الطائفية والمثقف في لبنان: متجذّرة في التاريخ.. قابضة على الثقافة والمثقفين.. والمستقبل على يد عفريت!!!

الطائفية والمثقف في لبنان: متجذّرة في التاريخ.. قابضة على الثقافة والمثقفين.. والمستقبل على يد عفريت!!!

لا يمكن الكلام عن المثقف اللبناني والطائفية من دون معرفة فصول التاريخ الطائفي المتجذر في لبنان، واستكشاف هذه النبتة السامة التي تفرخ حروبًا كل مدة من الزمن، ولا شك في أن تنوع الأديان والمذاهب في لبنان الذي نفترض أنه يشكل غنى حضاريًّا وثقافيًّا في هذا البلد الصغير، هو ذاته يشكل أرضًا خصبة لمن يريد استثمار العصبيات الطائفية لمصالحه السياسية، فالحساسيات تخبو وتستعر بحسب مقاييس الربح والخسارة لدى الزعماء اللبنانيين والمحركين الخارجيين.

لقد كانت المرحلة العثمانية من المراحل الطائفية الأكثر خصوبة في تاريخ لبنان، لما مثله العثمانيون من اتجاه إسلامي وضع لبنان في حال تنافر طائفي ومذهبي، فاعتبار السلطان العثماني نفسه خليفة للمسلمين، أخرج المسيحيين من دائرة الرضا والحظوة، كذلك أثرت ارتدادات الصراع العثماني الصفوي في موقف الشيعة تحت الحكم العثماني، ومن ضمنهم شيعة لبنان. ومن هنا بدأ التغلغل الأوربي في المنطقة يتخذ من الطوائف والمذاهب متكأً لمناهضة الحكم العثماني، وبالتالي تطور الوضع ليرث الأوربيون في النهاية تركة الرجل المريض. وفي ظل الحكم العثماني المريض أنشئ «نظام القائم مقاميتين» (1843- 1861م) الذي قسّم بموجبه لبنان (بحدوده السابقة) بين قائمقامية درزية جنوب خط بيروت الشام وأخرى مارونية شماله، ومنذ ذلك الحين بدأ التجاذب الدولي للطوائف اللبنانية، بحيث بدا كأن البريطانيين يدعمون القائم مقامية الدرزية والفرنسيين القائم مقامية المارونية. وقد أتى ذلك بعد الحرب الأهلية الأولى في لبنان التي حدثت عام 1841م بين الدروز والموارنة. ثم أتى نظام المتصرفية بعد أحداث 1860م أيضًا، ليستمر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، الذي تولّت بموجبه الدول الأوربية حماية الطوائف والمذاهب اللبنانية في دولة جبل لبنان، فرعَت فرنسا الموارنة، وروسيا الأرثوذكس، والنمسا الكاثوليك، وإنجلترا الدروز، في حين بقيت الطائفتان السنية والشيعية تحت حكم السلطة العثمانية.

ومع بدء الانتداب الفرنسي عام 1920م، وإعلان «دولة لبنان الكبير» بحدودها الراهنة، بقيت المجالس التمثيلية موزعة على الطوائف، وبقي المسلمون معترضين على انضمامهم إلى دولة تجعلهم أقلية، في حين كانوا في الحكم العثماني في ظل أكثرية مسلمة. وكان الميثاق الوطني أول اتفاق يجمع اللبنانيين على صيغة واحدة في ظل الاستقلال عام 1943م، وُزّعت فيه الرئاسات الثلاث على المسيحيين والشيعة والسنة (عرفًا لا نصًّا) كما هي حاليًّا، في حين وُزّعت الوظائف بنسبة سبعة للمسيحيين مقابل ستة للمسلمين. ورغم أن المادة 95 من الدستور نصّت على اعتبار الطائفية مؤقتة، فإنها استمرت لتكون سببًا أساسيًّا في تجدد اشتعال فصول من الحروب الطائفية، فحصلت أحداث 1956م، ثم الحرب الأهلية عام 1975م، لتتغير صيغة التوزيع الطائفي رسميًّا من خلال مؤتمر الطائف عام 1989م إلى توزيع الوظائف مناصفةً بين المسلمين والمسيحيين، وكذلك النواب والوزراء، مع تخفيف صلاحيات رئيس الجمهورية المسيحي.

وجيه كوثراني

علي حرب

هذا التاريخ الذي يمتد من الحكم العثماني حتى اليوم يشير إلى أن كرة الثلج الطائفية لا تزال تكبر وتكبر حتى يومنا هذا، حتى في بلد الحريات، وإن تغيرت أطراف الصراع، وبات التناحر السني الشيعي يحتل اليوم المشهد السياسي والأمني في لبنان، مع تواري الصراع المسيحي الإسلامي. ويعتبر المفكر المغربي محمد عابد الجابري أن غياب الديمقراطية الصحيحة في لبنان هو السبب: «العلمانية وحرية الفكر والتعبير لا تعوضان الفوارق، كما أنهما لا يمكن أن تخففا إلى الأبد من وقع الظلم الناتج عن استئثار فئة من الفئات بالقسط الأكبر من السلطة السياسية والاقتصادية. لقد كبر جسم لبنان على قميص الديمقراطية الذي أُلبِسه في الأربعينيات، فكان لا بد أن يتمزق ليظهر الجسم على حقيقته، جسمًا مريضًا بالطائفية» («الدين والدولة وتطبيق الشريعة»، 1996م، ص 109). ويتابع الجابري تعميم الفكرة بالقول: «وليس ما يجري في لبنان سوى نموذج لما يمكن أن يجري في أي بلد آخر يكون فيه توظيف الدين في السياسة حاجة سياسية» (ص 120). هكذا بات لبنان أرض صراع طائفي بغيض، وباتت الأحزاب الطائفية هي الفاعلة في السياسة المحلية، وهي التي تستقطب الأجيال الجديدة، بعدما كانت هذه الأحزاب تتقاسم الحضور السياسي مع أحزاب يسارية وعلمانية. على أن هذا الصراع ما كان ليحتدم لولا الاحتضان الدولي له.

مثقفون ضد الطائفية

جبران خليل جبلران

خلال تلك المراحل التاريخية كانت مواقف المثقفين مشتتة، لكن عددًا كبيرًا من الأسماء المعروفة كانت ضد الطائفية والمذهبية، بدءًا من أحمد فارس الشدياق (1804-1887م) المعروف بتمرده على الأديان وتحرره وابتعاده من العصبيات، و«تجوّل» بين الطوائف والمذاهب، وقد جاء في كتابه الشهير «الساق على الساق في ما هو الفارياق»: «وأنتم يا سادتي الحكام والمشايخ والكبراء والمطارنة جربوا مرة أن تجتمعوا بأهلكم وأزواجكم مع أهل جيرانكم.. وأن ترفعوا فرق المذاهب من بينكم فذلك أدعى لكم إلى الحظ والسرور» (ص 474)، ثم جبران خليل جبران، الذي هاجم رجال الدين وحمَّلَهم مسؤولية الانقسام، ومارون عبود، شيخ النقاد العرب في لبنان، الذي اختار لابنه اسم محمد رفضًا للعصبيات الطائفية، وصولًا إلى ميخائيل نعيمة وسواه الكثيرون، وتوفيق يوسف عواد الذي استشرف الحرب الأهلية الطائفية في لبنان في روايته الشهيرة «طواحين بيروت». وتحضرنا مجلة «الأديب»، لصاحبها ألبير أديب، التي كانت لها مكانة في الصحافة الأدبية (1942 – 1982م)، وكان مبدؤها الابتعاد من الطائفية والسياسة، مثلها مثل عدد من المجلات الأدبية التي ظهرت في تلك الحقبة، وكان همها أن تصل إلى كل المثقفين العرب بانتماءاتهم الدينية والمذهبية كافة، ونذكر منها «الآداب» و«شعر» و«الثقافة الوطنية»، ولعل التنوع الطائفي فيها يدل عليه ضمها أدباء ومفكرين بغض النظر عن طوائفهم ومذاهبهم، ولذا رأينا من أعضاء «الأديب»: الشيخ عبدالله العلايلي والشيخ إلياس خليل زخريا، والدكتور نقولا فياض، ونور الدين بيهم، والشاعر محمد علي حوماني، والشاعر صلاح الأسير، وألبير أديب. واستمرت على نهجها الوطني والقومي حتى إقفالها.

تبدل وجه الحرب

عباس بيضون

صحيح أن الطائفية في نصوص الدستور اللبناني وأعرافه بقيت عبارة عن عبوات معدة للتفجير في أي ظرف مناسب، لكن الحرب الأهلية التي انفجرت عام 1975م، وكان الوجود الفلسطيني المسلح سببًا وحجة لتسريع اشتعالها، كان ظاهرها بين اليمين ذي الطابع المسيحي واليسار الذي احتضن المقاومة الفلسطينية وتحالف معها في حربها ضد العدو الإسرائيلي، وباطنها الغليان الطائفي، وقد استمرت فصولها الأخيرة طائفية بشكل مكشوف، بعدما تبلورت الأطراف وظهرت قوى أكثر جذرية من تلك التي انطلقت مع الحرب مع مساهمة ياسر عرفات في تفريخ ميليشيات سنية وشيعية (المرابطون وحركة أمل مثلًا) بعد جولات من الحرب، فتهمش دور القوى العلمانية وذابت أخيرًا في المد الطائفي. ويصف المفكر اليساري فواز طرابلسي الوضع من زاويته: «في عام 1975م كان في لبنان مشروع تغيير جذري، توّج عقدًا كاملًا من التحركات الشعبية غير المسبوقة في تاريخه. ما لبث الحراك من أجل التغيير أن تحوّل إلى حرب أهلية» (جريدة «السفير» 10 إبريل 2013م).

ما يهمنا هنا أن نركز على هذه المرحلة التي استمرت من بداية حرب 1975م ولمّا تزل حتى يومنا هذا، تتفاوت بين حروب صغيرة وكبيرة، مسلحة مرة وسياسية كيدية مرة أخرى. يرى أدونيس، (في مقالته الأسبوعية «مدارات» جريدة «الحياة» 20 نوفمبر  2003م) أن «الطائفة، اليوم، في بيروت، تخرج من «دِينيّتها» وتصبح حزبًا سياسيًّا. إنها ظاهرةٌ تُضْمِرُ تطوّرًا يقلب جميع الأسس التي قام عليها لبنانُ – البدايات. بل يمكن القول: إن لبنانَ هذا مهدّد بخطر الانتهاء». ومقارنة بين بيروت الأمس واليوم، «كانت الطائفيّة في لبنان تملك عَقْلَ الإنسان، واليوم أخذت تملك جسمَه كذلك. أصبح اللّبناني أسيرَ طائفته على نَحْوٍ كامل، عقلًا وجسمًا. صار مستعبَدًا في عمق أعماقه. مجرّدَ رَقْمٍ، مجرّدَ شيء. وفي هذا تلتقي البنية الطائفيّة بالبنية الفاشيّة». والمثقفون ليسوا بعيدين من هذا الواقع، ففي هذه المرحلة التي كان الانقسام فيها آخذًا شكلًا ملتبسًا، عشية هذه الحرب الأهلية، كان اليسار اللبناني أكثر استقطابًا للمثقفين، مسلمين ومسيحيين؛ إذ كانت أحزابه علمانية، يعبر فيها المسيحي عن وجوده تمامًا مثل المسلم، ويضم أصحاب التوجه القومي العربي والقومي السوري والأحزاب الماركسية. وكانت المقاومة الفلسطينية قد استقطبت عددًا من المثقفين العرب، الذين أتوا إلى بيروت، إما هربًا من جور الأنظمة، أو طوعًا للتعبير عن قناعاتهم، ولا ننسى أن بيروت كانت في الستينيات والسبعينيات عاصمة الثقافة العربية، لما كانت تتمتع به من حريات هي خبز المثقفين وحاجة إبداعهم وما تعنيه من انفتاح على الغرب.

وهنا لا بد من أن نذكر أسماء مثقفين عرب كُثُر كانوا في طليعة اليسار والفضاء الثقافي العربي، من أمثال محمود درويش، وأدونيس، وخالدة سعيد، ونزار قباني، ومؤنس الرزاز، وسعدي يوسف، وعبدالوهاب البياتي، ومحمد الماغوط، وسواهم كثر بدأت بيروت تفتقدهم واحدًا تلو الآخر مع تقدم أعمال الحرب. وكان من اللبنانيين خليل حاوي، وسهيل إدريس (مؤسس مجلة «الآداب») وحسين مروة، وفواز طرابلسي، وأحمد بيضون، وعلي حرب، وعباس بيضون، ومرسيل خليفة، وروجيه عساف، ونضال الأشقر، وسواهم من الأسماء اللامعة، في حين مثل التيار القومي اللبناني شارل مالك، وسعيد عقل، وكمال الحاج، وفؤاد أفرام البستاني وسواهم، وقد شارك مالك وعقل في تأسيس الجبهة اللبنانية التي ضمت ميليشيات الأحزاب المناهضة لعروبة لبنان والمقاومة الفلسطينية والاتجاهات اليسارية اللبنانية.

تحولات

ولا شك في أن طبول الحرب عندما قرعت وتلاطمت أمواج حقدها حصلت تحولات كثيرة على المستوى الثقافي، يمكن اختصارها فيما يأتي:

أولًا- بدأ النشاط الثقافي في بيروت يضعف شيئًا فشيئًا، حتى إن بعض الأطراف السياسية طلبت من مثقفيها الانخراط في المعارك العسكرية.

