التنمية والثقافة: مظاهر التداخل وحدود التأثير

التنمية والثقافة: مظاهر التداخل وحدود التأثير

تتخذ العلاقة بين التنمية والثقافة أشكالًا متعددة، وتتسم بخصائص غاية في التعقيد؛ لكن ما يبدو للعيان من أواصر تلك العلاقة هي مظاهر التداخل، وحدود التأثير لكل منهما في الآخر. قد تتشكل بعض مظاهرها في النواحي الشكلية للباس والمظهر أو التعاملات بين الأفراد والجماعات (في إطار الإيتيكيت)، وقد يكون لها أبعاد عميقة، وتنبني عليها التطورات الحياتية، وفهم التنمية المرغوب الحصول عليها.  ولكون اللغة أقوى عناصر الثقافة، وأكثرها شمولية على المستوى العام للمجتمع، والمستوى البيولوجي للفرد (في وظائف دماغه لتخزين العناصر، وتكوين عقله للتفكير في الأشياء وتصنيفها وتحديد علاقاتها به وبالكون)؛ فإن إطراء تلك المظاهر الشكلية بعناصر لغوية مؤثرة يزيد من الاعتزاز بها، وإدراجها في مراحل تنمية المجتمع بوصفها مكونات ثقافية. كما أن إدراج مصطلحات خاصة ببعض القيم، التي تعودت الجماعة على الإعلاء من شأنها، يجعل أفرادها ومستخدمي لغتها ينظرون إليها بوصفها مرجعيات أخلاقية في كل مفاصل الحياة. وهنا تبدأ التشكلات للحدود الثقافية، والتاريخ العرقي أو الديني أو حتى أدبيات بعض المهن وعدد من الفنون.

وفيما يمكن أن نطلق عليه التأثيرات المتبادلة، تبدأ تلك الخلفيات بالتأثير أيضًا في اللغة؛ فتُسهم تلك الرموز اللغوية، التي تحمل القيم المثالية في التأثير في مكانة النظام بكامله. والواقع أن قيم الفكر تستمد قوتها –بصورة مطلقة– من تكامل النظام اللغوي (شبكة العلامات الدالة)، الذي يصبح قابلًا للضعف كلما زاد عدد المضامين غير الواقعية فيه، مقارنة بالأنظمة اللغوية الواقعية المجاورة، المتداخلة معه في تنافس حضاري.

ويلاحظ أن القيم الناتجة عن الطباع السلوكية للفرد ترتبط بدوافع عملية تحكمها العلاقات أو المصالح المادية أو المعنوية. بينما ينساق المرء إلى القيم الموروثة بوصفها الطريق القويم للحياة السوية، وفي المقابل يرى أن ما خالف ذلك من قيم أو مناهج حياة أو سلوك ما هي إلا انحرافات غير جديرة بالاحترام. وعند التعامل مع تلك العناصر يلاحظ أن المرء لا يحتاج فيها إلى إبداء الأسباب لما يصنعه أو لما يتوقعه من الآخرين؛ لأن تصرفاته وفق منظومة القيم تكاد تكون بديهية، كأنها من طبائع الأشياء ونواميس الطبيعة. من أجل ذلك لا يستطيع من نشأ في بيئة معينة، عاش فيها طوال حياته، أن يحكم بموضوعية على القيم الموروثة، أو يقارنها بقيم بيئات أخرى؛ لأنه أولًا تشبّع بها بوصفها السبيل الوحيد لرؤية العالم من حوله على ما فيه، ثم الحكم عليه. وثانيًا لأن لغته قد تكوّنت وفق صيغ معينة ابتعدت فيها أنظمة العلامات من البؤرة، وصارت تلك العلامات أشبه ما تكون بالمنشورات الضوئية التي تتكسر عليها أشعة الضوء، فتُغير مساراتها.

وتختلف المجتمعات في تكوين موروثها تبعًا لاختلاف النماذج التي تحكم أطر العلاقات بين أفرادها؛ وهي نماذج تحدد مكانة العقل في تلك العلاقات، وتبرز من خلالها قيمة الفرد في بناء المجتمع وفي تكوين ثقافته. ويمكن القول مبدئيًّا على سبيل التقريب: إن الإطار العام في المجتمعات الغربية اقترن بنموذج الحداثة؛ مما أسهم في بروز قيم من مثل: الإعلاء من مكانة الفرد، وارتفاع مستوى العقلانية، ووضوح أطر المرجعيات بصورة دقيقة، بينما غابت تلك الأسس أو بعضها عن النماذج المستوردة في المجتمعات العربية، مما جعلها تمثل بناء طارئًا أو مؤقتًا. وإذا أُضيف إلى ذلك طبيعة المجتمعات المحافظة في شبه الجزيرة العربية، فإن أصل المشكلة في تلك المجتمعات يصبح ممثلًا في الضدية بين أنساق التحديث وأنساق التراث.

فمن السمات العامة للعقل العربي العودة دائمًا إلى نقطة انطلاق تتحدد بنص أو بشخصية تاريخية، مما يُخرج التفكير أو الحوار عن الموضوعية، ويُبعد المتلقي من فهم الموضوع ومتابعته. ولهذا فإن البنية التقليدية للشخصية العربية تتسم بسمات يسود فيها الافتخار بالذات، وعدم تقبل النقد الموجه إلى المجموعة، ورفض الإقرار بالأخطاء. يضاف إلى ذلك أن خوف الشخصية من النقد، وإحساسها العالي بالكرامة يجعلانها تمارس درجات متطرفة من المجاملة؛ بسبب الخوف من فقدان المكانة. ولهذا نجد هذه الشخصية تلجأ إلى الكلام المتصنّع، وتُحجم عن إعطاء معلومات غير سارّة. كل ذلك يجعل توجّه أفراد المجتمع نحو التقنية بما فيها من واقعية ودقة في المعلومات أمرًا في غاية الصعوبة. (بولس الخوري: التراث والحداثة: مراجع لدراسة الفكر العربي المعاصر، (بيروت: معهد الإنماء العربي، 1983م)، 249؛ 251). وتسمو في عمق الثقافة العربية صفة لها طبيعة الاستمرارية في مراحل الثقافة، وهي إعطاء قائل الكلمة أو العبارة أو المثل أو من تُنسب إليه أي منها دورًا في تقبّل مضمونها من دون معرفة خصال ذلك القائل، أو سمات الشخص المنسوبة إليه تلك العناصر. وقد تكون هذه الصفة أحد أسباب الاهتمام بقائلي أبيات الشعر المشهورة، أو محاولة التعرف على قصة المثل أو معرفة تفاصيل أحداث الحكاية الشعبية، لكي تصبح تلك الصفة موئلًا لنسبة العناصر اللاحقة التي تتلاءم مع مضمونها إلى ذلك القائل أو البطل الأسطوري.

كما تتطلع المجتمعات الحية إلى ترسيخ مكونات الثقافة في سبيل إعلاء مستوى التنمية، وهو أمر معروف ومشهود في تاريخ البشرية؛ لكن هل التطلع أو الرغبة يكونان كافيين لحدوث ذلك بطريقة فاعلة، وبأقصر الطرق وأسرعها وأكثرها نجاعة وأقل التكاليف؟ أم إنه لا بد من أن تتحقق شروط واقعية لتهيئة الظروف لذلك التوظيف الناجع، والمناسب لكل من الثقافة القائمة والتنمية المرغوبة؟ في إجابة تعتمد على التحليل المنطقي، ستكون المحصلة أن الشطر الثاني من السؤال هو الذي ستكون الإجابة عنه بالإيجاب. فكل المجتمعات لا بد أن تبحث عن مصادر القوة في الثقافة، من أجل توظيفها في رفع عوامل التنمية. ولنا في تميز ثقافة الإغريق القدامى مثل على ارتباط التنمية الناجحة بتوظيف الثقافة السائدة؛ فقد اعتادوا في عصرهم الكلاسيكي القديم من القرن السادس حتى الثالث قبل الميلاد على أن يسافروا مدة طويلة على الرغم من قسوة الظروف رغبة منهم في مشاهدة مسرحيات أو الاستماع إلى قصائد من الشعر في إبيداوروس ابتداءً من الفجر حتى الغسق لأيام طويلة وهم جالسون في صفوف محيطة بالمسرح.

