يعيش مثل حالة سرية فينا  فوزية أبو خالد

يعيش مثل حالة سرية فينا فوزية أبو خالد

«مدن الملح» خماسية الروائي عبدالرحمن منيف قدمت رؤيتها الروائية لمرحلة معينة من التاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بتفاعلاتها المتعددة الأبعاد. وصدف أن كان النفط بطل التحولات لذلك التاريخ. هذه ملاحظة ليست عابرة وأعرف أن موضوع السؤال ليس «مدن الملح» لكن كان لا بد من ذكر الملاحظة للأمانة التاريخية والأدبية والثقافية.. وهذا يشكل مدخلًا مناسبًا لمحاولة الإجابة عن صميم السؤال، وأن نتذكر أن تلك الرواية صدرت خارج المملكة ومنطقة الخليج عمومًا على الرغم من أنها أدخلت صلب الحياة الاقتصادية، النفط وانعكاساته على السرد الروائي. ولعل سؤال: لماذا صدرت تلك الرواية خارج المنطقة التي كتبت عنها؟ ولماذا كان الكاتب يعيش في باريس حين كتبها؟ يقدم بعضًا من إجابة السؤال.

مدن-الملحفقد كان الخوض في موضوع النفط وطبيعة تماسّه مع الحياة الاجتماعية والسياسية أحد التابوهات أو الممنوعات.. وكأن النفط في العمل الثقافي ولو كان سردًا روائيًّا «حشيشة» أو «قات». ولذلك على سبيل المثال حفلت أعمال عبدالعزيز المشري بسيرة تحولات القرى، وبخاصة في الجنوب السعودي من دون أن تنطق بكلمة نفط رغم أن تلك التحولات التي تحدث عنها المشري كانت حبلى بتلك الكلمة. ويمكن أن يقال الشيء نفسه عن العمل الروائي لسعد الدوسري «الرياض – نوفمبر 90». فذلك العمل الفذ تناول مرحلة حاسمة لحرب (دولية) قامت بمنطقة الخليج ولم تكن تلك الحرب لتحدث بذلك الزخم الدولي وتدخل قوة عظمى كأميركا طرفًا رئيسًا في الحرب لولا بطولة النفط المطلقة على المسرح السياسي والاقتصادي في المشهد الدولي والخليجي… ومع ذلك لم تلمس كلمة نفط ملمس اليد في الرواية وإن كنت كقارئ لا تنتهي من قراءة تلك الروية إلا وأنفاسك تتقطع من رائحة النفط ومحروقاته العنيفة والناعمة معًا. 

بل إن النفط عاش كالحالة السرية فينا رغم تأثيره التفكيكي والتركيبي معًا في منطقة الخليج وناسها وبناء دولها الريعية. فحتى الكتابات التحليلية المكتوبة بأقلام سعودية وخليجية في هذا المجال قليلة ككتابات محمد الرميحي الأولية والبعيدة في محاولة تناول النفط تناولًا سوسيولوجيًّا سياسيًّا. ولي تجربة شخصية في محاولة إنزال النفط منزلة علنية في التحليل الاجتماعي باءت بالفشل عندما رفضت جامعة تقدمت لها المرة تلو المرة، بمقترح مفصل منهجيًّا لتدريس مقرر باسم أدبيات النفط الخليجي وآخر باسم التأثير السوسيوسياسي والثقافي للنفط.. من دون جدوى. 

النفط ليس تهمة لندفعها، وليس شرفًا لندّعيه ونحرص عليه إلا بالقدر والكيفية التي يؤثر بها فينا ونتفاعل معه بها… ولو فحصنا هذه الكيفية ميدانيًّا فربما نصل لإجابة موضوعية عن أسباب الجفوة في العلاقة التفاعلية ذهنيًّا مع النفط، وفي البعد من تحويلها إلى طاقة إبداعية في العمل الأدبي والثقافي. أما النفط فأستعير كلمة الراحل الملك عبدالله: (الله يطول عمره)… ريثما نبلغ في العلاقة به مرحلة الندية بدل الاتكالية المطلقة.

