المرأة والنساء في ضوء دراسات الجندر

المرأة والنساء في ضوء دراسات الجندر

إذا كانت اللغة منزل الوجود كما قال هيدغر ذات مرة، فهذا يعني أنّ اللغة تكون قد سبقتنا دومًا إلى ما نعتزم التفكير فيه، ولا سيّما إذا كان مشكلًا ليس فقط يتعلّق في نواته العميقة بهويّة أنفسنا، بل على الخصوص بذلك الجزء المسكوت عنه من الإشارة عندنا إلى «الإنسان» بعامة بقولنا: «هو» وليس «هي». فنحن نتكلّم لغة(1) هي قد تعوّدت من دهرها أن تعتبر أنّ «الذكر» هو أصل «التجنيس» في التعبير عن صيغة الجمع: إنّ أنثى أو أكثر إذا دخلت على جماعة من الذكور لا تغيّر من جنسهم (النساء والرجال قائمون)؛ في حين أنّ ذكرًا واحدًا يمكنه أن يذكّر جماعة من الإناث (الفتيات والولد قدموا). إنّ الإناث لا تكون إناثًا صرفة إلّا في غياب الذكر. أمّا الذكور فإنّهم لا يُجمعون جمع المؤنّث أو يُفردون إفراد المؤنّث إلّا إذا كانوا ذكورًا «غير عاقلة». وتعريف «غير العاقل» هو كلّ ما ليس إنسانًا. وهكذا تبدو اللغة العربية وقد حسمت أمرها «نحويًّا» فيما يتعلق بمعنى «الفرق بين الجنسين» بحيث تصبح مساحة التفكير الأخلاقي في المسألة ضيّقة جدًّا أو هكذا يبدو.

ثمّة أطروحة أولى علينا بسطها: لا تكون الأنثى أنثى صرفة نحويًّا إلّا في غياب أيّ مخالطة لها مع الذكر. وفي المقابل لا يمكن تأنيث الذكور نحويًّا إلّا إذا كانوا غير عاقلين أي لم يكونوا بشرًا. إنّ النحو قد بلغ شوطًا مربكًا في رسم خطّ هوويّ بين الذكور والإناث بحيث لم يبق أمام الفقه بعد ذلك سوى استنباط القيم التي تتساوق مع هذه الحدوس اللغوية الصامتة أو البدائيّة، المعطاة سلفًا للمخاطبين والمتكلّمين. كأنّ النحو قد أمرنا سلفًا بحصر الإناث في دائرة هووية مغلقة في حين أنّه سمح للذكور بإمكانية الولوج إلى هذه الدائرة بل بإمكانية «تذكيرها» من دون خوف يُذكر على هويته. وعلى الباحث أن يحلم عندئذ بأنّه قد يمكن يومًا بناء لغة محايدة إزاء التأنيث والتذكير(2). وعلينا أن نسأل: هل يمكن فعلًا تحرير اللغة العربية من طابعها الذكوري؟ وماذا لو أنّ هذا الطابع هو سمة أنثروبولوجية لا تخلو منها اللغات السامية بعامة؟ أو اللغات القديمة جميعًا؟ قد لا نعثر لأوّل وهلة على تعريف «نحوي» صلب لدلالة المذكّر أو المؤنّث أكثر من اسم الإشارة إذْ يُعرّف المذكّر بأنّه «ما يصحّ أن تشير إليه بقولك: «هذا»، مثل رجل، كتاب»؛ كما يُعرّف المؤنّث بأنّه «كل اسم دلّ على مؤنث، ويُشار إليه بــ«هذه»، نحو: هذه الشجرة»(3). وهذا اصطناع نحويّ لا يوحي بأيّ تأسيس أخلاقي.

أمّا من ناحية لغوية فإنّ فقهاء اللغة يؤسّسون تأويلات أخلاقية يقدّمونها على أنّها طبائع لغوية للذكور والإناث ومن ثَمّ للرجال والنساء، وأخيرًا للمجتمع برمّته. إنّ لسان العرب مثلًا، لا يثبت من المعاني المحايدة في تعريف الجنسين سوى مجرّد التناسب: فتعريف الذكر ليس سوى هذا: «الذكر خلاف الأنثى»؛ وفي المقابل فإنّ تعريف الأنثى ليس سوى هذا: « الأنثى خلاف الذكر من كل شيء»؛ أمّا بقيّة التعريفات في الحالتين فهي تحمل أحكامًا أخلاقية مربكة في التذكير والتأنيث تبلغ حدًّا مزعجًا بحيث تهدّد بتدمير هويّة الأنثى وتؤسس لعلاقة ذكورية متسلطة لا غبار عليها. فيُقال «يوم مذكّر» إذا وُصف بالشدة والصعوبة وكثرة القتل؛ و«طريق مذكّر» أي مخوف صعب، في حين يُقال: «سيف أنيث» أي الذي ليس بقاطع، و«الأنيث من الرجال» المخنّث، بل إنّه يُقال للموات الذي هو خلاف الحيوان: «الإناث». لكنّ ذلك لا يعني أيّة دعوة للمرأة قد تتشبّه بالذكر، فإنّ العرب تلعن «المرأة الذَّكِرة والمذكَّرة والمتذكِّرة». ذلك أنّ الذكورة هي شأن خاص يحتكره الذكور، ويُمنع على المرأة المزاحمة أو الطمع فيه. ليس ذلك من باب عداوة المرأة أو الأنثى بل من باب أنّ العرب قد خصّصوا لكلّ جنس مزايا من نوعه لا يخرج عنها: إنّ الذكر يُمنع من أن «يتأنّث» بنفس الحدّة التي تُمنع فيها الأنثى من أن «تتذكّر». بالطبع لا يجدر بنا أن ننكر أنّ سلّم القيم السائد كان يحثّ على أوليّة الذكر على الأنثى صراحةً. نقرأ في لسان العرب: «وفي حديث الميراث: لأَوْلى رجلٍ ذكرٍ؛ قيل: قاله احترازًا من الخنثى؛ وقيل: تنبيهًا على اختصاص الرجال بالتعصيب للذكورية». لكنّ التعصّب للذكورية هو أمر يدخل في سياسة الهوية ولا يتناقض بالضرورة مع أفق الانتظار الذي يقع رسمه تلقاء الأنثى: إنّ «الأنوثة» ليست سبّة أو تهمة، بل يمكن أن تُعامل باعتبارها نوعًا من الكمال الخاص بالمرأة. إذْ «يُقال: هذه امرأة أنثى إذا مُدحت بأنها كاملة من النساء، كما يُقال: رجل ذكر إذا وُصف بالكمال». وفي هذا الصدد يُقال: «بلدٌ أنيثٌ أي ليّن سهل». بل إنّ علماء اللغة قد بذلوا وسعهم في تأسيس هذا المعنى التأويلي لتحديد دلالة المرأة. إذْ جاء في لسان العرب: «وزعم ابن الأعرابي أن المرأة إنما سمّيت أنثى، من البلد الأنيث، قال: لأن المرأة ألينُ من الرجل، وسُمّيت أنثى للينها». والعرب تؤنّث العطور وتذكّرها حسب التصنيف الهووي بين الجنسين، وليس حسب خصائصها أو استعمالاتها.

مفهوم النساء

في ضوء هذه الإشارات النحوية واللغوية علينا أن نواجه أسئلة تأويلية معاصرة (لا سيّما بعد ظهور المذاهب النسوية وبخاصة بعد انبثاقة الدراسات الجندرية) من قبيل: هل فعلًا نستطيع أن نتحدّث عن خطاب عن «المرأة» عند العرب القدامى؟ أم أنّهم لم يعرفوا سوى مفهوم «النساء»، كما هو مثبت في سور القرآن وفي كتب الفقه؟ ثمّ ما الفرق في آخر المطاف بين خطاب المرأة وخطاب النساء؟ هل يتعلق الأمر بمجرد فرق بين المفرد والجمع؟ أم أنّنا أمام نواة إشكالية أو جندريّة ما زالت تستعصي على الامتحان النظري والتاريخي.

علينا أوّلًا التمييز بشكل واضح بين تقاليد الحركات النسوية المعاصرة، والنظرة الجندرية للــ«مرأة» كنوع اجتماعي.

تقول جوديث بتلر في تصدير الطبعة الثانية (1999م) لكتابها مشكلة الجندر: النزعة النسويّة وتقويض الهويّة: «منذ عشر سنوات، أنهيت مخطوط كتابي مشكلة الجندر وأرسلت به إلى دار راوتليدج بغرض النشر. لم أكن أعلم أنّ النصّ سيكون له جمهور بهذا القدر الواسع الذي كان له، ولا كنت أعلم أنّه سيشكّل «تدخّلًا» استفزازيًّا في النظرية النسوية أو سيتمّ الاستشهاد به باعتباره واحدًا من النصوص التأسيسية لنظرية الكوير أو الشذوذية»(4).

