بيت في الصحراء..  بحثًا عن نقطة الأصل .. علاء خالد

بيت في الصحراء.. بحثًا عن نقطة الأصل .. علاء خالد

بدأت تتشكل رحلة علاقتي بواحة سيوة عام 1992م، عندما لجأت إليها فارًّا من موت أبي ومن مشكلاتي النفسية التي أورثتني إياها علاقات المدينة وزحامها الذي يختزل الموت وآثاره، ويضيِّعه داخل ثنايا العادة والتكرار والملل والسأم. المدينة التي تختزل أي مسافة، وتضعك في عراك مع حافة جسمك، ومن دون أي براح إضافي، تنتقل فيه أنت وحياتك ومشكلاتك وموتك الشخصي إلى مكان جديد. كانت صحراء سيوة في مخيلتي هي المكان الذي لا مكان بعده، وسأجد فيه نفسي، كونه يقع في أبعد نقطة من مدينة الإسكندرية، على الحافة من كوني الخاص، والوصول إليه يعني أن أجرّ معي حياتي ولو لعدة أيام باتجاه هذه الحافة. كما كنا نتخيل صغارًا، حافة الكرة الأرضية، التي بعدها يمكن أن ننزلق، أو نبدأ من جديد.

ثم دخلت في كتابي «خطوط الضعف» محاولًا تلمس العلاقة بين الصحراء، أو الواحة، بوصفها ملتقى خطوط الضعف بين عدة كتل صخرية، وسيرتي الذاتية، التي كنت أراها تمثيلًا جيدًا لهذا التعريف؛ ملتقى خطوط الضعف لعدة كتل صخرية تمثل ترسبات السلطة الأبوية في تاريخنا. في تلك الزيارة، والكتاب، ركزت على فكرة «الزوال» التي تحوط هذا المجتمع الصحراوي؛ بسبب التحولات المدينية وطرق التحديث الخاطئة، نتيجة للطريق الأسفلتي الذي ربطها بالمدينة، وأفقدها عزلتها التي حافظت على جوهرها آلاف السنين. وإن هذا التحديث الخاطئ، سوف يقضى على الواحة، وليس الصحراء، أو على الأقل سوف يؤثر في استمرارها، واستمرار أشكال الحياة فيها.

خلال زياراتي التي تكررت، قل شعوري بالزوال، وتعرفنا هناك إلى أصدقاء بعدد شعر رأسنا، تحدثنا أغلب الوقت في الظلام، أكثر من النهارات، فوق رمال الصحراء الساخنة، وسط غرف لا مرئية للحشيش. لم نر بعضنا جيدًا، لكن استمع كل منا لصوت الآخر بقوة، على أجهزة كشف الكذب القلبية، وكوَّن كل منا للآخر ملامح من هذه الذبذبات. كل من نقابله من أهل الواحة يصبح صديقًا لنا، وله حق علينا، ولنا حق عليه، كما تملي أعرافهم. كل من نقابله ولو مرة واحدة يصبح من الواجب عليَّ لو جئت مرة أخرى أن أسأل عنه وربما أشاركه الطعام، وهذا خلق مفارقات كثيرة. نصبح أصدقاء بقوة قانون الحياة والإنبات، وليس بالفعل. هذا الحق المكتسب، لهم ولنا، جاء بقانون سابق علينا فرضته الصحراء، قانون اللاملكية، حتى في الوقت، الذي يخضع للمصادفة والسمر والثرثرة والغناء والنميمة وقليل من أعمال الفلاحة. هناك؛ كلُّ ما تملك ليس لك: لا الوقت ولا المال ولا الضحك ولا الأسرار.

من الصعب أن تجد سرًّا لأحد أهالي الواحة، دقيقًا وربما جارحًا؛ لا يعرفه الجميع، ويتداولونه في جلساتهم بكل أريحية، ولا يعني هذا علاقة بالنميمة أو رغبة في تجريح صاحبهم، ولكن تخطى «السر» حاجزًا ما إنسانيًّا. أصبحت وظيفته أن يعري ولا يكشف فقط. كأن جسد الواحة عارٍ في حكاياتهم به العديد من الجروح التي ستظل تنزف من دون توقف أو اندمال. كل شيء مشاع حتى الأسرار.

المكان الذي لا نعود مُميزين فيه طبقيًّا وجنسيًّا. تشعرك الصحراء بأنك مالِكٌ لها لأنها ليست ملكًا لأحد، وأيضًا تشعرك بأنها تملك كل شيء وأنت لا تملك شيئًا. تتبادل معك كل صيغ الملكية والسلب والوهب. ولأنها بلا حدود تذوِّب تمامًا أي حس قومي أو عنصري. يقول ويلفرد ثيسجر، وهو أحد المتخصصين في الصحراء العربية، وأول من قام برحلة في صحراء الربع الخالي القاسية عام 1945م، ولمدة خمس سنوات، قال عندما عاش وسط البدو هناك: «لم أشعر بالدونية إلا وأنا وسط البدو».

