البصرة – الإسكندرية

البصرة – الإسكندرية

ماتت المهندسة العراقية زها حديد ولم تقدّم تصميمًا واحدًا لمشروع عصري يقام في بلدها الأصلي العراق، مثيلًا للتصميم الذي اقترحته لتطوير أرض المعارض المصرية (كايرو أكسبو سيتي)، أو لمحطات المترو والجسور والمتاحف في مواقع مختلفة من العالم. يتساءل الحضريّون العراقيون عن المسافة الشائكة التي فصلت زها عن الأرض العراقية، فلم تحتضن ضفاف دجلة أو شط العرب واحدًا من تلك الأجنحة الطائرة لتصميمات المهندسة العالمية بلمسات رافدينية على بيئة نائخة بثقلها المعماري الصحراوي.

لا أعرف كيف ضاعت هذه الفرصة الحضارية، لكنني لا أزال أتخيل المنظر الفضائي لزاوية التقاء الأنهر الثلاثة في القرنة (دجلة والفرات وشط العرب)، والمنبسطات السهلية التي ستضيف زها لمساتها على هذا الموقع، وما ستزيده مهندستنا من امتداد قد يفوق تصميم ذلك القرص الدائري المائل لمكتبة الإسكندرية، شاهدًا على اضطجاع الروح المصرية الحكيمة بين أذرع النور والمعرفة والحداثة المادية إلى أزمان قادمة. كان هناك أمل في أن يرتفع قرصٌ للشمس من بين صفوف النخيل جنوبي العراق ليشع بما شعّ به أثر سومري استقرّ في المتحف العراقي، وضاع مع غيره من الآثار في غزوة 2003م.

تستحق مدينة الورّاقين (البصرة) التي يلهو سكانها بألعاب الزمن القديمة، استراحةً وسط غابة من النخيل تتوغل طرقها إلى قلب بناء مبنيّ على سبيل التناظر والتقابل مع مكتبة الإسكندرية. لا حدود لهذا المنظر الافتراضي، حيث تتسلسل المباني من ملتقى شط العرب حتى مصبّه، على جانبي كورنيش طويل (لم يُستغلَّ من طوله حاليًّا غير كيلومتر واحد). ولا عائق أمام هذه النظرة التي تستخرج من السهل الطيني تصميماتِ الخامة السمراء، وجماليات البيئة الخضراء، وموحيات الجدل المعرفي الكلامي الممزوج من هدوء الطبع الإنساني وثورته على الجمود العقلي، هذا الذي قد يسمّى بحوار المدن القديمة، وطريق المعرفة المتصلة بين إسكندرية الفكر الأفلوطيني وبصرة الفكر الإسلامي، وما يجاورهما ويقع على خطَّيْ نهضتيهما من حواضر التنوير والتمدين العربية.

لا تضمّ البصرة العظمى (بتسمية سليمان فيضي، أحد مثقفي مطلع القرن العشرين) في حاضرنا هذا بناءً واحدًا قادرًا على استباق حركة الزمن الكوكبية، ولا يشهد مربّعٌ من مربّعاتها القبليّة أساسًا من الأسس التي بُنيت عليها حوارات فلسفة الإشراق في القرون الهجرية الأربعة الأولى، ولا يُسرع بالظهور نجمٌ مذيَّل على منحنى مستقبلها؛ فهي اليوم مربّع للصمت المطلق يهرع كلامي إليه ليبني تصوّره عن مدينة القواقع والأحياء البرمائية التي تنزلق على سطوحها أفكار الاتصال اليوتوبية. فالمبدأ التصميمي لمنشآت كورنيش البصرة يفارق وظيفته الأصلية ليلتحق بوظيفته الجمالية المكوّنة من سلسلة قواقع حلزونية المظهر، ترتفع في الفضاء وتتبادل الوظيفة الاتصالية بالزمن والمعرفة.

أحلام النهر الشائخ

زها حديد

زها حديد

إنه حلم من أحلام النهر الشائخ يفرزها يوميًّا على ضفتيه، في حركة تشكيلٍ دائبة للصمت النابع من درع الطبيعة. حلم يرتقي لتصميمٍ من تصاميم زها حديد غير المنفَّذة، مركزُهُ هذه الحركة الطبيعية اليومية وإفراز مشغلها الجمالي والمعرفي. أما أعلى قمَّة في هذا التشكيل فستمثله قوقعةٌ هائلة الحجم ذات فضاء داخلي حلزوني، يناظر الجوف الفضائي لقرص مكتبة الإسكندرية المدفون في الأرض، ومشغله الاتصالي الجامع. نُصْبٌ على شاطئ البصرة المديد دالٌّ على زمن الجاحظ والفراهيدي والحريري، يقودك إلى إسكندرية كفافي وداريل والخراط وزمنها الذي طوى في ظلِّ قرصه الروحَ المصرية الشغوف بالأسرار.

البصرة – الإسكندرية توأما الضوء والرياح، مثالا المدينة الممزوجة بلعاب العصور والثقافات، ونصوص الكلمات الهجينة. استبدلت البصرة عمرانها مرارًا، ونسخت خططها من خراب إلى خراب، حتى هجرت الصحراء، واستقرت على جبهة النهر. أنشأت لها أسواقًا لاستقبال تجارة الشرق، وكيّفت أسرار حريمها لنوع معماري من الشرفات الخشبية سمِّي بالشناشيل. تخلّت عن صراحتها البريَّة لتتاخم بيئةً بحريَّة، كانت تأتيها بعجائب المخلوقات، ويخرج منها سندباديُّون مغامرون. انتقل الإرث الشفاهي ليقيم في صوامع الطباعة التي جاءت بها حملات أوربا الاستعمارية مع أحدث المخترعات. لكنها بين حلم وآخر تستفيق على نصّ لم يكتمل، وتصميم ضاع سبيله إليها، فتستدير إلى توأمها الإسكندرية.

مقابل التوأم البصرياثي اصطبغ التوأم الإسكندراني بمعمار الأقوام التي غزتها أو هاجرت إليها منذ تأسيسها على يد الإسكندر المقدوني العام الميلادي 232. حاولت الهوية المزدوجة للإسكندرية أن تختطّ وسائطها العابرة للتحولات السياسية، وأن تستبقي لها ما يدلّ على قبولها القسمة بين الإرث الاستعماري، العثماني والأوربي، فتمسّكت بفنارها البحري، ومسرحها الروماني، وبأسوار قلعة قايتباي، وسراي رأس التين، وقصر المنتزه، ومحطة الرمل، وكوم الدكة، ثم أخلت المكان القديم في حيّ الشاطبي لقرص المكتبة المائل على أنقاض مكتبة بطليموس لكي يمتصّ الفائض الثقافي في الشرخ المتأصل في هويتها، والتنافر السكاني المتعايش في بيئتها.

الإسكندرية والأهواء الأجنبية

وبعد أن مكّنت الإسكندرية الأهواءَ الأجنبية من ناصية أسواقها وملاهيها، وأعطت فورستر مادةَ دليلهِ المفصَّل لمعالمها، وداريل شخصيات رباعيته الروائية الداعرة، وكفافي قصائدَه الكفيفة، عادت فاحتوت الشخصيات النقيضة للإرث الغريب في روايات نجيب محفوظ وإدوار الخراط وإبراهيم عبدالمجيد وبهاء طاهر، وقبلت بإضافة وجودهم البلدياتي العابر على متن هويتها الأممية، كل ذلك لأنّ البحر الذي أنجبها من ظلماته ما زال يطالبها باستقبال هجرات وحملات يولسيسية من الجانب الآخر للعالم.  أن تأخذك الإسكندرية إلى البصرة، أو تدير بصرك عن توأمها فتضيع منك؛ أن تقتبس رؤياك من حوضها المُزبِد بالهويات العابرة أو تهاجر إليها بهويةٍ بصرياثية فقيرة؛ لن تجد ما هو أقرب إلى قلب الإسكندرية من هذه القصيدة التي كتبها كفافي عن مأساة أنطونيو:

«عندما تسمع في منتصف الليل فجأة، فرقةً من المغنين، تمرّ في الطريق غير مرئية، بموسيقاها الصاخبة، بصياحها الذي يصمّ الآذان، كُفَّ عن أن تندب حظّك الذي ضاع وخطّطْ حياتك التي أخفقت، وآمالك التي أحبطت، دع عنك التوسلات غير المجدية.