يبدو أنّ مخاطبة المرأة في المفرد يختلف اختلافًا مربكًا عن مخاطبة النساء في الجمع. لنلاحظ بشكل مؤقت فيما يخصّ ثقافتنا أن الأفكار النسوية العربية، التي تمتدّ جذورها «الرجالية» إلى قرن ونيف(5)، هي في صميمها أجيال أو موجات «سياسية» أو حقوقية من الاحتجاج على وضع النساء في المجتمع التقليدي. وهي تنخرط في تقاليد النسوية الحديثة منذ إعلان وثيقة الثورة الفرنسية عن الحقوق المدنية للإنسان والمواطن، وعلى مدى القرنين التاسع عشر والعشرين؛ إنّها تناضل من أجل طيف من «الحقوق» المدنية ما لبث يتوسع حسب محطّات الحياة الحديثة (من حرية ومساواة وتعليم وشغل وانتخاب…). وهي في الأغلب تحثّ «النساء» على التحرّر من سلطة «الرجال» في الجماعة التقليدية باسم تصوّر فردانيّ وليبرالي لشخص «المرأة» بوصفها «إنسانة» من حقّها المساواة مع «الرجل»، وكأنّ الرجل هو كائن معياريّ مستقرّ ونموذجي يجب على المرأة أن تفتكّ منه الاعتراف الحقوقي بها. وهو تاريخ نسويّ من نوع تنويري صاحب العرب المعاصرين سواء في حقبة النضال ضد الاستعمار أو حقبة معارك الاستقلال ما بعد الكولونيالي عنه(6). وما لبث أن تطوّر في كل مهجة، وبخاصة منذ التسعينيات من القرن الماضي، وصار لدينا كتابات حول «الأدب النسوي» و«النقد النسوي» و«الشعر النسوي» و«الرواية النسوية»، … إلخ(7) في خلط غير متفكَّر فيه بين مسائل «النساء» و«المرأة» و«الأنثى»، والحال أنّها مساحات معيارية وهوويّة مختلفة إلى حدّ مزعج. إلّا أنّه علينا أن ننبّه إلى أنّه ليست كلّ كتابة عن «المرأة» هي كتابة نسويّة. إنّ كتابات «الرجال» عن المرأة ليست «نسويّة»، بل تتنزّل في إطار نقدي وتنويري أوسع (ولا ضرّ إن كان علمانيًّا أو إسلاميًّا) قد لا تؤدّي فيه النساء أيّ دور تأسيسي، إذْ يردّ «المرأة» إلى «الإنسان» من أجل جعلها قابلة للنقاش في علاقة بنيوية مع «الرجل» ولكن دون أن تشارك فيه. إنّ مؤلّفات الطاهر الحداد(8) والشعراوي(9) أو بوعلي ياسين(10) أو نصر حامد أبو زيد(11) أو عبدالوهاب المسيري(12)، وغيرهم هي لا تدافع عن حقوق «المرأة» إلا «بقدر ما تقبل الردّ الماهويّ إلى مفهوم «الإنسان» وبالتالي بقدر ما يمّحي الفاصل الجندري الذي يفصلها عن «الرجل» في معنى محو الفرق بين «الأنثى» و«الذكر» باسم «جنس» الإنسان الذي يشملهما.

أسئلة غير مسبوقة

أمّا الدراسات الجندرية فهي تطرح أسئلة غير مسبوقة حول جنوسة «المرأة» يقع تصنيفها عادة على أنّها تمثّل الجيل الرابع من الحركة النسوية العالمية التي اشتدّ عودها في التسعينيات من القرن الماضي في أميركا. لم يعد يتعلق الأمر بالدفاع الحقوقي عن «المرأة» بالمعنى النسوي (والذي ظلّ على ما يبدو يفهم الجندر في إطار المطالبة النسوية بإزالة التمييز بين الجنسين(13)) بل بتفكيك تداولي لمفهوم «المرأة» ومفهوم «النساء» نفسه وذلك باعتباره مجرّد «بناء اجتماعيّ» يجدر بنا أن نبحث عن بناه ومفاعيله في كل الميادين، من النحو إلى التاريخ، ومن الاقتصاد إلى الدين، ومن القانون إلى الأخلاق، ومن أنظمة القرابة إلى الأدب. بذلك التفكيك فقط يمكن إعطاء المرأة فرصة التعبير عن هويتها الخاصة بوصفها قادرة وتملك الحق في رسم هويتها الجندرية. لم يعد المشكل «حقوقيًّا» أو «مدنيًّا» (رغم أنّ بعض البحوث النسويّة المطعّمة بالدراسات الجندرية قد وجدت نفسها مضطرّة لمواصلة التنوير النسوي، وتحت وطأة نقد أنظمة التمييز ضد المرأة ظلّ التأصيل الجندري محدودًا) بل صار متعلقًا بضرب غير مسبوق من «سياسة الهويات» (اختيار النوع الاجتماعي، تكسير التقابل البيولوجي بين الذكر والأنثى، بلورة هوية جندرية حرّة، التحوّل من جنس بيولوجي إلى آخر… إلخ).

ما يهمّنا في هذا المبحث هو مدى إمكانية مراجعة الفرق بين المرأة والنساء في ضوء الدراسات الجندرية. لا يتعلق الأمر بالدفاع النسوي التنويري عن حقوق المرأة، بقدر ما يتعلق بالعمل النقدي على بلورة سياق مناسب لفهم تجربة هوية الأنوثة في ثقافتنا العميقة. وهو أمر يستوجب إرساء تقاليد بحث جندرية طويلة النفس تحفر في تاريخ تقنيات الذات وأشكال الذاتية منذ ما قبل الإسلام إلى اليوم(14). لكنّ الدراسات الجندرية ليست نزعة نسوية بالضرورة. إنّها موقف نظري وإشكالي أوسع نطاقًا من التنوير النسوي. إلّا أنّنا قد نلاحظ أنّه لم يتحقّق الكثير على هذه الطريق اللّهم إلّا بعض تجارب النقد السردي الرشيق(15) أو بعض الوثائق التأسيسية حول النوع الاجتماعي للمرأة(16) أو ترجمة بعض الكتب التأسيسية حول المرأة(17).

– وبعامة لا تزال أبحاثنا الراهنة بالعربية تميل إلى مواصلة الدفاع النسوي عن الأنثى بواسطة الدراسات الجندرية عن المرأة(18). والحقّ أنّ ذلك قد يؤدّي إلى تأمين استعمال أداتي وخارجي للمكاسب المعيارية التي تحقّقت بفضل الدراسات الجندرية، لكنّ صعوبات نظريّة عميقة ما زالت تعسّر الذهاب قدمًا وبلا قيد أو شرط أخلاقوي أو ديني في تبنّي أو احتمال الوعود الأخلاقية لفيلسوفات الجندر، من قبيل جوديث بتلر، وهي وعود تقويضية وتفكيكية من طراز رفيع. وفي صيغة فلسفية مزعجة يمكننا أن نتساءل: إلى أيّ حدّ يمكن للدراسات النسوية العربية أن تحرّر النساء (ضدّ تاريخ التفاوت الحقوقي بين الجنسين) من دون تحرير الأنثى داخل المرأة (باسم حقّها في سياسة هوية خاصة «ما- بعد- أنثوية») من تاريخها النسوي؟ ذلك بأنّ تحرير النساء هو معركة حقوقية وسياسية مع مجتمع الرجال وسلالم أخلاقهم وتاريخهم الاستبدادي،… إلخ، في حين أنّ تحرّر جندر المرأة (النوع الاجتماعي أو الجندر) أو جندر الأنثى (الكائن الهووي المفرد والمستقل) هو مشكل ذاتي وما- بعد- نسويّ تمامًا. إنّه يخص طبيعة الجندر بما هي كذلك، كما هي مختفية في حُرمة الجسد ما- بعد-النسوي واستعمالات الرغبة الخاصة وحرية التعبير الفردي واختيار الشخصية الجندرية وسياسات الهوية،… إلخ. طبعًا، للغة رأي آخر علينا استحضاره والتعامل معه. إنّ العربية لا تفرّق كثيرًا بين «المرأة» و«النساء» فليست الثانية غير صيغة الجمع للأولى كما أنّ الأولى هي صيغة المفرد للثانية. والجواب الشائع هو أنّ النساء أو النسوة هو جمع المرأة من غير لفظه. ومن الجدير بالباحث أن يتساءل: هل ثمّة معنى لأن تكون «النساء» جمع امرأة «من غير لفظها»؟ من غير لفظه يعني لا مفرد له من لفظه.