جئتها منذ خمسة وعشرين عامًا بحثًا عن هوية، أو بالأدق نسيانًا لها، وأنْستني واستوعبت غضبي ومنحتني بيتًا ثانيًا من رمال، ألجأ إليه كلما زادت الحياة من وطأتها. ذهبت وعدت منها مرارًا. واشترينا هناك، أنا وسلوى زوجتي، أرضًا وسط الصحراء بالقرب من تلال الرمال، ونوينا بناء بيت سيوي بداخلها، مع حفر عين للمياه، ويحوطهما مساحة خضراء، تخيلناها خليطًا من نباتات وأشجار الصحراء والمدينة والعالم. كان هذا البيت بمنزلة البيت الصحراوي لتصفية النفس من متاعب رحلة الحياة بأكملها. دائمًا ما نحلم بأن نقضي فيه سنوات مختلفة عن سنوات المدينة وضوضائها وأضوائها، والدهون العالقة بعزلاتها. الصمت هناك يبتلع أي ضوضاء داخلية. الغشاء الصحراوي الذي يحجب أي إضاءات زائدة، لكنه في الوقت نفسه لا يحجب أضواء الحياة الأساسية. لم نبنِ هذا البيت حتى الآن، منذ فكرنا فيه عام 2000م. لكن هذا البيت المؤجل أصبح يربطنا أكثر بالمكان. بيت الرمال الذي يوجد فقط في الخيال، ويكبر داخله دون أن ينهار.

أعرف تمامًا أن هذا البيت، لو بنيناه، لن يكون ملكًا لنا وحدنا أنا وسلوى. سيشاركنا فيه كل السيويين من الأصدقاء. نحن طارئون على حياتهم وصحرائهم، وسيقتسمون معنا أي شبر باعوه من صحرائهم؛ لأنهم تحملوا، هم وأجدادهم، صعوبة العيش في الصحراء وعلى حوافها. هذا هو القانون العادل للحياة. يعرفون وربما يضحكون في أكمامهم، عندما يرون كل هذه الأراضي والأملاك والفيلات المبيعة ستعود في النهاية لهم ولأولادهم، أو على الأقل سيقتسمونها مع أصحابها بوصفهم أحد الورثة الأصليين؛ لأنهم الأطول نفَسًا في صراع الحياة والاستمرار، والخاسرون من البداية، الذين تعرضوا لضغوط شديدة طوال حياتهم عوَّدتهم على أن يربضوا ويقرفصوا في انتظار لحظة الانطلاق للقبض على الغنيمة، مهما زاد زمن القرفصة والانتظار.

في زيارتي الأخيرة لسيوة، منذ شهر تقريبًا، بدأت تتكون نظرة جديدة غير تلك التي كونتها عن الواحة. ربما كنتُ أحمل معي في حقيبة السفر في الماضي أسطورة «نهاية العالم»، التي سيطرت على نظرتي تجاه الحياة ونفسي.

لقد خالفتِ الواحة توقعاتنا، ربما تغيرت أشياء كثيرة داخل نطاق الحياة اليومية، ولكن لا يزال هناك فلاحون يقضون النهار كله في الأرض، ويعودون مع مغرب الشمس إلى بيوتهم فوق عربة الكاروصة التي يجرها حمار. ما زال هناك أطفال يلعبون في عتمة الحواري المتربة ولا يحلمون إلا بالذهاب مع آبائهم للحقول والعودة معهم مع المغارب فوق «الكاروصة» التي تهتز باستمرار، وتتحول لمرجيحة لأحلامهم الطفولية. ومجرد عدو بعضهم وراء بعض، وإثارة التراب، وملامسة أقدامهم الحافية؛ أحد مصادر سعادتهم. ولم ينعزلوا بعد في غرف أمام شاشات مضيئة أو ألعاب رقمية.

ما زالت في هذه المدن القديمة عناصر استقرار وبقاء تعادل أو تتفوق أحيانًا على عناصر التحول والتغيير والمسخ. هناك شيء قديم وجوهري في المكان هو الذي يحافظ على ذكريات وآثار الناس، شبيه بالعنصر المشعّ في الانشطار النووي الذي يقضي عمره كله في نشاط، وربما لن يدرك لحظة هموده، ربما الصحراء نفسها هي هذا الشيء القديم والجوهري.

الصحراء فضاء الذي لا يقبل التحول، لتمنُّعه وصعوبة السكن فيه. إنه للإقامة المؤقتة العابرة، مهما طال زمنها. كل من اقترب منها، فهو يقدم على مغامرة تستخدم هذه الأفعال الخاصة: يرتاد، يقتحم، يغزو، يعبر. كون الصحراء كونًا منيعًا مكتفيًا بذاته. ولا يمكن أن تعيش عمرك غازيًا، أو مقتحمًا، أو مرتادًا، أو عابرًا. إما أن تصبح أحد أبنائها، وهو اختيار صعب للغاية، أو ترحل كما يرحل الغزاة والمستعمرون.