وكُن كمنْ هو على أهبة الاستعداد من قديم، كشجاع جريء، ودّعْها، ودّع الإسكندرية التي ترحل. وبالأخص، حذار أن تُخدَع، لا تقل: إنّ الأمر كان حلمًا، وهمًا في أذنيك وكذبًا، آمالٌ بالية مثل هذه لا تُصدّق. كمنْ هو على أهبة الاستعداد من قديم، كشجاع جريء، كما لو كنت أهلًا لها حقًّا، أهلًا لمدينة مثل هذه، اقتربْ بخطا ثابتة من النافذة، واستمعْ بحزن، ولكن بلا توسلات جبانة، ولا شكاوى ذليلة. استمعْ حتى النهاية إلى الأصداء المبتعدة، واستمتعْ بها، استمتع بالنغمات الرائعة من الفرقة الخفيّة التي تمضي إلى الزوال.

ودّعْها، ودّع الإسكندرية، الإسكندرية التي تضيع منك إلى الأبد».

ضياء العزاوي: في بداية السبعينيات ضاقت بغداد بنا  لنجد في بيروت والكويت مختبرًا للمواجهة مع الآخرين – خضير الزيدي

ضياء العزاوي: في بداية السبعينيات ضاقت بغداد بنا لنجد في بيروت والكويت مختبرًا للمواجهة مع الآخرين – خضير الزيدي

ضياء-العزاوي-٨ضياء العزاوي، فنان تشكيلي ينتمي إلى الجيل الستيني في العراق، حقق منذ ذلك التاريخ حتى هذه اللحظة قدرًا كبيرًا من الأهمية الفنية، من خلال تقنياته في الرسم والنحت، وإنجاز المدونات التي تخص الشعر بصياغات جمالية تعبيرية، وأيضًا من خلال طروحاته المعرفية. اختار مؤخرًا أهم متاحف قطر الفنية لينظم معرضه الاستعادي الذي تضمن أكثر من خمس مئة وأربعين عملًا متنوعًا، في احتفال كبير جمع الفنانين من أقطاب شتى. عن أهمية معرضه الأخير ودخوله معترك الجماعات الفنية في حقبة الستينيات، وثراء تجربته وتنوعها عبر طرائق متعددة، كان لـ«الفيصل» حوار مع ضياء عزاوي، الذي يوضح للقارئ علاقته بالفن وأسباب تمسكه به، بعد أن تجاوز السبعين عامًا ليكون نموذجًا حيًّا للفنان الملتزم بخطاب الجمال والفكر والثراء الإنساني.

● بعد كل هذه السنوات من العطاء الإنساني الملتزم بقضية الفن ورسالته الجمالية، ما الذي سيضيفه المعرض الاستعادي لك، في ظل متغيرات فهم اللوحة وتقنيات العمل وطريقة التفكير حيال الفن المعاصر؟

■ لا يضيف لي شيئًا على الصعيد العملي، غير إتاحة الفرصة لي أو للباحثين والمعنيين بتجربة الفن العراقي وعلاقتها بالمتغيرات عبر تجاربي المختلفة. إن مشاهدة الأعمال عن قرب ببعدها التاريخي المختلف إلى جانب العديد من الأعمال التي تعرض لأول مرة رغم إنتاجها منذ سنوات طويلة قد توفر فرصة لفحص السياقات الأساسية لعملية الإنتاج عبر وسائط متنوعة ومختلفة. بانوراما خمسين عامًا من الأعمال لا بد أن تعكس طرق الاشتغال الداخلي للعمل ومدى تبدل تناوباته روحيًّا رغم تنوع المادة التي في الغالب تتحكم بالصيغة النهائية لعملية الإنتاج. من هنا يوفر المعرض الاستعادي نوعًا من المراجعة الداخلية لمدى التداخل الكلي بين تلك الاختيارات التي واجهتها لإجراء تبدلات أسلوبية وعلاقة ذلك بالحاجة الحقيقية لتلك التبدلات.

● أتساءل عن أهمية فكرتك الفنية التي وقفت متوسطًا فيها بين الاهتمام بالتراث والدعوة للمعاصرة، لتنتج خطابًا فنيًّا يلتزم الأمرين، ويحافظ على وحداته الفنية ومرجعيته الفكرية؟

■ لا بد أنك تعرف أنني من جيل أخذته الهوية بكل قدسيتها عبر إنجازات جيل الرواد وبالذات جماعة بغداد، إنجازات لم تختبر فعليًّا على الصعيد العربي إلا بداية السبعينيات، وقد تأخرت كثيرًا على الصعيد العالمي. ومع التحولات التي أوجدتها ظروف الانفتاح السياسي والاجتماعي بداية السبعينيات، ضاقت بغداد بنا لنجد في صالات بيروت ثم الكويت مختبرًا للمواجهة الفعلية مع الآخرين، وبعدها توافرت لي الفرصة للذهاب بعيدًا بإقامة معرض شخصي منتصف السبعينيات في الدار البيضاء، كان ذلك تحديًا مغايرًا لما للمناخ الثقافي والفني المغربي من أساسيات في امتحان العلاقة بالغرب وكيفية مواجهتها. هذه المناخات هي التي عززت قناعتي بضرورة ومدى أهمية المرجعية الثقافية أو الفنية، وعلاقتها بالتاريخ الجمعي للفنان، مع الانتباه لرفض القناعة الطارئة التي قد تدغدغ روح الفنان عند مواجهة الجديد وإمكانية إلغاء مسارات أسلوبية لها بعدها الفعلي في عملية التغيير.

● ما الذي يمثله هذا الاهتمام بالمناخ الشرقي والعودة للموروث والميثولوجيا داخل لوحاتك مع أنك منذ زمن بعيد تعيش المكان وروحه الغربية؟

■ أنا ابن ذلك المناخ الذي منحني امتلاك تاريخ أسطوري هائل، هو أيضًا تاريخ الإنسانية جمعاء، لأسطورة غلغامش مثلًا عشرات المساهمات من مبدعين عالميين في مجال الموسيقا والأوبرا والرسم، جرى معاينتها ليس لأنها أسطورة من التاريخ العراقي القديم، بل لأنها ببساطة قلق الإنسان وخوفه من الموت، هذا هو المحرك الفعال لهذه الانتباهات العالمية، علينا بالطبع الانتباه إلى أن الشرق بشكل عام قد جرى معاينته في بعض الأحيان رومانسيًّا كما حدث مع المستشرقين عبر وسائل التعبير المختلفة، وفي أحيان أخرى كانت هناك قدرة خلاقة في إعادة تصور الشرق وإغماء مصادره. أما اهتمامي كما أشرت فهو لأنني حرصت منذ زمن بالانتساب الإنساني، وتطوير ذلك عبر مصادره الغنية ثقافيًّا أو فنيًّا لا الجغرافي ومحدوديته لهذا الشرق.

ضياء-العزاوي-٧● حسنًا إلى أي حد يمكن القول: إن فن ضياء العزاوي يولد جراء ذاته وبنظام هندسي ثابت ليبدو خطه الفني وتقنياته الأسلوبية أكثر حضورًا؟

■ ليس هناك نظام فعلي ولو خفي يمكن أن يحرك الإبداع، بل هناك تلك الأسئلة التي تتولد بفعل المعاينة والاطلاع، بفعل التراكم المعرفي الذي لا بد أن يخلق تبدلات لحاجة الإنسان وقناعاته، قدرة السيطرة على هذا الفعل ومدى انضباطيته هي التي تخلق مسارًا للأسلوب، وتدفع به نحو حدود قد تقود للإخفاق حينًا أو النجاحات حينًا آخر.