هشاشة التسمية

علينا أن نلاحظ هنا هشاشة التسمية: إنّ «امرأة» هي مؤنّث «امرئ»؛ كما أنّ «النساء» هي جمع المرأة من غير لفظها. كما نرى، إنّ الأصل هنا هو الذكر. تأنيث «المرء» (ومعناه الإنسان) هو الذي أعطانا لفظ «المرأة». إنّ السلسلة الاصطلاحية هشّة لأنّها لا تملك منطلقها: لا «امرأة» من دون «امرئ»؛ ولا «نساء» من دون «امرأة وامرأتين وأكثر». قد يعني ذلك أنّ المعالجة النحوية للقرابة المعنوية بين المرأة والنساء هي تعمية اصطلاحية على مشكل معياريّ عميق لا نراه. فقد قيل: إن دلّ الاسم على جمع ولا واحد له من لفظه سمّوه «اسم جمع». هذا يعني أنّ تسمية النساء هي قرار لغوي خطير نابع من سياسة هووية واعية بنفسها، لم يفهمها النحاة ولذلك اضطرّوا إلى تبريرها بالحيل الاصطلاحية المتاحة.

إنّ العرب يؤنّثون ويذكّرون كلّ شيء حتى الجمادات. ومن ثمّ هم «يجندرون» العاقل وغير العاقل. لا نعني التأنيث والتذكير النحوي، فلا معنى لأن يكون البحرُ مذكّرًا والشمس مؤنثة، بل نعني التأنيث والتذكير الذي من شأنه سحب الصفات الاجتماعية لنوعيِ «المرأة» و«الرجل» (الصفات الجندرية) على الصفات البيولوجية لجنسيِ الأنثى والذكر (الصفات ما قبل الجندرية) ليس فقط لدى البشر والحيوانات بل حتى لدى الجمادات أيضًا. بلا ريب، ليس كلّ تأنيث وتذكير «جندرة»، فالنحو لا «يجندر» أحدًا، بل فقط ذلك التأنيث والتذكير الذي ينقل «النوع الاجتماعي» (الجندر: المرأة / الرجل؛ النساء/ الرجال) إلى مناطق كينونة أو عوالم حياة، لئن كانت تؤنَّث وتذكَّر (بيولوجيا: مثل الحيوانات)، فهي لا تتضمّن أيّة تصنيفات «جندريّة» معطاة سلفًا (حسب النوع الاجتماعي: رجل/ مرأة، نساء/ رجال). الحيوان لا «يجندر»: ثمة في عالم الحيوانات أنثى وذكر فقط، لكن ليس ثمّة مرأة/ رجل، أو نساء/ رجال. إنّ المشكل الجندري ينبع من الخلط المتعمّد بين معجم حيواني (أنثى/ ذكر) ومعجم اجتماعي (مرأة/ رجل، نساء/ رجال). وهو خلط لا علاقة له بالطبيعة، بل هو موقف إنجازي لنوع من السلطة. وبالتالي فإنّ المشكل الجندري لا يمكن طرحه بشكل مناسب إذا بقينا في حدود الدفاع المدني عن حقوق «المرأة» ضدّ سلطة «الرجل»؛ لأنّ ذلك يفترض أنّنا قبلنا بالتقسيم الجندري السائد، حيث لا تخرج «المرأة» عن مفهوم المرأة ولا يخرج «الرجل» عن مفهوم الرجل إلّا حقوقيًّا فقط. الجندر ليس مشكلًا حقوقيًّا إلّا عرضًا، بل هو مشكل هوويّ.

ربما نعثر هنا على بعض إجابة عن هكذا سؤال: بأيّ وجه يجدر بنا أن نفهم أنّ القرآن المدني قد تضمّن «سورة النساء» وليس سورة «المرأة»؟ حتى لغة القرآن المكّي هي لم تذكر «المرأة» بالتعريف بل جعلتها في أغلب المواضع القصصية مضافة إلى «زوجــ»ها (امرأتي، امرأة فرعون، امرأة نوح…). وما بقي من المواضع هي «امرأة» (أو امرأتان) في صيغة التنكير، وليس «المرأة» ككائن مخاطَب لذاته. قد يُقال: إنّ هذا المفهوم حديثٌ وقد تشكّل في نطاق ثقافة «الفرد» التي ندين بها إلى أفكار التنوير والحداثة. في حين أنّ النساء هو مصطلح قديم ينتمي إلى الثقافات التقليدية للجماعة. ومع ذلك فهذا التبرير ليس مقنعًا.

إنّ مدوّنة الحديث لا تخلو من استعمال لفظة «المرأة» هكذا بالتعريف وذلك في تقابل جندريٍّ صريح مع «الرجل» بالتعريف، حيث ورد الحديث عن «شهادة المرأة» كيف هي «نصف شهادة الرجل»، وذلك بالتوازي مع التقابل الذي يفصل بين «النساء» و«الرجال». وهذا يعني أنّ المفهوم كان متاحًا، لكنّ قرارًا من نوع أكثر خطورة هو الذي وجّه أفق الأنثى نحو مفهوم «النساء» وليس مفهوم «المرأة». ومع ذلك فإنّ تعليل ذلك من الداخل ليس يسيرًا.

ثمّة –مثلًا- في لسان العرب ضعف مربك في المادة اللغوية الخاصة بفعل «نسا» التي اشتُقّت منها كلمة «نساء»، حيث لا نعثر إلّا على معانٍ متنافرة من قبيل عرق النّسا، والنسيان بمعنى الترك، والنّسي في معنى الشيء المطروح الذي لا يُذكر،… إلخ. وهي عناصر دلالية لا تصلح لبلورة معنى إيجابي لمفهوم «النساء». نحن لا نملك فقهًا للمرأة بل فقط فقهًا للنساء. وعلينا أن نتساءل: لماذا فضّلت حضارتنا مخاطبة النساء في الجمع؟ هل كان هناك تعمّد في تحاشي مخاطبة المرأة في المفرد؟ باعتبارها جندرًا مستقلًّا معياريًّا عن منزلة «الرجل»؟ وكيف يجدر بنا أن نفهم جهود الإسلاميين المعاصرين من أجل كتابة كتب عن «فقه المرأة» (كما فعل الشعراوي مثلًا في كتابه «فقه المرأة المسلمة» حيث لا نعثر إلّا على فقه النساء وليس على فقه المرأة)؟ هل يحقّ لنا أخلاقيًّا أصلًا أن نخاطب المرأة خارج أفق النساء؟ وكيف يمكننا أن نستفيد اليوم في إيضاح عناصر هذا النقاش من الدراسات الجندرية التي ثوّرت الخطابات النسوية حول العالم؟

ما نلاحظه هو أنّ المساهمات النسوية العربية قويّة وعريقة. لكنّ توتُّرًا خفيًّا صاحبها منذ بداياتها: إنّه التوتّر بين مواصلة فقه النساء (الذي تعجّ به المكتبة الإسلامية التقليدية) وبين بلورة خطاب تحرّري أو جديد أو حداثيّ أو ما بعد تقليدي عن «المرأة». وكانت نتيجة هذا التوتّر الخفيّ هي إنتاج خطابات نسويّة شبه- «رجالية» في مقابل خطابات جندريّة للمرأة، وهو تقابل حادّ وإشكالي خفيّ بين مواقف نسويّة حقوقية قابلة للتطعيم بمصادر أخلاقية أو فقهية غير حداثيّة (تتحدّث عن النساء في صيغة الجمع دون التخلص من هواجس عدائيّة ضدّ سيطرة الرجال) ومواقف أنوثيّة ما-بعد-نسوية(19) أو جندريّة راديكالية (تنطق باسم اختلاف مفتوح للمرأة في المفرد، غير مغلق على هوية الأنثى البيولوجية ودونما إحالة ضرورية على دور الرجل كبؤرة سلطوية بعينها، بل على مساحات هوويّة مغايرة ومتنافرة مثل «التقاليد الجنسية» و«تقنيات السلطة» و«أشكال الذاتية» و«المعايير الاجتماعية»،…).