ثانيًا- شهدت الساحة الثقافية هجرة عدد لا بأس به من المثقفين، ولا سيما الذين يعملون في الصحافة، إلى قبرص والخليج العربي ولندن وباريس بشكل أساسي.

ثالثًا- بدأ دور بيروت الثقافي يضعف، ومن ثَم بدأت تفقد شيئًا فشيئًا لقبها كعاصمة للثقافة العربية.

رابعًا- بدأت القدرة الشرائية تتراجع مع تدهور الليرة اللبنانية، خصوصًا في السنوات التي تلت اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982م ووصولها إلى العاصمة بيروت، وانسحاب المسلحين الفلسطينيين، وسحب عرفات الأموال التي كانت لفتح في البنوك اللبنانية، وقدرها 13 مليار دولار أميركي.

فواز طرابلسي

خامسًا- بدأ الفرز الطائفي بين المناطق يتبلور، وبدأ احتساب مثقفي كل منطقة على الطرف السياسي المهيمن فيها، وإن بقيت بعض الأسماء بعيدة من الانتماء المباشر لأي طرف، والمثل الساطع على ذلك بول شاوول الذي كان زمن الحركة الطلابية مع اليمين اللبناني (حركة الوعي) المنفتح على الحوار، وطاردته «الكتائب اللبنانية» في المنطقة الشرقية (المسيحية) من بيروت، فلجأ إلى المنطقة الغربية، وبقي محافظًا على استقلاليته فيها. وفي حوار معه في مجلة «المجلة» (23 نوفمبر 2013م) قال: «رفضت طائفية طائفتي، ولم أذهب لتأييد طائفة أخرى حين بدأت الحروب الطائفية والمجازر الطائفية. أنا أعتبر أن الطائفية هي سرطان لبنان، وكل طائفي هو عدو للبنان».

سادسًا- شهدت المنطقتان الغربية والشرقية حال انقطاع في النشاط الثقافي إلا ما ندر، حين ساهم الراحل منح الصلح في مد جسور التلاقي مع «الحركة الثقافية- أنطلياس»، عبر الكاتبين عصام خليفة وأنطوان سيف. وكان هذا الجسر من الجسور الثقافية النادرة التي تصل المناطق، في حين كانت الجسور التجارية في نشاط مستمر لم ينقطع، وكذلك الجسور السياسية، حيث بقيت مؤسسات الدولة مستمرة في أداء مهامها، وإن بمزيد من التآكل والاهتراء.

سابعًا- لما ترافقت الحرب الأهلية مع عدوان إسرائيلي دائم على أرض الجنوب اللبناني بشكل أساسي، برزت ظاهرة «شعراء الجنوب»، وانتشرت في العاصمة اللبنانية، وكان من بينها: محمد علي شمس الدين، وشوقي بزيع، ومحمد العبدالله، وحسن العبدالله، وجودت فخرالدين… إلخ. لكن الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م كان من شأنه أن يغير شعار «كل الجهات الجنوب» الذي طرحه أمين عام المجلس الثقافي للبنان الجنوبي حبيب صادق، ولما اشتد عود الشعراء الشباب، وباتت أسماؤهم معروفة في العالم العربي استصغروا التسمية على أنفسهم، وراحوا يرفضونها عبر وسائل الإعلام حتى زالت.

ثامنًا- تدهورت الروح الوطنية، ذلك أن الانتماء إلى الطائفة بات أولوية، ويأتي الوطن في مرتبة ثانية. يقول علي حرب واصفًا الإسلامي الأصولي بأنه: «يستحيل أن يكون مسلمًا ومواطنًا، ويستحيل عليه مثلًا أن يكون مسلمًا ولبنانيًّا أو سوريًّا أو مصريًّا أو فرنسيًّا أو سويسريًّا… لأن من يفكر ويعمل على هذا النحو، يأتي الدين عنده أولًا، وما عداه يعمل لخدمته، وإلا كان محل استبعاد أو رفض أو إدانة» («المصالح والمصائر، 2010م، ص166).

شحنات طائفية

لا شك في أن الحرب الأهلية التي لم تهدأ تردداتها حتى الآن في لبنان، وقد شهدت مراحل ما بعد «اتفاق الطائف»، الذي نفترض أنه أنهى فصول الحرب، تفجيرات مختلفة للوضع الأمني ونزول المسلحين إلى الشوارع، ولا سيما في المرحلة الأخيرة من الحرب الطائفية التي تبدلت بعد اغتيال الشهيد رفيق الحريري من حرب بين المسلمين والمسيحيين إلى حرب بين السنة والشيعة، وقد شهدت الحرب الأهلية في فصولها الأخيرة ما قبل الطائف تشظيًا ضمن الطائفة الواحدة في حروب طاحنة بين أمراء كل طائفة وأحزابها، وهو ما جعل التعصب للطائفة أو المذهب أكثر تشددًا، وبرز كتّاب كثر يلمّعون بكتاباتهم الطوائف والمذاهب، وينبشون أخبار المنسيين من العلماء والفقهاء والقديسين الذين ينتمون إلى هذه الطائفة أو ذاك المذهب. وفي تلك المدة شهدت معارض الكتب ظهورًا واسعًا للكتب الدينية، وباتت هي الأكثر مبيعًا وجذبًا، وانكبت دور النشر على طباعة المزيد منها، وإحياء الكتب الدينية القديمة التي يزيد أصحابها التعصب تعصبًا، كذلك انكب عدد كبير من الكتّاب على تلميع تاريخ كل طائفة وشخصياتها، حتى إن مطابع لبنان اشتغلت على تصدير عدد كبير من شحنات الكتب الدينية في تلك المدة إلى الأوساط السنية والشيعية في العالم العربي.

وإذا أردنا التمعن أكثر في معارض الكتب، فقد شهدت المنطقة الشرقية معرضًا مسيحيًّا يبرز فيه حضور دور نشر مسيحية أو ظهور الكتاب المسيحي، تقيمه ولمّا تزل بشكل سنوي «الحركة الثقافية- أنطلياس» برعاية رئيس الجمهورية (المسيحي)، وقد استوقفنا رقم جمهور «معرض المعارف العربي الدولي» الذي أقامه حزب الله، وجذب قرابة ربع مليون نسمة في نسخته الثانية والأخيرة، وإذا كان هذا المعرض برعاية السيد حسن نصرالله (الشيعي)، فقد كان هناك معرض آخر برعاية رئيس مجلس النواب الشيعي أيضًا، هو معرض اتحاد الناشرين اللبنانيين، الذي توقف هو الآخر، وبقي «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» (أول معرض كتاب عربي) الذي يقام برعاية رئيس الحكومة (السني) هو المعرض المركزي، الذي لم يكن له عندما تأسس عام 1956م أي طابع طائفي أو مذهبي، وكان ولمّا يزل يديره النادي الثقافي العربي، إلا أن تحولات السياسة جعلته يبدو منحازًا إلى هيمنة تيار «المستقبل» عليه، بعد بروز العصبيات المذهبية، وتجاذب أحزاب الأمر الواقع الطائفية المذهبية للهيئات والمؤسسات والأندية الثقافية والاتحادات المهنية. غير أن هذه العصبية في المعرض الأخير بدأت تخف بعد إلغاء التحديات الأخرى.

اتحاد الكتاب اللبنانيين

سهيل إدريس

اتحاد الكتاب اللبنانيين الذي أسسه سهيل إدريس مع قسطنطين زريق ومنير البعلبكي وأدونيس وبقي أمينًا عامًا له لأربع دورات متتالية، وكان الشيوعيون قبل الحرب، وخلال المدة الأولى منها يتحكمون في هيئته الإدارية، ولم يكن للطائفية مكان فيه؛ سقط في يد حركة أمل الشيعية اليوم، وشلت قدراته، وأفرغ من مضمونه الثقافي، وبتنا لا نسمع به إلا وقت الانتخابات أو إذا أضيف اسمه إلى نشاط جامع، والظريف في الأمر أن الأمانة العامة فيه تمنح من قبل الحركة، شكلًا، لكاتب مسيحي أو سني؛ ذلك لأن المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، الذي تأسس عام 1964م، بقي بقيادة الشيعي (غير الطائفي) حبيب صادق. وتمتد يد حركة أمل إلى جمعية الفنانين التشكيليين وجمعيات مهنية أخرى، في سياق الصراع في العمل النقابي العام في لبنان، الذي بات بأكثريته خاضعًا لأحزاب طائفية، بعد عزل الأحزاب العلمانية. المؤسف بالفعل أن يصبح اتحاد الكتاب ذو السمعة الممتازة بين الاتحادات العربية سابقًا مطيةً طائفيةً وفئويةً، بل يصبح مشلولًا، وقد انفضّ عنه كبار الكتاب، وفلتت فيه التنسيبات المزيفة، ويمتطي الزعيم الطائفي وزبانيته ظهور الكتّاب حتى يبروها. والمضحك أن انتخابات جمعية الفنانين التشكيليين تنجب مرة رئيسًا أمينًا عامًّا مسيحيًّا، ومرة أخرى مسلمًا، على أن يكون المسلم مرة سنيًّا وأخرى شيعيًّا. هكذا تتحول الجمعية إلى لعبة شطرنج يتحكم فيها لاعب واحد يوزع الأدوار، وينغمس فيها عدد كبير من الفنانين الذين نراهم خارج الجمعية وفي محترفاتهم ونتاجاتهم الفنية بعيدين كل البعد من أي منطق طائفي، في حين يتقدمون إلى الانتخابات بكل عدتهم الطائفية والمذهبية، كأنما هو انفصام الأمر الواقع.

جِبِلَّة المثقف

كمال الصليبي

إن وجود المثقف بين «بلوكات» طائفية مقفلة، وبين هذا الكم الهائل من المواطنين اللبنانيين المنتمين، سياسيًّا، إلى طوائفهم، ينذر بالشؤم، وكذلك وجود مسؤولين في الحكم ليس لديهم مهمة سوى أن يمثلوا طوائفهم أفضل تمثيل، وأن «ينتزعوا» حقها في قرص الجبنة. ويتوهم البعض، في كثير من الأحيان، في اعتبار المثقفين شريحة فوقية برجية وعاجية وفضية وذهبية بعيدة من الطين والمعادن الرخيصة، تترفع على الخلافات السياسية التي تجري على الأرض، أو تبتعد من الحدث والواقعة لتتمسك بالجوهر وبالجوهر فقط! بينما الحقيقة أن المثقفين ينقسمون ويتناحرون ويتوالدون ويتقاتلون ويتحزّبون ويتعصبون، وأحيانًا يكونون أشد فتكًا لكونهم أكثر معرفة. منهم المسالم الأخضر، ومنهم النازي الأحمر. من الخطأ أن نتعامل مع المثقف على أنه طينة مختلفة أو جِبِلَّة صنعها الله من غير التراب، أو التطلع إلى المثقفين كفئة منزّهة عن التفكير بالمصالح الفردية، المصالح التي يفكر فيها المسؤولون والموظفون وذوو العصبيات العمياء. صحيح أن تجنب الإصابة بمرض الطائفية يحتاج إلى وعي وثقافة، غير أن هذين العاملين ليسا كافيين للتحصن من المرض، فوعيٌ كثير قد يقود إلى الطائفية ووعي قليل قد يقود إلى تجنب الإصابة بها. ولا يستغربنّ أحدٌ، فزعماء الطوائف معظمهم مثقفون أيضًا، والثقافة ليست، كما يأمل كثيرون، حصنًا لأصحابها من الأمراض ومنها مرض الطائفية.

ما الحل؟

خليل حاوي

بول شاوول

إن اتساع أي تظاهرة أو تجمع شبابي حول خيار إلغاء النظام الطائفي في لبنان، من شأنه أن يخفف من استعراضات التظاهرات الطائفية، وقد حدث ذلك مرات عدة، ومن شأنه أن يجعل اللبنانيين ينتبهون أكثر، لا إلى قوة ثالثة تنخرط في الصراع، بل إلى خيار ثالث منقذ. لأن الخيار الطائفي الذي تعتمده الأطراف الفاعلة، والحدة التي تتبعها، والتحدي الذي يدهور أحوال البلد واقتصاده وناسه، ويستدرج السلاح الذي لا يبقي ولا يذر… يؤدي إلى بلد تخفق في هوائه أجنحة الغربان. الخيار الآخر ليس حزبًا، ولا قوة عسكرية، ولا وسطية على طريقة حمائم أمراء الطوائف، ولا سعيًا إلى تبويس اللحى… كل ذلك لا ينفع، فالمسألة لا تنقضي باختراع طائفة جديدة، بل بابتكار أفكار جديدة تُسقط طائفية البلد، ويحمل لواءها المثقفون قبل سواهم، ويكون الوطن هو المنتصر معها.