اتهمت بغواية اللون

● كنت في مرحلة من حياتك الفنية تجعل من لوحاتك كأنها أقرب لطرائق التزيين في الرسم؛ هل فرضت تجريداتك نوعًا من هذا الفهم، أم هي مساحة من الاهتمام بغنائية الرسم وقيمته البصرية؟

■ تبدلت بمقدار تعرفي على علاقتي بالآخر، أعشق ما تسميه طرائق التزيين، وأفرح إن تمكنت من أن أخلق مناخات تولّد سعادة لمبصر هذا التزيين، واجهت هذه الأسئلة منذ زمن وما زلت، إلا أنني أجد في ذلك الفعل الحقيقي للامتحان عندما أواجه ما هو خلاف ذلك، اتهمت مرات بغواية اللون أيضًا لكنني عندما واجهت دمار العراق تحولت الألوان إلى فعل مغاير، إلى سبر غور الأسود وتبدلاته الروحية، إلى ما يمكن أن يوفر صمتًا مقدسًا يتلاءم ومناخ الكارثة، وقد واجهت الموقف نفسه قبل ذلك عندما أقمت معرضي الأخير في بغداد قبل مغادرتها، الآن عندما يتطلع المشاهِد لبعض هذه الأعمال التي جُمعت من مصادر مختلفة ووضعت ضمن حيز خاص سيدرك المرء كم لتلك المواجهة من قيمة تاريخية، ليس على الصعيد الفني فقط، بل أيضًا على فعل الإدانة لتلك الأيام الصعبة. من هنا تعكس قيمة الفنان وتبدلاته.

● ماذا عن كيفية ترسيخ هذا الأسلوب الخاص بفنك؛ هل هو نتاج لمرحة التأسيس الأول جراء دخولك جماعة الانطباعيين، ومن ثم جماعة بغداد للفن الحديث أم هو رؤية خاصة ولدت جراء خيال خصب يحب التجريب، ويتحرك في مديات متوسعة ليواكب اتجاهات الفنون الإنسانية المعاصرة؟

■ كنت في الواقع ضيفًا خارجيًّا على جماعة الانطباعيين، كانت فرصة للعرض وفّرها لي أستاذي حافظ الدروبي لا غير بعد أن وجدني من الموجودين الدائمين في مرسمه في كلية الأدب حيث كنت أدرس في فرع الآثار، أما جماعة بغداد فلم أكن عضوًا فيها إلا أنني كنت أقرب إلى أفكارها وممارستها، ولعل في التضاد المعرفي الذي كان نتيجة لدراستي الصباحية لفرع الآثار وتبعاته في معرفة الفنون العراقية القديمة بشكل تفصيلي، ودراستي في معهد الفنون في المساء بكل ما فيها من معرفة أوربية- هو الذي أوجد وازع الاختلاف والإصرار على تطوير ذلك، مستفيدًا بشكل ما من إنجازات الرائدين فائق حسن وجواد سليم، وفي الاختلاف الأسلوبي لمحمود صبري، هؤلاء الثلاثة كانوا خلف تعميم جملة مواقف في الأسلوب والأفكار ظهرت فيما بعد بشكل مختلف في كاظم حيدر وشاكر حسن مع تنويع إبداعي وسياقات معرفية تسربت لي ولبعض من جيلي من الفنانين، لتكون فيما بعد نزعات مختلفة لكنها كانت ابنة نجاحات محلية، اختبرت بمواجهة مع من جاؤوا بمعارف جديدة نتيجة دراستهم في الخارج، تمثلت في تجارب إسماعيل فتاح، ومحمد مهر الدين، ورافع الناصري. هذا الغنى الفني مجاورًا لإبداعات شعرية وكتابات جديدة مع انفتاح سياسي واجتماعي، كل ذلك ولَّد عندي ولبعض من جيلي تلك الرؤى التي ظلت معنا، ساعين على تطويرها فرادى وسرعان ما وزعتنا المستجدات من الظروف ليحمل كل واحد منا ما اختزنه من أفكار وتجارب لتعد بعد ذلك طاقة للتجريب أمام المستجدات التي تمثلت في القدرة على محاورة الآخر سواء كان ذلك عالميًّا أو عربيًّا.

● أراك أكثر وفاء تجاه أعمالك الأولى التي خضت فيها غمار التجريب في الحروفيات وتطويعها في أشكال متنوعة؛ هل في هذا الأسلوب ما يدعونا إلى أن نقول: إن لك مشروعًا يدعو في صياغاته الأسلوبية ونزعته للاهتمام بالتصوف وسر أهمية الحروف روحيًّا؟

ضياء-العزاوي-٥■ في كل محاولاتي الأولى كان المحرِّك الفعلي هو تعزيز روح الهوية التي أخذتها من بعض من جيل الرواد، وقد أشرت سابقًا إلى أن تلك المحاولات لم تختبر على الصعيد العالمي إلا بشكل متأخر، وعندما توافرت لي الظروف لمعرفة التجارب الأخرى، بدأت بتفحص مواصفات هذه الروح، فأنا لم أكن الفنان الوحيد الذي وفد إلى لندن أو باريس، ولم أكن الوحيد أيضًا في محاولة بناء تفرده عن الآخرين، لعلني وبوازع روحي بُنِي على امتلاك منغلق للحضارة التي نشأت أو مرت بالعراق جعلتني كأنني حارس هذا الخزان الهائل بعيدًا من الآخرين. في الثمانينيات كنت زائرًا متحف التيت، وسرعان ما استوقفني عمل لفنان إنجليزي اسمه روبن ديني، كان تكوين اللوحة قد اعتمد على شكل حروفي كوفي مربع، من السهولة قراءته ولا يمكن للمرء إلا أن يعرف أن هذا الفنان قد بنى عمله على بحث له علاقة ما بالحرف العربي، في حينها تذكرت كيف لشاكر حسن وهو في غمرة هوسه بالحرف العربي قد وجد في تمثال جياكومتي تماهيًا مع حرف الألف في العربية. هذا التضاد الواقعي بين عمل لا تخطئه العين وبين تصور افتراضي قابل للدحض بسهولة، جعلني أمام مساءلة مفهوم الهوية من جهة والتفرد من جهة أخرى: هل يمكن اعتبار لوحة ديني عربية كما روج في النقد العربي انتساب العمل بشكله الخارجي كافٍ لهويته العربية، أم أفترض من جهة أخرى أنها محاولة للتفرد من قبله بالذهاب إلى الموروث الإنساني الذي هو ملك الجميع كما حاول بيكاسو وماتيس وغيرهما من المبدعين العالميين؟

● هل هذا الأمر في مساحة الحروف والاهتمام بها ينطبق على الاهتمام بالميثولوجيا وقيمة وفهم الشهادة وطقوس النذور مثلما حدث مع لوحاتك التي تجسد فيها الإرث كألف ليلة وليلة، وليلة عربية، وأيضًا لوحة الشهيد، وشموع النذر؟

ضياء-العزاوي-٢■ كل ما أشرت إليه هو بحث عن الذات، بحث عن مرجعية فكرية لم توفره لي دراستي في معهد الفنون لخمس سنوات، لقد كنت محظوظًا مقارنة بفناني جيلي، بأنني درست الآثار وكنت قريبًا من اللقى الأثرية، وهذا ما دفعني لمسايرة تصورات جواد سليم على الرغم من عملي ضمن مجموعة الانطباعيين، لعل هذه العلاقة هي التي جعلتني اقتنائيًّا في نظرتي للتجارب الأوربية والأميركية، والتأكيد على إنجازات الفنانين الذين أقاموا حوارًا مع الثقافات الأخرى، هذا الحوار الذي خلق مجموعة رموز وتكوينات تتماهى مع ما نجده في موروثاتنا الشعبية. ما أود الإشارة إليه أنه لا توجد مساحات فارغة بين الميثولوجيا والموروث الشعبي كما أن هذين المرجعين ليسا بعيدين من الظروف اليومية وارتباطاتها السياسية.