إنّ تعويل الحركات النسوية على التشريعات المدنية وحتى الفقهية التي تساعد على تحسين الوضع الحقوقي للمرأة، كما في مسألة الإرث في تونس راهنًا، وتحصينها ضدّ العنف بجميع أشكاله (ولا يغرّنّك ما ترى من التنوير فإنّ الغرب نفسه لا يزال مدرسة كبيرة في تعنيف النساء وحتّى قتلهن تحت اسم «العنف الزوجي»، مثلًا ثلث النساء في أميركا تعرّضن للاغتصاب والعنف والتحرّش)،- هو يضعها على حافة مشكلة الجندر لكنّه لا يسمح لها بالدخول إلى إشكاليته العميقة. لا ندخل منطقة الجندر إلّا عندما نطرح السؤال غير المسبوق عن هوية الجندر؛ وعندما نميّز بشكل جذري بين «الجنس» البيولوجي و«الجندر» أو النوع الاجتماعي، وألّا نؤسّس «الجنسانية» (في معنى الميول الجنسية بحيث ينقلب الجندر إلى دفاع عن الاستعمال الإباحي للأجساد(20)) على «الجنس» (في معنى الوضع البيولوجي). والحال أنّ هذا التوجّه لا بدّ أن يؤدّي إلى مشاكل تفكيكية من طراز غير مسبوق. مثلًا: الزعم بأنّ المرأة ليست أنثى إلّا بالعرض وليس بالذات؛ وبشكل موازٍ، أنّ الرجل ليس ذكرًا إلّا بالعرض وليس بالذات، وأنّ المرأة ليست قدرًا أخلاقيًّا على الأنثى؛ وأنّ الأنثى ليست قدرًا بيولوجيا على المرأة. وبشكل موازٍ، أنّ الرجل ليس قدرًا أخلاقيًّا على الذكر؛ وأنّ الذكر ليس قدرًا بيولوجيًّا على الرجل. إنّ الجندر (أي النوع الاجتماعي: رجل، امرأة،..) يمكن بل يجب أن يكون اختيارًا حرًّا وليس نوعًا اجتماعيًّا معطى نهائيًّا؛ لأنّه محتوم بوضع بيولوجي لا يمكن تغييره. وأخيرًا، إنّ التحوّل من جندر إلى آخر هو ليس فقط ممكنًا طبّيًّا بالنسبة إلى كلّ جسم عضوي (تحوّل الأنثى إلى ذكر أو العكس، أو تحوّل هوويّ يُحدّد لاحقًا…)، بل هو حقّ أخلاقي أو إمكان معياريّ مفتوح أمام أيّ نوع اجتماعي تقليدي (من امرأة إلى رجل، أو من رجال إلى نساء، أو إلى أنواع اجتماعية أخرى…).

تخريب مذهب الفرق بين الجنسين

نحن نشهد انتقالًا غامضًا من دعوى «المساواة بين الجنسين» (وهو لبّ المعجم النسوي) إلى دعوى «المساواة في الجنادر» أو الأنواع الاجتماعية (وهو محور المعجم الجندري). ولو أخذنا مسألة الإرث في الإسلام مثالًا، لوجدنا النسويّة المعاصرة تطالب بالمساواة في الإرث «بين الجنسين»، وذلك في نطاق النضال الحداثي ضدّ هيمنة ثقافة الرجال/ الذكور، ورثة عقيدة الإله الواحد والزعيم الهووي وسلطة الأب،… إلخ. في حين أنّ دراسات الجندر إنّما تصبو أصلًا إلى «تخريب» مذهب الفرق بين الجنسين، ومن ثمّ فتح الباب أمام «تعدّد الجنادر» لأكثر من «اثنين»، وذلك في إطار النضال نحو «دمقرطة» أشكال الهوية الحميمة، وفصلها ليس فقط عن التقسيم الجندري الاجتماعي الثنائي التقليدي (رجال/ نساء) بل حتى عن التحديد البيولوجي الوراثي (ذكور/ إناث).

ولو أخذنا بجدّية ما يسمّى «نسبة الجنس» (sex ratio)، أي نسبة الذكور والإناث في تعداد السكان في العالم راهنًا، ووضعنا في الحسبان وجهًا من الشذوذ في نسبة الذكور، مثلًا في الدول الغنيّة حيث قلّت بشكل طفيف عن نسبة الإناث، فإنّه يمكن عندئذ أن تفاجئنا مشاكل غير مسبوقة: سوف تظهر دعوات «بيو- سياسية» للمساواة «في الرجال» وليس دعوات «هووية» للمساواة «مع الرجال»، كشرط مزعج للصمود على مستوى «سياسة حفظ النوع». كأنّ المشكل الديمغرافي سوف يصبح أكثر حسمًا في رسم ملامح الهوية المستقبلية للنوع البشري من المشكل الأخلاقي- القانوني- الديني، حيث سوف يفرض إعادة صياغة المسألة النسوية: سوف ينقلها من المطالبة بـــــ«المساواة» بين الجنسين إلى المطالبة بتوفير «حماية» ديمغرافية لأحد الجنسين دون الآخر. لكنّ دراسات الجندر سوف تجد نفسها معفاة من هذا الضرب من النقاش؛ إذْ بالاستغناء عن الفرق التقليدي بين الجنسين، هي سوف تستغني أيضًا عن مؤسسة الزواج التقليدية، وبالتالي لن يكون ثمّة اختلال في نسبة الجنس بين الذكور والإناث، حيث ستتعدّد «الجنادر» إلى ما لا نهاية. ومع ذلك، علينا أن نسأل: ألا تواصل النسويّة لدينا هيمنة الرجل؟(21) إنّ بعض النسوية ليس لها من هدف أقصى سوى تحرير «العذراء من القفص»(22). إلّا أنّ هذه معارك أخلاقية لا علاقة لها بمشكلة الجندر. بل: هل النسوية أمر مفيد بالنسبة إلى المرأة العربية؟(23) أم أنّ النسوية نزعة لا تخلو من سوء فهم لجندر المرأة؟

ثمّ: كيف نحرّر المرأة من العلاقة المزعجة بين النسوية الإسلامية والإسلام الأصولي؟(24) قد يجد البعض أنّ عبارة «النسوية الإسلامية» مجرد «تناقض في الألفاظ» (!)(25) كيف نقطع المسافة الأخلاقية داخل نفس الثقافة بين «نسوية الحجاب» و«نسوية الفيمن» (الحركة النسوية الأكرانية) التي طالت بعض مدننا؟ تقع «النسوية المسلمة» غالب الأحيان في موقف دفاع هوويّ عن النفس، ضدّ خطاب «استشراقي» عن «المرأة المسلمة». لكنّ من يكتفي بالدفاع عن نفسه لا «يؤسّس» لأيّ تجاوز عميق لجندر المرأة التقليدي(26). وحين تتحوّل النسوية الإسلامية إلى دفاع «ما بعد حديث» عن فقه المرأة المسلمة دفاعًا عن النظرة الاستشراقية للجسد «المشرقن» بوصفه جندر المتعة الذكورية، هي تؤدّي فقط إلى انبعاث «نسوية محافظة- جديدة» لا تحرّر شيئًا من جندر المرأة التراثي(27). يبدو أنّ تأصيل الجندر في ثقافتنا -نعني قطع المسافة المشكلة والمركّبة من «الجنس الآخر» (سيمون دي بوفوار) إلى «حلّ الجندر(28)» (جوديت بتلر)(29)– هو عندنا معركة فلسفيّة يبدو أنّها لم تبدأ بعد.

فتحي المسكيني – كاتب تونسي 

هوامش:

1) عن هذا النوع من الاستشكال قارن: ناصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف- قراءة في خطاب المرأة (بيروت: مؤمنون بلا حدو، 2014م)، الفصل الأول «أنثروبولوجية اللغة وانجراح الهوية»، ص 30 وما بعدها.

2) قارن: زليخة أبو ريشة، اللغة الغائبة: نحو لغة غير جنوسية (عمان: مركز دراسات المرأة، 1996م).

3) د. محمد التونجي، معجم علوم العربية (بيروت: دار الجيل، 2003م) ص ص 386 و 405.

4) Judith Butler, Gender Trouble : Feminism and the Subversion of Identity (New York: Routledge Press, 1999), p. VII.

5) قارن: رفاعة الطهطاوي، المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين (1872م)؛ قاسم أمين، تحرير المرأة (1899م)؛ والمرأة الجديدة (1900م)؛ الطاهر الحداد، امرأتنا في الشريعة والمجتمع (1930م).

6) قارن: نوال السعدواي، المرأة والجنس (القاهرة: دار ومطابع المستقبل، 1990م)؛ دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط. 2، 1990م)؛ المرأة والدين والأخلاق (دمشق: دار الفكر، 2000م).

7) مثلًا: محمد عبدالمطلب: بلاغة السرد النسوي (القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2007م).

– شيرين أبو النجا، عاطفة الاختلاف (قراءة في كتابات نسوية)، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م).

8) الطاهر الحداد، امرأتنا في الشريعة والمجتمع (1930م). جاء في مقدّمة الكتاب: «المرأة أم الإنسان… فإذا كنا نحتقر المرأة ولا نعبأ بما هي فيه من هوان وسقوط فإنما ذلك صورة من احتقارنا لأنفسنا… غير أننا قد اعتدنا في نظرنا للمرأة أن نراها منفصلة عن الرجل لا شأن لها في تكييف نفسه وحياته».

9) محمد متولي الشعراوي، فقه المرأة المسلمة (القاهرة: المكتبة التوفيقية، ) ص 5: «وكلمة امرأة تعني أن لها مقابلًا وهو الرجل، امرأة تعني أنثى ورجل يعني ذكرًا لو نظرنا إليهما… وجدنا أن هناك جنسًا يجمعهما وهو ‹إنسان›».

