الحداثة وما قبلها

الحداثة وما قبلها

نحن في عصر الحداثة، هذا بالتأكيد من حيث الشكل، حيث إن أحدث المخترعات والمنتجات تصل إلينا ونتملكها، ما يُنتَج في أميركا أو أوربا أو أي بقعة في العالم. فالعالم واحد في أمور كثيرة، فهو مفتوح للسلع والتكنولوجيا والترحال. ولقد جعلَنا الإنترنت والفضائيات الإعلامية «مواطنين» في هذا العالم الموحد. لنبدو في أبهى صور الحداثة وأرقاها. بمعنى أن الحداثة باتت «في متناول اليد»، بالتالي يمكن أن نحصل على كل منتجاتها بيسر وبلا تعقيد.

لكننا في الواقع نبدو حداثيين، لكن بدون حداثة. حيث إن كل هذه «الحداثة» هي «بناء خارجي» تحقق نتيجة استيراد ما يُنتج في البلدان الرأسمالية المتطورة، التي صنعت الحداثة وعاشتها بشكل فعلي، وبات فلاسفتها يتحدثون عن «ما بعد الحداثة»، في حين لا يمكن أن نقول عن حالنا سوى أننا في وضع «ما قبل الحداثة». وما يظهر إنْ هو إلا امتداد خارجي، فنحن نستهلك منتوجات الحداثة بعد أن بات العالم لا يمكنه العيش بدونها بعد أن باتت «من ضروريات الحياة»، بعد أن أصبحت سلعًا لازمة لا إمكانية للعيش من دون الحصول عليها. لقد صنعت أوربا الحداثة التي قامت على الصناعة واعتمدت على تطور العلوم، والأفكار والبنى والسياسة. لقد ارتقت علميًّا وفكريًّا لكي تحقق الحداثة. ونحن نتابع نتاجات الحداثة ونتكيَّف معها، وباتت ضرورية لنا، لكننا لا نستطيع أن نؤسس البيئة التي أنتجتها، ولهذا ما زلنا في «عصر ما قبل الحداثة» حيث الوعي المجتمعي والبنى والمؤسسات ما زالت سابقة للحداثة، ويمكن أن نقول: إنها ما زالت كما تشكلت في القرون الوسطى، المرحلة التي شهدت انهيار الحضارة العربية، ومن ثم هي لا ترقى إلى هذه الحضارة، هي تعبير مشوّه عنها فقط. وكل ما يبدو حداثيًّا فيها هو قشرة خارجية.

إننا في «عصر ما قبل الحداثة» بالضبط لأننا لم ننتج حداثتنا. وليس يعني ذلك أننا يجب أن نعود إلى «نقطة الصفر» التي أوصلت إلى الحداثة، بعيدًا من كل التطور العالمي، بل يعني أن «نتحدث»، أن نصبح حداثيين. وما دمنا من حيث «العقل» والبنى في عصر سابق، لا بدّ من أن نتلمس طريق الحداثة، ونلمس «النقطة صفر» التي نحن فيها.

الاتجاه المعاكس

ولا شك في أن الحداثة «الغربية» ليست بعيدة من تاريخنا، بل إنها امتداد له، أوصل إلى الحداثة هناك، وسرنا نحن في «الاتجاه المعاكس». لنعيد إنتاج انهيارات القرون الوسطى، التي أوصلت إلى سيادة شكلية مفرطة، وإغراق في الماضوية. فأصبح الفكر هو تفسير المعنى اللغوي لنص، وتطبيق النص الذي نشأ في واقع قديم. وإذا كان تطور العلم والحرفة والفلسفة قد وصل إلى مرحلة متقدمة نهاية الدولة العباسية، فقد فقدنا ذلك لمصلحة «النقل» بعد أن جرى «تدمير الفلسفة» (أي العقل). لكن ورثت أوربا كل ذلك، وكان في أساس انطلاقتها الفلسفية والعلمية والحرفية كذلك. فقد اعتمدت على منتوجنا وهي تعيد صياغة ذاتها، وتتجاوز تخلفها وهيمنة الكنيسة عليها. في الفلسفة منذ القرن الثالث عشر، وفي العلوم والحرف والزراعة منذ القرن السادس عشر/ السابع عشر. وبالتالي ليس من الممكن ألا نرى أن الحداثة هي امتداد لنا، حيث كنا مرتكزها.