وفي الحقيقة إن الإغريق ووارثي ثقافتهم في العالم الغربي الحالي يتمتعون بحس قوي بالفاعلية الشخصية (الإحساس بأنهم مسؤولون عن حياتهم، وأحرار في العمل حسب اختيارهم)، ونجد أن أحد تعريفات السعادة عند الإغريق هو أنها تتألف من قدرة المرء على ممارسة إمكاناته وقدراته، لتحقيق التميز والكمال في صورة حياة لا تعرف الضغوط والقيود. واقترن الحس الإغريقي بالفاعلية الشخصية بحس قوي بالذاتية الفردية؛ فرأوا أنفسهم أفرادًا متميزين لهم صفاتهم وأهدافهم المتباينة. (ريتشارد إي نيسبت: جغرافية الفكر – كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف… ولماذا؟ ترجمة: شوقي جلال. عالم المعرفة 312 (فبراير 2005م). الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ص ص 25 – 26.). ومن هنا كانت النماذج التنموية المعتمدة على قوى الفرد الذاتية هي الأكثر نجاحًا في اليونان القديمة، وفي الغرب الحديث.

فماذا عن مصادر القوة في الثقافة العربية؟ المتتبع لمكونات تلك الثقافة، التي استحوذت على مقومات تفكير العرب في أغلب حقبهم، يجد أن العنصر المشترك في المراحل المختلفة هو مبدأ «تقدير الزعيم» (أو القائد أو رئيس العشيرة ومن يتولى وظيفة مهنية أو روحية مهمة). لذلك كانت نجاحات بعض التجارب التنموية أو السياسية والعسكرية العربية مرتبطة بالبناء على تلك الخاصية عند الجماعة، التي التفّت حول شخصية قيادية متميزة في دورها، وكانت لها من سمات الكاريزما ما يؤهلها لأن تكون النموذج المطلوب للتقدير والطاعة.

مثلما أن طبيعة التعبير عن ذلك الإعجاب والتمثّل يكون لغويًّا، وبخاصة أن العرب يرددون بعض أقوالهم المأثورة وأشعارهم وأمثالهم وحكاياتهم بوصفها حقائق جازمة وحِكَمًا ثابتة. وهذا يقودنا إلى ما سبق ذكره من عناصر اندماج الثقافة في مكونات التنمية؛ من أن جزءًا كبيرًا من تلك العوامل لغوية الطابع. حيث إن عددًا كبيرًا من عوائق التنمية له جذور لغوية، أي أن أساس المشكلة يكمن في اللغة، لأن اللغة علاقة وجود وعلاقة حياة بأكملها؛ حياة الأمم والأفراد، وقد غدت التنمية اللغوية أساسًا للتنمية الثقافية، وضمانة نجاح للتنمية الشاملة والمستقلة. ومن أقوى المعوقات التي تتسم بها الثقافة العربية هي وضع الأشياء في غير موضعها؛ وعندما تستقر هذه الظاهرة من خلال مقولات شعبية يرددها الناس في كثير من أحوالهم، فإنها تصبح ثابتة الأثر في صنع معوقات في سبيل التنمية.

الدين والعلمانية.. المعنى وفضاء التأويل

الدين والعلمانية.. المعنى وفضاء التأويل

الدين والعلمانية، وجدل العلاقة بينهما، من أهم محاور التجاذبات الفكرية المعاصرة، وبخاصة بعد صعود الأصوليات في الشرق والغرب، ودخولها على خط المواجهة -صراحة أو ضمنًا- مع الزمن الحداثي الذي كانت العلمانية جوهر رؤيته ومصدر تصوراته، بل هي -في الغالب- الوسيلة والغاية في آنٍ. ولا يعني ارتفاع وتيرة الجدل حول هذه العلاقة بالتزامن مع صعود الأصوليات أن صراع الدين والعلمانية الذي احتدم في القرون الثلاثة الأخيرة سيعود من نقطة البداية، إنما يعني -في أهم ما يعنيه- أن ثمة انتفاضة دينية على النسخة السائدة من العلمانية؛ بغية تصحيحها بدرجة ما؛ لأنها (الانتفاضة الدينية/ عودة الأصوليات) ترى في هذه النسخة إقصاء أو تهميشًا غير منطقي وغير واقعي للديني؛ على الرغم من حضوره الفاعل والمؤثر، في السياق الفردي وفي السياق المجتمعي.

مع هذا، فالمسألة أعمق وأشمل؛ إذ على الرغم من أن مصطلح: «العلمانية» جديد نسبيًّا؛ فإن إشكالية الدين والعلمانية هي إشكالية قديمة قِدم الحضور الإنساني في التاريخ، ذلك الحضور الذي استلزم تشكل الظاهرة الدينية (أي دين، وبأي درجة) في المجال الدنيوي، الذي هو -ابتداء- التمظهر العلماني في الواقع. وتجذّر هذه الإشكالية في التاريخ لا يعني أنها كانت -في كل المراحل التاريخية- موجودة على هذا النحو الذي بدت -وتبدو- فيه الآن، إنما المقصود أن هناك توجّهًا لمعنى متجاوز للوجود المادي/ الواقعي/ الدنيوي، يصدر عنه تصورات أو معانٍ أو أفكار، تتماس -بالضرورة، وبشكل أو بآخر- مع هذا الوجود المادي، الذي ستؤثر هذه الأفكار والتصورات -أو تحاول التأثير- فيه، وسيتأثر بها لا محالة؛ بصرف النظر عن درجة هذا التأثير.

تحولات المعنى تاريخيًّا وجغرافيًّا

لا يتسع المجال هنا لبحث «ماهية الدين» من حيث هو «دين»، ولا بحث أصل التصور «العلماني»، وتحولات المعنى فيه تاريخيًّا وجغرافيًّا. لكن، نأمل أن تتضح الصورة -كما تتجلى في أطوارها التاريخية- بواسطة هذه الإشارات المقتضبة إلى تمظهرات الديني، في مقابل الحضور المادي/ الواقعي/ الدنيوي. فمنذ القِدم كانت هناك ثنائية: السماء والأرض، الآخرة والدنيا، الله والإنسان، النقل والعقل، الغيب والشهادة، رجال الدين، ورجال السياسة…إلخ، وهذه ثنائيات حاضرة منذ فجر التاريخ، متقابلة منذ فجر التاريخ، حاضرة على مستوى التصورات النظرية، كما هي حاضرة على مستوى الممارسات العملية، فدائمًا، وفي كل مكان تقريبًا، كان هناك من ينظر إلى السماء ليتجاوز عالم الأرض، أو من يرتبط بالأرض، بالوجود الطبيعي المباشر، متجاهلًا اللامرئي/ الماورائي. وفي السياق نفسه، كان هناك من يرى الدنيا/ الوجود المادي مجرد محطة عابرة في سفر طويل يتغيا «مقصدًا نهائيًّا» هو أسمى وأبقى، وفي المقابل، هناك من يراها هي المقصد النهائي المشهود، حتى لو كانت وجودًا عابرًا وهشًّا؛ سرعان ما يضمحل ويتلاشى.

لا يعني وضعنا هذه الثنائيات التي ترتد إلى عالَمَين مُتَمايزين، أو شبه متمايزين في حالة تَقَابل اختلافي، أنها كانت -بالضرورة- محكومة بعلاقات صراعية. بل على العكس، كان التداخل والتعاضد، بل تبادل الأدوار في بعض الأحيان، هو سيد الموقف؛ حتى إن كان الجدل النظري ربما أخذ كل طرف من أطراف هذه الثنائية إلى مداه الأقصى في الانفصال والتمايز، بل التضاد والاحتراب، ولو سِلْميًّا على مستوى: فضول الكلام.