10) بوعلي ياسين، ، أزمة المرأة في المجتمع الذكوري العربي ( سوريا: دار الحوار، 1992م).

11) نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف. قراءة في خطاب المرأة، مذكور سابقًا، 137-138.

12) عبدالوهاب المسيري، قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى (القاهرة: نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط. 2، 2010م)، ص 3-4، 14-16.

13) قارن: شيرين شكري وأميمة أبو بكر، المرأة والجندر: إلغاء التمييز الثقافي والاجتماعي بين الجنسين (دمشق: دار الفكر، 2002م).

14) قارن: آمال قرامي، الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية: دراسة جندرية (بيروت: المدار الإسلامي، 2007م).

– إيفون يزبك حداد وجون ل. سبوزيتو، محرران، الإسلام والجنوسة والتغيّر الاجتماعي، ترجمة أمل الشرقي (عمان: المكتبة الأهلية، 2003م).

– Leila Ahmed, Women and Gender in Islam. Historical Roots of a Modern Debate ( Yale University Press, 1992).

15) قارن: محمد نور الدين أفاية، الهوية والاختلاف في المرأة والكتابة والهامش (الدار البيضاء: إفريقيا الشرق، 1988م).

16) منذ مؤتمر بكين 1995م أخذت وثائق الأمم المتحدة تدمج مصطلح الجندر في معجمها العام. ومنذ 2010م قررت المنظمة إنشاء هيئة تشرف على تطبيق مسائل الجندر لدى مختلف الدول، وأخذت اسم الأمم المتحدة للمرأة.

17) قارن: سيمون دي بوفوار، الجنس الآخر. في النوع: الذكر والأنثى بين التمييز والاختلاف. – ترجمة محمد قدري عمارة ( سلسلة العلوم الاجتماعية – مكتبة الأسرة، 2006م).

– جوديث بتلر، الذات تصف نفسها. ترجمة فلاح رحيم (بيروت: دار التنوير، 2015م).

– جوديت بتلر: مشكلة الجندر. (تصدير الطبعة الثانية) ترجمة فتحي المسكيني، موقع الأوان، 10 أكتوبر 2016م:

– http://alawan.org/content/%D8%AC

18) قارن خاصة: رجاء بن سلامة، بنيان الفحولة ــ أبحاث في المذكر والمؤنث (تونس: دار المعرفة للنشر، 2005م)؛ نقد الثوابت. آراء في العنف والتمييز والمصادرة (بيروت: دار الطليعة، 2011م).

19) Cf. Modleski, Tania. Feminism without Women: Culture and Criticism in a “Postfeminist” Age ( New York: Routledge, 1991).

20) Cf. Strossen, Nadine, Defending Pornography: Free Speech, Sex, and the Fight for Women’s Rights(Prentice Hall & IBD, 1995).

21) Stefanie Sanches, « Disempowering Feminism in the Middle East: how the polarization of Islam and Feminism perpetuates male dominance”, in: Annual Human Rights Conference Nottingham 2014 Mind the Gender Gap, https://www.nottingham.ac.uk/hrlc/documents/student-conference-2014/sanches-arab-feminism-paper.pdf.

22) Ali, Ayaan Hirsi, The Caged Virgin: An Emancipation Proclamation for Women and Islam ( New York: Free Press, 2004).

23) Golley, Nawar Al-Hassan (2004) ‘Is Feminism Relevant to Arab Women?’ Third World Quarterly 25(3): 521-536

24) Moghissi, Haideh, Feminism and Islamic Fundamentalism (London: Zed Books, 1999)

25) Ambar Ahmed, « Islamic Feminism- A Contradiction in Terms ? », THE FRIEDRICH-EBERT-STIFTUNG IN INDIA

26) Zahira Sarwar, Exploring Muslim Feminisms: A Response to Orientalist Discourses About Muslim Women.

27) Cf. Moghissi, Haideh. Feminism and Islamic Fundamentalism: The Limits of Postmodern analysis (Oxford University Press, 1999).

28) Cf. Butler, Judigh, Undoing Gender (New York and London: Routledge, 2004).

29) Butler, Judith. “Sex and Gender in Simone De Beauvoir’s Second Sex.” Yale French Studies, no. 72 (1986): 35-49.

وبالعربية: جوديث بتلر، «الجنس والجندر في الجنس الآخر لسيمون دي بوفوار». ترجمة: لجين اليماني. موقع نَظَرْ 19 مارس، 2016م:

https://nthar.net/ جوديث-بتلر-الجنس-والجندر-في-الجنس-الآخر/

عياض بن عاشور يفكك حدث الثورة التونسية

عياض بن عاشور يفكك حدث الثورة التونسية

أصدر الأكاديمي عياض بن عاشور كتابًا بعنوان «تونس، ثورة في بلاد الإسلام» (2016) ناقش فيه سؤال الثورة التونسية من ناحية أسبابها وحيثياتها ونتائجها. وزّع بن عاشور كتابه الذي جاء في 381 صفحة وصدر عن دار سيراس للنشر وبدعم من المعهد الفرنسي بتونس، على سبعة أبواب هي: الثورة التونسية في سياقها، وسينوغرافيا الثورة التونسية، وتناقضات الثورة، والثورة والثورة المضادة، والمُقايضات التاريخية للثورة، وقوّة القانون في الثورة، ومعارك الدستور.

وقد مهّد لهذه الأبواب بمقدِّمةٍ مثّلت أطروحةَ كتابه وهي أنّ الثورة التونسية حَدَثٌ غير مسبوق في تاريخ الثورات البشرية، واستحقّت أنْ يُنظر لها بعين إيجابية، وميزتها أنها ثورة محكومة بتناقضات عديدة؛ فهي ثورة على استبداد الحاكم من شعبٍ يسوده المذهب السُّنيّ الذي يرفض الخروج عن الحاكم، وهي ثورة نادت بمَدنيّة الدولة، وظلّ الناس فيها متمسِّكين بمقدَّساتهم ومدافعين عنها، وهي أيضًا ثورة على نظام شمولي ولكنّها منحتْ بعض قيادات ذاك النظام مناصب سياسية عليا، وهي ثورة تدعو إلى حقّ الانتخاب وضرورة الإقبال عليه؛ لقطع الطريق أمام عودة التوريث السياسي، ويتخلّى فيها ما يناهز ثلث الشعب عن التصويت في انتخاباتها التشريعية والرئاسية، وهي كذلك ثورة قادها الشباب لتمنح السلطة لرئيس شيخٍ تجاوز عمره الثمانين سنة. وهو تناقض أكّده عياض بن عاشور ودعّمه بإيراد مجموعةٍ من الوقائع التي عاشتها تونس إبّان ثورتها، وصاغها في شكل أسئلة منها ما جاء في قولِه: «هل رأيتم ثورة يقودها -لعدة أشهر- مسؤولون من الشخصيات الكبرى للنِّظام نفسِه الذي أسقطته الثورةُ؟ هل توجد حكومة ثورية تحتمي بمجلس دستوري، فاقد لكل شرعية قانونية، ليملأَ الفراغ السياسي بالبلاد ويتّخذ التدابير القانونية اللازمة لمنح السلطة الجديدة فيها بعضَ ملامحها الشرعية؟».

أسئلة من الداخل

إنّ أسئلة عياض بن عاشور الذي أسهم في تقديم تصوّر للدستور التونسي الجديد، ليست أسئلةَ مَنْ يكتب سينوغرافيا للثورة، يستنطق فيها الوقائعَ، ويُعيد بناء أحداثها، ويتبيّن مَنْطِقها الحاكِمَ لسيرورتِها فحسبُ، إنما هي أيضًا أسئلةُ مثقّف وقانونيّ عايش حَرَاكَ الثورة من الداخل حيث دُعيَ مباشرة بعد 14 يناير 2011م ليكون رئيسًا للهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، وكان له اتصالٌ مباشر ويوميّ مع الفاعلين السياسيّين ومع منظَّمات المجتمع المدني. وهو أمرٌ نراه قد منح كتابَه صدقيّةً قلّما توفّرت في ما كُتِبَ عن الثورة، ومكّنه هو من أنْ يختَبِرَ وقائع ثورة بلاده على ضوء وقائع الثورات العالمية ضمن المشتركِ العامِّ من شروطها على غرار ثورات فرنسا وروسيا والصين وإيران، وسهّل عليه الخُلوصَ إلى تأكيد أطروحة كتابه باستنتاجِ أنّ «تونس اخترعت نوعًا من الثورة ليس له شبيه في التاريخ»؛ ذلك أن ثورتها «ليست ذات طابع ديني» ولم يفجّرها صراع أيديولوجي أو حزبي أو عسكري دمويّ، وهي «لا تطرح نفسها أنموذجًا للثورات في العالَم»، إنما هي ثورة بلا زعيم، أو قُلْ: هي ثورة الشعب من أجل الشعب.