● ما سرّ أهمية بقاء لوحة صبرا وشاتيلا في ذاكرة الآخرين والعودة إلى دلالاتها بعد كل هذه السنوات من الاشتغال الفني والمعرفي عليها؟ هل يصيبك إحساس أنها مختلفة وقريبة لروحك أكثر من باقي الأعمال؟

■ بالنسبة لي هي جزء من تاريخي لا غير، إلا أن ضمها لمجموعة متحف من أهم متاحف العالم أعطاها بعدًا إعلاميًّا هائلًا، ولكي تعرف قيمة العمل هذا، عندما وافق المتحف على إعارتها لمعرضي في الدوحة كان على مؤسسة المتاحف في الدوحة أن تقبل بأن يضع المتحف شروط الإعارة مع مجيئي ممثلًا عن المتحف في لندن، لكي يشرف على فتحها من الصناديق والإشراف على تعليقها، ثم التأكد من درجة الضوء المتفق عليها؛ لكي ينتهي بأخذ صورة للعمل معلقًا. هذا النوع من الاهتمام لا بد أن يعطيها مواصفات مهمة، كل هذا لا أجد فيه غير إخلاص روحي للموضوع، وصدق في التعبير عن المجزرة التي ارتُكبت بكل نذالة وهمجية فاشستية. فقد عرضت لأول مرة في معرضي الشخصي في الكويت، وفي حينها وافقت على إعارتها للمتحف الكويتي بعقد مدته خمس سنوات، بعد ذلك أعيد لي قبل أسبوع من دخول صدام إلى الكويت، وقد علمت في حينها أن المكان الذي كانت اللوحة قد عُرضت فيه كان من الأماكن الذي قُصف، وقد ظلت اللوحة في المخزن لسنوات، وفي عام ٢٠١٠م نشرت صورة جيدة للعمل في كتاب بالإنجليزية عن الفن العربي والإيراني، تزامَنَ ذلك مع افتتاح المتحف العربي الذي كان لي معرضًا شخصيًّا مما جلبت الانتباه لكل من متحف غوغنهايم وتيت مودرن. من كل ذلك أود القول: إن العمل ظل نحو ٣٥ عامًا لكي يتحول إلى عمل يعتز التيت بحيازته.

شغف بالنص الشعري

● كانت لك تجربة رائدة ومهمة في توظيف النص الشعري وتجسيده في عمل فني، أعطى للقصيدة أهمية ثانية وبروح استثنائية، السؤال هنا: هل كانت أعمالك الطباعية ومنها: المعلقات السبع، والنشيد الجسدي، ونحن لا نرى إلا جثثًا، هي دعوة للانسجام بين البعد البصري وحساسية القصيدة، وأيضًا عودة للموروث الشفاهي، والحفاظ على الشعر وتجلياته ليلتقي الرؤيةَ البصرية؟

ضياء-العزاوي-٣■ كان لدي اهتمام بالنص الشعري منذ معارضي الأولى، وقد نفذت تلك الأعمال كتخطيطات وهو شغف ظل معي، وتطور بفعل اطلاعي الذي توافر بعد مغادرتي العراق، فمثلًا عملت للمعلقات السبع نحو ١٤ عملًا، ثم اخترت منها سبعة لتصدر كمجموعة، وكذلك الحال مع النشيد الجسدي؛ إذ أنجزت أكثر من أربعين عملًا اخترت منها ستة عشر، من هنا أؤكد أنني بدأت بتنفيذ العمل كتخطيط أولًا، وبعدها عندما توافرت الفرصة عملت على تحويلها إلى مجموعات طباعية محدودة، على العكس من ذلك مجموعة «نحن لا نرى إلا جثثًا» وكذلك مجموعة «ألف ليلة وليلة» كلاهما جرى العمل عليه من منطلق طباعي له بعده المختلف مستفيدًا مما تقدمه الطباعة بأنواعها من إضافات رائعة. استمر هذا الشغف لكي يأخذ بعدًا إضافيًّا عندما بدأت العمل على إنجاز ما يعرف «بكتاب الفنان» حدث هذا عندما توافرت لي فرصة الاطلاع على المخطوطات العربية والإسلامية في مكتبة تشستربيتي في دبلن، والمكتبة البريطانية في لندن إضافة إلى المكتبات الوطنية في ميلان، وبرلين وباريس إلى جانب ذلك توافر لي أيضًا تعرف التجربة الفرنسية وإنجازاتها الهائلة عبر العمل المشترك بين الشعر والرسم، وما زلت أتذكر كمية الدهشة عندما اطلعت على النسخة الأصلية لكتاب الجاز لماتيس الذي ظلت تصاحبني توزيعاته اللونية وعلاقتها بالنص. كل هذه المعرفة جعلتني أمام مهمة أخذت أبعادًا مختلفة بفعل تنوع الرؤيا وطريقة إنجاز عمل ابتكاري ينحاز للبصر ومزاوجته للنص. لقد قدمت لي هذه التجربة تحديات كان لا بد من مواجهتها عندما فكرتُ في مدى إمكانية تحقيق عمل حديث يعتمد على إعادة اكتشافه وتقديمه كنص إبداعي، عملت على هذه الفكرة مع الشاعر المغربي محمد بنيس لإعادة كتابة «طوق الحمامة» لابن حزم، وكذلك مع الشاعر البحريني قاسم حداد لكتابة نص «مجنون ليلى»، في كلا العملين توافرت الفرصة للحوار والمشاركة الإبداعية لم توفّرها التجارب الأخرى.

محنة الكتّاب الروس مع قادة الكرملين..  من لينين إلى بوتين

محنة الكتّاب الروس مع قادة الكرملين.. من لينين إلى بوتين

كان البلاشفة قبل استيلائهم على السلطة في روسيا ينادون بحرية الرأي والتعبير، وينددون بالرقابة المفروضة على المطبوعات، واضطهاد الكتاب والشعراء والمفكرين. ولكنهم بعد وصولهم إلى السلطة تناسوا شعاراتهم الديماغوجية، ومارسوا أعتى أنواع الرقابة على المطبوعات، واضطهدوا كل مفكر ومبدع لا يخضع لمقاييس الحزب الحاكم الأيديولوجية. واتخذ العلماء والأدباء الروس المعروفون مواقف متباينة من النظام الجديد. هاجر عدد كبير منهم إلى البلدان الأوربية، أما معظم الباقين فقد اتخذ موقف التوجس والانتظار. ولم يؤيد الثورة البلشفية إلا عدد قليل من المفكرين والأدباء.

في عام 1922م قامت السلطة السوفييتية بترحيل نخبة من خيرة المفكرين والفلاسفة والأدباء الروس الرافضين للحكم الجديد إلى الخارج، في باخرة سميت فيما بعد بـ«باخرة الفلاسفة» تضم 160 شخصًا، وأعقبتها بواخر أخرى مماثلة. وقد برّر تروتسكي -وكان لا يزال أحد القادة الكبار في النظام البلشفي- هذا الترحيل الجماعي قائلًا: «إننا نرحل هؤلاء الناس؛ لأنه ليس ثمة مبرر لإعدامهم، ولكننا لا نحتمل بقاءهم».