عمومًا، وأيًّا كان الأمر، فلا بد من إيضاح أن هذا التقابل يكشف عن «نسبية التمايز»؛ بقدر ما يكشف عن الملامح العامة لظاهرة الدين من ناحية، والملامح العامة للعلمانية من ناحية أخرى. وبالتالي، يتضح أن مناقشة حالة: «التدين»، لا تنفصل -فهمًا- عن مناقشة حالة: «التَّعَلْمن»، وأن استحضار أحدهما؛ يستلزم استحضار الآخر بداهة. وهذا يَدُلّ -أول دلالة- على أن العلمانية بمجرد وعيها بذاتها/ بهويتها، فإنما تمارس الاعتراف بحضور «الديني» في الواقع، كما أن الدين بمجرد وعيه بذاته/ هويته إنما يعترف بحضور «العلماني» في الواقع، فهو دين، مقابل ما ليس بدين، أو ما لا يحكمه الدين. فلا يمكن -والحال كذلك- أن يعترف أحدهما بنفسه؛ إلا في حال كونه معترفًا بالطرف الآخر/ المقابل.

لكن، في هذا السياق يجب التأكيد على حقيقة أن «العلمانية» وما يلحق بها من أطراف تلك الثنائية، ليست فكرة قارّة/ مُستقرة؛ حتى يمكن ربطها بمعنى قارّ/ مُستقر. وكذلك «الدين» من حيث هو دين. والمقصود أن العلمانية كفكرة/ كتصور/ كتَوجّه، ليست هي ذاتها في كل مراحل التاريخ، وفي كل فضاءات الجغرافيا. هي متطورة، ومتغيرة، وأيضًا، متنوعة؛ وفقًا للثقافة التي تتموضع فيها. حتى العلمانية في صورتها المتأخرة (في القرنين: 19/20) ليست في سياق واحد ينتظمها، كما أن العلمانية الفرنسية، ليست هي -طبق الأصل- العلمانية الأميركية أو البريطانية، فضلًا عن العلمانية الشيوعية التي كانت سائدة في الاتحاد السوفييتي.

العلمانيات لا تتخذ موقفًا موحدًا من الدين؛ إذ بقدر اختلافها في تصور العلمانية، يختلف موقفها من الدين أو علاقتها بالدين. كذلك طبيعة الدين، من حيث فهمه/ تصوّره، هو ما يحدد الموقف من العلمانية، أو من العلمانيات (فـ«دين ما»، قد يتصالح مع «علمانية ما»، ويخاصم أخرى في الوقت نفسه). ولا ريب أن كل الذين انخرطوا في الصراع الديني – العلماني، إنما يعتقدون بـ«نوع من الدين» ضد «نوع من العلمانية»، أو العكس. ولا يمكن بحال أن يكون الصراعُ صراعَ «كل أنماط التدين» مع «كل أنماط التَّعلمن»؛ ليس فقط لأن تصور هذا الديني أو ذاك العلماني يختلف في الدرجة، وفي النوع، وإنما -أيضًا- لحتمية التفاعل بين نمطين من التصور، كل منها يريد الاستيلاء على أكبر قدر من الهيمنة المشروعة على الشأن العام.

يؤكد «التوجه العلماني» بكل تنويعاته على مركزية العقل الإنساني في تدبير المجال الدنيوي. وفي المقابل، يؤكد «التوجه الديني» على دور النقل (كمرجعية كُلية شمولية مستقلة، أو نسبية؛ باعتماد «المنقول» مصدر إلهام وتوجيه عام) في تدبير المجال الدنيوي؛ على اعتبار أن هذا المجال ليس مجرد فَصْلٍ في مسرحية أكبر، ليس مجرد رقم في معادلة أشمل، يؤثر فيها، بقدر ما تؤثر فيه. ومن هنا، لا يستطيع الديني/ النقلي تصوّر نفسه معزولًا عن تنظيم/ تدبير هذا المجال الدنيوي؛ إلا بأن يفصل الخلاص الأخروي عن كل صور الممارسات الدنيوية، وهذا -في بدهيات التصور الديني- من ضروب المُحال.

العقل الإنساني منتج واقعي

ليست مشكلة الاتصال/ التداخل بين هذين العالمين: الديني والدنيوي محصورة في تصور المتدين التقليدي عن حدود الفاعلية الدينية، فـ«العقل الإنساني» الذي يُراد له -في التصور العلماني- الاستقلال بتدبير الشأن العام، هو منتج واقعي بصورة ما، هو أداة محدودة بحدود العلاقة بين الطبيعة والإنسان. وهنا لا يجوز لنا أن ننسى أن الدين جزء من مكونات هذا الواقع الذي يصنعه الإنسان من خلال الطبيعة، أو تصنعه الطبيعة من خلال الإنسان. ومن حيث هو كذلك، فحتمًا، في العقل من الديني؛ بمقدار ما فيه من الطبيعي/ المادي، ومن الإنساني/ الفطري.

إن تصور العلاقة -في تفاعلها، وفي تمايزها- على هذا النحو النسبي/ الملتبس/ المتداخل من شأنه أن يُخفّف من حدة الموقف الديني من العلمانية التي تتغيا تحييد الاختلاف الديني في المؤسسات العمومية، كما من شأنه أن يخفف من حدة الموقف العلماني من الدين. فحتى أولئك الذين يريدون التخفيف من الصرامة العلمانية بجعلها محددة في: «فصل الدين عن الدولة»، وليس «فصل الدين عن الحياة/ عن الفضاء العمومي»، لا يستطيعون تحقيق ذلك بصورة قاطعة، تُنهي الجدل حول المحاور التفاعلية، على الرغم من أن ما قدموه يُعَدّ من أفضل ما يقال في هذا السياق.

هل يمكن فصل الدين عن الدولة بصورة قاطعة؟ بل هل يمكن فصل المؤسسات العمومية الدنيوية عن الدين بصورة قاطعة أيضًا؟ نعم، الفصل -من حيث المبدأ العلماني المجرد نظريًّا- هدف منشود. فالمراد تحييد المؤسسات العمومية؛ إن لم يكن من الممكن تحييد الدولة كلها ككيان. لكن صعوبة هذا الهدف لا تعني التخلي عنه، كما لا تعني أن تحققه -بمستوى ما- ليس في صالح المجال الديني أو الدنيوي. صحيح أن بعض التفاصيل ستبقى -بحكم التداخل/ التفاعل بين المجالين- محلّ جدل وتوتّر وشدّ وجذب لا ينتهي. لكن كل العلمانيات تجتهد في تحقيق الفصل بين الخطوط العريضة للديني والخطوط العريضة للمدني، وتبقى التفاصيل -وستبقى أبدًا- مجالًا لتجاذب الرؤى وصراع الإرادات.