عندما سافرت إلى سيوة للمرة الأولى عام 1992م كنت أبحث عن عراء يهزم حزني المديني والمكرر. لم أفقد الحزن هناك لكنه تحول لحزن شفاف ليس له مركز محدد، يمكن أن يذوب ولا يكون به سواك. كل ما كنت أهرب منه: الحزن، الموت، الملل، الزهق، تضخم ذاتي، الفقد؛ وجدته هناك، لكن مصحوبًا بسعادة إضافية بعد أن صُفِّي من شوائب المدينة، بعد أن عاد لأصله الكوني مجردًا وذائبًا في فضاء لا تصنيفات طبقية أو عمرية أو اجتماعية له. من دون ملوثات المدينة وأفكارها المنصبة على الصراع والخناق والتنافر والتزاحم والصعود الطبقي. عاد الحزن هناك مثل الرمح المسنون حادًّا وواضحًا وصريحًا ومؤلمًا أيضًا.

الصحراء لا تَقدُم ولا تَتقادَم، ثابتة في الزمن، لا يظهر عليها العجز، المكان الذي ننسى فيه أعمارنا لأنها أيضًا بلا عمر، كولادة أُولى ونهائية، نقطة الأصل الأرضية التي جئنا منها، تضع بيننا وبين مرور العمر ستارة من الرمال، لتحجبه. العمر داخلها يُحسَب بحركة الكثبان، بنمو الهضاب والسهول، بتآكل الجبال، بلمعان عظام الحيوانات التي نفقت بها كأنها عظام بلاستيكية، بتحول الصخور إلى صخور ملساء يمكن أن تغني، بدوران الريح، بالانتقال من نقطة إلى أخرى داخل هذا الكيان غير المحدود، بصورة البحر المعكوسة بداخلها، بالغرق والتيه وسط بحر الرمال. الكيان الذي يمتد عمره قبل ميلاد الإنسان، لذا هو يسبق في ذاكرتنا نقطة الأصل حيث وُلدنا، إنه الستارة الرملية التي تقف خلف نقطة الأصل مثل شلال من الرمال. الموت بدون جثة أو شاهد، هذا الاتساع اللانهائي هو الشاهد. البصر يسقط من التعب قبل أن ينتهي الأفق، قبل أن تكون النهاية.

يقدم مايكل أشر، الرحَّالة الإنجليزي، وأحد أهم مرتادي الصحراء العربية والإفريقية في القرن العشرين في كتابه «الرحلة المستحيلة» الذي يروي فيه رحلته الطويلة مع زوجته عبر الصحراء بالجمال من موريتانيا مرورًا بمالي والنيجر وتشاد والسودان ومصر؛ يقدم الكتاب بأبيات للشاعر الأميركي ت. س. إليوت: أبدًا لن نكف عن التجوال بحثًا عن أماكن أخرى/ وليكن آخر ما نستكشفه/ هي تلك النقطة التي بدأنا منها/ عندها فقط سنتعرف على هذا المكان/ كأننا نراه لأول مرة.

بالفعل غاية أي رحلة أن نستكشف نقطة الأصل، التي عادة ما نغادرها بعد ولادتنا ونضجنا لنبحث عن أماكن أخرى، وتظل هذه النقطة عالقة بنا وتتحرك معنا في انتظار أن نعود إليها ونكتشفها. لا شك أن الصحراء أحد نقاط الأصل بجانب الموطن، والبيت، والقبر، ورحم الأم.

الصحراء بطبيعتها غير مجاملة لأنها لا تعكس شيئًا، سوى نفسها، ولا تمتلئ بأحد، إلا نفسها. صاحبة العصمة، ولا سابق لصورتك بها؛ لذا تشعر بنفس اندهاشك الأول في كل مرة تزورها، كأنك غريب عنها، ولا رفقة مشتركة بينكما. تزورها كل مرة بروح الغريب. ليست مرآة لأحد، لا تضخِّم ولا تصغِّر، لكنها تشفّ صورتك، تتجاوزها إلى ما يقبع وراء المرآة. لا تعكس سوى الصمت بداخلك الذي يخفي بدوره تلك الذات المتضخمة، ويسحبها كذبيحة داخل هذا الصمت بكل ثقله وإزاحاته الممكنة وقدسيته.

أصبحت سيوة، والمدن المشابهة، خط رجعة لنا، نحن أبناء المدن، لنوع من الحياة التي سنلجأ إليها يومًا ما كما نلجأ للملاجئ الجماعية وقت الحروب. هؤلاء المتمسكون بجمرة هذه الحياة، هم قادتنا في المستقبل. هم الذين سيحملون لنا كشافات الإضاءة وسط ظلام صالات السينما. سيكونون قادتنا من دون ادعاء ومن دون أي رغبة في القيادة، إنها اضطرارات نهايات العالم، أو بمعنى آخر: بداياته.

الإسكندرية  17 مايو 2017م