العلمانية في مقابل غياب خطاب نقد الاستبداد

العلمانية في مقابل غياب خطاب نقد الاستبداد

سؤال الدين والعلمانية يعكس أزمة بناء الدولة وتطور المجتمع في منطقتنا من أواخر الأربعينيات، وبداية الخمسينيات والستينيات حتى اليوم، ويتعلق بأزمة الفكر (الأيديولوجية) وأزمة النظام/ الدولة، والعلاقة فيما بينهما دالة على وحدتهما، وتكاملهما في سياق الممارسة الواقعية، كل منهما يشير إلى الآخر ويقود إليه، ويكمل تعريفه. العلمانية في الممارسة السياسية نجد لها بذورًا أولية مادية، حاضرة وقائمة في العديد من تجارب الدول السياسية التاريخية الدينية (اليهودية والمسيحية والإسلام) أي العلمانية كمجال للنشاط الاقتصادي والإنتاجي، والعلمي، والتنظيمي والإداري والمالي، قبل أن تتخذ العلمانية تجلياتها المفهومية الاصطلاحية السائدة اليوم، وهو ما يمكننا تسميته اتفاقًا مع الدكتور عبدالوهاب المسيري بالعلمانية الجزئية.

كانت الثورة الفرنسية عام 1789م هي النموذج السياسي الصارخ والعنيف في تعبير العلمانية السياسية عن نفسها كثورة عنيفة في مواجهة سلطة الكنيسة التي اشتبكت مع الثورة، حين دخلت طرفًا فاعلًا وقويًّا في الصراع لمواجهة قوى الثورة الفرنسية وضدها، وهو ما وسم التحول السياسي والاجتماعي للثورة بطابع، الصراع الدموي والعنيف بعضهما ضد بعض… ومن هنا الدعوة الصريحة والحادة لفصل السياسة عن الدين، ارتد ممارسة سلبية ليس فحسب ضد الكنيسة، بل ضد الدين نفسه، وهو ما ارتسم في المخيال الأيديولوجي والسياسي بأنه عداء العلمانية (الدين الجديد) ضد الأديان، وجرى تعميمه على كل المسار السياسي للتجربة السياسية العلمانية في بناء الدولة، والعلاقة بالدين، مع أن هناك تجارب سياسية للعلمانية في سياق بناء الدولة البرجوازية (الرأسمالية) التي اعتمدت أشكالًا سلمية للعلاقة بين الدولة والدين وفي صدارتها التجربة البريطانية التي تقف المؤسسة الملكية (الملك) على رأس الكنيسة، ورمزًا لها، ولم يتجسد فيها البعد الصراعي العنيف في العلاقة بين المشروع السياسي لبناء الدولة والدين، بل إن مجلس اللوردات فيه مجموعة من القساوسة، كما هناك التجربة السياسية الأميركية التي تحمل عملتها الدولار عبارة (نحن نثق بالإله) كرمز للحضور الديني في أدق تفاصيل وجود الدولة، وفي أهم أشكال رمزيتها تعبيرًا عن القوة والسيادة والسلطة (المال)، وفي التجربة الألمانية نشهد أحزابًا دينية مسيحية تمارس حضورها الشرعي والتشريعي والسياسي، حتى وصولها إلى قمة السلطة، على قاعدة اعترافها بالدستور والمساواة، والقيم والمبادئ العليا للدولة.

الحمولة السلبية للعلمانية

وفي تقديرنا لم تظهر الحمولة الأيديولوجية والسياسية السلبية في منطقتنا تجاه العلمانية إلا مع سقوط دولة الخلافة العثمانية، وتحديات الدولة التركية العلمانية القومية العسكرية لإرث الدولة العثمانية في بعدها الديني بصورة اجتثاثية (تصفوية) وفي موقفها العدائي ضد العروبة (لغة/ وقومية) وكان لنشأة وحضور الخطاب السياسي الإسلامي على يد محمد رشيد رضا، ومن بعده حسن البنا (الإخوان المسلمون) كحركة سياسية عام 1928م، دور مركزي في الاشتغال على هذا البعد والمعنى، وبخاصة بعد إسقاط محاولة تولية الملك فؤاد خليفة للمسلمين، وبعد الحرب العالمية الثانية وصعود الصراع الأيديولوجي كعنوان للحرب الباردة، تمظهر البعد السياسي للعلمانية بوصفها شيوعية/ وماركسية، معادية للدين، حيث جرى تهريب مصطلح العلمانية من حقله الدلالي المعرفي والواقعي ليدخل طرفًا في معادلة الصراع السياسي بين الرأسمالية والاشتراكية، وساعدت خطايا التجربة الاشتراكية (الستالينية) في موقفها العدائي من الدين في الترويج لتعميم هذا المعنى والمفهوم السياسي الاستنكاري والسلبي للعلمانية.