التشكل السياسي ومهمة إدارة الشأن العام

إن أي تشكل سياسي مؤسساتي إنما يأخذ على نفسه مهمة إدارة الشأن العام، أو الإسهام في ذلك. ولا ريب أن الدين، من حيث تجليه في الممارسات الفردية، أو من حيث تجليه في ممارسات المؤسسة الدينية، هو جزء من هذا الشأن العام. ولا يمكن لأي فعالية سياسية أن تتجاهل الديني؛ من حيث هي مَعنيّة بتدبير فضاء يتضمن الديني. وتزداد صعوبة التجاهل؛ كلما كان الدين أكثر تأثيرًا وأبلغ حضورًا، سواء من حيث عدد الأتباع، أو من حيث نوعية التّدين. حتى تلك الممارسات السياسية المتعلمنة التي تحاول كبح جماح السلوك الديني المتطرف الذي تطال أضراره الفضاء المدني العام، هي تتداخل مع الفضاء الديني الخاص؛ بحكم اضطرارها لفهم الحالة الدينية -بكل ما يستلزمه الفهم من تواصل واشتباك- وتوجيهها بما يكفل تراجع خطرها عن المجتمع ككل -بكل ما يستلزمه التوجيه من تفاعل وتعاضد- حتى يتحقق الحد الأدنى من السلام. أيضًا، في المقابل، أي تشكّل ديني مؤسساتي، أو حتى شبه مؤسساتي هو تشكّل سياسي بالضرورة، سواء عَمِلَ بالسياسة على نحو مباشر، أو اكتفى بالتأثير في خيارات الناخبين، أو عمل كقوة ضغط على الجماهير ولو من بعيد. الدين لم يكن -ولن يكون- خارج سياق الفاعلية السياسية؛ لأن الدين له فاعلية -تختلف نوعًا أو كَمّا- في الشأن المدني العام. حتى عندما يكون الدين روحانيًّا خالصًا؛ فله -حتمًا- تمظهرات عامة/ غير فردية، تُمليها الواجبات الدينية، ولا يمكن تجاهلها؛ لأن للدين حُكمًا نافذًا على أتباعه، يفعلون -طواعية، وإن بإكراه ديني- ما يمليه عليهم، وإلا أصبحوا غير مؤمنين أو غير كاملي الإيمان.

وفي الأخير، نؤكد على أهم محاور التواصل الديني – العلماني، وهو أن الاتجاه/ التوجه العلماني ذاته -كحراك فكري وعملي- يُعيد بالضرورة تأويل الدين، ومن ثم صياغته، في الفضاء الذي يشتغل عليه، كما أن «التعلمن» في بيئة ما، لا يستطيع الاستقلال بهويته العلمانية عن الحالة الدينية السائدة، التي تفرض تأثيرها (ولو بردة الفعل المضادة) تبعًا لدرجة نفوذها. والمحصلة من وراء كل ذلك، أن العلمانية من حيث هي ضرورة لتحقيق العدالة في تصورها الحديث، مرتبطة بالدين الذي تقابله، وتتفاعل مع مُتعيّناته في الواقع. وكما أن لكل مجتمع دينًا أو مجموعة أديان تُؤطّره ثقافيًّا، فكذلك لكل مجتمع علمانيته أو علمانياته الخاصة التي تُقابل دينه/ أديانه. ما يعني أن العلمانية تُصنع تفاعليًّا، وأن «علمانية ناجزة» لا محل لها من الإعراب في الزمن الليبرالي الذي يحتضن المتنوع، وينبذ -في الوقت نفسه- كل الشموليات التي تحاول إلغاء كل الأصوات لصالح الصوت الواحد الذي يدعي امتلاك الحقيقة في كل مجال، وفي كل الأحوال.

لم يعد لأوربا ما تقدمه للعرب.. أطروحة بحاجة إلى التفات

لم يعد لأوربا ما تقدمه للعرب.. أطروحة بحاجة إلى التفات

العالم العربي ليس خاليًا من الأطروحات الجادة والمهمة على أقسامها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية وغيرها، لكن المشكلة مع هذه الأطروحات تكمن في واحدة من ثلاثة أمور تتصل وتنفصل، منها أننا لا نحسن طريقة التعبير عن هذه الأطروحات، فنقدمها بشكل باهت لا يلفت الانتباه لها. ومنها أننا لا نظهر هذه الأطروحات بثقة عالية، ولا نتعامل معها بهذه الثقة العالية، متمسكين بهذا الوصف، وصف الأطروحة وجازمين به، ومنها أننا لا نتنبه لهذه الأطروحات حين تظهر، فتمر من دون أن تعرف بالقدر الكافي، وتمضي وتنكمش من دون أن تحدث دهشة أو تأثيرًا.

تحصل هذه الحال، في الوقت الذي يتساءل فيه بعض: هل توجد أطروحات جادة في المجال العربي؟ وبطريقة أخرى من التساؤل المزدوج: لماذا لا توجد أطروحات جادة في المجال العربي؟ ولماذا تأتي الأطروحات الجادة من الخارج ولا تأتي من الداخل العربي؟ وفي إدراك بعض أننا بحاجة إلى أطروحات جادة تفتح لنا أفقًا، وتحرك ساكنًا، وتنشط نقاشًا، وتثير دهشة، لكن من دون الالتفات إلى الأطروحات التي تظهر أو حين تظهر عندنا وفي مجالنا. ومن الأطروحات المهمة التي بحاجة إلى التفات، أطروحة المؤرخ اللبناني الدكتور خالد زيادة التي حددها بقوله: «لم يعد لأوربا ما تقدمه للعرب»، وجاءت عنوانًا لكتابه الصادر في طبعته الأولى سنة 2013م، وفي طبعته الثانية سنة 2015م، وأراد منها في المنظور الكلي تغيير النظرة إلى أوربا من جهة، وتغيير النظرة لأنفسنا من جهة أخرى.

وعند النظر في هذه الأطروحة فحصًا وتأملًا، يمكن القول: إنها ترتكز على أمرين أساسين: الأول له علاقة بأوربا، والثاني له علاقة بالعرب، بشأن الأمر الأول، يرى الدكتور زيادة أن أوربا قدمت ما عندها من الأفكار الكبرى التي أثارت دهشة العالم، كالحداثة والديمقراطية والعقلانية والقومية والاشتراكية والليبرالية وحقوق الإنسان، ولم تعد أوربا كما كانت بالأمس مصدر إشعاع وإلهام وتأثير.

وبشأن الأمر الثاني، يرى الدكتور زيادة أن العرب قد ربطتهم علاقات طويلة بأوربا، واعتمدوا عليها، وأخذوا منها كثيرًا، وحان الوقت الذي يغيرون فيه المسلك والمسار، والاتجاه نحو الاعتماد على أنفسهم، والنظر إلى ذاتهم بعيدًا من سحر أوربا والارتهان والتبعية لها، وبات على العرب أن ينشئوا أفكارهم وألا يعتمدوا على أوربا.

خالد زيادة وأوربا

وما هو جدير بالإشارة أن هذه الأطروحة قد اتصلت عند الدكتور زيادة بسياق من البحث الفكري والتاريخي الممتد لعقود عدة، تطورت فيه وتراكمت المعرفة والخبرة، ومثل له حقل دراسة واختصاص علمي وأكاديمي، يرجع إلى سنة 1980م حين ناقش الدكتور زيادة رسالته للدكتوراه في جامعة السوربون الفرنسية، وكانت بعنوان: «المؤثرات الفرنسية على العثمانيين في القرن الثامن عشر»، وصدرت لاحقًا في كتاب سنة 1981م بعنوان: «اكتشاف التقدم الأوربي»، وفي سنة 2010م صدر الكتاب في القاهرة بعنوان آخر هو: «المسلمون والحداثة الأوربية»، وفي سنة 1983م أصدر الدكتور زيادة كتابًا له طابع الرصد والتتبع والتوثيق، حمل عنوان: «تطور النظرة الإسلامية إلى أوربا»، وتواصل عنده هذا الاهتمام ولم ينقطع، وتجدد مع هذه الأطروحة.

وأظن أن هذه الأطروحة لو جاءت من أحد الغربيين لكان لها شأن آخر، ولجرى التعامل معها بطريقة مختلفة، ولأخذت حيزًا أكبر من الالتفات، ولبالغنا في الاهتمام بها والانشغال كتابة ونقاشًا، ونقدًا وسجالًا، ولوجدنا فيها ما يثير الدهشة، هكذا جرَتِ الحال عندنا في العادة، فما يثير اهتمام الغربيين يحرك الاهتمام عندنا في الغالب، ولعًا بتأثير الغالب على المغلوب حسب المقولة الخلدونية القديمة.