لا نريد حوار أديان ومذاهب، إنما نريد حوارًا مدنيًّا إنسانيًّا ووطنيًّا، فتلاقي الأديان والحوار الإسلامي المسيحي ليسا من شأن المثقفين، إنما يجب أن يجري في المؤسسات الدينية وفي المساجد والكنائس. يقول كمال الصليبي في حوار أجريته معه في جريدة «السفير» بتاريخ 26 أكتوبر 2007م: «يقولون لك حوار أديان. كل هذه الحوارات كذب بكذب؛ لأن كلَّ محاوِرٍ ينطلق في الحوار من أن دينه الصح ودين الآخرين الخطأ، لكن يقول لنحكِ، لا بأس». ويتابع: «عليك أن تأتي بقوة خارجية ليحدث شرٌّ في لبنان. ساعتئذ يتسلح الناس ويفلت بعضهم على البعض الآخر، ويتصرفون تصرفًا شائنًا جدًّا. تمامًا مثلما حدث في ما نسميه الحرب الأهلية اللبنانية. تلك التي لم تكن حرب الغير على أرضنا، كانت حربًا لبنانية، كان فيها الفلسطينيون واللبنانيون عناصر تساهم في إشعال الحرب، لا أطرافًا أساسية فيها». ورأى «أن الطائفية شعور قبلي لا لاهوتي».

أدونيس

هذا لا يعني أن علينا ألا نفرق بين ثقافتين إسلاميتين، واحدة أصولية، وأخرى منفتحة على الحوار. يقول محمد جمال باروت في كتابه «يثرب الجديدة» (الصادر عن شركة رياض الريس في بيروت): «لا يرى الخطاب الأصولي في العالم الإسلامي إلا أمة واحدة تقوم على أساس الدين وحده، ويصفها هذا الخطاب بـ«الأمة الإسلامية»، في حين يرى الخطاب الإصلاحي أن العالم الإسلامي هو اتحاد ما بين مجموعة أمم وقوميات» (ص 160)، وينقل عن عبدالرحمن الكواكبي قوله: «دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط» (ص 161). وهل نجد من الإسلاميين الجهاديين، سنة وشيعة، من يصغي لكلام الكواكبي هذا؟! يقع الرهان بالطبع على المثقفين المستقلين عن سلطات الطوائف، في رفع شعار بسيط: لا للحرب.. لا لسلطة الطوائف، نعم للدولة المدنية. ويرى المفكر والمؤرخ وجيه كوثراني في حوار أجرته معه جريدة «مدن» الإلكترونية (19 ديسمبر 2015م) «أن «الحراك المدني» في لبنان، من طرف شباب متعلم وواعٍ ومتفانٍ للعمل العام، هو من دون شك «بشائر» واعدة بالخروج من سجن هذه البنية الطائفية على المدى البعيد» ويتابع: «لا بد من أن يؤول التحرك إلى أطر تنسيقية أشمل، تمهيدًا لظهور أحزاب غير طائفية في لبنان، مدنية وعلمانية». أما المفكر كريم مروة فطالب بـ«دولة مدنية قائمة على الفصل بين الدين والدولة، لتحرير الدين مما تقحمه فيه المؤسسات الدينية وأمراء الطوائف (…) وتحرير الدولة من تلك الأدوار التي تعطي للدين نقيضًا لقيمه الروحية». (جريدة «النهار» 19 سبتمبر 2015م). عدا ذلك، فالمستقبل على يد عفريت.

المثقف‭ ‬طائفي‭.. ‬حقيقة‭ ‬مرة

الحقيقة المرة أن المد الطائفي جرف معه كثيرًا من المثقفين اللبنانيين، بعضهم انغمس في الأطر الحزبية الطائفية وجرفته الحساسيات الطائفية، وبعض آخر وقع في مكيدة اعتبار الصراع سياسيًّا لا طائفيًّا، وبرّر لنفسه دعم هذا الطرف أو ذاك، وقلة قليلة بقيت على الحياد.

لا يميز المثقف اللبناني نفسه، اليوم، عن سواه من أطراف الصراع اللبنانية، إلا نادرًا. فصحيح أن الصراع في لبنان له وجهه السياسي، لكن القيمين على السياسة يستخدمون الطائفية من ألفها إلى يائها. إنها مرحلة من الصراع الوسخ في لبنان، الصراع الذي لا يجوز لمثقف وطني أن يكون طرفًا فيه، أو طرفًا في سجالاته المحتدمة. ولهذا اختلفت سجالات المثقفين اللبنانيين اليوم عنها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، عندما كانت الصراعات المحتدمة ذات طابع سياسي وفكري مرتبط بالصراع الإقليمي والدولي. وعندما كان السجال يتخذ طابعًا أيديولوجيًّا محمومًا، بين معسكرين في العالم. حينها كان النشاط الثقافي واسعًا ودسمًا، لكن طول أمد الحرب الأهلية اللبنانية وفشل الأفكار التي راجت قبل النكسات العربية المتتالية، وتعقد الصراع، وبروز الاتجاهات التقسيمية، كلها أحدث تحولًا في بعض مناحي الصراع الثقافي؛ إذ رأيناه يتجه، محليًّا، نحو الغرق في ثقافات أكثر ضيقًا، ثم أكثر اتجاهًا نحو ثقافات طائفية ومذهبية، خصوصًا مع طرح شعار «الإسلام هو الحل»، وهو ما أغرق عددًا كبيرًا من المثقفين في وحل الأفكار البديلة وسمومها، وأدى إلى تدهور دور المثقف اللبناني التقدمي. ومن أجل أن تكتمل اللعبة أحيانًا كان على الطرف الطائفي أن يبرر لا طائفيته باستخدام مثقفين من طوائف أخرى، وكان على المثقف إقناع نفسه بلا طائفيته فيحتل مكانًا مفسوحًا له في مؤسسةِ طائفةٍ غير طائفته. وهكذا بدا بعض المثقفين كأنما يخونون طوائفهم مع طوائف أخرى، وهو أمر مؤسف. وعندما انقسم لبنان بعد اغتيال الرئيس الحريري عام 2005م، بين طرفي 8 و14 مارس، وقع كثير من المثقفين، بشكل أوضح، في فخوخ الصراع الطائفي، ولم تبقَ إلا قلة قليلة من المثقفين الذين اعتبروا أنفسهم خارج الصراع المحتدم، وبقوا يشكلون نواة دور مستقبلي لتصويب الصراع وسحب لبنان نحو خلاصه.

الرومي الأميركي.. قصائده الأكثر مبيعًا مع بزوغ نجم ترمب – محمد الحجيري

الرومي الأميركي.. قصائده الأكثر مبيعًا مع بزوغ نجم ترمب – محمد الحجيري

جلال الدين الرومي، الشاعر الأفغاني المولد، الفارسي اللغة، الصوفي الهوى، والتركي الضريح، اليوم من بين الشعراء الأكثر شعبية في الولايات المتحدة والغرب، برغم أنه لم يكن مشهورًا فيها قبل عشرين عامًا. لقد تحدثت كثير من الدراسات عن تأثيره في الشرق والغرب، خصوصًا المستشرقة الألمانية آنا ماري شيميل في كتابها «الشمس المنتصرة»، وهذا التأثير كان نخبويًّا بين المستشرقين والمهتمين، والاهتمام بشعر الرومي الآن، يتجاوز القيمة الأدبية إلى أشكال مختلفة، فمع مجيء دونالد ترمب رئيسًا الذي صعد في خطابه الشعبوي ضد المسلمين المهاجرين، حينها كتبت صحيفة «واشنطن بوست»: «أليس مدهشًا أن تصير قصائد الرومي، فيلسوف القرن الثالث عشر المسلم المتسالم» أكثر القصائد مبيعًا «في الولايات المتحدة مع ظهور نجم ترمب؟ إذا عاد الرومي حيًّا، سيرى أن الأميركيين لا يكادون يتوقفون عن قراءة قصائده ونشرها، رغم أن ترمب يتحدث عن ترحيل المسلمين من أميركا، ومنعهم من دخولها».

ميدالية باسم الرومي أصدرتها اليونسكو بمناسبة مرور 800 عام على ميلاده

قالت صحيفة «لوس أنجلس تايمز»: «مثل قصائد عمر الخيام، صارت قصائد الرومي الروحية مفضلة في الأعراس، واحتفالات البلوغ، ودفن الموتى. ها هو ضباب أمام أعيننا يعيدنا إلى عصر الإسلام الذهبي». وافتتحت الجريدة ملفها الخاص بالرومي «لم تحتل أية مجموعة لمشاهير الأميركيين من الكتاب أمثال روبير فروست أو والاس ستيفنز أو الشاعرة سيلفيا بلاث والأوربيين على غرار هوميروس، ودانتي، وشكسبير، رأس قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في الولايات المتحدة الأميركية على امتداد العقد الماضي مثل قصائد الرومي».

توجد ترجمات قديمة لمؤلفات الرومي إلى اللغة الإنجليزية ولغات أوربية أخرى في إيطاليا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا. وقبل نصف قرن، صدرت ترجمات حديثة له أنجزها آرثر آرباري، وهو أستاذ جامعي بريطاني (كان قد ترجم القرآن الكريم ترجمة حديثة). لكن، لم يهتم الأميركيون بالرومي إلا مؤخرًا. فقد ترجم كولمان باركس، وهو شاعر أميركي، بعض قصائده، ومنها: «ضروريات الرومي» (عام 1995م)، و«كتاب الحب» (عام 2003م). ومنذ هجمات 11 سبتمبر 2001م، أصبح الرومي بمنزلة المعبر الذي وصل بين الأميركيين والإسلام. وشكلت قصائده «جسرًا بين الشرق والغرب» كما يقول ويليام دالريمبل الناقد والأديب في «الغارديان».

جزء من الرحلة الروحية لمشاهير هوليود

مادونا

وبلغ اهتمام الأميركيين بالرومي قمته عام 2007م، بمناسبة مرور 800 عام على ميلاده، ووزعت ميداليات باسمه من جانب منظمة اليونسكو، التي جاء في إعلانها آنذاك «أفكار وآمال الرومي يمكن أن تكون جزءًا من أفكار وآمال اليونسكو». وجد أكثر من 28 موقعًا إلكترونيًّا على موقع ماي سبيس وحده تحمل مراجع حول أعمال الرومي. كما نُشر أكثر من 2200 تسجيل فيديو حول الرومي. وعندما قرر كريس مارتن، مغني فرقة «كولدبلاي» الانفصال عن زوجته الممثلة الأميركية جوينيث بالترو، وحينما انتابته حالة من القنوط، أهداه صديق له كتابًا لرفع معنوياته، وقد كان ذلك الكتاب مجموعة من قصائد الرومي، من ترجمة كولمان باركس. قال مارتن بعد ذلك عن أشعار الرومي: إنها غيَّرت حياته، بل تضمن آخر ألبومات كولدبلاي مقطعًا بصوت باركس من إحدى قصائد الرومي يقول فيه: «هذا الإنسان بيت للضيافة/ في كل صباح يصله زائر جديد / الفرح، الحزن، الدناءة / إنها لحظات وعي خاطفة/ تأتي كما لو كانت ضيفًا غير متوقع». وكان الرومي جزءًا من الرحلة الروحية لمشاهير آخرين، مثل مادونا التي غنت من كلماته: «تعلم كيف تقول وداعًا»، وتنافست كل من نجمة هوليود ديمي مور، وزميلتها غولدي هاون وسارة جيسكا باركر على شراء حقوق قراءة هذه الأشعار على أسطوانات مدمجة، (لأن الرومي كان، أيضًا، موسيقيًّا مشهورًا، واستعمل كثيرًا آلة الناي، غنت الأميركيات بعض قصائده على أنغام هذه الآلة).

وتُنشر كلمات الرومي يوميًّا على مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف حفز من يقرؤها على الأغلب. إضافة إلى عروض الأزياء الأميركية التي استضافت شعر الرومي كأسلوب تسويقي لملابس السهرات الرومانسية، وأصبحت عباراته تزين ستائر الحمامات، والحلي وأشجار عيد الميلاد وشركات الآلات الموسيقية التي قررت حفر أبيات من شعره على

ديمي مور

منتجاتها. كذلك تنشر الأبواب الثقافية في الصحف الصادرة في المدن الأميركية الكبرى كلها تقريبًا أماكن قراءة أشعاره ومواعيدها وإلقاء محاضرات عنه وعن أعماله.

تحولت قصائد الرومي ودواوينه، على يد باركس، إلى نجاح قياسي تجاري يتربع مؤلفه على عرش إمبراطورية الشعر الغربي الحديث إلى جانب أسماء نعرفها وهي شديدة المعاصرة، لكن انتشار القصائد الرومية كان مفخخًا ببعض الشوائب، ففي مقالة لروزينا علي في مجلة «ذي نيويوركر»، تناولت عملية محو الأفكار والمعاني الإسلامية والقرآنية في التراجم الأميركية لشعر الرومي، وناقشت ما إذا كان ذلك الحذف متعمدًا، أم أنه جاء بهدف تقريب الصورة، وإذا ما كان يشوه النص الأصلي أم يحافظ عليه. تقول الكاتبة: «إن أستاذة الدراسات الفارسية بجامعة ماريلاند، فاطمة كيشاورز، أخبرتها أن الرومي كان على الأغلب يحفظ القرآن الكريم؛ نظرًا لتكرار استشهاده به في أشعاره، وهو ما قاله الرومي نفسه سابقًا، إذ قال عن «المثنوي» بأنه يشرح القرآن الكريم». يقول أوميد صافي، أستاذ دراسات الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية في جامعة ديوك: إن ذلك حدث خلال العصر الفيكتوري، حينما بدأ القراء في الغرب فك ارتباط الشعر الصوفي بجذوره الإسلامية، إذ لم يتمكن المترجمون ورجال الدين في ذلك الوقت التوفيق بين أفكارهم ورؤيتهم للإسلام، وبين هذه الأفكار الأخلاقية السامية غير التقليدية التي وردت في شعر الرومي، تدلل الكاتبة على فصل الغرب الرومي عن الإسلام بمقدمة ترجمة «المثنوي» للسير جيمس ريدهاوس الصادرة عام 1898م، التي قال فيها: «يخاطب المثنوي هؤلاء الذين يرغبون في ترك العالم، ويحاولون معرفة الله والقرب منه، أولئك الذين يريدون محو الذات وتكريس أنفسهم للتفكر والتأمل الروحاني».