من هذا المنظور يمكن تلمّس كيف نشأت الحداثة، فهذا هو طريق الحداثة الأوربية. وإذا كان القرن الحادي عشر هو قمة الصراع الفكري بين تيارات متعددة في إطار الإمبراطورية العربية، فإن «أنضجه» هو الذي وصل أوربا. لقد تصارع الإيمان مع الإلحاد، وتصارع العقل مع النقل، والدين مع الفلسفة، وخلاله أُنضجت الفلسفة اليونانية، وظهر التمايز بين الدين والفلسفة. فقد عمل أبو حامد الغزالي على «تدمير الفلسفة» لأنها تقود إلى الشك، وأسَّس «علوم الدين»، مظهرًا عمق التناقض بين الدين والفلسفة. لكن رد ابن رشد رسم الحد الفاصل بينهما، حيث اعتبر أنهما طريقان لحقيقة واحدة، مضفيًا كل «الشرعية» على الفلسفة، ومساويًا بين العقل والنقل. هذه المسألة كانت في صلب الضرورة في أوربا القرون الوسطى، حيث تهيمن الكنيسة. ومنها تقدمت الفلسفة، وكانت في أساس انتصار العقلانية الأوربية، التي شكّلت الفكر المثالي، الفكر الذي يعتبر العقل هو صانع التاريخ. لقد انتصرت العقلانية إذًا، وبات العقل حرًّا في البحث والتفكير. وكان هذا هو الأساس الذي جعل الإنسان في مركز الكون، ومركز الفاعلية، حيث إنه هُدِيَ عقله. لقد انتقل الأمر من «شرائع» ملزمة يقوم العقل بنقلها أو تفسيرها وفق ضوابط صعبة، إلى عقل مطلق بات مع هيغل هو صانع الواقع، حيث إن صيرورة العقل هي التي تحدِّد صيرورة الواقع. وهي نقلة جعلت الإنسان صانع تاريخه.

إذًا، كان الانحكام للعقل، واعتبار الإنسان هو مركز الكون، مفصليين في الوصول إلى الحداثة. لقد ساوى ابن رشد بين العقل والنقل، الدين والفلسفة، لكنه اعتبر العقل/ الفلسفة في طبقة أعلى، هذه الطبقة الأعلى باتت هي أساس الحداثة، حيث نهضت الفلسفة وتطور العلم، طبعًا في صراع مع الكنيسة التي كانت (كما في الشرق) تحرِّم الفلسفة والعقل. وإذا كانت الحداثة هي الاقتصاد والبنى الحديثة التي تشكلت مع الرأسمالية، فقد كان جذرها هنا. ومنها جرى اشتقاق (أو بلورة، أو تأسيس) منظومة فكرية متكاملة، تخص الدولة والمجتمع. ولأن العقل أسس للفردانية فقد بات الفرد مواطنًا مترفعًا عن كل التحديدات السابقة (القبيلة والمنطقة والدين والطائفة)، وباتت الدولة هي «من صُنع الشعب»، حيث إن «إرادة الشعب» هي التي تقر دستورية تنظيم الدولة وعلاقتها بالمجتمع، وكذلك شرعيتها. وترفعت الدولة عن أن تنحكم لدين مع حمايتها لحرية المعتقد (الديني وغير الديني). وبات الكلام مباحًا، والنقد كذلك. وأصبحت الكفاءة هي معيار العمل والوظيفة. والتعليم بات علميًّا. فتأسست قيم مطابقة لواقع جديد أساسه المجتمع الصناعي.

تعليم قروسطي

كل هذه الأفكار التي توضع تحت عباءة الحداثة، وغيرها، هي ما أصبح يشكّل وعيًا مجتمعيًّا في البلدان الرأسمالية. ولم يكن لها أن تنجح من دون أن تكون مجتمعاتها قد أصبحت صناعية. فالصناعة والحداثة صِنْوان، رغم أن هناك من ينظِّر للمجتمع ما بعد الصناعي. ولهذا نحن نستورد منتوج الصناعة، ونفرض تعليمًا قروسطيًّا، ونكرّس وعيًا متقادمًا، وبِنى هي من الماضي، وسلطة مستبدة. بالتالي نعيش وعيًا وبِنًى «مفوّتة» كما أسماها ياسين الحافظ، ونُظمًا تزيد في «تفويتها»؛ لأن مصالحها تحتاج إلى كل هذا التخلف في الوعي والبنى.

كيف نصل الحداثة؟ ربما سؤال صعب، لا لأنْه ليس من تصور نظري، بل إنه يرتبط بتكوين مجتمعي يحتاج إلى إزالة، رغم أن هناك من يحرص على استمراره، وهو يمتلك السيطرة. دون أن يكون ذلك مستحيلًا لا بد من ثورة في الفكر تطيح بكل الموروث المتقادم، وإذا كان التطور عالميًّا لا بد من الإفادة من كل التطور العلمي والفكري الذي جرى إنتاجه في «الغرب»، كما فعلوا هم حينما تطوروا، وأول الأمر القطع مع النقل، والعودة إلى العقل.