وكنت قد ناقشت هذه الأطروحة من قبل، وتواصلت في هذا النقاش مع  الدكتور زيادة، وأعطيت هذه الأطروحة آنذاك صفة المقولة، لكني وجدت أنها تستحق صفة الأطروحة كذلك، وذلك لطبيعة السياق الفكري والتاريخي الذي اتصلت به.

سودير هازاريسنج

والجديد الذي أود لفت الانتباه إليه، هو أنني وجدت تأكيدات مهمة على هذه الأطروحة من الأوربيين أنفسهم، وهم يتحدثون عن حالهم الفكري والفلسفي والسياسي والحضاري، بشكل يشير إلى أن أوربا قد تغيرت صورتها في الداخل، ولم تعد بذلك الإشعاع الذي كانت عليه من قبل، بل لم يعد لها ما تقدِّمه لغيرها من الأمم والمجتمعات الأخرى، وهذا ما لم يشِر إليه الدكتور زيادة، ومثل نقصًا واضحًا في بنية أطروحته.

ومن أوضح هذه التأكيدات الفكرية والفلسفية وأبلغها، ما ذكره عضو الأكاديمية البريطانية الدكتور سودير هازاريسنج في مقالته المهمة المنشورة باللغة الإنجليزية في يونيو 2015م، وفي ترجمتها العربية في مجلة الثقافة العالمية الكويتية يناير- فبراير 2016م، بعنوان: «ما تبقى من الفكر المزدهر.. إلى أين انتهى الفلاسفة الفرنسيون العظام؟».

في هذه المقالة التي فاقت عشر صفحات حسب ترجمتها العربية، حاول الدكتور سودير الكشف عن حالة التراجع الفكري لفرنسا بصورة خاصة، وتأثير ذلك في أوربا بصورة عامة، وحسب قوله: «يعاني الفكر الفرنسي المعاصر الركود الشديد فعلًا، فالفلسفة الفرنسية التي قدمت تيارات فلسفية ومذاهب جسورة، اجتاحت العالم من قبيل: العقلانية، والنزعة الجمهورية، والفلسفة النسوية، والمذهب الوضعي، والفلسفة الوجودية، والبنيوية، لم يعد لديها إلا أقل القليل لتقدمه في العقود الأخيرة». وتعزيزًا لهذا الموقف، يرى الدكتور سودير أن الفكر الفرنسي لم يعد يمثل مرجعية مركزية للتقدميين حول العالم، فالثورات الاجتماعية التي أدت إلى سقوط الأنظمة الشيوعية في شرق أوربا، وتحدي الأنظمة السلطوية في العالم العربي، لم تستلهم التقاليد الفكرية الفرنسية، وهو ما يمثل فراغًا فكريًّا… وقد قرعت مجلة الأدب Magazine litteraire   أجراس الخطر بعنوان مفزع هو: «هل لا تزال فرنسا تفكر؟».

صورة فرنسا

وبالانتقال إلى أوربا، يرى سودير أن هذا التراجع الفكري لا يقتصر على فرنسا بمفردها؛ إذ على الرغم من نجاح الحركات الراديكالية الشعبية في الانتخابات مثل حركة سيرنيرا اليونانية وبوديموس، فإن تأثير حركات آفاق الإصلاحيين والتقدميين تضاءل عبر أوربا كلها منذ نهايات القرن العشرين، غير أن هذه الظاهرة تجلت بصورة حادة في فرنسا؛ لأن صورة فرنسا ارتبطت وجوديًّا مع التفوق الفكري، ومع الفرض القائل: إن الأفكار الفرنسية تحظى بجاذبية عالمية… ولكون الكيان الثقافي الأهم لفرنسا يمثل حالة فريدة في الثقافة الأوربية. وليس بعيدًا من هذا السياق كتاب السياسي الفرنسي جان شوفنمان الذي اختار له عنوانًا مثيرًا ولافتًا هو: «هل تخرج أوربا من التاريخ؟».

ويتصل بهذا السياق كذلك، صعود جماعات اليمين المتطرف في أوربا الذي قلب صورة أوربا في العالم، وكشف كيف أن أوربا تتغير من الداخل، وليس بعيدًا من ذلك إطلاق وصف العجوز على أوربا، هذه بعض الدلائل المهمة، ولا شك أن ما يعرفه الأوربيون عن أنفسهم أكثر بكثير، وهناك دلائل أخرى ستتكشف مع توالي الأيام، تجعل من الممكن القول: إن أوربا لم يعد لها ما تقدمه للعرب.

صورة المرأة في عصر النهضة

صورة المرأة في عصر النهضة

عصر النهضة العربية ابتدأ باللحظة التي التقى فيها الشرق بالغرب. صحيح أنه كانت هناك لقاءات بين الشرق والغرب إبان الوجود الإسلامي في الأندلس وإبان الحروب الصليبية لكنه كان لقاءً بين ندّين تقريبًا. أما في العصور الحديثة فالشرق هذه المرة يلتقي غربًا جديدًا عليه وأقوى منه؛ غرب الثورة الصناعية والتقدم العلمي والتطور الجيوسياسي والعسكري. ويمكن التأريخ له بغزو نابليون مصر في آخر القرن الثامن عشر. وكان هناك مفكرون وأدباء واكبوا هذا اللقاء الحضاري وعبروا عنه أبلغ تعبير، ونذكر منهم: رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وجمال الدين الأفغاني، وفرح أنطون، ومحمد عبده، وقاسم أمين، وينتهي هذا العصر برأيي مع النصف الأول من القرن العشرين عندما قام الضباط في مصر بقيادة جمال عبدالناصر بالانقلاب على العصر النيابي الليبرالي عام ١٩٥٢م.

هناك مسائل كثيرة ناقشها رواد عصر النهضة وكلها يمكن أن تجمع تحت سؤال واحد: لماذا تأخر العرب والمسلمون وتقدم الغرب؟! ومن الأسئلة الفرعية سؤال المرأة. فقد كان وضع المرأة الاجتماعي والقانوني حاضرًا لدى أغلبية -بل كل- رواد النهضة. وتنوعت أساليب الطرح وطرائق التحليل بينهم تنوعًا كبيرًا. ويمكن أن نميز في آرائهم بين محافظين يرون أن المرأة يجب أن تكون حبيسة المنزل تابعة للرجل، وبين مجددين يرون أن المرأة مساوية للرجل في الحقوق وفي الممارسة الاجتماعية وأنها حرة كالرجل. يعد قاسم أمين أبرز من دعا لحرية المرأة وكتابه «تحرير المرأة» أشهر من أن نعرف به. وقد أردفه كتابًا آخر بعنوان: «المرأة الجديدة». ويرى مارون عبود أن الكتاب الأتراك وأحمد فارس الشدياق سبقوا قاسم أمين في الدعوة إلى حرية المرأة (مارون عبود، الأعمال الكاملة: ج٢ ص ٢٦٦). وقد تحول النقاش حول المرأة إلى نقاش طويل حول كتاب قاسم أمين؛ فصار مؤيدو الكتاب هم ذاتهم مؤيدو حرية المرأة، ومعارضوه هم معارضو حرية المرأة. فها هو ذا محمد فريد وجدي يؤلف «المرأة المسلمة» ردًّا على كتاب أمين. وها هو ذا أحمد شوقي يرثي أمينًا مؤيدًا له ولأفكاره. يقول: جهلوا حقيقته وحكمة حكمه فتجاوزوه إلى أذى وضرار. و«أما الخصوم فرفعوا عقائرهم صادحين: كتب الحرب والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيولِ»!

