأخرى غير محببة في مختلف جوانب الحياة، ومن ذلك ما يتعلق بالترفيه. ومن هنا، فإن من الواجب على هيئة الترفيه التعرف على «المزاج الوطني الخاص» للسعوديين بشكل عام، بجانب «المزاج المحلي الخاص» في كل منطقة. المزاج العام الوطني هو مزاج محافظ، ولهذا فإنه من المهم مراعاة ذلك في البرامج الترفيهية؛ بما في ذلك الموسيقا والمسرح والسينما؛ إذ إن المناسب للمجتمع السعودي هو الفن المحافظ، وهو الفن الذي أراه أصيلًا وراقيًا في الوقت ذاته. الفن الهابط أو الرخيص أو الماجن -في كل تمظهراته – لا يصلح للمجتمع السعودي، وإن كان ثمة طلب عليه من جانب بعض ممن لا يشكلون نسقًا عامًّا. ليس هذا فحسب، بل تتعين الإشارة إلى أنه من الطبيعي أن تشمل البرامج الترفيهية ما يناسب الفئات المحافظة دينيًّا في جميع المسارات، لا سيما أنها تشكل نسبة كبيرة في المجتمع. للوفاء بمتطلبات المزاج الخاص الوطني والمحلي، فإنه من الضروري العمل على تشغيل مكائن الإبداع الفني المحلي، الذي يتكئ على الأبعاد المجتمعية والدينية والجغرافية. سيحقق هذا الأمر ميزة تنافسية للفن السعودي الأصيل الذي لا يجده أحد إلا في هذا البلد، وهو المعبر عن روح البلد وعمقها الثقافي الحضاري. وفي ضوء ذلك، لا أرى أنه من المناسب -على سبيل التمثيل- التوسع في استجلاب فرق استعراضية دولية، لتقدم عروضًا ترفيهية؛ قد لا تكون قادرة على خلق الدهشة ولا على إنبات الابتسامة لدى المجتمع. صحيح أن كل شيء قد تمت عولمته، ومن ذلك الترفيه والنكت، لكنه صحيح أيضًا أن ما يضحك هذا الشعب قد لا يضحك الشعب الآخر بذات القدر من «الضحك الجواني»، في دلالة على رسوخ البعد المحلي في الترفيه والنكتة. النهج المتعقل المتوازن سيمكِّن الهيئة من جعل برامج الترفيه ملائمة لأمزجة الناس ومشبعة لأذواقهم، وملبية لتطلعاتهم الوجدانية والنفسية، وسيكون لهذا انعكاسات إيجابية على تقويم أداء الهيئة وإنجازاتها.

وهنا أضع بعض الأفكار العامة أمام هيئة الترفيه، فلربما تكون مفيدة في الجوانب التخطيطية والتنفيذية، ومنها:

أولًا: الحرص على تنويع البرامج الترفيهية المنفذة من جانب هيئة الترفيه، ومن ذلك مراعاة احتياجات المناطق المختلفة والفئات المحافظة، والسعي لسدها بشكل كافٍ، وبقوالب متوازنة.

ثانيًا: التشجيع على تأسيس معاهد فنية متنوعة، من أجل صقل المواهب المحلية المبدعة في مجالات الفن والمسرح والعروض ونحوها، مع تقديم الدعم المالي والاستشاري واللوجستي اللازم.

ثالثًا: تنظيم مسابقات من شأنها تعزيز التنوع والتلبية المناسبة للأمزجة والأذواق، والتعريف بالمبدعين في هذا المجال.

رابعًا: سعي هيئة الترفيه لأن تنأى ببرامجها وطروحاتها عن التصريحات الإعلامية غير المدروسة، ومن المهم أيضًا النأي عن معالجات بعض الكتاب السعوديين المنتمين لما يسمى بـ«التيار الليبرالي»؛ إذ إنهم يصوِّرون القضية على أنها انتصار على خصومهم من السلفيين والصحويين، وهذا يزيد الأوضاع اشتعالًا. باختصار: قوموا بعملكم بهدوء، واطلبوا من أولئك الكتاب الكفّ عن التهويل والمبالغة في خلق المعارك الوهمية مع الأطراف الأخرى. قولوا للطرفين: لسنا بحاجة إلى صداعكم وتناحركم. آمل أن تسهم هاته المقاربة الأولية في إعادة التفكير بالترفيه من منظور ثقافي تنموي، يتأسس على الحقائق الصلبة. ويمكن لهيئة الترفيه أن تجعل مبادرة مجلة «الفيصل» في استكتابي حول هذا الموضوع نواة لإقامة ندوات علمية متتابعة، يُدعَى إليها متخصصون في العلوم الاجتماعية والإنسانية والشرعية؛ لطرح أبحاثهم حول المسائل والإشكاليات المحيطة بقضية الترفيه، وما أكثرها، وما أعقدها، وما أحوجها لما أسميه بـ«الصدق الممنهج». هذا الصدق هو المعبر عن روح المثقف الحقيقي، الذي يؤمن بأن الصدق وحده هو ما يجعل مشاكل وطنه جزءًا من الماضي لا المستقبل.

وأخيرًا وبكل صراحة، أقول: المسألة معقدة وتتطلب معالجات علمية وفكرية معمقة؛ لتفكيك الاشتباكات المعقدة بين الأنساق والأفكار والتيارات، بين ذهنية الماضي وذهنية الحاضر والمستقبل. لا أحسب أن هيئة الترفيه ستفلح في تخطي العقبات والتحديات الكبار دون نهج علمي متعقل متوازن.