ولعلّ فرادةَ خصائصها هي التي «مثّلت سببًا لمشاكلها الحالية» على غرار ضعف الأداء السياسي والتدهور الاقتصادي والاضطراب الأمني على حدّ عبارة الكاتب الذي لم ينسَ، وهو يحلّل حدث الثورة التونسية، تأصيلها في سياقها الثقافي والقِيَمي، وهو ما نراه قد مثّل قوّةَ كتابه، حيث عاد إلى استقراء مفهوم الثورة في الإسلام، واختلاف الرأي فيه بين الشيعة والسنة، أي بين مَن يدعُون إلى الخروج عن الحاكم الظالم ومَن هم مع طاعة الحاكم وضرورة إصلاحه. وعلينا أن نشير هنا إلى أنّ تاريخ تونس الحديث يكشف عن حقيقة أنّ الإسلاميين (السُّنة) كانوا منذ زمن بورقيبة مع ضرورة الخروج عن الحاكم وعزله، على الأقل كان هذا موقفَ جماعة الإخوان المسلمين (حركة النهضة حاليًّا) من النظام البورقيبي. وقد ألقى هذا الأمر بظلاله الاختلافية على تباين آراء الناس في الثورة، حيث ظهر سياق ثقافي جديد تتحرّك فيه فئتان متناقضتان: فئة عَلْمانية مثّلتها النخبة الفكرية والأحزاب اليسارية ومنظمات مجتمعية عديدة تدعو إلى مَدَنية الدولة وعَدّ الإسلام شأنًا فرديًّا خاصًّا، وفئة إسلامية منها حركة النهضة، وهي أكثرهما حضورًا في الشارع التونسيّ، وبعض الحركات السلفية المتطرّفة التي تدعو إلى إنجاز ثورة تحكمها ثقافة جهادية مسلّحة لعلّ من ترميزاتها: «الرايات السوداء والصور الكبيرة التي يظهر فيها رجال ونساء حاملين لبنادق الكلاشنكوف».

تناقضات الثورة

وفي هذا الصدد بيّن الباحث بعضًا من مظاهر التناقض الذي حكم مُتَصوَّر الشعب التونسي للثورة؛ فمطلَب الحرية، وهو أبرز شعار من شعاراتها، لم يكن مطلَبًا ذا مدلول واحدٍ إنما كان مدلوله رخوًا قابلًا لأنْ يتشكَّل وَفْقَ الهيئة التي تريدها له إحدى الفئتيْن، وصورة ذلك ظهورُ أعمال فنية وكتابات إبداعية تناقش مسألة المقدَّس وتُخضعه لأسئلة الفكر، ومعارضةُ كثير من الناس لتلك الأعمال سواء في مجال الفن التشكيلي (أحداث قصر العبدلية بالمرسى التي مُنع فيها عرضُ لوحات تشكيلية قيل: إنها تمسّ حرمة الدين الإسلامي) أو السينمائي (أحداث سينما أفريكا التي ثارت فيها مجموعةٌ من الشباب على عرض فلم سينمائي رأوا في عنوانه حطًّا من قيمة الذات الإلهية) أو في مجال الحريات الشخصية (ظهور جمعية «شمس» للمثلية الجنسية التي جُوبِهتْ برفض شعبيّ كبير). ولعلّ «هذا التناقض» هو ما ميّز ثورة تونس، وخلق جدلًا في المجلس التأسيسيّ، ثمّ في مجلس النوّاب حول طبيعة الدولة ضمن الدستور الجديد: هل هي دولة مَدَنية أم دولة دينية؟ وهو جدل انتهى إلى توافق سياسي بين الحزبيْن الكبيريْن «نداء تونس» و«حركة النهضة» اللذيْن نالا الأغلبية في مجلس النوّاب، ودفع باتجاه اختيار نظام سياسي «شبه برلماني» يُكرِّس مَدَنية الدولة ويحافظ على انتمائها العربي الإسلامي في الآن ذاته. بل إنّ في هذا التناقض، وبخاصة عودة رموز النظام المخلوع وتفشّي الفوضى السياسية وتقهقر الوضع الاجتماعي، ما سهّل ظهورَ الاغتيالات السياسية في تونس (شكري بلعيد ومحمد البراهمي) التي تبنّتها تنظيمات إرهابية على غرار تنظيم «أنصار الشريعة»، ذلك أنّ «تنامي الإرهاب في تونس لم يُغذِّه السياق الأيديولوجي الإسلاموي الذي ظهر بعد الثورة فحسب إنما أيضًا، وإلى حد كبير، عدم قدرة حكومات الثورة على تدبير مسألة العدالة الاجتماعية» التي مثّلت مطلبًا من مطالب الثائرين.

ومتى تجاوزنا بعض الهَناتِ التأويلية في كتاب عياض بن عاشور، على غرار حديثه عن الثورة وكأنها مكتملة في الزمن والحال أنها نصّ جماهيريّ ما زالت فصوله مفتوحةً على المفاجآت، قلنا: إنّه اجتهاد بحثيّ رصينٌ اتكأ فيه كاتبه على تجربته المعيشة، وعلى أغلب ما كُتب عن ثورة 14 يناير 2011م محليًّا وعربيًّا وأجنبيًّا، وهو ما جعله يخلص إلى استنتاجاتٍ وجيهةٍ لعلّ من أهمّها أنّ المجتمع التونسيّ لم يَثُرْ على هويَّته الثقافية، كما هو معروف في الثورات عامَّة، ولم يتمرّد على أنساقه الاجتماعية والعقدية، إنما هو ثار على الظلم السياسي والحيف الاجتماعي، وظلّ في خلال ذلك محافظًا على عناصر تكوينه الثقافي، بل وحريصًا على تأصيلها في حَرَاكه الثوريّ.

القطار في الأدب الألماني أدباء عدوه إنجازًا..  وآخرون وصفوه  بـ«المارد الجبار»

القطار في الأدب الألماني أدباء عدوه إنجازًا.. وآخرون وصفوه بـ«المارد الجبار»

حسونة-المصباحي

حسونة المصباحي

منذ ظهوره في بدايات القرن التاسع عشر، أثار القطار، أو «الحصان المحرّك بالبخار» إعجاب وفضول كبار الشعراء والكتاب في ألمانيا التي لم تكن قد توحدت بعد تحت راية بسمارك. وجميعهم عدّه إنجازًا هائلًا، قادرًا على أن يحقّق للبشر السعادة والرخاء، وصورة مشرقة للتقدم الصناعي والحضاري، و«ثورة تاريخيّة» فتحت بعض البلدان على بعضها، وسهّلت المبادلات التجارية على أوسع نطاق. قليل منهم فقط أظهروا نفورا منه، ورأوا فيه «ماردًا جبّارًا يهدّد حياتهم، وقيمهم، وتقاليدهم القديمة». وقد كتب أحدهم يقول: «غيّر القطار حياتنا، وغيّر الطبيعة من حولنا. كما غيّر وعينا بالزمان والمكان».

هاينريش-هاينه

هاينريش هاينه: «القطار فصل جديد من فصول التاريخ الإنساني… وهو يقتل المكان فلا يتبقّى سوى الزمان»

وكان الشاعر هاينريش هاينه الذي أمضى شطرًا مديدًا من حياته مرتحلًا، ومسافرًا بين البلدان، من بين الذين اهتموا بـ«الثورة» التي أحدثها القطار في حياة المجتمعات في القرن التاسع عشر. وقد كتب يقول: «أثار تدشين خطّي القطار الحديدي هزّة أحسّ بها الجميع. أحد الخطّين يصل إلى مدينة «أورليان»، والآخر إلى مدينة «روّان» (مدينتان فرنسيّتان). وبينما يحملق العامة ببلاهة المخدرين في تلك القوى الضخمة المتحركة، ينتاب المفكرين رعب موحش يشعرون به دائمًا إزاء الجبار واللامعقول. وهم لا يدركون عواقبه، إنما يلمسون عدم قدرتهم على التنبّؤ به، أو السيطرة عليه. ما نلحظه هو أن وجودنا بأكمله يندفع، بل ينزلق إلى مجرى جديد، تترقّبنا فيه وضعيّة جديدة تحمل في طيّاتها السعادة، والشقاء في الوقت نفسه، ويجذبنا المجهول بسحره المخيف، ويغرينا ويرهبنا دفعة واحدة. وأكيد أن هذه الأحاسيس هي نفسها التي انتابت آباءنا عندما اكتُشفت القارة الأميركية، أو حين أعلن عن اكتشاف البارود، أو عندما توصّل الناس بفضل الطباعة إلى كتابة صفحات من الكتب السماوية».