أعداء المرأة

لنلق نظرة على خصوم المرأة أو أعدائها! وأشهرهم هو عباس محمود العقاد. هذا الرجل يوصف أحيانًا بأنه «ليبرالي!» وهذا صحيح جزئيًّا. فهو مؤمن أشد الإيمان بحرية الفرد وهو من أبرز دعاة الفردانية عند العرب. والفردانية هي إحدى ركائز الليبرالية. لكن موقفه من النساء يجعلنا نحذر من إطلاق النعوت والألقاب. يقول في «ساعات بين الكتب»: «ليس للمرأة في قرارة نفسها سعادة أكبر من سعادة الطاعة، ولا أمل أرفع من حب الرجل الذي تطيعه، وتلقي بنفسها لكل ما فيها من ذخر حلاوتها بين يديه، وليقسُ الرجل عليها أو يرحمها ويعذبها.. فإنها لسعيدة بالطاعة»(الأعمال الكاملة، مجلد ٢٦، ص ٣٣). ولا أدري كيف عرف العقاد ما في قرارة المرأة؟! ولا أدري كيف جرؤ على التحدث باسمها في شيء من أخص خصائصها وهو خلجات النفس واعتمالات العقل! ويبدو أن العقاد يتصور المرأة كائنًا «مازوخيًّا» يتلذذ بالعذاب والمهانة. ويقول: «لو أن المرأة وجدت الرجل الذي تحب فإنها سوف تكفر بالحقوق والمطالبات، ولما قام للحركة النسوية قائمة». وكل كلام العقاد عن المرأة هو أمر لها بالطاعة العمياء للرجل «فالمرأة خُلقت لتعطي والرجل خلق ليأخذ منها كل ما تعطيه، خلقت المرأة للطاعة وخلق الرجل للسيادة».(ص٣٤). هذا الكلام المشين الصادر من رجل يفترض أن يكون مفكرًا حرًّا وأديبًا قاد ثورة من أعظم الثورات الأدبية يعد سقطة مدوية، ولا أظن أن العقاد كان له بعد نظر واستشراف للمستقبل وإلا لعرف أنه سيأتي يوم يلفظ الناس فيه كلامه هذا كما يلفظون الطعام الفاسد.

في كتاب «فتاوى الأدباء» يقرر جميل صدقي الزهاوي- وهو معروف بتأييده للسفور: «قلت: هل في السفور خير يرجّى؟ – قال خير من الحجاب السفورُ- إن الرجل والمرأة كجناحي الطائر ولا يمكن للطائر أن يطير بحناج واحد» (ص١٢٢). يتفق معه أحمد أمين فيقول: الرجل لوحده ناقص والمرأة لوحدها ناقصة وهما معًا إنسان كامل.(فيض الخاطر، ج ١، ص٢٦١). لكن أحمد أمين لا يلبث أن يعود فيتحيز للرجل إذ يؤكد أن الرجل أكثر سعة في العقل وفي الخيال من المرأة، وأنه لم يكن هناك نساء في الفلسفة ولا في النبوة! لكن مارون عبود يؤكد أنه كان هناك نساء «نبيات» في عهد بني إسرائيل. فهناك «حنة» و«دبورة» وغيرهما، وأن الأديان تساوي المرأة بالرجل!(عبود، الأعمال الكاملة، ج٣، ص١٢٣-١٢٤، وانظر أيضًا ج ٨، ص ٨٠٣). أحمد أمين في موقفه من المرأة مضطرب ومتناقض. فرغم أنه يؤكد أن المرأة لم تتح لها الفرص التي أتيحت للرجل وإلا فإنها كانت ستتفوق في الشعر والفكر والسياسة.. فإنه يعود فيقرر أن الخصائص التي للمرأة هي خصائص طبيعية فطرية لا تقبل التغير.. ويقصد بهذه الخصائص: ضعف المرأة مقابل قوة الرجل في العقل والخيال والتمرد ويستشهد بأن رجلًا قاد ثورة تحرير المرأة وهو قاسم أمين ثم تبعته المرأة (هدى شعراوي). (فيض الخاطر،ص ٢٦٣).

ومن أسف أن أحمد أمين كالعقاد يعد مفكرًا ليبراليًّا مؤمنًا بالحرية. لكن تحيزه الذكوري خذله، في حين غرور العقاد هو من خذله. وأما رفيق العقاد، عبدالقادر المازني فليس أفضل حظًّا من صاحبه؛ فموقفه من المرأة سلبيّ. فهي ثرثارة والرجل صموت. و«لا تصمت المرأة إلا إذا عجز لسانها عن الجري وانقطعت أنفاسها لأن الكلام لا يكلفها نصبًا عقليًّا!».(قبض الريح، ص١٢٧). أما زعماء الليبرالية الأصلاء كأحمد لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين وولي الدين يكن وغيرهم فموقفهم واضح وجليّ ولا تذبذب فيه. فولي الدين يكن في «الصحائف السوداء» يؤيد موقف قاسم أمين، وكذلك سعد زغلول، وهناك مفكر لم يشتهر ويدعى محمد عمر وله كتاب «حاضر المصريين أو سر تأخرهم». أُلِّف سنة ١٩٠٢م. وفيه دفاع قوي عن المرأة وحقوقها وحريتها. يرى أن إبعاد النساء من المشاركة الاجتماعية يفضي إلى انحطاط المجتمع، ويأسف هذا المفكر على أن من عارض قاسم أمين «ليس من فئة الأميين وسطحيي المعارف بل من الفئة الممتازة؛ فئة العلماء»(ص ١٦٤). ويرى أن المعارضين هم «عراقيل وقتية لا تستطيع مقاومة قوة الحقائق». (ص١٦٥).

هؤلاء المعارضون لحقوق المرأة هم ممن غلبت عليهم المحافظة في كل شيء: في الفقه والأدب والفكر والسياسة. فها هو ذا مصطفى صادق الرافعي، أبرز المحافظين، يرى أن المرأة كائن مغاير للرجل، وأن لكل جنس دوره الخاص به ويحذر من «فساد الأنوثة» الذي تدعو له حركات التحرر (فتاوى الأدباء، ص١٣٩). ويتفق معه أمين واصف الذي يعد تحرر المرأة ومساواتها بالرجل في الحقوق مرضًا من الأمراض الاجتماعية المعضلة (نفسه، ص ١١١). وأما عبدالوهاب عزام فهو محافظ ويرفض حرية المرأة ويردد الأسطوانة المشروخة وهي أن المرأة مصونة مكرمة وأنها ليست في حاجة للمشاركة الاجتماعية والسياسية. (نقلًا عن: عبداللطيف شرارة، معارك أدبية، ص٣٨٣).

المحافظة المقنعة

لكن هناك مفكرين وأدباء وقفوا موقفًا وسطًا. وبرأيي أن الوسطية في مسائل كهذه هي ضرب من المحافظة المقنّعة! فأسعد داغر مثلًا يدعو للاعتدال ونبذ تقليد المرأة الغربية (نفسه، ص٣٧١). والغريب أن شبلي شميل صاحب مذهب النشوء والارتقاء وقف هذا الموقف المتخاذل فيرى أن الرجل -فسيولوجيًّا ونفسيًّا- أفضل من المرأة ويدعو لوسطية مهلهلة: فليس علينا أن نحتقر المرأة كما فعل شوبنهاور ولا أن نبالغ في تعظيمها كما فعل ديدرو! ويرى أن المرأة «تابعة للرجل في ارتقائه» ( شميل، المقالات، ص ١٠٤).

ما سبق كان ملخصًا سريعًا لأبرز الآراء التي طرحها مفكرو النهضة وأدباؤها. وقد اقتصرت على آراء الرجال لتخصيص الموضوع وإلا فإن هناك نساء مفكرات وأديبات ممن دعا لحرية المرأة مثل هدى شعراوي وصديقتها سيزا نبراوي وسهير القلماوي وصفية زغلول (زوجة سعد زغلول) وأمينة السعيد وغيرهن. فالمقام لا يسمح بذلك وسوف أخصص لهن مقالًا منفردًا في قابل الأيام. لقد شهد تاريخ العالم الحديث أن كل البلدان المتقدمة في كل المجالات هي البلدان التي أعطت المرأة الحقوق كافة، ولم تنتقص منها ومن دورها، ولم تجعلها حبيسة المنزل وحبيسة العادات والتقاليد. فهوية المرأة تكمن في أن تتحرر من الأصفاد، وأن تكسر القيود وأن تصبح عضوًا فاعلًا في المجتمع، ولن يتحقق هذا وهي مطمورة تحت ركام من التقاليد البالية والعادات الظالمة والتأويلات الدينية المتحجرة.