وساهم مترجمون عدة خلال القرن العشرين في تعزيز حضور الرومي في النصوص الإنجليزية، إلا أن باركس هو من كان أكبر المساهمين في توسيع قاعدة القراء للرومي، هو ليس مترجمًا بقدر كونه مفسرًا، فهو لا يعرف قراءة الفارسية أو كتابتها، إلا أن ما قام به كان تحويل تراجم القرن التاسع عشر إلى نظم أميركي. يقول باركس: إن شعر الرومي هو أشبه بالسر الذي يفتح القلب، وإنه من الصعب التعبير عنه بالكلمات، ومن أجل أن يتمكن فهم بعض الأشياء التي كان صعبًا عليه إيضاحها، أعطى باركس نفسه شيئًا من حرية التصرف في التعامل مع النص، وبخاصة في بعض الكلمات المستوحاة من النصوص الإسلامية التي كان صعبًا عليه كتابتها بلغة أخرى.

الرومي وتحدي الصورة النمطية للمسلم

أعلن «فرانزوني» عن ترشيح الممثل ليوناردو دي كابريو للقيام بدور شخصية الرومي في فلم سينمائي

ولم يقتصر أمر الاهتمام على شعر الرومي، فانتشاره والاهتمام بنصوصه، دفع بعض المنتجين إلى الحماسة لتصوير فلم عنه، مثل: السيناريست ديفيد فرانزوني، مؤلف فلم  The Gladiator، والمنتج ستيفين جويل براون، قالا قبل مدة: إنهما يريدان تحدي «الصورة النمطية» عن الشخصيات المسلمة في السينما الهوليودية، وذلك من خلال تسليط الضوء على حياة جلال الدين الرومي. ويَعُدّ فرانزوني «الرومي مثل شكسبير… ومن الواضح أنه لا يزال يتمتع بصدى واسع حتى اليوم، وهؤلاء هم دائمًا ممن يستحقون الاكتشاف». لكن فرانزوني واجه موجة واسعة من الانتقادات؛ بعد إعلانه عن رغبته في أن يؤدي ليوناردو دي كابريو شخصية الرومي، لا ضير في أن هوليود تبحث عن الجمهور والاستهلاك، واختارت شخصًا يحمل هوية كونية أو عابرة للهويات، فهو الأفغاني والفارسي والتركي والصوفي والأميركي والغربي والعربي والإسلامي…

بالطبع اندفاع ديفيد فرانزوني لكتابة فلم عن الرومي ليس ناتجًا عن حب في الثقافة المشرقية بقدر ما هو ثمرة تفكير تجاري قبل كل شيء؛ لأن الرومي ماركة شعبية بامتياز، ندرك ذلك من خلال اندفاع القراء لشراء رواية «قواعد العشق الأربعون» للروائية التركية إليف شافاق التي ترجمت إلى كثير من اللغات، وتتناول موضوعات الحب بين الشرق والغرب، والروحي والدنيوي، كل ذلك من خلال قصة جلال الدين الرومي. وشمس التبريزي المتصوف (ولد سنة 1185م في تبريز في مقاطعة أذربيجان واستهوته الطرق الصوفية). و«عشق» شافاق ذات نسيج مركب، وأبطالها هم إيللا ربة بيت أميركية ذات أصل يهودي تعشق رجلًا أسكتلندي الجنسية يقيم في هولندا، ثم يسلم فيما بعد ويتسمى باسم عزيز زهارا، ومن جانب آخر هنالك شمس التبريزي وجلال الدين الرومي وكيررا التي تقترن بجلال الدين الرومي، وتتحول من الديانة الأرثوذكسية الرومية إلى الإسلام. بدأ ولع شافاق بالصوفية حينما كانت طالبة، وقرأت لكثير من الباحثين في مجال التصوف، منهم: آنا ماري شيميل، وإدريس شاه، وكارين أرمسترونغ،… وفي روايتها لا تدخل شافاق الصوفية كتعليم نظري، وتجريدي. بل هي شغوفة بما تعنيه الصوفية بالنسبة لها في العالم المعاصر. وقد اتهم كثير من المثقفين المسلمين شافاق بتصوير مترف مشابه للمذهب الصوفي.

ساعدت رواية شافاق، التي صدرت في أميركا عام 2010م، على فهم بعض مناحي الاهتمام الغربي بالمتصوف الرومي. فشعبية الرواية إلى اليوم لا تقلّ عن شعبية أبطالها: الرومي وشمس التبريزي، وهي أيضًا مثار استغراب. وصار الرومي ثيمة للرواية فإلى جانب رواية شافاق هناك رواية «الرومي نار العشق» للإيرانية الأصل الفرنسية الجنسية نهال تجدد، واستندت المؤلفة إلى مقالات شمس التبريزي مستخدمةً معلومات مستمدة من السيرة الذاتية للرومي وحاشيته «مناقب العارفين» بقلم الأفلاكي شمس الدين أحمد، بناءً على طلب حفيد الرومي. يرى قراء كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي أن المؤلفة تقدّم صورة ملفقة للرومي في محاولة لجذب القارئ الغربي، كذلك صدرت عن دار «نينوى»، ترجمة رواية «بنت مولانا»، للكاتبة الإنجليزية موريل مفروي، وهي ترسم في جوّ لافت شخصية «كيميا»، تلك الفتاة التي فرّت من أهلها والتحقت بجلال الدين الروميّ، إذ عاشت حياتها المشتعلة والمرتبكة في بيته بكلّ ما فيه من تباينات… ويتنازع الأفغان والأتراك والإيرانيون جلال الدين الرومي، فقد وُلد في بَلْخ، وعاش في إيران وتركيا، وهو على نحو ما يوحد بينهم، كما أن الغربيين يستنتجون من تسميته «الرومي» بأنه منهم، ولكنه يقول كأنه يرد على هؤلاء جميعًا: «أنا لست من الشرق ولا من الغرب، ولست من الأرض ولا من البحر.

أنا لست عطر النعناع، ولست من الكون الدوار.

أنا لست من الأرض ولا من الماء، ولا من الهواء ولا من النار.

مكاني هو اللامكان، وأثري لا أثر له، ليس لي جسد ولا روح؛ لأنني أنا هو المحبوب…».

بحر يمشي خلف بحيرة

وُلد الرومي في 30 سبتمبر 1207م في بَلْخ (ما يعرف بأفغانستان حاليًّا) التي نُسِبَ إليها كبارُ العلماء والفلاسفة والفقهاء؛ مثل: الفردوسي وابن سينا والغزالي، وقد غادرها أبوه بهاء الدين وَلَد سنة 1219م هربًا من الغزو المغولي الذي دمَّر المدينة بعد عام وأتى عليها. تروي المستشرقة الفرنسية إيڤا دو ڤيتراي مئيروڤتش أن بهاء الدين توجّه إلى مكة لأداء فريضة الحج. وفي نيسابور (إيران)، التقى الشاعر الصوفي فريد الدين العطار، الذي أهدى إلى الرومي كتابه «أسرار نامه». ولقد ظل الرومي معجبًا بالشاعر الصوفي طوال عمره، وكان يردِّد القول:

لقد اجتاز العطار مدن الحبِّ السبع، بينما لا أزال أنا في الزاوية من دهليز ضيق.

بعد العودة من مكة، استقرت عائلة الرومي في أرْزَنْجان، وهي مدينة في أرمينيا، احتلَّها علاء الدين السلجوقي، ومنها دعا بهاء الدين وَلَد، والد جلال الدين، إلى قونية، عاصمة الدولة السلجوقية في تركيا اليوم، تتلمذ جلال الدين على يد برهان الدين محقِّق الترمذي، ثم توجَّه إلى حلب للدراسة، ومنها انتقل إلى دمشق، وكان الشيخ محيي الدين بن عربي يمضي بها السنوات الأخيرة من عمره. ويُروى أن ابن عربي رأى الرومي من قبلُ يمشي خلف والده بهاء الدين، فقال: «يا سبحان الله! بحر يمشي خلف بحيرة!.

عاد جلال الدين إلى قونية، فاستقرَّ في مدرسته وتولَّى فيها تعليم الشريعة ومبادئ الدين، حتى عرض له حادثٌ غيَّر مجرى حياته وجعله صوفيًّا محترقًا، كما عبَّر عن حاله بالقول: كنت نيئًا، ثم أُنضجتُ، والآن أنا محترق. ترجع بداية ذلك عندما التقى الرومي شمسَ الدين التبريزيَّ، الذي وصل قونية سنة 1244م وأقام في أحد خاناتها منقطعًا إلى نفسه.. يتفق الجميع على أن التبريزي أثر بشكل كبير في شعر الرومي وفي ممارساته الدينية. في سيرة ذاتية جديدة كتبت عن الرومي بعنوان: «سر الرومي»، تناول الكاتب الأميركي براد غوش في كتاب «أسرار الرومي: عن حياة وعشق الشاعر الصوفي» فكرة تأثير التبريزي في الرومي دينيًّا وفكريًّا، وأنه كان عاملًا أساسًا حدد الاتجاه الذي سار فيه الرومي، وهو مزج حب الإله الذي وجده في الصوفية، مع قواعد الإسلام السُّني والفكر الباطني الذي تعلمه من التبريزي. وكتب الباحث الأفغاني عناية الله إبلاغ الأفغاني في كتابه «جلال الدين الرومي بين الصوفية وعلماء الكلام»: «فقد ألهاه (شمس التبريزي) هذا الصوفي عن مسيرته كفقيه، وجعل منه صوفيًّا غارقًا في التصوف حتى أذنيه!».

باختصار، الرومي خرج عن سياق أنه شاعر التصوف والحب، هي لعبة الثيمة، سواء في الروايات أو في الأفلام السينمائية أو الثقافة الشعبية حتى الغناء والاستهلاك وتأليف الشعر. يرى بعض النقّاد أن هناك مبالغة في تقدير تأثير الرومي في القراء الأميركيين، فبالرغم من أنه قد يكون الأكثر مبيعًا، لكنه ليس الأكثر تأثيرًا، إذ يرون أن شعبيته ظرفية، مرتبطة بالحرب ضد الإرهاب، وهواجس البحث عن إجابات روحانية لمشكلات شديدة المادية. وهناك مبالغات في الحديث عنه وعن تصوفه ودوره، المبالغة تأتي من الشهرة والانتشار، فعندما يتحول أحد الشعراء إلى ماركة أدبية لا بدّ أن نسمع العجائب الوهمية عنه، والرومي ليس وحيدًا في هذا المجال، فجبران خليل جبران سبقه، وكذلك رامبو وعمر الخيام.

«ربيع الغرب» وتحوّلاته

«ربيع الغرب» وتحوّلاته

ليس للعرب وحدهم «ربيعهم» الدامي شبه المتمادي اليوم، بل للغرب المتقدم أيضًا. غير أن «ربيع الغرب» وإن ترجم نفسه في الساحات والميادين على نحو أقل عنفًا ودمًا وسخطًا واعتقالًا تعسفيًّا ومدى زمانيًّا ومكانيًّا، إلاّ أنّ ثقافة هذا «الربيع» رَسَخت أكثر في ذاكرة مفكّري هذا الغرب وأدبائه وشعرائه وفنّانيه، وبخاصة في الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوربية، ممن تأثر في البداية «بالثورات العربية»، ونقل تأثره إلى نيويورك، حيث اشتعلت هناك الاحتجاجات الصاخبة منذرة، من خلال حركة «احتلوا وول ستريت» (عصب المركز المالي الأميركي)، بالأسوأ على الصعيد الأميركي، ومنه على صعيد العالم بأسره، إذ تعاظمت الاحتجاجات لتغطّي ما تعداده 1564 مدينة حول العالم، من بينها 103 مدن أميركية، تتقدّمها واشنطن بوصفها عاصمة سياسية ونيويورك بوصفها عاصمة للمال والاقتصاد. كان ذلك بدءًا من 15 أكتوبر 2011م، حيث انتشرت ظاهرة الاعتصامات والتخييم ليل نهار في الساحات المركزية وبعض الحدائق العامة مثل متنزه «زوكوني» الشهير في مانهاتن قبل أن تستأصلها الشرطة عن بكرة أبيها.