ويضيف هاينريش هاينه أن القطار «فصل جديد من فصول التاريخ الإنساني». وهو «يقتل المكان فلا يتبقّى سوى الزمان». ومتخيّلًا التحولات التي سيحدثها القطار، فيكتب قائلًا: «يتهيّأ لي أنّ جبال العالم وغاباته تزحف كلّها نحو باريس. وها رائحة الزيزفون النابتة في ألمانيا تتسرّب إلى أنفي. وها أمواج البحر الشمالي تطرق بابي» (كتب هاينريش هاينه هذا وهو منفي في باريس).

حذر غوته

وثمة من يشير إلى أن شاعر ألمانيا الأكبر غوته سبق له أن تحدث عن القطار. حدث ذلك عام ١٨٢٥م. ويبدو أنه كان من بين الذين أبدوا نوعًا من الحذر إزاءه. فقد كتب يقول: «قطارات وسفن بخاريّة، ووسائل اتصال أخرى، يهدف جميعها إلى تسهيل التبادل، هذا هو الشغل الشاغل للمثقفين راهنًا. كلّ واحد منهم يبالغ ويغالي، وفي النهاية يظل أسيرًا للرداءة». أما لودفيك بورنه فلم يكن على اتفاق مع غوته. فقد أظهر تحمسًا للقطار؛ لأنه «سيكسر شوكة الطغيان، وستصبح الحروب من المستحيلات». كما أنه سيكون «محرِّكًا للتطورات الاجتماعية والسياسية». وفي رباعيته «طرق حديدية»، كتب الشاعر الرومانسي فون أرنيم أول قصيدة عن القطار في الشعر الألماني، التي تقول:

يفتح السيف الطريق للبعض

للبعض الآخر يفتحه المجراف

نترك آثارًا حديديّة في

الطريق الرديئة

ونمدّ جسورًا في تلك التي

تقطعها الأنهار

الإرادة الحديديّة تشقّ دائمًا

لنفسها طريقًا.

وفي قصيدة بعنوان: «الحصان البخاري»، كتب الشاعر ألبرت فون شاميسو يقول:

يا حصاني البخاري

أنت مثال للسرعة

وراءك تترك الزمن يعدو

وتسرح الآن متَّجهًا نحو الغرب

بينما بالأمس كنت قادمًا من الشرق

سرقت سرّ الزمن

أرغمته على أن يتراجع بين الأمس والأمس

أضْغطُ عليه يومًا بعد يوم

حتى أصل ذات يوم إلى يوم آدم.

إلّا أن الشاعر نيكولاس لينار يرى أن القطار قد يفسد حياة الناس. وهذا ما نستشفه من قصيدته التالية التي تعكس تشاؤمه:

في وسط الغابة الصغيرة الخضراء

مسرعة ومندفعة

تفترس القطارات ما حولها

ضيف بشع يحلّ عليك

ستسقط الأشجار يمينًا وشمالًا

أمام اندفاعها إلى الأمام

حتى جمالك الرائع

لا يمكن أن تحميه من حدّتها.

مع ظهور السيارة ثم الطائرة في مطلع القرن العشرين، أصبح القطار وسيلة عادية، ولم يعد يثير الحيرة والفضول والحماس مثلما كانت حاله خلال القرن التاسع عشر. وبعد نهاية الحرب الكونية الثانية، برزت تيّارت فكرية وأدبية تسخر من المنجزات التي حققّها التقدم الصناعي والعلمي في جميع المجالات. بل إن هذه المنجزات كانت ضالعة بشكل واضح وجليّ في كارثة الحرب الكونية التي قتلت الملايين من البشر، وخربت مدنًا، وأحرقت مساحات واسعة من الغابات ومن الأراضي الزراعية، ودمرت أمل الشعوب في الرخاء، وفي حياة أفضل.

وفي القطارات اعتاد الناس أن يروا كل يوم جرحى ومشوهين عائدين من جبهات القتال، و«توابيت داكنة». ومرة أخرى أثبتت الحرب الكونية الثانية أن التقدم الصناعي والتكنولوجي يفضي في الحقيقة إلى مزيد من الكوارث والأوجاع. وها هو الشعب الألماني الذي ظن أنه سيستعيد أمجاده القديمة بقيادة هتلر كان مشردًا في الشوارع، «يعيش فوق القضبان الحديدية، ويسكن المحطات والأرصفة، ويحاول من خلال آلاف المناقشات أن يبرهن على حقه في الوجود» بحسب هانس فِرنر ريشتر مؤسس «مجموعة ١٩٤٧» التي لعبت دورًا مهمًّا في تطوير الأدب الألماني بعد الحرب الكونية الثانية. وفي إحدى قصصه، يصف فولفغانغ بورشرت تلك المرحلة القاتمة من التاريخ الألماني المعاصر قائلًا: «مخلوقات رثة، كائنات أشبه بأشباح، لاجئون بلا وطن وبلا مأوى، منهم من أنقذ نفسه من الموت في آخر لحظة، ومنهم تاجر السوق السوداء منعدم الضمير. هؤلاء جميعًا يجمعهم أمل واحد: العودة إلى الديار».

ويصف ماكس فريش ما شاهده في محطة القطارات في فرانكفورت بعد الحرب قائلًا: «اللاجئون مضطجعون في كلّ مكان على سلالم محطة القطار. يخيّل للمرء أنهم لن يرفعوا أنظارهم حتى لو وقعت معجزة في وسط الساحة. إنهم يعلمون علم اليقين أنه لا شيء سيحدث. فلو قيل لهم: إن هناك بلادًا ما وراء القوقاز مستعدة لإيوائهم لجمعوا صناديقهم وبقايا أمتعتهم وارتحلوا دون أن يصدقوا كلمة واحدة مما سمعوه. حياتهم ليست حقيقية، بل انتظار من دون أمل».

القطار يصل في موعده

ويحضر القطار في «القطار يصل في موعده» لهاينريش بل الذي كان من أبرز رموز «مجموعة ١٩٤٧» والحائز على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٧٠م. بطل هذه الرواية القصيرة جنديّ ألماني مأذون يركب القطار في عام ١٩٤٣م ليلتحق بالجبهة الروسية. فجأة تستبدّ به فكرة أنه لن يصل أبدًا، وأن تلك الرحلة هي رحلته الأخيرة، وأن القطار سينقله إلى قرية حيث ينتظره الموت. وفي القطار يواصل حياته العادية، يأكل وينام، ويلعب الورق مع أصدقائه الجنود. وهو يتذكر فصولًا من حياته، ووجوهًا من الماضي، ويحاول أيضًا أن يصلي. ويتقدم القطار في رحلته عبر ألمانيا ثم بولندا. وعندما يلتقي فتاة بولندية يتوهم أنه سيفلت من المصير الذي ينتظره، فيهرب معها في سيارة، إلّا أن السيارة يسحقها قطار، فتكون النهاية كما توقعها!

وفي أواخر الستينيات من القرن الماضي، أسّس هانس ماغنوس إنسنسبرغر، وهو أيضًا من أبرز وجوه «مجموعة 1947» مجلة «Kursbuch» (جدول القطارات) الشهيرة. وهو يعتقد أن هذا الجدول يثبت أن العمل الأدبي بات عديم الفائدة؛ لذا يجب أن يستبدل به الأخبار والتحقيقات الصحفية والمقالات: «لا تقرأ القصائد يا بني… عليك أن تقرأ جدول القطارات فهي أكثر دقة!».

المجد‭ ‬للقطار

قصيدة‭ ‬للشاعر‭ ‬الفرنسي‭  ‬فاليري‭ ‬لاربو

فاليري-لاربو

فاليري لاربو

امنحني صخبَكَ الكبير وسرعتك اللذيذة

وانزلاقك الليليّ عبر أوربا المغمورة بالضوء

آه يا قطار البذخ!

امنحني أيضًا تلك الموسيقا المُغمّة المدمدمة

في معابرك الجلديّة المذهّبة

بينما خلف الأبواب «المبرنقة» ذات المزاليج النحاسيّة الثقيلة

ينام أصحاب الملايين

أجتاز معابرك وأنا أعني

وأتبع عدوك باتجاه فيينا وبودابست

مازجًا صوتي بأصواتك المئة ألف

آه يا هارمونيكا زوغ!

أحسست لأول مرة بلذّة الحياة

في مقصورة من مقصورات قطار الشمال السريع

بين «فيربلان»، و«بسكاو»

كان القطار ينزلق عبر سهول

حيث يستند إلى جذوع أشجار ضخمة كما الهضاب،

رعاة يرتدون جلود خرفان قذرة

(كان الوقت خريفًا، وكانت الساعة تشير إلى الثامنة صباحًا، وكانت المغنية الجميلة ذات العينين البنفسجيتين تغني في المقصورة المحاذية لمقصورتي)

أنت أيتها المرايا الكبيرة التي عبرك

رأيت سيبيريا وجبال سامنيوم وهي تمرّ

وأيضًا قشتالة الوعرة الخالية من الزهور

وبحر مرمرة تحت مطر دافئ.

