النفـط لا يكفـي لصـنع روايـة   علي أبو الريش

النفـط لا يكفـي لصـنع روايـة علي أبو الريش

ما قبل النفط.. هذه المرحلة تمشي متخففة من وِزْر اللزوجة، وكانت الصحراء بمنزلة الثوب الشفيف يطوي لفائفه على الروح، فتمضي مُعْشَوْشِبة بالشفافية والعفوية ما جعل الإنسان يسكن في طوق ذهبي تلونه الصحراء بمُنَمْنَمات رمالها مستدعية خيوط الشمس التي كانت تنسج حريرها على السفوح الرملية الفارهة. وما بين الهضاب وخضاب الشمس، لبث الوجدان الإنساني في الخليج العربي، مثل نورس يحلق في الفضاء ويحدق في زرقة البحر، وينقر حبات الحياة من الأعماق الصافية، وعندما جاءت الرواية لتلامس الوجدان الإنساني وجدت فضاء مفتوحًا، مشروحًا، منقوحًا، لا يعتريه غُبَار ولا سُعَار، كان رقراقًا تواقًا للتجذر في الأرض، متشوقًا للانغماس في عطر النخلة منسجمًا مع نفسه.

وكون الرواية بنت الفلسفة، والفلسفة هي الفكرة الوجودية في الأصل، أيقن الروائي الخليجي أن في تفاصيل الرواية يكمن الوجود، وأصل الوجود هو الإنسان الفرد كما قال الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر حينما وضع فلسفته على أساس أن الإنسان هنا، وهو القائل: إن الإنسان فقد مصداقية وجوده عندما استعبدته الميكنة. وبالتالي فإنه لا مجال للرواية غير فضائها الفطري والغريزي؛ لأنها من رحم الفطرة تستعيد كيانها وبنيانها وبيانها. الرواية في الأصل مثل الشجرة عندما تنقلها من بيئتها فإنها تذبل وتتهاوى أعضاؤها وتذهب إلى العدم، لا يمكن أن تختلق واقعًا غير الواقع، ولا يمكن أن نولد رواية من خارج رحم البيئة التي نشأت فيها وإلا أصبحنا نستنسخ مولودًا من رحم بلاستيكي.

النفط لن يكون بديلًا عن الدم، والرواية كائن حي، يعيش على دورة الدم، وينمو من خلاله، ويلون شخوصه بلون كُريات الدم الجارية في الجسم، فنحن نحتال على الواقع، بل نقضّ قضيضه إلى ما جئنا بثيمة روائية غير التي تكمن في صلب الرواية، ونكون كمن يريد أن يبني بيتًا في المريخ لمجرد أنه علم أن هناك دراسات تجري لغزو هذا الكوكب ونحن بحاجة إلى زمن بعمر البشرية على أرض الصحراء كي ننسلخ من جلباب الرمل الجاف لنذهب إلى لزوجة الرمل الممزوج بالنفط. النفط كمادة لا تعني الروائي وإن كان هذا الساحر يسلب الألباب في تغيير المسكن من الخيمة إلى القصر، ولكن هذا لا يعني أن هناك وجدانًا بشريًّا قابلًا للانسلاخ، مستعدًّا للاستنساخ، مُهيَّأً للصراخ. كل الأشياء التي تجري على سطح الماء لا تعبر عن أعماقه، هناك في الأعماق إنسان آخر وكائن يرضع من حليب الأرض، من التاريخ، ودورة التاريخ لا تتحرك كما هي محركات المركبات، بل إنها تدور دورتها الحلزونية ببطء وهدوء؛ لأن التاريخ أزكى من المادة، وبما أن المادة تعشق الألوان البراقة، فإن التاريخ يكتسب مصداقيته من عدم اتكائه على مساحيق التجميل.

الكتابة عن النفط مثل العملة المغشوشة

سنوات-النفط-٢

متحف اللوفر في أبو ظبي

اليوم في الإمارات والسعودية وكذلك دول الخليج العربي كافة، هناك مآثر تاريخية وأيقونات لا يمكن إزالتها لمجرد برميل من النفط ساح سائله الأسود على ثيابها، هذه المآثر متعلقة بالوجدان، والوجدان الإنساني لم يخلق أمس أو حتى قبل ستين عامًا أو أكثر، إنما هو نتيجة تراكم تاريخي ونتيجة ولادات أحداث متعاقبة، قد نغير من ملابسنا ومن مساكننا ومن وسائل عيشنا ومواصلاتنا، لكننا لا نستطيع أن نغير من وجداننا؛ لأنه مثل المحيط يتحرك ولا يتغير من لونه وإن شابه بعض البقع الزيتية تبقى نافرة ومعزولة لأنها ليست من أصل تكوين الماء. لا نقول لم يكتب أحد عن مرحلة النفط، بل كتب بعض لكن هذه الكتابات جاءت مثل العملة المغشوشة، مثل البضاعة المقلدة؛ لأنها لم تعبر عن الحقيقة، بل عَبَرَت الحقيقة وتجاوزتها إلى واقع مغاير، هناك في الضفة الأخرى حيث يكمن الزيف، أنا لست من الذين يعيشون الماضي كما هو، بل أشعر أن الماضي هو سبب خذلاننا ومأساتنا، لكن عبور الماضي شيء والانغماس في الزيف شيء آخر، اللحظة هي الفاصلة ما بين أحزان الماضي وقلق المستقبل، وأشعر أنها المكان الملائم لتكون موئلًا للرواية؛ لأنها تقيها من سخونة العراك الثقافي المريض وتضعها في المكان الصحيح، في الخطوة الأولى التي يبدؤها الإنسان كي يحرّك أطرافه من دون قيود الماضي وأشواك المستقبل.