المجرّة المتغيّرة العناصر

قبل أن نتطرّق إلى أبرز الخطابات الفكرية والأدبية والفنية التي نتّجها حراك «الربيع الغربي»، خصوصًا في الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوربي، لا بدّ لنا وبإيجاز من سرد هذي الوقائع التاريخية لمزيد من التضوئة على الموضوع. افتتح الحراكان الشعبيان، التونسي والمصري في عام 2011م، موجة واسعة من التعبئات والاسـتنفارات. كان المتوقع لمثل هذه «الانتفاضات الثورية» أن تنتشر، وإنْ بوتائر مختلفة، في بلدان المشرق والمغرب العربيين؛ غير أن كثيرًا منها أفضى إلى حروب أهلية دمويّة، كما حدث في سوريا وليبيا، مثالًا لا حصرًا، ومن ثمّ صار له وظيفة تحريضيّة على مستوى القارات. في السنغال الإفريقية، مثلًا، سـرّعت حركة «طفح الكيل» بسقوط نظام عبـدالله واد. بعد ذلك بأسابيع، وتحديدًا في منتصف شـهر مـايو 2011م، تظاهر بضعة آلافٍ من الإسبان ضد سياسة «شدّ الحزام»، كما سمّتها صحيفة «إلباييس» الإسبانية التي اعتمدتها حكومة بلادهم، وقرّروا المـرابطة في إحدى سـاحات مدريد الرئيسة: «لابويرتا دل سول». كان هؤلاء الآلاف يسـتلهمون مباشرة تجـربة «ميدان التحـرير» في القاهرة، أي الاحتلال المدني، ليلًا ونهـارًا، لحـيِّزٍ عمومي، كتعبير عن التصميم الجماعي على الخلاص من سياسات غير عادلة.

ثـم إن «الساخطين» مـا لبثوا أن ألهمـوا بدورهم «احتلالات» كثيرة أُخرى. وسرعان مـا امتدت حركتهم لتشمل مجمل إسـبانيا والبرتغال؛ ثـمّ لتجـد صدًى لها في اليونان، إذ جاءت تعزّز وتكمّل التعبئات النقابية. وهكذا فإن «احتلال» سـاحة «سينتاغما» في قلب أثينـا، كان يشـرِك النقابات والأفـراد القريبين من دوائر «الساخطين»، في مجابهة غالبًا ما تكون متوترة. وفي الخـريف كانت الحـركة تمتـد وتتجدّد في الوقت عينه، مع احتلال متنزه «زوكوتي» في جنوب مانهاتن الأميركية، وهـو «الاحتلال» الذي حظي بتغطية إعلامية واسعة. كانت الحركة تمتـدّ عبر حركة «احتلوا وول سـتريت» بدءًا من 17 سبتمبر 2011م، ومنها إلى العالم الأنغلو- ساكسوني بشكل مركّز. وهكـذا فإن عدد مخيمات «الاحتلال» في خريف عام 2011م، كان يصل إلى بضع مئات، موزّعةٍ على أكثر من ثمانين بلـدًا مختلفًا. غير أن عمر الواحد من الغالبية العظمى من هذه التخييمات، لم يطل أكثر من بضعة أسابيع. وفي ليلة باردة من ليالي أواسط نوفمبر 2011م، طـرد البوليس آلاف الأشـخاص الذين كانوا يخيّمون على بضع خطوات من بورصة نيويورك. أما الساخطون فإنهم، من جهتهم، كانوا قـد قرّروا وقف مخيّماتهم منـذ شهر يونيو. وهكذا فإن قلّةً من «الاحتلالات» اسـتطاعت أن تتواصل إلى ما بعد عام 2011م، باستثناءٍ «احتلال» واحد مرموق، هـو الذي شهدته مدينة هونغ كونغ الكبرى واستمر متواصلًا حتى أغسطس من عام 2012م. غـير أن نهـاية «الاحتلالات» لم تكن تعني نهاية الدينامية الفكرية والسياسية عمومًا التي ولَّدتها سلسلة تلك الحراكات. فلقـد واصلت هذه الانتفاضات التمرديّة توسّـعها عبـر العالم، لتندلع في كيبيك (كندا)، وفي تركيـا، وفي البوسنة، وتجد كذلك صداها يتردّد في تعبئاتٍ ذات شكل مختلف في التشيلي، أو حتى في البرازيل. ثم إن  «حراك هونغ كونغ»، اسـتؤنف على نحـوٍ أوسع وأكثف في عام 2014م، أي بعد ثلاثة أعوام كاملة من يوم انطلاقة حركة «احتلوا وول ستريت»، بحيث إنهـا لا تتجاوزه بيوم ولا تستبقه بيوم. غير أن عام 2015م بدا كأنّه يسجّل تغيّرًا مـا؛ ذلك أن الانتصارين الانتخابيين اللذين حققهما حـزبا سـيريزا في اليونان، وبوليموس في إسـبانيا، سيضعان جملة الممارسات والمطالبات المنبثقة عن هـذه المجـرّة المتغايرة العناصر، تحت امتحان السلطة واختبار السلطان؛ وينبغي القول: إن قدرة هذه الحركات على أن تزن بوزنها وتنيخ بثقلها على نحـوٍ مستديم، سياسيًّا واجتماعيًّا، هـو أمـرٌ يبعث على التساؤل والاستفهام.

نعوم تشومسكي وتعاليمه

أول المفكّرين والفلاسفة الأميركيين البارزين الذين آزروا حراك «الربيع الأميركي»، ممثلًا بحركة «احتلوا وول ستريت»، كان نعوم تشومسكي (مواليد 1928م) الذي رأى أن حركة «احتلوا»، تشكّل تطورًا مثيرًا جدًّا، «إذ لم يسبق أن حدث أمر مشابه يمكن أن يخطر على بالي. وإذا أمكن تعزيز الروابط والاتحادات الناتجة عن هذه الأحداث المميزة، في سياق المدة الطويلة والقاسية أمامنا، فسيتبيّن أنها لحظة تاريخية حقًّا، وذات دلالة بالغة في التاريخ الأميركي». وفيما يشبه النداء السياسي الموشّح بأسلوب أدبي، نقرأ على غلاف الكتاب الذي صدر لتشومسكي في بيروت تحت عنوان: «احتلوا.. تأملات في الحرب الطبقية والتمرد والتضامن» (شركة المطبوعات الشرقية): «استيقظوا وخَرَجوا إلى الشوارع.. سدّوا الجسور وأقفلوا المرافئ.. عسكروا في الريح والمطر والثلج.. وواجهوا الغازات المسيّلة للدموع ورذاذ الفلفل والقنابل الصاعقة والأصفاد والسجون». وفي هذا الكتاب الذي نفدت نُسَخُه من المكتبات اللبنانية، ويجري طبعه حاليًّا للمرة الثانية، يجيب تشومسكي عن الأسئلة الملحّة من خلال محادثات ومناقشات مع أنصار حركة «احتلوا»: لماذا يحتج الناس؟ كيف يؤثر واحد في المئة من المواطنين في 99 في المئة؟ كيف يمكن فصل المال عن السلطة؟ ما حقيقة الانتخابات الديمقراطية؟ كيف تتحقق المساواة؟ ومن ينقذ أميركا من حيتان الاحتكار؟ مقطع القول، يَعُدّ تشومسكي «احتلوا» حركة عظيمة؛ لكونها امتدت في العمق الأميركي، وحظيت بكثير من التعاطف مع أهدافها وغاياتها. وهي تحتل، في الواقع، مراتب عليا في استطلاعات الرأي؛ لكن عليها –في رأيه– «أن تصبح أكثر فأكثر جزءًا من حياة الناس اليومية، لا لشيء إلّا لأنها تحمل همومهم وطموحاتهم المستقبلية في المزيد من العدالة والحقوق المدنيّة على اختلافها».

ويعتقد أن واحدًا من الإنجازات الحقيقية لحركة «احتلوا»، هي في تنميتها لمظهر مجتمعي غيري، إيثاري بامتياز. فالناس المنخرطون في الحراك، لا يقومون بذلك من أجل أنفسهم، بل من أجل بعضهم، ومن أجل المجتمع الأكبر والأجيال المقبلة. وتحوّل تشومسكي إلى عرّاب رائد في نصح الأجيال «الربيعية» الأميركية الجديدة، يرشدهم، حتى في المسائل الأمنية والإجرائية على الأرض. سأله أحد أفراد الحراك: ماذا يسعني أن أفعل إذا ما تعرّضت لعملية توقيف؟.. أجابه: «اكتبْ رقم هاتف النقابة على معصمك أو على رسغ قدمك، واتصل به إذا ما تعرضت للتوقيف، أو شاهدت عملية توقيف. احمل في جيبك أرباعًا مالية معدنية لإجراء المكالمات، وبطاقة هاتفية للاتصالات البعيدة». وعن سؤال: «ماذا أفعل إذا ما أُوقِفتُ فعلًا؟» أجاب: «أنصحك بأن تعلن بوضوح: سألتزم الصمت.. أريد التحدث مع محامٍ فقط. كرّر الأمر لأي ضابط يستجوبك. لا تصدّق كل ما تقوله الشرطة، فمن المشروع للشرطة أن تكذب عليك لدفعك إلى الكلام». ويسأله سائل: «ماذا لو لم أكن مواطنًا أميركيًّا وأوقفتني الشرطة؟»، فيردّ تشومسكي: «يحمل الأمر هنا مخاطر أكبر. تحدّث مع المحامي قبل النزول إلى الاحتجاج؛ واحمل معك دائمًا اسم أحد محامي الهجرة ورقم هاتفه. واحمل معك أيضًا أي أوراق هجرة قد تملكها، مثل البطاقة الخضراء، أو تأشيرة «آي – 94» أو إجازة العمل». وفيما يرى تشومسكي في حركة «احتلوا وول ستريت» ردًّا كبيرًا على ثلاثين عامًا من إطباق السوبر أغنياء على الفقراء، في حرب طبقية لا مثيل لها في التاريخ الحديث للولايات المتحدة، يخلص إلى أن هذه الحركة «لن تموت، بل ستظلّ هاجس الجميع في الولايات المتحدة، من سياسيين واقتصاديين ومفكرين وأدباء وفنانين، ولعلّها تشكّل فاصلة زمنية ذات طاقة فلسفية إيحائية برعت في إحلال الرؤية محلّ الأداة التي شكّلتها». كما يرى أنها تشكّل تحوّلًا فكريًّا وسوسيولوجيًّا داخل أميركا والغرب كله، وعلى علماء الاجتماع الثقاة تلقفه، وتحليل نتائجه في العمق.

خطيب «الثورات» مايكل مور

أما الكاتب الأميركي جاك هيلبور ستيم، فيرى أن حركة الاحتجاجات الأميركية الكبرى في وول ستريت وواشنطن ولوس أنجلس وبوسطن، كانت نتيجة تراكميّة لما سبقها من انتفاضات في ضواحي لندن في الثمانينيات من القرن الفائت، التي تخللتها أعمال نهب وحرق وتخريب للممتلكات العامة والخاصة؛ لكن التأثير الكبير لحركة «احتلوا» بانتفاضات تونس ومصر كان أقوى، واكتسب أبعادًا أخلاقية وثقافية مغايرة، بحيث تحوّل المنتفضون الأميركيون إلى ناشطين سلميين، لا يتوخّون إلّا العدالة الاجتماعية، وتصحيح السياسات الضريبية وبأساليب قانونية، جذبت عموم أنظار الجمهور الأميركي. وخلص إلى أن الثورات الحقيقية، حتى لو لم تنجح، هي التي تعترف تلقائيًّا بغيرها، بوصفها حافزًا لها على التكامل. وهذا ما حاولت فعله الانتفاضات الأميركية محاكاة لميادين تونس ومصر. ويخلص هذا المفكّر الأميركي إلى أن الاحتجاجات في الولايات المتحدة والعالم على توحّش رأس المال، غيّرت من أفكار الجميع، وخصوصًا السياسيين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع، إضافة إلى الأدباء والشعراء والفنانين. ومن فرط هذا التغيّر الحاصل، بات لا أحد في أميركا يجرؤ على مناهضة المحتجّين الساخطين، بل تقاطر الجميع إلى تأييدهم، حتى رجال الدين؛ فهناك، مثلًا، أكثر من 350 رجل دين أميركي أعلنوا تأييدهم «للربيع» الأميركي، واستطرادًا الغربي كله.

يعدّ مايكل مور نجم حركة «احتلوا وول ستريت» وخطيبها الجريء في حديقة «زوكوني» النيويوركية؛ إذ أعلن انضمامه إلى صفوف المحتجّين و«المضي معًا لصناعة التاريخ الجديد». فلقد حان الوقت من وجهة نظر مايكل مور، المخرج السينمائي الكبير، والحائز جائزة الأوسكار، «إلى ضرورة إحداث التغيير، ورفض الاحتكارات الكبرى، ممثلة ببنوك وول ستريت، وبعض الشركات الكبرى، ممن لها التأثير الكبير في توجيه بعض السياسات الكبرى للـ«الإستبلشمنت» الأميركية». ومما قاله مايكل مور في مخيم الاعتصام الشعبي لحركة «احتلوا أوكلاند»: «الشعوب هي التي تنتفض الآن، رافعة لافتات تشكر تونس ومصر. فما يجري في العالم اليوم، ليس ثورات متعدّدة، بل ثورة واحدة ممتدة عبر مختلف القارات. ويجب ألّا نستهين بهذا الذي يجري، فهو أكبر مما نتصوّر، وأوسع مما ندرك. إنه دعوة جادة لنسف ما هو قائم، ورفض كل سياسات العداء بين الشعوب التي تستغلها فئة قليلة، لا ترى إلّا مصالحها فقط». ويردف مشيرًا إلى فضل الانتفاضات العربية بعد: «أرى هنا ضرورة أن ندرك أننا في وسط حراك عالمي لا عربي فقط، وإن كان للعرب فضل البدء به على هذا النحو غير المسبوق في التاريخ الحديث».