اكتواء يدي بشعلة قصيدة النثر

اكتواء يدي بشعلة قصيدة النثر

سؤال الشعر وأحواله، يستحق التأمل وإعادة التفكير في منتج الإبداع الشعري على مر العصور، وفي مختلف البيئات الاجتماعية والسياسية والعمرانية، بما فيها اللحظة التاريخية الراهنة المدججة بالتراجع السياسي والفكري في عموم الوطن العربي. فبقدر ما يعدّ الشعر ثابتًا مطلقًا من ثوابت الحياة الإنسانية ومن عمران الضمير البشري، بقدر ما تكون أشكاله ومضامينه في حال دائمة من التحولات المستمرة التي ما إن ترسي على حال يثري وجدان البشر إلا وتتحول بالتماس مع مشاعر الناس وتفاعلاتها المتقلبة إلى حال جديدة. فعلى سبيل المثال في الحال العربية التي جعلت من الشعر ديوان العرب، ظل الشعر في تقدمه على الحقب المتعاقبة من التاريخ الاجتماعي والسياسي العربي قادرًا على إعطاء صورة متموجة عن أحوال مختلف المراحل التاريخية.

فكما كانت المعلقات رمزًا لعزة العرب السياسية في تعالقها مع المقدس الديني، ومع الجاه التجاري، ومع العنفوان البدوي والضراوة الصحراوية، فقد كان الشعر في كل عصور الانكسار إكسيرًا للاستنهاض. وكان هذا لا يجري عبر القوالب الشعرية ومحتوياتها السابقة، بل عبر تجاوزها عروضيًّا ومعنى. حدث هذا في مراحل مفصلية عدة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية إبان دول الخلافة الأموية والعباسية وعلى إثرهما وسواهما من دول الخلافة ببلاد الشام والعراق ومصر والأندلس وإسطنبول.

وقد اجترح الشعر العربي من منتصف القرن العشرين إلى مطلع القرن الحادي والعشرين واحدة من أهم التحولات المفصلية في بنية القصيدة العربية شكلًا ومضمونًا، بالخروج عن المستتب العروضي الفراهيدي والغرضي أو الغائي من الرثاء إلى الغزل وما بينهما من مديح وهجاء. أما من الربع الأخير للقرن الفارط إلى اليوم فقد بلغ الشعر العربي ذروة ذلك التمرد بالانفلات من الوزن العمودي والتفعيلي معًا على مستوى الشكل، والانسلاخ عن المضامين الشمولية للشعر العربي على مستوى المحتوى، بالتحول إلى قصيدة النثر المتحررة من كل قوالب موسيقا الشعر المتعارف عليها قبلها في الشكل، وبالانحياز إلى شاعرية اليومي والعادي في المضمون. وبالمجاوزة بينهما أي (بين التمردين) في قصيدة الومضة الشعرية إن صح التعبير.

قصيدة النثر لا تعرف شيمة الوفاء

أما ما ينقض السؤال ويتماس معه في الوقت نفسه بما يشبه تلاقي الأضداد، فهو أن هذا النوع من الشعر أي شعر قصيدة النثر هو نوع شعري، رغم منجزه الإبداعي الشاهق لعدد من الأصوات المعتقة والشابة في الوطن العربي، لا يزال نوعًا عصيًّا على أن يصل مرحلة نستطيع أن نقول معها إنه بلغ مرحلة الاستقرار كما يطرح السؤال. ويرجع ذلك في رأيي إلى أن قصيدة النثر هي نوع من الشعر التجريبي بطبيعته بحيث لا يكف عن البحث ولا يتعب لحفر واستكشاف منابع ومصاب جديدة لشكل ومضمون القصيدة وللدهشة الشعرية. ولهذه الطبيعة المخالفة التي بقدر ما تنعم فيها قصيدة النثر برعب القلق ونشوة الانقضاض التجريبي على نفسها بقدر ما تعيش لذة وعذابات ذنب عدم التزامها بشيمة الوفاء لما سبقها من منجز شعري لها ولسواها، يصعب الحديث عن بلوغ هذا النوع من الشعر مرحلة الاستقرار. ومن اكتواء يدي اليومي بشعلة الشعر لقصيدة النثر أزعم أنها قصيدة لا تستطيع أن تعيش خارج ماء اسمه التجريب، موجة تمحو موجة وتؤلف بحورًا من الأمواج المتجددة.