لقد انعكست سلبًا تجربة العلمانية في الممارسة السياسية على تعريف وتأطير مفهوم العلمانية بوصفها عقيدة وضد الدين/ الأديان؛ مما أوجد حالة وعي مشوشة ومضطربة في العقل السياسي الإسلامي –أو لدى قطاع واسع منهم– بعد اختزالها واختصارها في تعريفات سياسية سالبة لا صلة حقيقية لها بجوهر مفهوم العلمانية. تحول مصطلح العلمانية في خطاب حركات الإسلام السياسي وحتى الرسمي العربي إلى تهمة تعادل الكفر، والإلحاد، والإباحية، والتحريض على الخروج من الأديان، علمًا أن التجربة الواقعية (المعاصرة) لنا كعرب أظهرت حالة من التداخل والتماهي فوق العادة بين الدين والدولة وبين السياسة والسلطة والدين، وهو ما يعني أن العلمانية كممارسة وتجربة سياسية اقتصادية اجتماعية وحياتية هي (تنظيم سياسي للإدارة والمجتمع والدولة) حاضرة بأشكال مختلفة في جميع التجارب السياسية لبناء الدولة، والتجربة العملية في منطقتنا العربية (مَلَكية أو جمهورية) تقول بتعايش العلمانية والدين من دون تعارض، فقط الشأن السياسي هو من أنتج ذلك التعارض الحدي فيما بينهما.

إن حركات الإسلام السياسي في نشأتها النظرية والسياسية العملية التاريخية إنما وجدت كحالة رد فعل لتفكك وسقوط الدولة العثمانية (دولة الخلافة)، وجذر نشأتها مناقضًا لفكرة وقضية الدولة الوطنية العربية المعاصرة ولفكرة الجماعة الوطنية (الشعب) حيث دولة الجماعة ووطنهم هو الامتداد الجغرافي، والديمغرافي في حدوده (المكانية) الإسلامية كلها، دولة خلافة عالمية جديدة في إطار تنظيمي سياسي «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» دولة مصغرة استمرار لدولة الخلافة، ولذلك فإن فكرة دولة الخلافة هي عنوان تنظيمي أيديولوجي سياسي محوري في أدبيات جميع تنظيمات وحركات وجماعات الإسلام السياسي بمختلف عناوينها، وتسمياتها (سنة/ شيعة) (خليفة/ إمام معصوم/ الولي الفقيه) حيث الشعب هو كتلة/ جماعة افتراضية مفتوحة موحدة لا تنتظمها حدود جغرافية وطنية (قومية) ولا يجمعها انتماء وطني (عرقي/ قومي(إثني)، الانتماء والولاء هما حصر لفكرة وقضية الجماعة الدينية الإسلامية، وهي أقوى وأعمق من جميع الروابط الوطنية الداخلية، أممية عالمية دينية مقابلة لجماعات التطرف اليساري الماركسي (الأممية الاشتراكية)، وهنا تكمن الأزمة السياسية التاريخية اليوم في علاقة العديد من حركات الإسلام السياسي بالدولة، والوطن والشعب، ولم يتحرر من هذا الوعي والخطاب فيما هو كتابة وبيانٌ منشور سوى ما أعلنه حزب النهضة في تونس وبعض الكتابات المحدودة لبعض هنا أو هناك.