كتبت مرة: ربما نحتاج إلى ديكارت، حيث الشك، حيث إن اليقين سميك بشكل لا حدود له، وهو منغرس في كل التيارات الفكرية. ربما بدأ العقل من الشك الذي دمّره الغزالي لكي نعود مع ابن رشد إلى طريق الحداثة. طبعًا، وكما أشرت، مستفيدين من كل التراث الفكري والعلمي والعملي الذي وُلد في «الغرب»، حيث إن الحداثة ضرورة في عالم حداثي، أو نبقى في أسفل قائمة التخلف والفقر والتفتت.

على الرصيف قريبًا من سور المدينة

على الرصيف قريبًا من سور المدينة

لقاء

انتظرتُ ليلى ساعتين.

فتّشني الجنود عند باب الخليل بحثًا عن سلاح ناريّ أو سكّين. دخلت ميدان عمر بن الخطّاب الذي يعجّ بالسيّاح وبأعداد من المستوطنين. كان المساء ينشر ظلّه على الأمكنة، والقدس تتسربل بغموض ما. انتظرتها في المقهى الذي يتردّد عليه السيّاح. هنا لن ترانا عيون المتلصّصين. تشاغلتُ، وأنا أنتظرها، في تأمّل حيطان المقهى، حيطان قديمة جرى ترميمها لتقاوم وطأة الزمن. على صدر الحائط صورة للأب الكبير، صاحب المقهى الأوّل، والد إميل. وثمّة صورة للميدان يعود تاريخها إلى عام 1920م، يظهر فيها عدد من الجنود البريطانيين الذين احتلّوا فلسطين. جاءت ليلى واعتذرت لأنّها تأخّرت في الوصول. قالت: طوّق الجنود الإسرائيليّون حيّنا، فتّشوا البيوت بحثًا عن شباب مطلوبين. ولم يسمحوا لنا بالخروج إلا بعد انتهاء التفتيش. كان في عينيها فزعٌ ما.

اقترب منّا إميل. طلبنا فنجانين من القهوة. خلعت ليلى المنديل، فانسرح شعرها مثل طيور خرجت من قفص. فكّت أزرار الجلباب، فاندلع اللون الورديّ البهيج لفستانها الخفيف.

أمضينا ساعة ونحن نخرج من حديث شهيّ لندخل في حديث آخرَ شهي.

دفتر سميك

pal1رأيناهما معًا، هو والمرأة. في يده دفتر سميك، وهي تسير إلى جواره بخطوات واثقة.

قلت: أظنّ أنّني أعرفهما، لكنّني لست متأكّدًا من ذلك الآن.

وقلت: دفتره مثير للفضول.

قالت ليلى: نعم، صحيح.

دخلا المقهى الذي اعتدنا الجلوس فيه. فتح الدفتر وراح يكتب والمرأة ترمقه بإعجاب.

واصلنا، أنا وليلى، حلمنا، وكان دفتره السميك على مسافة حلم منّا أو حلمين. غافلتها، وانفردت بنفسي في حلم خاص، ورحت أتذكّر أين قابلت هذا الرجل وهذه المرأة! ولم تسعفني الذاكرة. غضبت من حلمي الذي يجعلني غير قادر على تحديد الأسماء وتمييز الأشخاص. وكنت معنيًّا بألا تعرف ليلى ما أحلم به. لكنّها فاجأتني وقالت: حين تتذكّرهما أخبرني من هما على وجه التحديد. أومأت لها بالإيجاب، وكانت السماء تنذر بمطر غزير.

صباح الشغل

نهضتُ في الصباح المبكّر، تذكّرت نتفًا من أحلامي الليليّة ثمّ اتجهت إلى الحمّام. اغتسلت كعادتي كلّ صباح، ارتديت ملابسي، شربت القهوة وغادرت البيت. فتحت باب السيّارة وجلست خلف عجلة القيادة، وذهبت من رأس النبع إلى باب العمود. هناك انتظرت الركّاب، وكنت بين الحين والآخر أتبادل أحاديث عابرة مع زميلي رهوان وزملاء آخرين، وأتأمّل في الوقت نفسه المدينة التي تعجّ بالخلق، ولا يعكّر صفوها سوى الجنود، في أيديهم معادن صقيلة لسفك الدماء. وثمّة على الأرصفة والأدراج رجال حذرون، أو هكذا خُيّل لي. وثمّة بنات وأولاد ذاهبون إلى مدارسهم، ونساء متّجهات إلى داخل البلدة القديمة للتسوّق أو للالتحاق بوظائفهن. ولا يحلو لي الصباح إلا حين أرى ليلى وهي قادمة بمشيتها الرشيقة فوق الرصيف، ثمّ وهي تضع قدمها على أوّل الدرج النازل إلى باب العمود، في طريقها إلى المدرسة التي تُمضي فيها نهارها وهي تعلّم البنات والأولاد.