أحد المارة من جانب الخيمة الإعلامية في حديقة زوكوني، سأل أحد الناطقين الإعلاميين من حركة «احتلوا وول ستريت»: ما أهدافكم؟ ماذا تريدون؟ فكان الجواب: «نحن ندافع عن أميركا ومستقبل أميركا. أميركا هي لمواطنيها جميعًا». وأجاب ناطق إعلامي آخر عن السؤال عينه: «أجل لن نتوقف عن «احتلال» اقتصادنا. نحن الشعب، والاقتصاد الذي ينظّم حياة هذه البلاد هو اقتصادنا. هو اقتصادي واقتصادك واقتصاد الجميع، بمن فيهم الذين يخرّبونه من جماعة البنوك؛ ونحن نريد أن نردعهم؛ لأنهم يخرِّبون، ليس اقتصاد أميركا فقط، إنما أميركا نفسها. ليس من حق أحد أن يتّهمنا بالسعي لتخريب الأمن والاستقرار في بلادنا. نحن من يدعم، بحراكنا هذا، استقرار أميركا وأمنها ورفاه شعبها».

الملياردير الفيلسوف و«ربيعه» المفتوح

جورج سوروس

بالتأكيد يختلف «ربيع الغرب» عن «ربيع العرب»، الذي تحوّل (أي هذا الأخير) إلى كابوس دموي في نظر كثرة كاثرة من النخب العربية، ومن بعض الأحزاب والتيارات والتكتّلات الشعبية العربية، التي باتت تتمنّى أن تتجاوز عتمته الراهنة إلى غير ما رجعة؛ فيما «الغرب النيوليبرالي»، وبحسب المفكر والناشط الأميركي المعروف كورنل وست (اعتقلته الشرطة الأميركية ثم أطلقت سراحه) سيستفيد من دروس «ربيعه الخصوصي»، وإن ببطء، حتى لا ينغلق زمن بدايات تصدّعه عليه من الداخل، ويخنقه، حتى وهو في عزّ قوته وجبروته. غير أن هذا لا يعني، وفق استنتاج كورنل وست نفسه، أن أميركا ليست مهدّدة من داخلها، أو أن مستقبلها آمن في ظلّ استمرار السيطرة المطلقة لأباطرة التروستات المالية الضخمة ومنظّريهم من الليبراليين الجدد، الذين هم موضع شكوى، حتى من كبار المليارديريين الأميركيين، من طراز رجل الأعمال الكبير جورج سوروس (يحمل شهادة دكتوراه في الفلسفة)، ومغنّي الراب كانييه ويست، الذي تتجاوز ثروته الـ90 مليون دولار، والممثلة سوزان ساراندون، التي تفوق ثروتها المئة مليون دولار، وقد زاروا جميعًا جمهور حركة المعتصمين في نيويورك وواشنطن ولوس أنجلس (كلّ على حدة طبعًا) وأعلنوا تضامنهم معهم، وحذّروا السلطة المركزية الأميركية، على المديين القريب والبعيد، من عدم تلبيتهم لمطالبهم، وقال جورج سوروس بالحرف الواحد: «أنقذوا الحرية في أميركا التي يشوّهها بعض مدّعيها من جماعة الكارتيلات المالية الضخمة، الذين لا ينشغل ذهنهم العام، ويدور، إلّا على هاجس المال والربح كيفما اتفق، حتى لو تهدّم الهيكل عليهم هم قبل غيرهم.. أميركا بحاجة الى رأسمالية متوازنة، منفتحة وعادلة، تعطي الحقوق للآخرين قبل أن تأخذ هي حقها، وتحافظ، بالتالي، على استمرارية هذا الحق».

والطريف أن جورج سوروس، الذي صنّفته مجلة «فوربس» الأميركية في المرتبة الـ27 لأغنى أغنياء العالم عن السنة 2014م، وتقدّر ثروته بـ26 مليار دولار، هو الذي تصدّى ويتصدّى لتوحّش زملائه الأثرياء، ليس في الولايات المتحدة فقط، إنما في العالم أجمع؛ ولقد أعطاهم، ويعطيهم كل يوم الدروس تلو الدروس، خصوصًا لجهة إنفاق المال الوفير على أعمال الخير المختلفة، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، تخصيص منح للطلاب المعوزين داخل الولايات المتحدة وخارجها. وتقدّر شبكة التلفزة الأميركية pbs مجموع ما أنفقه جورج سوروس على أعمال الخير حتى الآن، بحوالى الـ3 مليارات دولار. من جهة أخرى، كان سوروس، ولا يزال، يستخدم لعبة المال السياسي، وبشكل علني في الولايات المتحدة؛ فلقد أنفق، مثلًا، وبحسب أكثر من وسيلة إعلامية أميركية، ملايين الدولارات للحيلولة دون إعادة انتخاب جورج بوش الابن لولاية رئاسية ثانية في عام 2004م (وقتها أمام المرشح الديمقراطي جون كيري)، وهو اليوم يُعَدّ أحد أبرز الذين وقفوا وراء الاحتجاجات التي عمّت شوارع المدن الأميركية الكبرى عشية فوز دونالد ترمب بكرسي البيت الأبيض. وقد وجّهت لسوروس التهم العلنيّة والمباشرة، بأنه هو وراء هذا الحراك الشعبي الأميركي الساخط.. تخطيطًا وتمويلًا وتحريضًا. أما لماذا؟ فلأنه وجد ويجد في رئاسة ترمب خطرًا على حاضر الولايات المتحدة ومستقبلها، وبخاصة لجهة آخر ما تبقى لها من حيّز ريادي للعالم، الذي لا يزال ماثلًا على المستويات الاقتصادية والسياسية والأمنية حتى اليوم.

ولقد انطلق الملياردير الفيلسوف سوروس من أفكار وتحليلات شخصية تلخّص رؤيته للأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية حوله، ودَمَج، هكذا، خلاصاتها في رؤية ذات أبعاد فلسفية، تقرّ بأن المعرفة، واقتصاد المعرفة، هما وحدهما يشكّلان القوة الحقيقية لثبات الأمم، وذلك إذا ما أرادت الأمم القوية أن تستمر وتحيا بثبات مع الزمن. ولا غرو، فسوروس الذي وصف نفسه بـ«الفيلسوف» و«صانع السياسة العالمية»، كان قد ألّف العديد من الكتب، من أبرزها: «كيمياء المالية القديمة»- 1988م، و«خرق النظام السوفييتي»- 1990م، و«المجتمع المفتوح: إصلاح الرأسمالية العالمية»- 2000م، و«تصحيح إساءة استخدام القوة الأميركية»- 2005م، و«عواقب الحرب على الإرهاب»- 2006م … إلخ. وهو من المعجبين جدًّا بالباحث والمفكّر الأميركي بيتر فردناند دراكر، الذي يميل إلى تقطيع الصيرورة التاريخية، حيث يشير في كتابه: «مجتمع ما بعد الرأسمالية» (صدر في عام 1993م) إلى أنه تقريبًا في كل خمسين أو ستين سنة، يحدث في سياق التاريخ الغربي انفصال يصل إلى حدّ تغيير النظرة إلى العالم، وتبديل القيم الأساسية والنظم الاجتماعية والآداب والمؤسّسات فيه، إلّا في الولايات المتحدة التي لا تعرف، حتى الآن بنظره، سوى أن تعيد إنتاج تغوّل رأسماليتها الجشعة على نحو مُنفِّر وطارد للمشروعيات على اختلافها، وأنه آن الأوان لواشنطن أن تحسن قراءة المنعطفات الكبرى في التاريخ وتستفيد من انهيارات الأمم الكبرى التي سبقتها، وإلّا فإن السقوط الكبير ينتظرها وبأسرع مما يُتصوّر.

الثورات العربية والغرب

هكذا سيظلّ عام 2011م بطبيعة الحـال، عامـًا مميّزًا في تاريخ الصراعات الاجتمـاعية: من تونس إلى الولايات المتحدة، مـرورًا بإسـبانيا والبرتغال واليونان، وكذلك آيسـلندا والتشيلي. فهو يسجّل في الواقع العودة الكاسـحة للشقاق والتنـازع الاجتماعي؛ غير أن العصف المنبعث من التعبئات والاسـتنفارات التي سارعت بـ«فسطاطي» بن علي ومبارك، دام واستمر بدلًا من أن يخمد. بعد ذلك بخمس سنوات، عرفت هذه التجارب مصاير مختلفة. فبعد الانتصارات الانتخابية التي حققها حزبا سيريزا في اليونان وبوديموس في إسبانيا، التي نتجت عن التعبئات والاستنفارات التي ظهرت بعد الأزمة المالية الأميركية – 2008م و«الثورات العربية»، فإن عام 2015م، كان عام انتقال هذه الحركات إلى مراكز المسؤولية المؤسّساتية، وقد مهّدت إلى ذلك كله، ورافقته خطابات فكرية وأدبية وفنية لا تحصى، سمّاها الناقد الإيطالي جوليانو دي بينو بـ«الإبداع الفوري الحر والمتحرّر من تقليد كل المرجعيات الأدبية والنقدية التقويمية السائدة».

وعلى الغرب، وبالتحديد الولايات المتحدة أيضًا.. وأيضًا – كما نستنتج من جورج سوروس- أن يشكر في المحصلة «الثورات العربية» في براءتها الأولى في تونس ومصر؛ لأنها شكّلت جرس إنذار له؛ كي يراجع، وجذريًّا، سياساته الاقتصادية (وبخاصة المحليّة منها) الآيلة إلى ضربه هو من داخل، قبل أي عامل آخر. وما الأزمة المالية التي عصفت بأميركا في عام 2008م إلّا الشاهد الأبلغ على ذلك، ثم جاءت حركات الاحتجاج الصاخبة في عام 2011م لتضع هذا البلد الأول في الغرب والعالم على المحكّ الخطير، ومن ثَمَّ تدفعه للعودة إلى المنطق الديكارتي الذي أسّس لسياسات الغرب العقلانية في حدودها الصارمة والقصوى.

زعماء البيت الأبيض .. لا أحد يستطيع العيش بلا كتاب – محمد حجيري

زعماء البيت الأبيض .. لا أحد يستطيع العيش بلا كتاب – محمد حجيري

تعدّ الكتب والقصائد من الأدوات الأكثر استخدامًا من قِبَل معظم الرؤساء الأميركيين، لإعطاء صورة فكرية وسياسية للشعب الأميركي، وكثيرًا ما كان اختيار بعض الرؤساء لكتب بعينها سببًا في ترويجها وانتشارها. ما يقرؤه الرؤساء لا يعطيهم استراحة من الملل الذي يشعرون به عند قراءة التقارير والبيانات وتوقيع القرارات فحسب حتى إطلاق المواقف. والكتاب والقصيدة ميديا يستطيع المرء من خلالهما معرفة توجهات الرئيس كيف يفكر وما هي وجهة نظره. وثمة الكثير من المقالات والكتب عن الرؤساء الأميركيين والقراءة، من بينها كتاب لهارولد إيفانز، يبين أن الميل إلى القراءة معيار نجاح أي رئيس، مستندًا إلى وقائع تثبت أن أنجح الرؤساء في الولايات المتحدة هم أولئك الذين يولون القراءة اهتمامًا كبيرًا، لكن هذا الاستنتاج ليس بالضرورة حقيقيًّا أو دقيقًا، فالقضية ليست في أن الرؤساء يقرؤون، بل أي كتب يقرؤون أو ماذا يقرؤون؟ والسؤال هل كل شيء يقرؤونه يعلنون عنه، هل يقرأ زعيم البيت الأبيض كتبًا شيوعية أو إسلامية، أم أن إدارته توجهه في القراءة…

ثيودور-روزفلت

ثيودور روزفلت

بالطبع هذه الأمور تبقى في دهاليز الاستخبارات الأميركية، المهم القول: إنه لم يمر عهد رئاسي في أميركا من دون أن تشتهر مجموعة من الكتب، وقصة البيت الأبيض مع الكتاب عمرها عقود، فإبراهام لينكولن تمكّن من الوصول إلى مجموعة محدودة من الكتب، ومنها: «حياة بارسون ويمز في واشنطن»، و«خرافات إيسوب»، و«روبنسون كروزو»، و«تقدُّم الحاجّ»، و«تاريخ الولايات المتحدة». أيضًا كان لينكولن يعشق الشعر، ومغرمًا بصفة خاصة بالشاعر الأسكتلندي روبرت بيرنز، ويحفظ الكثير من قصائده عن ظهر قلب. توماس جيفرسون كان يمتلك مكتبة شخصية تضم 6487 كتابًا، التي أصبحت الأساس لمكتبة الكونغرس. ودوّن جيفرسون ذات مرة: «لا أستطيع العيش من دون الكتب». وامتلك جون آدامز مكتبة تضم 3000 كتاب، واعترف ذات مرة لزوجته أبيجيل: «لقد كنت أحمقَ وأنفقت ثمن عقار في شراء الكتب». في عام 1816م، كتب آدامز يقول: إنه «لو كان لي أن أختار عبقريتي وظروفي، لاخترت أن أجعل من نفسي شاعرًا». لكنه اعترف أن شعره كان «ملعونًا بالبقاء في ربقة المستوى المتوسط». تيودور روزفلت، كان يتصفح الكثير من الكتب في يوم واحد، وكتب أكثر من اثني عشر عملًا في موضوعات تتنوع ما بين حرب 1812م والغرب الأميركي. ويقال: إنه لا أحد يجاري روزفلت في القراءة، فهو يقرأ كتابًا واحدًا في اليوم في حالة انشغاله القصوى، أما في أوقات الفراغ التي يتحرر فيها من العمل فإنه يستطيع الانتهاء من قراءة كتابين إلى ثلاثة كتب، وقد وصفه بعض بأنه «أكول للكتب» ويسعد كثيرًا إذا ما زاد اطلاعه.