كيف يمكن إدخال قضايا التربية في الجدل الثقافي؟

كيف يمكن إدخال قضايا التربية في الجدل الثقافي؟

   هذا المقال يبدأ من الملاحظة التالية: مناقشة القضايا التربوية تكاد تكون محصورة في السياقات الأكاديمية أو السياقات التكنوقراطية والتقنية. أعني بذلك أن مناقشة القضايا المتعلقة بالتربية لا تكاد تحظى باهتمام حقيقي من السياقات الثقافية بدليل محدودية طرحها في الصحف والصوالين الثقافية والقنوات الثقافية وهي المواقع التي تعبر غالبًا عن اهتمامات الوسط الثقافي. في مقارنة بسيطة مع القضايا الأدبية والدينية والسياسية نجد أن حضور القضايا التربوية محدود جدًّا في ساحات التعبير العمومي التي عادة ما تعبر عن وتستقطب اهتمام الجماعات الثقافية في مجتمعنا. في هذه المقالة سأحاول البحث عن تفسير لهذه الظاهرة، ثم سأحاول أشكلة هذه الحالة، وبعد ذلك أقدم مقترحًا لإدماج القضايا التربوية في الاهتمام العمومي – الثقافي في المجتمع.

لكن قبل ذلك لا بد من الحديث بشكل تفصيلي عما أعني بالقضايا التربوية. القضايا التربوية ببساطة هي كل القضايا المتعلقة بالعلاقات التربوية. التربية هنا تستعمل بمعناها الواسع لتشمل القضايا المحيطة بالتواصل البشري، ونقل الخبرات في الأسرة والمدرسة والمجتمع. هذه القضايا تنطلق من الطبيعة الأخلاقية للعلاقات الأولية كعلاقة الطفل بأمه، وعلاقة المعلِّم بطالبه، وعلاقة الأفراد بعضهم ببعض في المجال العام. القضايا تتسع كذلك لكل ما يؤثر في تلك العلاقات من الطبيعة الفكرية المنظمة لتلك العلاقات، المؤثرات السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية على تلك العلاقات. التربية بهذا المعنى يمكن أن تدرس فلسفيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا… إلخ. إذا كانت التربية بهذا المعنى المتصل بالسياقات الأخرى ذات الحظوة في الاهتمام الثقافي، فما الذي يجعلها تتوارى عن واجهة النقاشات في الوسط الثقافي؟

  هذا التحليل لا يمكن أن يتجاهل الاهتمام بإصلاح التعليم والمناهج الدراسية الذي اجتاح الجدل الثقافي السعودي ابتداءً من ٢٠٠٣م، وإن كان قد أخذ في الخفوت مؤخرًا. الاهتمام كان حقيقيًّا بالتأكيد، لكنه يمكن أن يعبِّر عن التربية حين تتحول إلى سياسية، وبالتالي هو اهتمام سياسي في الدرجة الأولى. السياسي تعنيه التربية بالتأكيد، لكن اهتمامه بها يختلف عن اهتمام التربوي بها. السياسي تعنيه التربية كأداة لتحقيق أهداف كبرى متعلقة بالدولة والنظام السياسي وخطط المستقبل. التربوي في المقابل مشغول بالتربية كتجربة يومية يعيشها ملايين البشر لها معناها وقيمتها بغض النظر عن الخطط السياسية للمستقبل. التربوي يشاهد النقاش السياسي للتربية كنقاش مهم وجوهري لكنه محفوف بمخاطر الانجرار للصراعات الحزبية على حساب الموضوع التربوي. التربية في الأخير تعني كذلك كائنات ليست حتى الآن أطرافًا في الصراعات السياسية (الأطفال) وليس من العدل أن يفكر في قضاياهم وحقوقهم من منظور سياسي بحت. الآن أنتقل لمحاولة تفسير ضعف حضور التربية في الساحة الثقافية السعودية:

  في التفسير

قضايا-التربيةسأبدأ محاولة تفسير الظاهرة أعلاه من خلال حوار سريع جمعني مع أحد المثقفين الكبار في السعودية حيث كنت أطرح أمامه مقترحًا بمناقشة قضية تربوية في محاضرة ثقافية عامة. قال لي: «هل ستكون عن رواتب المعلمين والمعلمات؟». العبارة تحمل إحالة للقضايا التربوية بوصفها قضايا تقنية تنظيمية يهتم بها التكنوقراط في الوزارات وليست بهذا المعنى مجالًا للنقاش الثقافي. صحيح أن لكثير من القضايا التربوية جوانب تقنية مثلها مثل أي مجال آخر، لكن هذا لا يعني أن تستغرق الجوانب التقنية كل الاهتمام. مثلًا قضايا رواتب المعلّمين والمعلمات يمكن أن تدرس وتناقش بوصفها قضايا عدالة.

أي: إن سؤال العدالة، وهو أحد الأسئلة الفلسفية الرئيسة، يمكن أن يفتح تربويًّا من خلال رواتب المعلمين والمعلمات. هل تعكس الرواتب مساواة بين الذكر والأنثى؟ هل تعكس الرواتب تصورًا معينًا للعدالة التوزيعية التي تتبناها الوزارة؟ أيّ أولويات تعكسها تلك الرواتب؟ هل لدى المعلمين والمعلمات مساحة من التعبير تكفل لهم مناقشة عدالة المقابل الذي يحصلون عليه؟ لماذا تنتشر بين الناس فكرة أن المعلمين والمعلمات يأخذون أكثر مما يعطون؟ ما آلية توزيع ميزانية التعليم على المدارس، وما دلالة هذه الآلية على العدالة؟ هل يصرف أكثر على الفئات الأكثر حاجة أم أن التمييز الإيجابي يتوجه لمن هم أفضل حالًا كالموهوبين؟ هل تأخذ المدارس في الأحياء الفقيرة مثل ما تأخذه المدارس في الأحياء الغنية؟ إلى أيّ مدى هناك مشاركة من المجتمع في ميزانية المدارس وآلية توزيعها؟ كل هذه الأسئلة يمكن أن تشغل النقاش الثقافي خارج الشروط التقنية التي تبدو تفصيلية جدًّا وخارج اهتمام المهتم العام. من النقاش أعلاه يمكن القول: إن أحد أسباب خفوت حضور القضايا التربوية في النقاش الثقافي هو إعطاء تلك القضايا مفهومًا تقنيًّا يجعلها حكرًا على التقنيين أهل الاختصاص الدقيق.

  السبب الثاني برأيي: هو ضعف الاهتمام بالقضايا الأخلاقية بشكل عام؛ مما يجعل القضايا التربوية التي هي أخلاقية بشكل عام، تغادر مناطق المركز في النشاط الثقافي. أحد أسباب تجنب المثقفين للقضايا الأخلاقية أنهم يخشون من الوقوع في إصدار توجيهات للآخرين، كما هي الحال في الفهم التقليدي للأخلاق. تقليديًّا الأخلاق تفهم بمعنى مجموعة من التعليمات التي تطرح للناس لكي تكون قائدة وموجهة لسلوكياتهم: كيف تلبس، وكيف تشرب، وكيف تعامل الآخرين. في المقابل فإن الفهم الفلسفي للأخلاق ليس معنيًّا بإعطاء توجيهات بقدر ما هو مشغول بوصف وتحليل ودراسة العلاقة بين الذات والآخر. العلاقة بين الذات والآخر قد تأخذ شكل الهيمنة، وقد تأخذ شكل الحوار والشراكة، وقد تأخذ شكل العزلة والاغتراب، وقد تأخذ شكل الضيافة. هذه الفضاءات المختلفة من وجود الذات مع الآخر هي لبُّ التفلسف الحديث في المبحث الأخلاقي، لكنها تكاد تختفي من فضاءات الجدل الثقافي المحلّيّ. إلى أي الفضاءات السابقة تنتمي العلاقات التربوية لدينا؟ هل علاقة الذات بالآخر تعبر عن الوجود من أجل الذات (الهيمنة – العزلة)؟ أم الوجود -مع- الآخر (الحوار والشراكة) أو الوجود -من- أجل الآخر كما في (الضيافة)؟ بهذا المشكلة تكون إشكالية التربية في الفضاء الثقافي هي إشكالية السؤال الأخلاقي وغيابه الكبير.

