المثقف الليبي يواجه العنف الطليق

المثقف الليبي يواجه العنف الطليق

كنت أؤكد، كلما سنحت المناسبة، أنني أرى أن الحركة الثقافية الليبية الحديثة، تتميز بكونها، إجمالًا، حركة ثقافية مقاوِمة. فهي تتقدم وتتطور بمشقة، تشتد أو تخفت، بين حقبة وأخرى، لكنها لم تنعدم في أي حقبة. إنها، في المحصلة، تتقدم رغمًا عن الظروف المعاكسة، وليس بسببها.

تاريخيًّا، من المعروف أن ليبيا ظلت من أملاك الدولة العثمانية حتى نهاية العشرية الأولى من القرن العشرين. ومع صدور الدستور العثماني، الذي عرف باسم «المشروطية»، سنة 1908م، الذي سمح بالصحافة الخاصة في الولايات التابعة للدولة العثمانية، ومنها ليبيا، أو ما كان يعرف بإيالة طرابلس، بدأت تظهر تلمسات الأدب الحديث لدى بعض الكتاب والمثقفين الليبيين. «دكتور أحمد إبراهيم الفقيه، بدايات القصة الليبية القصيرة، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان. طرابلس، 1985م، ص 8».

penلكن هذا الوضع لم يستمر سوى برهة وجيزة، إذ سرعان ما وقعت البلاد تحت الاستعمار الإيطالي الاستيطاني مع نهايات سنة 1911م، فأُوقِف، بذلك، مسار التطور الثقافي في ليبيا، بحيث لم تنشأ تحت نير الاحتلال الإيطالي ما تمكن تسميته بحركة ثقافية، لا بالعربية ولا حتى بالإيطالية، ذلك أن هذا الاستعمار كان استعمارًا استيطانيًّا لم يكن يهدف إلى استعمار البلاد وطلينة الليبيين «على خلاف الاستعمار الفرنسي في الجزائر الذي كان يهدف إلى فرنسة الجزائريين» إنما كان يبتغي إفراغ البلاد من سكانها، وإحلال الإيطاليين بدلهم؛ لأنه «على العكس من وضع الاستعمار الفرنسي في الجزائر» كان لديه فائض في اليد العاملة. كما أن سيطرة الفاشية على إيطاليا سنة 1922م كانت نكبة للثقافة في إيطاليا ذاتها. إضافة إلى أنه لم تتح لهذا الاستعمار فرص الاستقرار بسبب قصر مدة  بقائه في البلاد «حوالي ثلاثين سنة»، وبسبب المقاومة الباسلة التي أبداها الليبيون طوال عشرين سنة، وحدوث الحربين العالميتين المعروفتين.

كان لا بد من انتظار جلاء الاستعمار الإيطالي عن ليبيا بداية أربعينيات القرن الماضي، ووقوع البلاد تحت الإدارة البريطانية، وهو الظرف الذي أتاح عودة كثير من المثقفين الليبيين المهاجرين، وتحرر من بقي من المثقفين في أرض الوطن، وظهور الصحف الوطنية، حتى تبدأ الحركة الثقافية الليبية في الانتعاش والانطلاق من جديد.

استمر هذا الحراك، بقدر معقول من الحرية، بعد نشوء دولة الاستقلال الملكية سنة 1952م إلى وقوع الانقلاب العسكري الذي قاده معمر القذافي، واستيلاء العسكر على السلطة، ثم تجمع مقاليد هذه السلطة كافة في يد معمر القذافي الذي أسفر «ولم يكن في هذا الجانب متميزًا عن زملائه في مجلس قيادة الثورة» عن عداء وحقد ضد الثقافة والمثقفين. فضيق على الحركة الثقافية، وجعلها تسير على ساق واحدة، وتتنفس بصعوبة، وطارد الكتاب والمثقفين وسجنهم، لكن الحركة الثقافية الليبية حافظت، على رغم كل شيء، على قدر من النشاط، ولم تخمد خمودًا كاملًا.

انعتاق المثقفين من القمع

gaddafi

معمر القذافي

بمجرد سقوط «أو إسقاط» نظام معمر القذافي مع نهايات سنة 2011م تفجر أمل جياش بأن عهدًا من الحريات العامة، وفي أساسها طبعًا حرية التعبير، والديمقراطية يطرق الآن الباب، بإلحاح، وأن أوان ازدهار الثقافة، وانعتاق المثقفين من المحاصرة والقمع أصبح على راحة اليد، فصدرت كتب عدة في الأدب وفي مجالات أخرى، بعضها لم يسمح بنشره إبان عهد معمر القذافي.