أما ليندون جونسون فتأثر بكتاب الاقتصادي البريطاني باربارا واردز «الأمم الثرية والأمم الفقيرة»، وقال: إنه قرأه أكثر من مرة، وحوّل الهجوم إلى حرب على الفقر. وظهر على الطبعات المستقبلية من كتاب هارينغتون عبارة «الكتاب الذي أشعل حربًا على الفقر» على الغلاف. ريتشارد نيكسون قارئ نهم للسير الذاتية، وفي كلمة وداع طاقمه في 9 أغسطس 1974م، قال: «لست متعلمًا، لكنني أقرأ كتبًا».. هاري ترومان كان قارئًا نهمًّا ومهتمًّا تحديدًا بالتاريخ والتراجم، وقال في إحدى المرات: إن «الشيء الوحيد الجديد في هذا العالم هو التاريخ الذي لا يعرفه المرء». وكان المفكر المقيم في البيت الأبيض آرثر شليزنغر يرشح كتبًا لكينيدي كما ألّف كتاب «ألف يوم». ووسط الحديث عن الكتب والبيت الأبيض، يطرح السؤال عن علاقة الرؤساء الأميركيين بالكتاب الأدبي، الرواية والشعر تحديدًا، وخصوصًا باراك أوباما وبيل كلينتون.

 أوباما.. والتوازن النسبي

باراك اوباما

باراك اوباما

إذا بدأنا في الحديث عن تجربة الرئيس باراك أوباما مع القراءة والكتاب، فقد ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن تاريخ رؤساء الولايات المتحدة لا يذكر رئيسًا، منذ عهد إبراهام لينكولن الذي تولى قيادة أميركا بين عامي 1861 و1865م، لعبت القراءة والكتابة دورًا كبيرًا في بلورة شخصيته وقناعاته ورؤيته للعالم مثل الرئيس أوباما الذي قال: «سمحت لي بالمحافظة على توازن نسبي خلال السنوات الثماني المنصرمة؛ لأن الرئاسة مكان تصيبك فيه الأحداث إصابة مباشرة باستمرار من دون أي هوادة». من يراقب مسيرة أوباما، يلاحظ مدى اهتمامه بالكتب الأدبية وتوظيفها، ففي مكالمة هاتفية له مع الرئيسة الأرجنتينية السابقة كريستينا كيرشنر، أعرب عن اهتمامه بالتعرف إلى العاصمة بوينس أيريس؛ لأنه في أثناء فترة الدراسة الجامعية كان قد قرأ بشغف أعمالًا لكل من الأديبين الأرجنتينيين خوليو كورتاثار وبورخيس. وحين خطب أوباما عن القضية العرقية في الحياة الأميركية استشهد بعبارة للروائي الأميركي وليام فوكنر تقول: «إن الماضي لم يمت ويدفن، وهو في الحقيقة ليس ماضيًا»، وأن يستشهد أوباما بفوكنر صاحب رواية «الصخب والعنف»، فهذا إيماء إلى أهمية هذا الأخير، حظيت رواياته باهتمام بالغ في أميركا وخارجها نظرًا إلى تأثيرها الكبير في إبراز حقيقة التناقضات في المجتمع الأميركي وخصوصًا في الجنوب.

يقول أحد أصدقاء أوباما: إنه كان يقرأ كتبًا لأدباء سود من بينهم جيمس بولدوين ورالف إليسون اللذين يركزان على مشاعر الزنوج في المجتمع الأميركي، كتب الأول «اذهب وقل ذلك على الجبل»، وأصدر الثاني «الرجل الخفي». كذلك قرأ أوباما قصائد الشاعر الزنجي لانغستون هيوز، أحد كبار الشعراء المعاصرين وأحد رموز ما عرف في القرن العشرين بـ«نهضة هارلم»… وعام 2012م أشار كثير من متابعي حملة الانتخابات الأميركية التي خاضها باراك أوباما إلى اعتماده على الشعر في سباق الرئاسة مع خصمه الجمهوري ميت رومني، وكتب الناقد روبرت مكورم في صحيفة «ذي غارديان» البريطانية: «أوباما الذي اشتهر في حملته الانتخابية الأولى بعبارة «نعم نستطيع»، توسل بلغة الشعر في حملته الثانية ليلهم أنصاره ويجذب الناخبين لمنحه ثقتهم من جديد، بعدما وجد أن لغة النثر لن تسعفه كثيرًا أمام خصمه ميت رومني. وعرضت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» تقريرًا يرصد كتب أوباما المفضلة التي دوَّن قائمتها على «فيسبوك» وتضمنت كتبًا لرالف والدو إيمرسون وموبي ديك وتوني موريسون، وهذه الأخيرة كرمها أوباما، واحتفل بالشعر في البيت الأبيض ولم يتردد في القول: «إن القصيدة الرائعة هي تلك التي تتغلغل في أحاسيسنا، وتتماهى مع وجداننا، وتتحدانا وتلقننا شيئًا عن أنفسنا وعن العالم الذي نعيش فيه. ولطالما أدى الشعراء دورًا بالغ الأهمية في سرد ملحمتنا الأميركية». والتقى كبير نقاد صحيفة «نيويورك تايمز» ميكيكو كاكوتاني، أوباما لسؤاله عن «حياته كقارئ» وخلال المقابلة أشاد أوباما بعدد من الكتب والكتاب. وذكرت نيويورك تايمز أن أوباما تحدث عن الكتب التي منحها ابنته ماليا، ومن بينها «المفكرة الذهبية» لدوريس ليسينغ و«مئة عام من العزلة» لماركيز، و«امرأة محاربة» لماكسين هونغ كينغستون.

 كلينتون «على نبض الصباح»

كلنتون

بيل كلينتون

في عهد الرئيس بيل كلينتون، أيضًا كان للكتاب الأدبي والقصيدة الشعرية حضورهما في كواليس البيت الأبيض، فخلال تنصيبه عام 1993م اختار كلينتون الشاعرة الأميركية من أصل إفريقي مايا أنجيلو لتلقي واحدة من قصائدها الأكثر شهرة «على نبض الصباح»، وقدمت مايا قصيدتها بأداء مسرحي، وهلل لها الإعلام مثلما هللوا قبل نحو نصف قرن للشاعر روبرت فروست الذي أسس هذا التقليد حين قرأ قصيدته «الهبة المباشرة» في حفل افتتاح عهد الرئيس جون. ف. كينيدي في عام 1961م. في حفل عام 1993م أطلق بيل كلينتون على مايا أنجيلو لقب «الرئيسة الإفريقية للأمة» (يحبها إلى جانب رالف أليسون وتايلور برانتش). تبدأ قصيدة في نبض الصباح بتحية للطبيعة الأم التي احتضنت كل الأعراق بلا تمييز: صخرة، نهر، شجرة، كانت موطنًا لكل السلالات منذ تفارقت وحددت وجود الكائنات المنقرضة.

كلينتون قارئ جيد، وكتابه المفضل هو «التأملات» للكاتب ماركوس أوريلس، وكان يحب الروايات البوليسية التي وصفها بأنها «سبيل المتعة البسيط والرخيص» بالنسبة له. وأبعد من ذلك، ففي احتفال أقيم تكريمًا لماركيز في مسقط رأسه في كولومبيا كانت لكلينتون مداخلة عن ماركيز قال فيها: «هو أهم روائي نُشر له في اللغات كلّها منذ موت فوكنر، وعندما قرأت له رواية «مئة عام من العزلة» عام 1972م وأنا طالب في كلية الحقوق لم أستطع ترك الكتاب من يدي حتى في أثناء المحاضرات. لاحظت أن هذا الرجل يبحر في أشياء تبدو كخيالات أحلام اليقظة لكنها واقعية وبالغة الحكمة». مع التذكير أن كلينتون في أول حملة انتخابية له في بداية التسعينيات أعلن أن كتابه المفضل هو «مئة عام من العزلة» لماركيز الذي علَّق قائلًا: إن كلينتون «يحاول كسب أصوات الأميركيين اللاتينيين». وعندما التقى كلينتون ماركيز والروائي المكسيكي كارلوس فوينتس في جلسة عشاء، أنصت بهدوء إلى ملاحظات سياسية قاسية تقدَّم بها الكاتبان حول حصار كوبا خصوصًا. وفي اللقاء نفسه سُئل كلينتون عن أحب الأفلام إلى قلبه، فكان جوابه: «في عز الظهيرة»، وأدهش الرئيس الحضور بأحاديثه حول الأدب والثقافة ملقيًا جملًا من رواية «دون كيخوتة» لثرفانتس، وحين حان موعد تسمية أحبّ الروايات إلى القلب اختار ماركيز «كونت مونت كريستو» فيما وقع خيار الرئيس على «حكم قصير» لجورج أورويل. وحين اختار فوينتس «أبسالوم أبسالوم» لفوكنر نهض كلينتون ملقيًا مونولوغًا طويلًا من روايته «الصخب والعنف». فحب كلينتون لروايات ماركيز وفوكنر يبدو لافتًا؛ ذلك أن معظم الرؤساء يبحثون عن الكتب الإستراتيجية وليس عن الروايات الثقافية بامتياز. وأثرت الكتب التي يقرؤها كلينتون في المنحى الذي اتبعه في مطلع التسعينيات مع أزمة البلقان، وهو الصراع العنيف الدامي من أجل السيطرة على المنطقة البوسنية التي كانت من قبل جزءًا من يوغوسلافيا. وفي ذلك الوقت، قرأ كلينتون كتاب روبرت كابلان «أشباح البلقان» وفوجئ بوصف كابلان لمشاعر الكراهية الإثنية الموجودة داخل المنطقة منذ فترة طويلة، قد جعل ذلك كلينتون غير متحمس للتدخل في البوسنة. وقال وزير الدفاع ليس أسبين لمستشار الأمن القومي أنطوني ليك: إن كلينتون لم يكن متحمسًا لمقترحاتهم. وبعد أعوام كتبت الصحافية لورا روزن أن «بعضًا لا يسمع اسم روبرت كابلان من دون تحميله مسؤولية التأخر في التدخل الأميركي». 

جورج بوش (الابن) «الغريب»

جورج بوش (الابن)

جورج بوش (الابن)

بوش

جورج بوش

إذا كانت نظرة الصحافيين عابرة في متابعة قراءات كلينتون وأوباما القارئين بنهم، فهي ليست كذلك مع الرئيس جورج بوش (الابن) الذي لا يُعرَف عنه شغفه بالمفكرين ولا سيما الفرنسيين منهم. اطلعنا أنه أراد الاستفادة من وقته في مزرعته قبل مدة كي يقرأ، فاختار رواية «الغريب» للكاتب الفرنسي ألبير كامو. وكان بوش اقتبس عبارة من كامو في خطاب ألقاه في بروكسل في فبراير 2005م، داعيًا فيه أوربا إلى الانضمام إلى الولايات المتحدة من أجل «تقدّم الحريّة في العالم، ومن أجل إحلال السلام في الشرق الأوسط». مضيفًا: «نحن ندرك أن العقبات كثيرة، وندرك أن الدرب طويل». كلمات بوش هذه تشبه إلى حد كبير قول كامو: «إنّ الحريّة هي جريٌ طويل»، يومها برَّرت بعض الصحف الأميركية شغف بوش بـ«غريب» كامو المباغت بعثور بوش على ذاته الدفينة في شخصيّة بطل الرواية «قاتل العرب». وكتبت الصحافية في «نيويورك تايمز» مورين داود، أن «القاتل في رواية كامو يتخذ كثيرًا من القرارات الخاطئة، ويقتل رجلًا عربيًّا وسط صحراء من الرمال. إنه يتحرّك في عالمٍ مظلم، وعنيف لا صلة له بمعتقداته ورغباته. وإذا كان ثمّة ما يؤكّد فهم كامو لعبثية الحياة، فهو أنّ الرئيس يقرؤه». بذلك يكون بوش المحافظ والمتطرف دينيًّا انضمّ وبشكل غير متوقع، إلى المعجبين بالكاتب الثائر الموصوف بالإلحاد الذي كان دائمًا قريبًا من الحركة الفوضوية.