هذا الصباح رأيتها. نظرت نحوها بحذر، وهي نظرت نحوي بحذر، وكنّا كما لو أنّنا نتبادل بطريقتنا الخاصّة تحيّة الصباح. قلت لنفسي: حين أرى ليلى وتراني يكون صباحي وصباحها أبهى وأجمل.

الدفتر

دخل الرجل حلمنا، فلم نُظهر أيّ استياء. وكانت المرأة ملازمة له مثل ظلّه. فتح دفتره السميك وانكبّ عليه يكتب فيه. تسللتُ مثل قطّ رشيق حتّى اقتربت منه، ورحت أسترق النظر إلى ما يكتبه. كانت المرأة تجلس إلى جواره وهي تقرأ في كتاب. دقّقت النظر في صفحة الدفتر، ولم أتمكّن من قراءة ما تخطّه يده. كانت الكلمات تنداح من قلمه مثل ماء جدول. فركت عينيّ لعلّني أستطيع القراءة ولكن من دون جدوى. اقتربت منه ليلى، وراحت تحدّق في صفحة الدفتر، ولم تستطع القراءة. لُمنا حلمنا ولم نستطع تبديله بحلم آخر مطواع. بعد وقت، نهض الرجل ونهضت المرأة، وضع يدها في يده وسارا معًا، ربّما إلى البيت، أو إلى مطعم، أو إلى نزهة في شوارع المدينة. أقلعت عن النظر إليهما، وقدت ليلى من يدها ودخلنا مدينة ينام أهلها في النهار ويقضون ليلهم ساهرين.

نهار ٌبهيج

جلستُ خلف عجلة القيادة، قريبًا من باب العمود، في انتظار راكب أو راكبة. أخرجت كتابًا كنت وضعته في جيب السيّارة لكي أقرأ فيه كلّما وجدت وقتًا لذلك، لم يكن زملائي معجبين بقراءتي للكتب، ولم آبه لهم. انهمكت في القراءة، ثمّ رفعت عينيّ عن الكتاب، وكانت حركة الناس فوق الأرصفة على أشدّها. أعدت الكتاب إلى مكانه، وتأمّلت ما حولي بانتباه.

فجأة، ظهرت ليلى وهي تسير نحوي على الرصيف، ولم أصدّق عينيّ للوهلة الأولى. كانت ترتدي جلبابها، وتغطّي كعادتها شعر رأسها بمنديل. فتحت الباب الخلفي للسيّارة وجلست وقالت: خذني إلى البيت إنْ سمحت. شغّلت المحرّك وانطلقت السيّارة في الشارع الرئيس نحو بيتها. في الطريق، تمازحنا كما لو أنّنا في حلم، مددت يدي إلى الخلف لتلمس يدها. تعانقت يدانا. نظرتْ ليلى نحو الخارج ثم ارتدّ بصرها نحوي وقالت: الخوف يتربّص بي في كلّ مكان.

تأمّلت وجهها عبر المرآة وقلت: أرجوك، لا تذكري الخوف الآن. ثمّ أوقفت السيّارة قريبًا من البيت.

من بين الأسطر

فرحتُ حين التقيتها، ولم يكن هناك رقيب. اقتربت منّي ووقفنا أمام الشبّاك. بياض جسدها يتلامح من تحت قميص النوم، وشعرها منعوف على وجهها وعلى صدرها من دون ارتباك. قالت بخيلاء: أنا لا أخاف. قلت: وأنا أيضًا لا أخاف. خيّم علينا صمت، وفي الأثناء، رأيناه يفتح دفتره السميك، يكتب فيه بضعة أسطر، تندلع من بين الأسطر صيحة ممطوطة لرجل يتألّم مثل حيوان جريح. تملأ صيحاته فضاء حلمنا. ارتعش جسدي، وبدا جسد ليلى كما لو أنّه تعرّض لانتهاك. حين انتهى من الكتابة، أغلق دفتره وتأمّل وجه المرأة الجالسة إلى جواره وهي تقرأ في كتاب.

قالت ليلى: كأنّه يكتب عن مأساة.

قلت: ربّما.

وقلت: كأنّني سمعت هذه الصيحات من قبل.

رحتُ أتذكّر أين سمعتها، ولم أتمكّن من تذكّر أيّ شيء.