الدولة الوطنية العربية المعاصرة

إن مشكلتنا في المنطقة العربية مع مشروع بناء الدولة في إطارها العلماني العام هو تدثيرها للعلمانية بالروح والصيغة الاستبدادية في بداية صعودها، ثم بالفساد المعمم في المسار السياسي اللاحق للتجربة، وهو ما تبدى في معظم تجليات ممارسة بناء الدولة على أسس وقواعد مدنية علمانية عسكرية ولا ديمقراطية، والأمر ذاته –بدرجات متفاوتة– ينطبق على أشكال الحكم العربية (جمهورية، مَلَكية) في رؤيتها وموقفها من العلمانية، فقد ناصبت أشكال الحكم الملكية الفكرة العلمانية العداء في الخطاب في واقع الصراع الأيديولوجي العالمي الدائر في قلب الحرب الباردة مع حضور تجليات العلمانية: كقوة مادية، وإنتاجية وتقنية وصناعية وعلمية وقانونية، وتنظيمية إدارية ومالية (البورصة) في جميع صور وأشكال تعاملها، مع مكونات بناء الدولة والنظام السياسي، في تكويناته المختلفة (البنية التحتية الرأسمالية والبنية الفوقية بدرجة أقل)، لقد دمغت ووصمت دولة الاستقلال والدولة الوطنية القُطرية العربية الحديثة، السياسة والمجتمع والثقافة ونظام الحكم بالاستبدادين: السياسي والعسكري، حيث الحزب الواحد الثوري، (صانع الاستقلال) والجيش (مجلس قيادة الثورة) هما رمزا السلطة والسيادة.

فالحزب هو قائد الدولة والمجتمع (جنوب اليمن/ سوريا، العراق والجزائر) وجميعها من دون استثناء نماذج ناصبت السياسة الديمقراطية العداء وواجهت الديمقراطية السياسية في أحسن الأحوال بمنجزات الديمقراطية الاجتماعية، التي امتصها الفساد وقضى عليها تدريجيًّا الاستبداد، وفي هذا المسار الصعب والمناخ الطارد للسياسة المدنية، تحولت العلمانية في صورة عقيدة الحزب (أيديولوجيته) إلى طوطم، وسوط وكتاب مقدس استحالت معه العلمانية كشكل للتنظيم الاقتصادي والإداري والمالي والثقافي إلى استبداد وفساد.

تحويل العلمانية إلى احتكار للسياسي

إن جذر الأزمة في عجز وفشل الفكرة العلمانية سواء على صعيد الأحزاب والأفكار أو على مستوى بناء الدول هو غياب خطاب نقد الاستبداد وتعميم حالة الفساد، وعدم الاعتراف بالآخر والقبول بحقه في أن يكون ما يريد لا ما نحن نريده له، وتحول الفكرة والممارسة العلمانية (المدنية) في تجربة الأحزاب الواحدية (الشمولية) والمعارضة أو الواقعة في قمة هرم صحن الحكم (قومية اشتراكية ليبرالية) إلى أحادية محتكرة للسياسة، وللحقيقة في ذاتها (توليتارية) بعد تحويلها العلمانية إلى استبداد. لقد علّقت أنظمة الحكم الوطنية الاستقلالية (العلمانية) في صيغها الأيديولوجية القومية واليسارية الاشتراكية والليبرالية حلَّ المسألة الديمقراطية على مشجب حل المسألة الاجتماعية، تحت شعار وغطاء «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» و«لا صوت يعلو فوق صوت الحزب الواحد» والنتيجة السياسية والعملية التي تفقأ العين أننا لا أنجزنا حل المسألة الديمقراطية، ولا خلقنا قواعد راسخة متينة للتنمية على طريق إذابة أو إزالة الفوارق بين الطبقات، كما رفعتها أدبيات وبيانات هذه الأحزاب والأنظمة/ الدول ولا في المقابل دخلنا المعركة وانتصرنا، بل إننا حولنا بعض انتصاراتنا الجزئية العسكرية إلى هزائم وخسائر سياسية.

ويبلغ الفشل ذروته في الممارسة الاجتماعية والثقافية والتعليمية (تعليم ماضوي)؛ إذ نشهد اليوم انبعاثًا للهويات القاتلة -حسب تعبير الروائي أمين معلوف– الهويات ما قبل الوطنية، وما قبل الدولة: المذهبية والطائفية والقبلية والمناطقية، ومحاولات حرف الصراع السياسي من جانب بعض (ميليشيات/ودول إقليمية) إلى عنوان لصراع مذهبي/ طائفي (ديني) (سني/ شيعي) وحضور الخارج الإقليمي والدولي في داخلنا؛ بسبب ما تركناه من فراغ في السياسة وفي حالة الأمن القومي العربي، الأمر الذي جعل الفضاء والمدى الجيو/ سياسي القومي لنا منتهكًا، حضر بعض أطراف الخارج الإقليمي ليملأه عوضًا عنا (إيران/ تركيا/ إسرائيل) وهو قمة تعبير الفشل عن نفسه، فشلنا كأحزاب ومشاريع وأفكار ودول وهنا تكمن الأزمة. والمشكلة متى نبدأ الفعل باتجاه رحلة الألف ميل نحو الإصلاح والاستنارة؟ ذلكم هو السؤال.