صادق جلال العظم.. نقد الذات أقوى من كل انتماء – فتحي المسكيني

صادق جلال العظم.. نقد الذات أقوى من كل انتماء – فتحي المسكيني

%d9%81%d8%aa%d8%ad%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d9%83%d9%8a%d9%86%d9%8a

فتحي المسكيني

بدأ هيدغر ذات يوم أحد دروسه عن أرسطو قائلًا: «لقد وُلد، وعمل، ومات». كان القصد هو أنّ علينا أن نهتمّ بأعماله وليس بسيرته الذاتية. بل أكثر من ذلك أنّ الفيلسوف ليس له حياة يوميّة، وأنّها بالتالي لا تعني من يؤرّخ لفكره بوصفه مقطعًا من تاريخ العقل البشري أو من تاريخ حقيقة الكينونة. يأتي الفلاسفة كي يقولوا كلمة واحدة للإنسانية -كما كان يردّد جبران- ويذهبوا، إلا أنّ المشكل الصامت هنا هو أنّ الثقافات لا تكون جاهزة بالقدر نفسه للقاء معهم. وهم يتقاسمون هذا القدر الخاص مع عظماء الإنسانية الآخرين في كون الحديث عنهم أو معاداتهم أو مصادقتهم.. هو موضوع يسيل لعاب العقل اليومي وكل من يقف وراءه، سواء أكان فقهاء الملة أو موظّفي الدولة الحديثة.

في هذا السياق الدقيق تأتي تهمة «الإلحاد» التي تصاحب الفلاسفة، وبخاصة كلّ من أخذ ادّعاءات العقل البشري حول نفسه أو حول عالمه مأخذ الجدّ. الإلحاد ليس تهمة شخصية لأيّ فيلسوف، بل هي إزعاج داخلي يحمله العقل البشري في طبيعته التي جُبل عليها. هذا درس كانط الكبير. لكنّ الفلسفة ليست إلحادًا. ومن فهمها أو يفهمها على هذا المسمّى هو يتّهم عقله سلفًا، ولا يتّهم أحدًا.

اتُّهم صادق جلال العظم بالإلحاد مدّة طويلة، وحوكم بسبب كتاب «نقد الفكر الديني» (1969م). وفي الواقع إنّ موضوع هذا النقد لم يكن «الدين» في ماهيته الخاصة سواء أكانت روحية أو ميتافيزيقية. لا يحتوي الكتاب على مناظرة فقهية أو فلسفية مع علماء الدين أو فلاسفة الدين. بل هو فقط نقد لما سمّاه «الذهنية الدينية» (نقد الفكر الديني. العظم) التي تشرعن لنمط معيّن من السلطة التي يدافع عنها ويؤقنمها «إنتاج فكري ديني واعٍ ومتعمّد» (نقد الفكر الديني).

كان «نقد الفكر الديني» كتابًا في نقد السلطة بعد هزيمة عام 1967م، وليس في نقد الدين بالمعنى المحصور؛ لذلك فإنّ اتهامه بالإلحاد كان اتّهامًا سياسيًّا، وليس عقديًّا. وهو نوع من تزييف النقاش حول الدين في ثقافتنا لا يزال ممتدًّا، طالما توجد دول تستفيد منه في تعميق مشروعيتها الروحية. قال العظم في مطلع الفصل الأول من هذا الكتاب: «عندما أتكلم عن الدين في هذا البحث، لا أقصد الدين باعتباره ظاهرة روحية نقية وخالصة على نحو ما نجدها في حياة قلة ضئيلة من الناس كالقديسين والمتصوفين وبعض الفلاسفة… إنّ بحثي يدور حول إنسان معاصر (اسمه س) ورث الإسلام بمعتقداته وقصصه وأساطيره ورواياته كجزء جوهري من تكوينه النفسي والفكري.. والسيد (س) ليس له وجود واقعي مئة بالمئة؛ لأنه يشكل حالة نموذجية، والنماذج نوع من التجريد، ولكن من جهة أخرى إن (س) هو –إلى حد ما وبدرجات متفاوتة- كلّ واحد منا ولذلك لا بد وأن يهمنا أمره للغاية». إنّ نقد الفكر الديني هو إذن «نقد للذات» بالمعنى القوي للكلمة، وهو «نقد للإنسان المعاصر» الذي هو «كلّ واحد منّا» بدرجات متفاوتة. هذا هو لبّ الفلسفة؛ أن تفكّر في الإنسان بما هو إنسان، وإنْ كان ذلك سوف يتمّ دومًا بوسائل ومشاكل ثقافة بعينها.

طريق متسق وعميق

من كتاب «نقد الفكر الديني» (1969م) إلى تأييد الثورة السورية (2011-2016م) يبدو لنا طريق الروح في كتابات العظم متّسقًا وعميقًا. طبعا علينا أن نتساءل للتوّ: ما الرابط النسقي والأخلاقي بين عناوين «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (1968م) أو «ذهنية التحريم» (1997م) حتى «الحب والحب العذري» (1981م)، وموقف المؤلف من الثورة السورية راهنًا؟ لنقل بسرعة: إنّ هذا الرابط ليس سياسيًّا. إنّه رابط فلسفي وأخلاقي عميق. فمنذ عام 1968م (هزيمة الدولة القومية أمام عدوّها الاستعماري) إلى عام 2011م (هزيمة الدولة الأمنية أمام شعوبها)- من كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» (1968م) إلى كتاباته الأخيرة حول الثورة السورية (منذ 2011م)، ظلّ العظم يكتب كي يقاوم أو ينقد نمطًا معيّنًا جدًّا من السلطة العميقة؛ إنّها السلطة التي تشرعن إهانة الإنسان داخلنا وفق منطق محدّد هو منطق الاستبداد. ولا فرق إن كان الاستبداد دينيًّا أو سياسيًّا أو أخلاقيًّا.

في كتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» كلّ ما أثبته العظم هو سؤال عميق عن المسؤولية، تحت عنوان «النقد الهادف»، أي نقد الأوهام، وليس مصنّفًا بارعًا في الهزيمة. هو كتاب في نقد المسؤولية، وبخاصة عندما تكون الهزيمة هزيمة «الإنسان المعاصر» فينا. وعلى الرغم من اعتراف المؤلف عام 2007م بأنّ «علامات التسرّع والارتباك ظاهرة في نص الكتاب»، وأنّه «كُتب تحت ضغط احتقان نفسي شخصي وجماعي هائل»، فإنّ غرض الكتاب كان بالتحديد تسجيل «الأثر الانهياري المهول الذي تركه ذلك السقوط اللحظي المريع في جيلنا- جيل الستينيات كما يسمى أحيانًا- بأكمله» (النقد الذاتي بعد الهزيمة. العظم). ضدّ الدولة المهزومة عاد العظم كي يكتب منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011م، وهو لا يكتب دفاعًا عن فوضى الشعوب، بل ضدّ النمط الدكتاتوري من السلطة، الذي صار منذ عام 2011م فاقدًا للشرعية سواء نجحت الشعوب في إسقاطه أم لم تنجح.

ضد اضطهاد الحرية

وكعادة الفلاسفة يتطلّب كلّ فهم دقيق لأفكار العظم أن ينصت بحدّة وبخاصة إلى التلطّفات التي يجريها التفكير الفلسفي على المسائل التي يعالجها، فكما أنّه لم يكن ضدّ الدين بحدّ ذاته عام 1968/1969م هو أيضًا ليس ضدّ الدولة الحديثة بما هي كذلك بعد عام 2001م؛ إنّه في المرّتين ضدّ اضطهاد الحرية مهما كان شكل المعركة. إنّه مع الثورة بالمعنى المعاصر لكنّه لا يرى أي مستقبل للشرعنة الدينية لها. هو ينقد التطرّف وذهنية التحريم لكنّه يعتقد أنّ الإسلام قادر على تحمّل درس العلمانية والانسجام معها. نقدَ الفكر الديني لأنّه يخشى الإسلام السياسي وأسلمة الثورات المدنية المفرطة والمتعمّدة، لكنّه وقف مع الثورات التي خرجت من المساجد.

هو يؤمن أنّ الشعوب هي على حقّ دائمًا ضدّ الطغاة والمستبدّين. إنّه فيلسوف تحمّل مسؤوليته «النقدية» طيلة حياته، لكنّه لا يتردّد في توقّعاته بأنّ ما سوف يسود بعد كلّ هذه المسألة هو «مزاج التدين الشعبي السوري البسيط والسمح الذي عرفت به سوريا المعاصرة». هو علماني لكنّه مع الثورة سواء تَعلمَنتْ أو تَأسلمت.

وبكلمة أخيرة: ليس أقلّ بركة للثورة «إعادة الناس إلى السياسة»، كما قال، بل أيضًا: إنّها إعادة صادق العظم إلى الأفق الروحي لشعبه: الثورة مطهرة من كل إلحاد.