آلة القتل الستالينية

بعد وفاة لينين في أوائل عام 1924م استطاع جوزيف ستالين، الذي كان أحد قادة السلطة الجديدة، تشديد قبضته على الحكم تدريجيًّا بالقضاء على منافسيه وتصفيتهم، الواحد بعد الآخر. كان النظام الشمولي يرى في كل زاوية عدوًّا، وفي كل كلمة حق مؤامرة إمبريالية. وكان مصير كل كاتب أو شاعر ينتقد النظام هو الإعدام أو الاعتقال والنفي إلى أقاصي سيبيريا. في 15 أغسطس 1934م أرسل ستالين تعليمات سرية إلى لازار كاغانوفيج أحد أقطاب النظام السوفييتي حول كيفية التعامل مع الأدباء يقول فيها: «ينبغي التوضيح لكل الأدباء، أن اللجنة المركزية للحزب وحدها هي صاحبة الأمر والنهي في الأدب، كما في المجالات الأخرى، وينبغي عليهم الخضوع لها من دون مناقشة». لكن ستالين كان في حاجة إلى واجهة ثقافية أمام العالم، ولم يجد خيرًا من غوركي –الذي كان قد غادر روسيا عام 1921م، بعد خلافه مع لينين- للقيام بهذا الدور، واستطاع إقناعه بالعودة إلى روسيا. لم تكن صحة غوركي في سنواته الأخيرة على ما يرام، وتوفي عام 1936م؛ مما شكل صدمة كبيرة للكتاب والشعراء المستقلين، لأن غوركي -بشخصيته الكاريزمية ونفوذه المعنوي وعلاقته بستالين- كان حاميًا لهم من الاضطهاد. وحدث ما كان يخشاه الكتاب المستقلون؛ إذ طحنت آلة القتل الستالينية في السنوات التالية خبرة الكتاب والشعراء والفنانين. وحظرت السلطة نتاجاتهم وأزالت أسماءهم أينما وردت.

فترة ذوبان الجليد

نيكيتا خروتشوف

نيكيتا خروتشوف

ليون-تروتسكي

ليون تروتسكي

بعد وفاة ستالين ببضع سنين حلت فترة «ذوبان الجليد»، وهي الاسم غير الرسمي للسنوات العشر (1954-1964م) التي تولى فيها نيكيتا خروتشوف (1894- 1971م) الحكم في البلاد. وكانت فترة قصيرة شهدت انعقاد (المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي) عام 1956م، وخطاب خروتشوف الشهير الذي كشف فيه النقاب عن جرائم ستالين.

تميزت هذه الفترة في الحياة الثقافية بإعادة الاعتبار إلى معظم ضحايا العهد الشمولي ومن ضمنهم الشعراء والكتاب، وإطلاق سراح المعتقلين منهم، وتخفيف الرقابة على المطبوعات والمسرح والسينما والفنون الأخرى؛ إذ أصبح ممكنًا تسليط بعض الضوء على الجوانب السلبية للواقع السوفييتي.

وأصبحت مجلة «العالم الجديد» الأدبية المنبر الرئيس للكتاب الأحرار؛ حيث نشرت المجلة العديد من الأعمال الأدبية المتميزة؛ منها: رواية «ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان» لفلاديمير دودنتسوف، ورواية ألكسندر سولجينتسين «يوم واحد في حياة إيفان دينيسوفيتش» اللتان ترجمتا إلى العديد من لغات العالم. وفي عام 1957م نشرت في ميلانو رواية بوريس باسترناك «دكتور جيفاغو» الذي نال عنها في العام التالي جائزة نوبل للآداب. كان بعض المتزمتين في القسم الأيديولوجي للحزب الشيوعي يحرّض خروتشوف ضد الأدباء الأحرار، وينتهز كل هفوة لهم للنيل منهم، وجاءت الفرصة الذهبية لهؤلاء حين اتخذوا من نشر الرواية في الخارج ذريعة لشن حملة شعواء ضد باسترناك، وإرغامه على رفض الجائزة. ولكن التيار الليبرالي في الآداب والفنون كان يكسب مواقع جديدة كل يوم؛ إذ برزت في بداية الستينيات نخبة موهوبة من الكتاب والشعراء الشباب الذين شكلوا ظاهرة أدبية جذبت الأنظار. وقد أطلق عليهم النقاد اسم «جيل الستينيات» وأصبحوا منابر إبداعية للتعبير عن آمال الشباب السوفييتي وتطلعاتهم، رغم اختلاف مشارب هؤلاء الأدباء وأساليبهم الأدبية. وقد أسعدني الحظ أن أحضر العديد من اللقاءات الأدبية الجماهيرية في القاعات والمسارح والملاعب الرياضية التي كانت تغصّ بآلاف الشباب الذين جاؤوا من كل حدب وصوب للاستماع إلى قصائد هذه النخبة المبدعة من الشعراء الشباب (يفغيني يفتوشينكو، وروبرت روجديستفنسكي، وأندريه فوزنيسينسكي، وبيلا أحمدولينا) وقصص فلاديمير تيندرياكوف، وفاسيلي أكسيونوف، وفيكتور أستافيف.

ولم تخل هذه الفترة من تدخل الكرملين في الشؤون الثقافية، فقد جمع خروتشوف الأدباء الشباب بحضور جمع كبير من أبرز الأدباء السوفييت في إحدى قاعات الكرملين عام 1963م؛ لتهديدهم إن لم يلتزموا بمدرسة الواقعية الاشتراكية. وقد اعترف خروتشوف لاحقًا في مذكراته التي نشرت في أوائل السبعينيات في الخارج، بأن المسؤول الأيديولوجي في الحزب قد حرَّضه ضد الأدباء الشباب، وأنه يأسف لذلك. ظلت الرقابة الحزبية والحكومية على الأعمال الفكرية والإبداعية مستمرة وإن كانت على نحو أخفّ. فعلى سبيل المثال حذفت الرقابة فقرات كثيرة من مذكرات إيليا إهرنبورغ: «الناس والأعوام والحياة» ومن كل الأعمال التي تعبر بصدق عن الواقع السوفييتي المرير.

ركود وأدب سري

ليونيد بريجينيف

ليونيد بريجينيف

ميخائيل غورباتشوف

ميخائيل غورباتشوف

في أكتوبر 1964م، عُزل خروتشوف عن السلطة وتولى ليونيد بريجينيف (1906-1982م) مقاليد الأمور. دشن بريجينيف عهده بالتضييق على حرية التعبير. وجرت بين خريف 1965م وشباط 1966م محاكمة الكاتبين سينيافسكي ودانيل؛ إذ حكم على الأول بالسجن سبع سنوات وعلى الثاني خمس سنوات بدعوى تهريب بعض أعمالهم الأدبية المحظورة، ونشرها خارج البلاد. شهدت هذه الفترة نوعين من الأدب: أولهما – الأدب العلني الملتزم بقواعد الواقعية الاشتراكية. وثانيهما: الأدب السري المتداول في الخفاء والمطبوع أو المستنسخ بوسائل بدائية، حيث لم تكن أجهزة الاستنساخ الحديثة والكمبيوتر قد شاعت بعد. ومن أشهر المطبوعات السرية في تلك الفترة مجلة «ميتروبول» التي صدر أول عدد منها عام 1970م وكانت مجلة فكرية وأدبية غير دورية.. وقد أثارت المجلة سخط السلطة، فلجأت إلى طرد بعض المشرفين أو المساهمين فيها إلى الخارج، وزجّ بعض آخر في المصحّات العقلية والنفسية.

 ولم يقتصر الاضطهاد على جماعة «ميتروبول»، ففي عام 1972م حكم على الشاعر جوزيف برودسكي (1940 – 1996م) بالنفي إلى قرية نائية في أقصى الشمال الروسي. وبعد انتهاء مدة نفيه نُزعت الجنسية السوفييتية منه وطُرد من البلاد. كانت السلطة تحاول محو الآثار السلبية الناجمة عن النشر السري بعقد ندوات جماهيرية (تثقيفية) في المصانع ومؤسسات الدولة للتنديد بالكتاب المتمردين، والتشهير بهم. والطريف في الأمر أن هذه الندوات شكلت دعاية مجانية للأدباء المتمردين. وكان كل من لم يقرأ أعمالهم يحاول الحصول عليها بأي ثمن.