فوزية-أبو-خالد٢

وهذا ما يجعل ،في رأيي الشخصي على الأقل، قصيدة النثر نبعًا من ينابيع الضوء التي على تضوعها الشفيف وسهولة انكسارها لا تتورع عن منازلة الظلام المطبق الذي يكاد يخيم على المنطقة العربية عن بكرة أبيها. هذا ليس تقديسًا للقصيدة من عوادم السياسة وعدمية الحروب، لكنها شعلة الشعر التي ليس لنا أن نكف عن سرقتها، وليس للأكف أن تكف عن تخاطف قبسها، ليس لترميم الخراب لكن للخروج عليه، بما فيه الخروج على غربة الشعر اليوم، وعلى ذلك النوع من الشعر الرديء الذي هو وجه آخر للخراب الذي لا يمكن مقاومته إلا بإبداع شعري جديد. لا أظن أن الشعر اليوم، مع هذه الثورة العارمة في أوعية الثقافة، وأدوات الإنتاج مقابل هذا التداعي السياسي عربيًّا ودوليًّا، إلا تحدٍّ لخلق حال جديدة من التحولات الشعرية التي لم تعهدها الحواس من قبل.

موت الحس النقدي

لا أحفل كثيرًا بموضوع الجوائز في الشعر ولا قليلًا، لا بمعناها العيني، ولا الرمزي؛ لذلك لا أستطيع الإجابة عن السؤال عن أثر غياب الجوائز. أما عزوف النقد عن تناول الإصدارات الشعرية الجديدة، فهذا حقًّا سؤال مقلق، لكن ليس شعريًّا بقدر ما هو مقلق في تعبيره عن تماوت أو موت الحس النقدي. والخطير في مثل هذا الموات أن الحس النقدي هو شرط لازب من شروط الحرية والإبداع والمقاومة. فأي أزمة حقيقية يكشفها هذا العزوف النقدي وإن كان للمسألة أوجه أخرى قد لا تكون بالضرورة تعبيرًا عن نوع من حال استسلام عام. ومن ذلك أن النقد الأدبي عندنا ارتبط بالإطار الأكاديمي بما في ذلك الإطار من تضييق على الحريات.

كما أن لانحسار المطلات الورقية حيث لعبة الملاحق الأدبية، وبخاصة في التجربة السعودية، دورًا في التواصل بين ثلاثي الأديب والناقد والقراء قد يكون من أسباب فراغ هذه الأوعية من ذلك الجدل النقدي الفوار الذي شهدته الساحة المحلية في مراحل تاريخية سابقة. وأيضًا قد يكون لجدة الأوعية الإلكترونية واتساع نطاقاتها دور في تشتت المنافذ النقدية وخلق حال من الارتباك لدى أجسادنا ولدى العقل النقدي المعتاد الذي لم يجرب هذه السقوف العالية من حرية النقد من قبل. ولهذا فما زلت أعتقد، كما سبق وكتبت في مواقع أخرى، أن تحدينا اليوم أن المدى المفتوح أمامنا أوسع من مدّات الأجنحة في دربتها وخبراتها السابقة، وعلينا عمل شاق وطويل لاكتساب خبرات ودربة الحرية التي تتيحها ثورة الفضاء والاتصالات. فمن المخجل أن نبقى في مدى لا حدود له بتلك الأيدي القصيرة والأجنحة القليلة نفسها. ولربما كما أن كثرة الطيران تقوي الأجنحة، فاتساع فضاء التعبير يعلمنا الحرية.