  أحد التفسيرات المحتملة يستمد صلاحيته من الصورة الكبيرة للتقسيم التقليدي للشؤون الاجتماعية حيث يحصر التربية في حدود المنزل والمدرسة، ويجعلها حصرًا من مهام النساء. وبصفة أن الفضاء الثقافي ذكوري إلى درجة كبيرة، فإنه من الطبيعي أن يزيح قضايا التربية للمساحات الخلفية. في محاضرة قدمتها مؤخرًا في جمعية الثقافة والفنون بالرياض بعنوان: «التربية كضيافة» كانت المداخلات النسائية مختلفة. كثير من الحاضرات داخلن بخبرة التعليم وخبرة الأمومة وخبرة العطاء. خبرة العطاء تحديدًا جوهرية للتعاطي مع التربية أو بالتالي للدخول في الأفق التربوي. التربية لكل من عمل بها بحق يمكن التعبير عنها بأنها الوجود -من- أجل الآخر أو أفق العناية بالآخر. لذا فهي ضد لمنطق الأنانية الذي جادلت أنه جوهري في الصورة النمطية للمثقف. في قراءة هيثم حسين لكتاب «حليب أسود» لإليف شافاق تعبير عما أريد أن أقوله هنا:

يقول: هيثم: «تشير شافاق إلى أن الروائي بصورة ما أناني، وعليه أن يكون كذلك؛ كي يستطيع إنجاز أعماله التي تتطلب منه نوعًا من العزلة، أما الأمومة فأساسها العطاء. وتجد أن الروائي يبني غرفة صغيرة داخل ذهنه، ويقفل الباب عليه؛ كي لا يدخل عليه أحد.

يخبئ هناك أسراره وطموحاته عن كل الأعين المتطفلة. أما الأم فعلى كل أبوابها ونوافذها أن تكون مشرعة صباحَ مساءَ، يستطيع أبناؤها أن يدخلوا من أي مدخل يختارونه، والتجول حيث ما طاب لهم ذلك، فليست للأم زاوية لأسرارها». المربية والمربي أقرب لنموذج الأم هنا، فالعزلة بالنسبة لهم خيار صعب جدًّا. الوسط الثقافي يعزز في أفراده الانشغال بالذات والحرص على إنجازاتها وإبداعها وحضورها المستمر. في المقابل التربية عالم من الغيرية حيث يتوجه اهتمام الإنسان فيه للآخر، لرعايته والعناية به. التربية ليست مجالًا للنجومية بل للتضحية. قد يكون هذا سببًا لتواري التربية عن الساحة الثقافية المحلية.

السبب الرابع يعود برأيي إلى كون الحساسية عالية جدًّا تجاه التغييرات المقترحة في المجال التربوي. المجال التربوي بطبيعته محافظ خصوصًا فيما يخص العناية بالأطفال الصغار، وهذه المحافظة تأخذ أبعادًا أوسع وأشرس في المجتمعات المحافظة بالمعنى الأيديولوجي للكلمة. هذا الفضاء غير مضياف للجديد والمختلف والمفاجئ. هذا كله يزيح التربية في مساحات أبعد عن الاهتمام المشغول بالتغيير والإبداع والتجديد.

في الأشكلة

  النقاش أعلاه كان يدفع باتجاه أشكلة غياب التربية عن الجدل الثقافي العام، لكن يمكن التأكيد على النقاط التالية: غياب التربية بهذا الشكل يحرم التربية من الآراء المتنوعة التي غالبًا ما يوفّرها الجدل العمومي. كذلك هذا الغياب يحرم التربية من الرؤى النقدية التي عادة ما تتوافر لدى المهتمين خارج الاشتغال الدقيق والتقني بأي مجال. هذا كله يعني أن تُدَار الشؤون التربوية بعيدًا عن طبيعتها الاجتماعية. إشكال جوهري آخر يتمثل في كون غياب التربية عن المجال الثقافي يحرم التربية من أن تكون مجالًا جذابًا ويتركها مجالًا رحبًا لمن يسعى لتحقيق مكاسب وظيفية محدودة في النفع الشخصي.

البديل

النقاش أعلاه اقترح أربعة أسباب رئيسة لضعف حضور التربية؛ السبب الأول: يعود للفهم المحدود لقضايا التربية بوصفها محصورة في الشؤون الإدارية والتنظيمية للمدارس. السبب الثاني: يعود إلى ضعف حضور القضايا الأخلاقية وقضايا العدالة بشكل عام في المجال العام المحلي. التربية بوصفها مجالًا أساسيًّا للاهتمام الأخلاقي تتوارى كنتيجة لتواري البحث الأخلاقي. السبب الثالث: يعود إلى ذكورية المجال العام؛ مما يعني إزاحة التربية وهي مجال أنثوي بامتياز من دائرة الاهتمام. السبب الرابع: يشير باختصار للمحاذير المحافظة التي تحيط بالتربية بشكل عام، وبالتالي لا ترحِّب بأطروحات التغيير والتطوير. إذا كان التحليل أعلاه دقيقًا، فإن ما يمكن اقتراحه لإدخال التربية في محور اهتمام الوسط الثقافي سيدور حول ذات المحاور. على أهل الاختصاص في التربية الحديث عن القضايا التربوية بالمعنى الواسع للكلمة. ما يلاحظ على كليات التربية في الجامعات أنها لا تعزز هذا التواصل بين المتخصصين فيها والمجتمع بمفهومه الأوسع.

الكليات ذاتها تعزز الانحسار في البعد المدرسي للتربية. المقترح الثاني يدور في أفق تعزيز التفكير الأخلاقي في النقاش العمومي. هذا يتطلب إعادة التفكير في معنى الأخلاق ذاتها وإخراجها من دائرة الأخلاق بمعنى إصدار التعليمات والتوجيهات. الجدل الأخلاقي بالمعنى الفلسفي للكلمة جذاب للتفكير وحافز إلى المشاركة العامة. قضايا مثل حدود الحرية والمسؤولية الأخلاقية وحضور الآخر في علاقته مع الذات تمسّ عصب الحياة اليومية للناس. المقترح الثالث يدفع باتجاه تعزيز المنطق الأنثوي أو المنطق الغيري بشكل عام كمنطق مساهم في المجال العام.

مشاركة أوسع للمرأة في الجدل العام يمكن أن تدفعنا باتجاه الانفتاح على قضايا التربية في المجال العام. كذلك من المهم مناقشة الصورة النمطية للمثقف والمثقفة بوصفهما كائنات مشغولة بذاتها وبإبداعها وحضورها الشخصي التي تدفع باتجاه الصورة الأنانية وهي بطبيعتها ضد تربوية. العامل المحافظ يحتاج لنقاش مستقل، لكن من المهمّ جدًّا للمهتمين بالتجديد في المجال التربوي أن تتحد أطروحاتهم بمنطق الحب والاحترام للآخرين؛ لكي لا تستفز خصومتهم من دون داعٍ. العبء هنا يقع على المهتم بنقد وتجديد الشأن التربوي في تفهم وتقدير مشاعر الناس الحريصة أولًا وقبل كل شيء على تأمين أطفالهم، والتأكيد على أن تربيتهم تتم في فضاءات مطمئنة.