البريسترويكا ونشر المحظور

كان ميخائيل غورباتشوف الذي تولى السلطة عام 1984م، يدرك أن حظر نشر نتاجات أي كاتب أو شاعر يؤدي إلى تعظيم دوره وزيادة تأثيره في مجتمع يعشق قراءة الأعمال الأدبية مثل المجتمع الروسي، ولهذا خُفِّفت الرقابة الحكومية على المطبوعات ثم أُلغيت. خلال فترة البريسترويكا نُشرت أهم الأعمال الأدبية المحظورة في الحقبة السوفييتية السابقة للكتاب والشعراء الذين قتلهم ستالين أو قضوا أجمل سنوات أعمارهم في معتقلاته. كما عاد إلى القارئ الروسي، كل النتاجات الإبداعية لأدباء المهجر الذين كانت السلطة في الفترات السابقة تستخف بهم، وتمنع تداول كتبهم داخل البلاد.

أراد بوريس يلتسين بعد وصوله إلى قمة السلطة عام 1991م أن يستنسخ التجربة الغربية في الانتقال إلى الليبرالية واقتصاد السوق من دون توافر المقدمات الضرورية لذلك، فدبَّت الفوضى في مفاصل المجتمع والدولة. وشملت الفوضى الحياة الثقافية أيضًا، ولم يعرف عن يلتسين اهتمامه بالآداب والفنون. وكان الأدب الأميركي الجماهيري أو الشعبي في مقدمة اهتمامات دور النشر الروسية، التي كانت ترفض نشر الأعمال الروسية الجادة بدعوى أنها لا تجد إقبالًا في السوق. وأصبح الطريق سالكًا أمام كل من يعرف اختلاق القصص الهابطة فنيًّا ونظم الشعر الرديء. وجرى إلغاء الدعم الحكومي للاتحادات الأدبية والفنية. وكانت فترة انتقالية صعبة يتذكرها الروس بمرارة.

بوتين يضيق الخناق على الكتاب

منذ تولي فلاديمير بوتين زمام السلطة تراجعت حرية التعبير وأخذت تضيق شيئًا فشيئًا. وأصبحت كل وسائل الإعلام اليوم خاضعة للتوجيهات الرسمية. ولم تبقَ أي قناة تلفزة خاصة أو مستقلة في البلاد، وباتت كلها حكومية، وتُفرَض على برامجها رقابة سياسية صارمة. وتمارس هذه القنوات تضليلًا إعلاميًّا واسع النطاق للرأي العام، وتدغدغ مشاعر البسطاء عن طريق التغني بالدولة العظمى والمجد الإمبراطوري للأجداد، والقسم الأكبر من برامجها ترفيهيّ، وإن كانت تقدم بين حين وآخر لقاءات مع كتاب موالين للسلطة، أو تنقل الاحتفالات الخاصة بمنحهم جوائز الدولة التقديرية. 

الجيل الجديد الذي ترعرع بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، لم يعد يهتم كثيرًا بالكتب الجادة، بل يتابع بشغف البرامج التلفزيونية المعادية للغرب، والمسلسلات، والمنافسات الرياضية، ومواقع التواصل الاجتماعي، والوسائط المتعددة. وتراجع دور الكاتب أو الشاعر في المجتمع.

 ثمة عدد كبير من دور النشر والصحف والمجلات ومن ضمنها المجلات الأدبية (السميكة) التي تدعي الاستقلالية، ولكنها تتجنب نشر ما يغضب السلطة، فثمة عشرات السبل لخنق دار النشر أو الصحيفة أو المجلة، أو تهميش الكاتب، وأهمها قانون المطبوعات بموادّه المطاطية التي يمكن تفسيرها على هوى الحكومة، وهناك الجوائز الأدبية التي لا تمنح إلا مَن كان ظلًّا للحاكم ومتملّقًا له. وهذا لا يعني أن ثمة قيودًا مباشرة على الكاتب. فأي كاتب يمكن أن يكتب ما يشاء، ولكن عمله قد لا يرى النور، أو يطبع في أضيق الحدود، ولا يصل إلى معظم أنحاء البلاد.

بوريس يلتسين

بوريس يلتسين

يعقد بوتين، بين حين وآخر لقاءات -ينظمها مكتبه الإعلامي– مع عدد مختار من الكتاب المعروفين لمناقشة بعض القضايا الأدبية، من قبيل كيفية الحفاظ على نقاوة اللغة الروسية من التشويه والابتذال، أو تطوير المقررات الخاصة بالأدب في المدارس، أو مشاكل اتحاد الأدباء -الذي انشطر إلى اتحادات عدة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي- والعقبات التي تحول دون نشر الأعمال الأدبية. وفي العادة توجه الدعوات لحضور مثل هذه اللقاءات إلى الكتاب الموالين للسلطة، وإلى بعض الكتاب المعارضين؛ لإضفاء جوّ من الحيوية على اللقاء، لأن عدم وجود أي صوت معارض يحوّل أي لقاء من هذا النوع إلى حوار السلطة مع نفسها. ويرفض معظم الكتاب الأحرار الدعوة الموجهة إليهم للقاء رئيس الدولة، خشية توجيه الاتهام لهم بالتعاون مع السلطة. ويرى بعض الكتّاب المعارضين (بوريس أكونين، وإدوارد ليمونوف) ضرورة انتهاز مثل هذه الفرص النادرة لطرح القضايا الملحّة التي تهم الرأي العام؛ مثل: الرقابة السياسية المفروضة على التلفزيون، وانتهاك حقوق الإنسان، ومحاكمة بعض الكتّاب، منهم (يوري بيتوخوف، وتريوخليبوف، وميرونوف) وسحب كتبهم من السوق ومصادرتها لاحتوائها على آراء قومية أو دينية متطرفة.

إجابات بوتين عن أسئلة الكتّاب تكون في العادة شافية وتتسم بالهدوء، وأحيانًا مراوغة، ونادرًا ما تكون قاطعة، لكن ينبغي أن يقال: إنه لا ينزعج من أي سؤال، ولا يرفض الإجابة عنه. بعض الكتاب المعارضين يعتقد أن الغرض من عقد هذه اللقاءات، قبيل كل دورة انتخابية، ليس الاهتمام بالأدب والأدباء، بل لأغراض دعائية لكسب الناخبين. ونصح كاتب جريء بوتين بالتقاط الصور ليس فقط على خلفية صاروخ (توبول) ولكن أيضًا على خلفية أرفف الكتب أو ما له علاقة بالأدب.

معظم الجيل الجديد من الكتاب الروس يلهث وراء التقليعات الشائعة في الآداب الغربية الحديثة. وليس في روسيا اليوم سوى عدد محدود جدًّا من الكتاب المجيدين. ويتساءل النقاد في الغرب: «هل مات الأدب الروسي؟» ولماذا لم يعد في روسيا اليوم كتّاب عمالقة بمستوى تولستوي ودوستويفسكي؟ ويذهب هؤلاء النقاد في تفسير ذلك مذاهب شتى. لكننا نرى أن السبب الرئيس لتخلف الأدب الروسي المعاصر، لا يرجع فقط إلى ظهور وسائل جديدة لنشر المحتوى الأدبي، أو أن السوق أخذت تفرض نوعًا معينًا من النتاجات الخفيفة، التي تشبه الـ«فاست فود» يلتهمها الإنسان بسرعة وينساها بسرعة أكبر، بل يكمن أساسًا في تضييق نظام بوتين الخناق على حرية الرأي والتعبير. ولا يوجد أدب حقيقي وعظيم من دون حرية الكلمة.