ظهرت كتب تتناول مجالات لم تكن مطروقة في الكتابة الليبية من قبل. توزعت هذه المجالات بين ما تمكن تسميته «رواية المنفى» التي تتخذ من وضع طالبي اللجوء السياسي في أوربا، وحياتهم في معسكرات اللجوء مدار سردها، والحديث عن نظام القذافي الطغياني، أو تسجيل يوميات ثورة 17 فبراير، أو تناول تجربة بعضهم في السجن، سواء إبان حكم القذافي، أم خلال أحداث الثورة، وصدرت الصحف، وانعقدت الندوات، ونشط الكتاب والمثقفون.

لكن تبين أن الحال كانت مماثلة لمحتوى حكاية جحا حين ملأ جرة طينًا مغطى بطبقة رقيقة من العسل، وأخذها لبيعها في السوق مناديًا عليها «صبعين والحق الطين! يا عامي عماك الله!» «بالدارجة الليبية. والمعنى: بعد عمق أصبعين تصل الطين. أيها الأعمى [الغبي] لقد أعماك الله»، إذ سرعان ما اتضح أن الأمر كان وهمًا جارفًا، وأن ما كان يطرق الباب هو استبداد جديد أشد من الأول وأبشع، وأن ما كانت تلامسه أيادي الجميع، وفي الطليعة منهم المثقفون، قيود أعتى وأوجع. لقد بدا الأمر كما لو أنه كان خدعة مدبرة، وكمينًا منصوبًا بمهارة وحنكة وقع فيه الشعب الليبي بسهولة كاملة.

فسريعًا ما انطلقت الجماعات الدينية التكفيرية من قمقمها أو عقالها «بالأحرى خرجت من كهوفها»، وشرعت في شن حربها التكفيرية التي لا تجيد عداها. بعض هذه الجماعات لم تكن تنتهج أسلوب القتل، إنما تركته لغيرها من الجماعات التكفيرية المسلحة. فكثرت حالات اقتحام المكتبات، وترويع  أصحابها، ومصادرة بعض الكتب بتعليلات مختلفة. كما تقاسمت السيطرة على البلاد وحياة المواطن اليومية جماعات مسلحة اختلط فيها الديني بالجهوي بالمديني بالقبلي بالعرقي بالارتزاقي، وصار مناخ الخوف سيدًا، والاغتيال والخطف والموت بالرصاص الطائش شأنًا يوميًّا.

المثقفون ينقسمون على أنفسهم

dd

أحمد إبراهيم الفقيه

صحيح أنه، باستثناء بعض ممن كان لهم نشاط بارز في المجال الحقوقي العام، لم تشن حملات اغتيال وخطف واسعة النطاق ضد الكتاب والمثقفين، على غرار الحملة التي شنت على العسكريين المحترفين في الجيش الليبي والإعلاميين، لكن في هذا المناخ اختنق المثقفون والكتاب وانقسموا على أنفسهم، فمنهم من تمترس، علنًا أو ضمنًا، وراء متاريس جهته أو مدينته أو قبيلته أو إثنيته، ومنهم من تمسك برؤيته الوطنية العامة، وحاول المحافظة على رؤية متوازنة موضوعية، ومشكلة هؤلاء أنه ليس ثمة من يحميهم؛ لأنهم ليسوا محل رضا الأطراف المتخاصمة والمتنازعة قاطبة، فغادر البلاد منهم من استطاع إلى مغادرتها سبيلًا.

في نظام معمر القذافي الشمولي كان ثمة نظام سياسي ودولة، وكان النظام، عبر أجهزته الأمنية، يحتكر العنف. كنا نعرف، تقريبًا، ما الذي يزعج النظام، وما الذي لا يزعجه، وكنا نحاول أن نفعل ما يرضي ضمائرنا محاذرين تجاوز «الخطوط الحمراء». الآن، لم يعد ثمة دولة، بالمعنى السيادي والوظيفي، ولا يوجد نظام سياسي يحتكر العنف يمكن تحديد إطار عام للتعامل معه. إن ما يوجد حاليًّا جماعات «كي لا أقول عصابات» تسيطر على البلد، ولكل منها رؤيتها الخاصة للمحلل والمحرم، وما يجوز وما لا يجوز.

مع ذلك، ما زال قلب الحركة الثقافية الليبية ينبض، وإن بمشقة. فما زال بعض المثقفين والكتاب يقيم الندوات، ويمارس الكتابة في الفضاء المتاح ووفق الهامش المتوافر، ومنهم من ظل محافظًا على الكتابة في الشأن الليبي من بؤر الخطر حيث الغياب الكامل، الفعلي والصوري، للدولة وانعدام الأمان. وما زال كثير من الشباب، ذكور وإناث، يشكلون نوادي للقراءة، ويتجادلون في ما يقرؤون، ويقترحون كتبًا للقراءة، ويقيمون معارض متواضعة للكتاب، إلى غير ذلك.

لكن المرحلة الحالية تعد أسوأ مرحلة تمر بها الحركة الثقافية الليبية عبر تاريخها الحديث. ونود ألا تطول هذه المرحلة أكثر.