من جانبه، علق ريتشارد كوهين، في مقال له في «واشنطن بوست»، بقوله: «الصورة الكاريكاتيرية لبوش كشخص غير مثقف انتهت اليوم، أو ربما بالأمس، لكن تبقى حقيقة الرجل المثقف قائمة». وأثارت حقيقة أن بوش قرأ رواية «الغريب» لكامو صيحات سخرية من وسائل الإعلام. على سبيل المثال: كتب جون ديكرسون من مجلة «سليت» أن قراءة جورج بوش لروائي وجودي فرنسي أشبه بقراءة أوباما لكتالوغ متجر «كابيلا». واستضاف تلفزيون «بي بي سي» الصحافية الفرنسية بينديكيت باتون، والناقد البريطاني المتخصص في الأدب الفرنسي آلان دي بونو، لتخمين سبب اختيار بوش لهذا الكتاب. وقالت باتون: إن كثيرًا من الرجال يمسكون بكتاب عالي الثقافة ليس لقراءته -إذ يتعذر عليهم فهمه- إنما لإبهار الآخرين.. إلا أن الناقد ديبونو خالف باتون الرأي قائلًا: إن أحداث الكتاب وشخصية «الغريب» تروق للرئيس بوش وتماثل شخصيته، وربما اقترحه عليه أحد مساعديه؛ إذ إن بطل الرواية يقتل شخصًا بريئًا من دون سبب ولا يشعر بالندم، ويخالف نصيحة الآخرين، وهي مواصفات لدى بوش في ممارسته السياسة العالمية، إذ يظهر «غريبًا» عن أي من الأعراف الإنسانية العادية.

طيف‭ ‬‮«‬الحرب‭ ‬والسلام‮»‬‭ ‬

جيمي كاتر

جيمي كاتر

ثمة روايات تتحول في أروقة السياسيين إلى أشبه بالكتب الإستراتيجية أو أيقونات السياسة، فقد كتب جيمي كارتر في كتاب مذكراته: «الحفاظ على الإيمان: مذكرات رئيس»، أن ثلاث نساء أثَّرن في حياته: والدته ليليان، وزوجته روزلين، ومعلمته جوليا كولمان، التي كانت تدرّس له في مدرسة بلين الثانوية (حيث ولد كارتر وتربَّى). وأوضح كارتر أن كولمان شجعته على قراءة كتب التاريخ والأدب. جيمي كارتر من أشد المعجبين بشعر ديلان توماس. ويقول: «شجعتني على قراءة كتاب «الحرب والسلام» للروائي الروسي ليو تولستوي. ظننت، في البداية، أن الكتاب عن الحرب والسلام في الدنيا الجديدة، وأن أبطاله رعاة بقر وهنود حمر». واستعان كارتر برواية «الحرب والسلام» في حكمه، واقتنع بفضله أنّ الأحداث الكبرى لا يتحكم فيها الزعماء، إنما الجماهير وعامة الناس الذين يحددون مصير العالم وفقًا لآمالهم وأحلامهم. واللافت أن طيف رواية تولستوي حاضر بقوة في أروقة البيض الأبيض، كان ريتشارد نيكسون، الذي أشار في مذكراته إلى أنه قرأ كتب تولستوي بصورة مكثفة خلال فترة شبابه، ووصف نفسه بأنه من أتباع تولستوي، يبحث دومًا عن الكتب التي لها علاقة بالقضايا الكبرى في حياته اليومية. وسئل جورج بوش (الأب) في حوار له عام 1995م عن أكثر الكتب إلهامًا له فكان لكتاب «الحرب والسلام» حظ وفير من مديحه، وقال: «لقد اعتدت على قراءته في المدرسة». والنافل أن الرواية نشرت لأول مرة بين سنتي 1865 و1869م على شكل سلسلة في مجلة المراسل الروسي، تدور أحداثها في بدايات القرن الـ19، إبان الاجتياح الفرنسي لروسيا بقيادة نابليون بونابرت، والتغيرات التي لحقت بالطبقة الأرستقراطية. وتسرد الرواية حكاية خمس عائلات وتقص حيواتهم الشخصية مع التاريخ بين 1805 و1813م، وبشكل رئيس غزو نابليون لروسيا سنة 1812م، ثم دخوله موسكو وانسحابه بعد الخيبة والفشل في مواجهة الشتاء الروسي القارس، ورفض القيصر الروسي ألكسندر الأول الاستسلام.

ولا يتوقف الأمر هنا، فثمة قصص كثيرة عن علاقة الرؤساء الأميركيين بالشعر، كان الرئيس جيمس غارفيلد من أشد المعجبين بالشاعر الألماني غوته، وقد استطاع في أثناء فترة رئاسته تكوين مكتبة كاملة ضمت أرشيفًا لقصاصات من الكتب التى صدرت في عهده. وفي صغره كان غيرالد فورد يتعرض لنوبات من الغضب. وبعد نوبة غضب سيئة بصورة استثنائية، ألزمته أمه دوروثي فورد بحفظ قصيدة «لو» للشاعر روديارد كبلنغ، وقالت له: «إن هذه القصيدة سوف تساعدك على أن تتحكم في غضبك». هذه القصيدة تبدأ بقول الشاعر: «لو أنك قادر أن تبقي على رأسك/بينما كل من حولك يفقدون رؤوسهم ويلومونك أنت…». منذ أن تخرج هاري ترومان من المدرسة الثانوية سنة 1901م ظل يحمل في محفظته عبارة من قصيدة للورد تينيسن هي قصيدة «قاعة لوكسلي» ظلت الورقة التي نقلت عليها تلك العبارة تبلى، وظللت أعيد نقلها على ورقات أخرى. لا أعرف كم مرة حدث هذا، عشرين مرة أم ثلاثين، ربما» وأضاف ترومان في حديثه الشهير للصحفي مارتن فيلر قائلًا: «إن إيماني بالشعراء أكبر بكثير من إيماني بالصحفيين».

ماذا يقرأ ترمب؟

هذا غيض من فيض عن مشهدية الرؤساء والقراءة الأدبية ورمزيتها في البيت الأبيض… والسؤال: ماذا يقرأ الرئيس الجديد دونالد ترمب؟ ماذا لو قرأ الرئيس الأميركي رواية «المسخ» لكافكا، أو«رأس المال» لماركس، أو«المراقبة والعقاب» لفوكو، أو أي روائي عربي، كيف ستكون التفسيرات وردود الأفعال؟!

موت زاحف إلى لبنان

موت زاحف إلى لبنان

أن تعيش في بلد لا يشهد حربًا مباشرة، لكن موتًا يشبه الحرب، بل يفوقها قسوة، يزحف إليه من كل جهة، فهذه تجربة مختلفة، وأثقل مما تحمله الحرب من أعباء. ذاك أنك أيها الرجل تُعاين الموت البطيء بأم عينك، فيما الموت في الحروب سريع، وما يُخلفه من صدمة يجعل منه غريبًا وطارئًا ومؤقتًا، أما الموت في بلد يحتضر من دون حرب مباشرة، فيمكن معاينته ورصده وهو يقترب منك، وهو بهذا المعنى موت غير صادم؛ لأنه جزء من طبيعة الأشياء.

في لبنان يقترب الموت منا منذ أكثر من عشر سنوات. نعاين في كل يوم اقترابه خطوة منا، ونشعر بأنه صار أقرب إلينا من أنفسنا. لبنان المحاصر بالحروب الأهلية والملتبس والمعقد ما عاد يفصله عن الحرب الأهلية سوى مسافة واهية، هي نفسها ما يجعل اللبنانيين يعتقدون أنهم ما زالوا خارجها. لا بل إن عدم سقوطه في هذه الحرب هو جزء من عجز البلد عن الإتيان بأي شيء. حتى الحرب يبدو أن لبنان عاجز عن خوضها على نفسه، وهو عاجز ليس لأنه محصن منها إنما لأنه فاقد القدرة على المبادرة.

بيروت تفقد كل يوم وظيفة من وظائفها. يصح ذلك على وظائفها المباشرة بصفتها مدينة أهلها، وعلى معانيها أيضًا. فعندما انقض حزب الله على المدينة في 7 مايو 2008م كفت بيروت عن كونها ملجأ لأهلها، وعندما أعلن الحزب انخراطه في القتال في سوريا أنهى بهذا الإعلان قيمة الحدود وفتح لبنان على احتمالات الحرب الإقليمية، واليوم بعد أن فُجر بنك لبنان والمهجر في أعقاب التزامه ببرنامج العقاب الأميركي للحزب، أخضع الحزب القطاع المصرفي لمنظومته الأمنية، ومن المتوقع أن يستجيب القطاع لضغوط حزب الله، ويصبح لبنان خارج المنظومة المالية الدولية.

مدن البؤس التوتاليتاري

لم تجرِ هذه الوقائع منفصلة عن حال من الموت، ومن مشابهة مُدن البؤس التوتاليتاري التي تقبض عليها أنظمة شمولية. فالوسط التجاري للمدينة راح بالتزامن مع انقضاض حزب الله التدريجي على المدينة وعلى أهلها ينطفئ يومًا بعد يوم. في كل يوم يشهد هذا الوسط إقفال متجر أو شركة أو مقهى؛ حتى صار اليوم مدينة خالية يزحف الفراغ على مبانيها مخلفًا طبقات من الغبار.

منطقة الحمرا التي حاولت الاستثمار بموت الوسط التجاري فراحت تزدهر وتتوسع ابتليت بشيء اسمه «الحزب السوري القومي الاجتماعي» وهو حزب يقاتل إلى جانب حزب الله في سوريا، ويسيطر على شارع الحمرا، ومعممًا فيه شعارات لا تمت إلى الحياة وإلى هذا الزمن بصِلة. وكما فرض الحزب نموذجه وذوقه على الشارع فرض أيضًا لافتات كُتبت عليها عبارات تُشعر العابر بأنها كتبت للنيل من ذكائه ومن كرامته. وبموازاة ذلك تحول الحزب السوري القومي «الاجتماعي» إلى سلطة تفرض «خوّات»، وتنتشر على زوايا الشوارع معلنة عن نفسها على نحو فظ.

والموت المحدق بلبنان جعل من أي رغبة في مقاومته أمرًا مستحيلًا. ثمة انقسام يمنع أي طموح للوقوف في وجه هذا الموت. فقد قررت بيروت مثلًا في الانتخابات البلدية الأخيرة أن تُعلن تذمرها وعصيانها على تيار المستقبل، وهو السلطة البلدية فيها، فجاءت نتائج الانتخابات كاشفة عن المزاج البيروتي المتذمر من أداء المستقبل، لكن النتيجة لم تسمح بالتغيير؛ لأن لائحة المستقبل فازت بفارق ضئيل، يتيح هذا الاستنتاج، لكنه لا يتيح التغيير.

لا يريد اللبنانيون معظمهم دورًا في القتال في سوريا، لكن حزب الله أقوى منهم، وبإمكانه توظيف انقساماتهم في معركته هناك، ويريدون رئيسًا للجمهورية، لكنّ أحدًا لا يستطيع انتخاب رئيس ما دام الحزب لا يريد رئيسًا. رائحة النفايات صارت جزءًا من وعي اللبنانيين لأنفسهم؛ لشدة عجزهم عن محاسبة الحكومة المسؤولة عن تراكم هذه النفايات. وهم، أي: اللبنانيون، صاروا على قناعة باستحالة التغيير، لا بل شرعوا يكيفون وقائع عيشهم مع حقيقة أن النفايات هي جزء من طبيعة الأشياء ومن جريانها اليومي.

جبال النفايات

لا شيء يُمكن تغييره. هذه قناعة مستقرة في منطقة راسخة من وعي أي لبناني، وهذا الأخير ستراه منقادًا إلى انتخاب من تسبب له بهذا اليأس وهذا الموت. لا شيء أوضح من أزمة النفايات تعبيرًا عن هذه المعادلة. المسؤول عن جبال النفايات المنتشرة في كل مكان هو حكومة ووزراء ومسؤولون سيعيد اللبنانيون انتخابهم في أقرب موعد للاقتراع. فالتظاهرات التي شهدتها العاصمة بيروت احتجاجًا على غرق العاصمة بالنفايات بدت أصغر من أي تظاهرة يمكن أن يدعو إليها زعيم أي طائفة مهما كان حجمها. في وقت طرحت التظاهرة ضد النفايات على نفسها مهمة مواجهة زعماء الطوائف مجتمعين.

لا يمكن لأحد أن يُغير شيئًا. تفجير فردان الأخير كان أوضح مثال على العجز. الوضوح وانكشاف المهمة والوظيفة أشارا إلى أن الجهة المُفجرة لا تشعر أن ثمة ما يمنعها من أن تُعلن عن نفسها، وأن لا رأي عام يعنيه هذا الوضوح. فالتفجير هو جزء من اللغة العادية التي يقبلها الجميع، وهو على استعداد للتعامل مع نتائجها، وقبول الرسالة، والعمل بموجب ما يطلبه المفجرون. ففي أعقاب التفجير عُقد اجتماع لجمعية المصارف، وأُعلن في أعقابه تفهم الجمعية مخاوف حزب الله من قبول المصارف بالشروط الأميركية.

ولبنان هذا هو على نحو ما هو عليه، أي أنه على شفير الانهيار من دون أن يبلغه تمامًا، فقط لأن وظيفتين ما زال لبنان يؤمنهما للمجتمع الدولي، وإلا كانت الحرب وكان دبيبها؛ المهمة الأولى استقبال اللاجئين السوريين، وهي ما يحسبه العالم له. والمهمة الثانية المحافظة على ما تبقى من وجود مسيحي، وهي أقل أهمية للعالم من المهمة الأولى، لكنها تُخاطب بعض القيم الدولية. لكن البلد لن يصمد كثيرًا، والمهمتان لا تكفيان ولا تحصنان، والإرادة الدولية ليست عاملًا وحيدًا يعيق الانهيار، فنحن أمام بلد بلا حدود، وبلا أمن، وبلا اقتصاد. أمام بلد يضم حزبًا أكثر قدرة من كل جماعاته، وأكثر قدرة منه هو نفسه.