ما بين النهرين.. بلاد الأقليات الهائلة

ما بين النهرين.. بلاد الأقليات الهائلة

سعد سلّوم

سعد سلّوم

واضح أن الأعمال العسكرية، والتغييرات السياسيّة في البلدان العربية، قد أحدثت هزّات عميقة في البنى المُكوّنة للنسيج المجتمعيّ. وفي الغالب، إن الصّدمة الأولى التي حرّكت صفائح عديدة، كانت تُعدّ فيما مضى، مُرتكزات اعتمد عليها التمازح المدني والوطني في المنطقة، كانت من نصيب العراق «بلاد ما بين النهرين»، حجر زاوية هذا التداعي المتتالي. فما كان يعد مثالًا تاريخيًّا للاندماج والتلاقح الإثنيّ والدّينيّ لعدة مئات من السنين، بل إن إحدى علامات ازدهاره حضاريًّا في حقب مضيئة من تأريخه، هو أنّه مثّل نموذجًا سلميًّا للتنوّع الثقافيّ.. أصبح مَصدرًا لنقيض هذا التصوّر في تقبل الآخر وتنوّعه. هذا التنوع الذي انقلب وبالًا فيما بعد، ليتحوّل به سحر التنوّع كعنصر تقوم عليه غالب النهضات المدنية والحضرية، إلى تفاصلٍ وتنازعٍ باعتبار النوع. وبهذا اختفى بشكلٍ متصاعدٍ مفهوم الـ«نحن» ليحلّ مفهوما «الأنا» و«الهُم».

وما أن دَبّ هذا الفايروس المُجزِّئ للكتلة الوطنية بمفهومها الحاضن، نحو مفاصل تفرّعت كتفاعل متسلسلٍ مرعب، حتى وُلدت أجزاء أخرى، اتخذت من الطائفة والعِرق والمناطقيّة والعائليّة نماذج للولاء المُطلق. منطقٌ جديد بدأ يسود المشهد، ومن ثمّ تنامى بشراهة، ليُصبح المنطق الأشمل الذي يمكن عبره وحده، تفسير الواقع الجديد. وإذا كانت هنالك حواضن سابقة، احتمت فيها مكونات أطلق عليها اصطلاح «أقلّية» كتصنيف عددي استثنائي من الغالبية المُهيمنة، فإن تلك الأقليّات كانت تحظى بمشاركة قانونيّة وحماية في إطار الدولة. لكنّ تفاقم العُزلة، وتوالي التعمية والغُبن الاجتماعي والحقوقيّ، لدى كثيرٍ من تلك المُكوّنات، أدّى في العديد من الدول إلى نشوء حسٍّ داخليّ لديها، على أنها لا ينظر إليها باعتبارها جزءًا من هذه البلاد أو الدّولة، وبالتالي صارت تبحث في هُويّتها الداخلية، وعن خلاصها التاريخي.

ما زاد الأمر انفلاتًا وتطرّفًا في السنوات الأخيرة، هو الاستهداف المُفجع من الإرهاب لتلك الأقليّات، والإيغال في ترويعهم وإبادتهم جماعيًّا، كما حدث في صفحات سنجار المنكوبة شمال غرب العراق. تورّط كثير من الأطراف الدّاخلية والخارجيّة في هذا الملف الإقليمي في الوقت الحاضر، يقتضي وضعه على الطاولة وتسمية الأشياء بوضوح، إذا كان ثمّة من يبحث عن رَتق الجراح، ومعالجة الشّقوق الخطيرة الآخذة بالاتساع. وما دمنا نتحدث هنا في إطار التجربة العراقيّة في التعاطي مع هذا الملف، فمن المناسب أن نسعى إلى مناقشة عدد من التساؤلات المحدّدة حول واقع الأقلّيات هنا، على سبيل تشخيص بعض الظواهر والمعالجات المجتمعية والحكومية بهذا الشأن. وعلى ذلك، فإنّ طرح تساؤلات عدة في هذا التوقيت تصبح مشروعة وضروريّة.

هل يمكننا إذن، اعتبار أن الحروب التي تندلع اليوم، كانت الأقليّات أهمّ أسبابها؟ ولو كانت هناك أنظمة عربية تؤمن بالمساواة والعدالة الاجتماعيّة، هل كانت شعرت الأقليّات بأنها أقليّات؟ هل كانت مساعي الغرب الإفادة من هذا الاحتقان لدى الأقليّات وتغذيته، وسيلة للذّهاب إلى تمزيق المنطقة على هذا الأساس؟ كيف كان تعامل القرار السياسيّ مع الأقليّات في العراق؟ ما الخطورة في بقائهم كأقليّات، وإلى أيّ حدّ يمكن أن يشكّلوا ضغطًا على الحكومة؟

توظيف حماية الأقليات للتدخل في شؤون المنطقة

%d8%b9%d8%b1%d8%a7%d9%82-%d9%a3

عائلة إيزيدية في أحد مخيمات اللجوء

في هذا الفضاء، طرحنا هذه التساؤلات على باحثين متخصّصين في شؤون الأقليّات، على أمل الوصول إلى بعض التصوّرات والمعالجات، التي نسعى إلى الإفادة منها، من واقع تجربة ميدانية وإحصائية، تتعلق بالتجربة العراقيّة. سعد سلّوم.. الخبير في الأقليّات العراقيّة، وعضو المجلس العراقي لحوار الأديان، يبسط ها هنا تشخيصاته المستندة إلى رؤية عريضة في قراءة المشهد، حيث يستعير تطبيقات عالمية في فهم جزئيات الحدث والآليات التي يتحرك في فضائها. يرى سلّوم أنّ «توظيف حماية الأقليّات للتدخّل في شؤون المنطقة إستراتيجية قديمة وخبيثة، بالأمس أعلنت فرنسا حماية الكاثوليك والموارنة، واتجهت النمسا وإيطاليا لحماية مصالح الروم الكاثوليك، وأعلنت بريطانيا حمايتها للبروتستانت، وروسيا قامت بحماية الأرثوذكس، قبل أن تدخل الولايات المتحدة على خطّ اللّعبة في منتصف القرن العشرين. ولكن ما كان لهذه القوى الدّولية أن تستخدم الأقليّات كحصان طروادة للتدخّل في شؤون المنطقة، لولا استثمارها في نقطة ضعف الدّولة الوطنيّة في العالم العربيّ، التي كانت دولة قائمة على أنموذج هُويّة أحاديّ طاردٍ للاختلاف والتنوّع. إنّ عدم المساواة وانعدام العدالة الاجتماعية بسبب سياسات حكومات المنطقة منذ الاستقلال عن الاستعمار، والتمييز الاجتماعي والسياسي وعلى جميع المستويات، وعدم توزيع الدّخل بعدالة، وضعف مستويات المشاركة السياسيّة للأقليّات، جميعها عوامل عزّزت من إمكانية التدخّل الدوليّ لحماية الأقليّات في المنطقة، فضلًا عن سيادة ثقافة إلغاء الآخر، وإحساس أفراد الأقليّات غير المسلمة خاصة بالتهديد؛ بسبب النظر إليها من خلال منظور قروسطيّ عن الآخر الذمّيّ والكافر.

لا يمكن تدمير تراث الشرق الأوسط بتنوّعه الغنيّ الدينيّ والإثنيّ واللّغويّ دون تهجير الأقليّات، ومن خلال تهجيرها تُخلَق مناطق صافية إثنيًّا تَسهُل السيطرة عليها وتمزيقها؛ لذا، يُعدّ منح الأقليّات حقوقها، إستراتيجية للحفاظ على الوحدة الوطنية لدول المنطقة، واستقرار الشرق الأوسط بشكل عام. يصبح الشرق الأوسط بحدّ ذاته اليوم أنبوبة اختبار لشكل العالم المقبل، وفي هذا السياق تستخدم الطائفية كإستراتيجية تعبئة، واللّعب على وتر الاختلاف الدّينيّ الإسلامي المسيحي أو المذهبي السّنيّ الشّيعيّ، ليس سوى استثمار في الهُويّات المتخيّلة، سيؤدي إلى تفكيك الشرق الأوسط إلى الأبد، بعد انهيار أنموذج الدولة الوطنية في العالم العربيّ، يُعاد ترتيب العلاقة بين الأغلبية والأقليّات، والعلاقة بين الدولة والدّين، ومكانة المرأة، ودور الشريعة، وحقوق الأقليّات، على نحو قد يؤدي إلى انتهاكات جديدة لحقوق الإنسان في أعقاب انهيار الأنموذج القديم لإدارة الدولة.

ويقول الباحث سعد: إنّ علينا جميعًا «أن نفكّر في نموذج جديد لدولة مواطنة يتساوى في ظله الجميع ويتقبلون الاختلاف على أنه مصدر غنى. لا يعني دفاعنا عن التعدديّة عدم تشبثنا بالهُويّة الجامعة، أو رفضنا لها، بل إننا نسوق التنوّع بوصفه فكرة حامية للهوية الجامعة من التقسيم وانفراط عقدها، فبقاء الأقليّات في البلاد واختلاطها ببقية الجماعات، صمام أمان من تفكك البلاد إلى هويّات كبرى متصارعة على الحيّز المكاني والسلطة والثروة. يفتح الدفاع عن الحقوق الضامنة للتنوع والاختلاف فرصة لتجاوز الشعور بالاستضعاف وفقًا لمنطق العدد والمقياس الكمّي الأعمى، فترسيخ التمييز الإيجابي يجعل من الأقليات تتصرّف كأغلبية؛ أي بشعور مواطنة كامل، وهو ما يشيع أجواءً إيجابية ونفسية تدفع للتمسك بالهوية الوطنية، وبالكيان الأوسع».

ويضيف قائلًا: «فيما يخصّ تجربة بلد ثريّ بتنوّعه القوميّ والدّينيّ والّلغويّ مثل العراق، فإن تقسيم المنطقة على أساس الجغرافيا الإثنوطائفية سيكون الخاسر الأكبر فيه الأقليات الصغرى؛ مثل المسيحيين، والمندائيين، والإيزيديين، والشبك، والكاكائيين… وغيرهم، ويؤسس لمناطق بيوريتانية الهُويّة، ومثليّة الثقافة؛ كيان كرديّ، وكيان سُنّي، وكيان شيعيّ، يستبعد الأقليات الصغرى، أو يذوّب هوياتها. يؤسس الانتقال إلى ديمقراطية مستقرّة في العراق، ودول المنطقة على الاعتراف بأهمّية التعددية والتفكير بمعاني وإيجابيات التنوع الثقافي لخلق دولة تعترف بحقوق مكوناتها، وحق مختلف الثقافات في حفظ هويتها وتراثها وتميّزها عن ثقافة الأغلبية بوصفها حقوقًا محميّة على صعيد الاتفاقيات الدولية والدساتير الوطنية، وهو ما يمكن أن نطلق عليه تسمية أنموذج دولة مواطنة حاضنة للتنوّع الثقافي».

سياسات‭ ‬تعزز‭ ‬عدم‭ ‬قبول‭ ‬الآخر

خضر دوملي

خضر دوملي

وفي تناولٍ غير بعيد، يرى الباحث خضر دوملي عضو مركز دراسات السّلام وحلّ النزاعات بجامعة دهوك أنّه وفقًا للواقع ومعطياته «فإنّ عامل تهميش الأقليّات يُعدّ دائمًا عنصرًا لحدوث النزاعات، ولكن الحروب التي تشهدها المنطقة الآن ليست أسبابها الأقليّات، فأسباب الحروب الحالية تندرج ضمن عدم وجود العدالة الاجتماعية، وتشريعات تضمن حقوق المواطنين والمشاركة الفاعلة في القرار السياسي، وتلحق بها سياسات تعزّز عدم قبول الآخر المختلف، ومصادرة حقوق وحرّيّات الناس، وفرض الأفكار والرؤى الدينيّة عليهم رُغمًا عن إرادتهم. كما أنّ أحد الأسباب الرئيسة للحروب الحالية هي شكل الأنظمة الحاكمة وعدم إيمانها بالتعدديّة، وعدم وجود رؤية لديها في تعزيز التنوع، بل استخدام التنوع كعامل خوف للغالبية بأن الإقرار بحقوق -للأقليّات- سيقلل من مكانة الدولة والحكومة التي توظف الطابع الديني لمزيد من استغلال السلطة.

إن عدم إيمان الأنظمة في الشرق الأوسط بحقوق الآخرين – الأقليّة، في العيش بكرامة، يُعدّ، في رأي دوملي، سببًا رئيسًا لما يحصل اليوم من انتهاكات وتجاوزات واعتداءات على الأقليّات، «وصلت إلى جرائم الإبادة الجماعية كما حصل من تنظيم داعش ضد الإيزيدية في سنجار أغسطس عام 2014م من جرائم سبي النساء والقتل الجماعي وتدمير البنية التحتية وتدمير الهُوية الحضارية والدينية والتراثية، وهو ما حصل للمسيحيين أيضًا في الموصل وسهل نينوى والكاكائية أو الشبَك والتركمان الشيعة. لذلك فإن شعور الأقليّات بأن السّلطة تصادر حقوقهم أو لا تدافع عنهم، يكون سببًا رئيسًا لكي يهجروا البلد؛ لأنهم يشعرون بأن القانون لا يطبّق لصالحهم، وأبرز دليل على ذلك مثلًا، ووفقًا للمتابعات المستمرة أنه في السنوات العشر 2005 – 2014م رغم حصول عشرات الانتهاكات والاستهداف المستمر للأقليات في وسط العراق وجنوبه، فإنه لم تُحرَّك أيّة دعوى قضائية ضد المتّهمين، حتى إنّ بعض الذين ارتكبوا تلك الجرائم كانوا معروفين للضحايا».

ويوضح خضر دوملي أنّ ربط موضوع الأقليّات بالسيطرة الغربية على المنطقة «ديدن الأنظمة الفاشلة في سبيل تأجيج الأوضاع وزرع الفتنة حتى تبقى لمدة أطول في الحكم. ولذلك فإنّ التحرّك الغربي واضح دائمًا في دعم الأقليات في مواقع سكنها. ولكن في حال عدم استعداد الأنظمة والسلطات لتحقيق هذا التوجّه، يتحول نمط الصراع إلى فرض الإرادة على أنظمة الحكم وقد تتحول إلى فرض نظم سياسة جديدة من خلال نظام فرض الحماية الدولية لحماية الأقليّات، ولا يُستبعد أن يتحقق هذا الأمر في العراق بالنسبة للمسيحيين والإيزيدية». وحول فرصة المشاركة السياسية للأقليات في العراق، يشير دوملي إلى أنها لو استمرت مشاركة شكلية فإنها لا تحقق كثيرًا من الضمانة لبقائهم. لذلك فإنّ السّلطات مطالبة «بتغيير هذا النهج، والسّماح لأن تكون الأقليّات شركاء فعليين في إدارة الحكم والتربية والتوجيه للمجتمع؛ والقبول بهذا الأمر سيكون عاملًا مساعدًا لمزيد من الاستقرار في المجتمع».

وفي الرؤية الخاتمة فإن الأفق الحالي لموضوع الأقليات ضمن المشهد الحالي ينذر بأنّ «بقاءهم كأقليات حقوقهم ليست ضامنة بالشكل أو بالمستوى اللائق سيستمر مدة أطول. وعلى ما تقدم.. فإن تفكير السلطة، في أنّ التعامل بهذه الصّورة مع الأقليّات سيجدي نفعًا، أمرٌ خاطئ. فدون ضمانة حقوق الأقليات وتعزيز تلك الحقوق ومكانتها في المجتمع لن تشهد المنطقة الاستقرار، ولن تتوقف النزاعات».