ولذلك فإن الكتابة عن اللحظة، هي النجاة من الزيف وهي الرهان الوحيد للخروج من اللزوجة، فما أحلى أن تكون نفطيًّا؛ لأنك ستصبح غنيًّا وثريًّا وسوف تغير كل شيء حتى ملابسك الداخلية، لكن مقابل هذا كله سوف تعيش بلا روح، وما قيمة رواية ميتة أدواتها من نعش وكفن ثم القبر، فالخلود الحقيقي للأشياء كما هي، لا كما يتطلب السوق. والجمال في الرواية أن تتمتع بأحلام الصحراء والصحراء هي في الأساس رواية كبيرة واسعة الفصول، شخوصها كائنات لا تعيش في الفضاء إنما تتجذر في التراب.

يقول لنا الحكيم الهندي «أوشو»: إن رجلًا دخل على نحّات فاشمأزّ من صنعته، وقال له: كيف تريد أن تصنع تمثالًا جميلًا من هذا الحجر الأصم، فالتفت إليه النحات ساخرًا، وقال: أنا لا أصنع التمثال من الحجر، إنما التمثال موجود في قلب الحجر، وكل ما أفعله هو إزاحة الغبار عن التمثال. هذه الحكاية صورة جلية لمعنى الجمال الذي يصبو إليه الروائي الحقيقي، إنه يزيح الغبار عن الوجود ولا يغمس أصابعه في اللزوجة؛ لأنه لو فعل ذلك فسوف يشوّه الوجوه، وتصبح الرواية عملًا من أعمال الشعوذة. الأعمال الخالدة هي التي بقيت متجذّرة في الواقع ولا تخرج عن تفاصيله، بينما الفقاعات هي التي طَفَت على السطح وسرعان ما زالت.

دعونا نحلم باليوم الذي نشأ فيه الإنسان من غير أقنعة سنجد أنفسنا نعيش خارج الأسوار، ونشم رائحة الزهرة الطالعة في الصحراء، ونرى النخلة وهي تلقح نفسها في الخلاء الرحب من دون عوامل غير طبيعية. فالطبيعة وحدها تعلمنا كيف ننجب أطفالًا أسوياء، وعندما يتدخل الإنسان يغير المعالم والسلوك والحياة برمّتها، ولا أحد يدّعي أنه صنع المعجزة مهما بلغ من بلاغة ونبوغ، لكن الطبيعة وحدها التي جاءت بالمعجزات لأنها لم تستعِنْ باللزوجة ولم تتلوث، فلا بد من فضاء حتى تأتي الأشياء نظيفة وجلية، فالماء تحت الأرض لا يخرج لذاته ولا بد من الحفر، لا بد من خلق الفجوة الفضائية حتى يخرج رقراقًا، وهكذا الرواية لا تأتي بفعل الخيوط العنكبوتية التي يدعيها من أغرتهم لزوجة النفط. الرواية تأتي من الفضاء، والفضاء وليد التحرر من قيود المراحل، وقد يكون للنفط شأن في الأعمال الروائية ولكن متى؟ لا بد من زمن، لا بد من تراكُم، لا بد من رسوخ، لا بد من تجذر في الوجدان وقياسًا إلى عمر الإنسانية، فإن سنوات النفط لا تكفي لأن تصنع رواية حقيقية، والكتابة الروائية في موضوع ما لا تأتي بقرار شخص أراد أن يكتب عن عصر النفط، هناك خلايا في الداخل هي التي تصنع هذا التدخل، هي التي تكتب ما يرسخ في الوجدان، وتلفظ ما يتعارض مع الجملة الوجدانية، كثيرون كتبوا عن أحداث راهنة، صحيح أنها كانت مؤثرة وقوية لكنها لا يمكن أن تكون بالمستوى الذي يصنعه التاريخ، ولذلك جاءت الأعمال الروائية مثل حكايات العجائز وخراريف آخر الليل لأنها مصطنعة، ولأنها متسرعة مثل الأكلات السريعة لا طعم لها ولا رائحة.

الحضارة الإنسانية لم تُبْنَ من أمس، بل من ملايين السنين؛ سارتر عندما كتب رائعته الأدبية «الغثيان» لم يكن ليخرج بهذا العمل العملاق لولا أن خرج من صلب وجوديته الممتدة مثل العصر الإغريقي (بروتاغوراس) وعلى أثر هذا التاريخ الطويل، بنى عمله الروائي، وعبرت الرواية عن فصل من فصول القرن التاسع عشر الذي جاء مناقضًا لفردية الإنسان والحرية، وجاء هذا العصر محمَّلًا بأوزار الثقافة المجتمعية الفجة التي أرادت محو الفرد تحت سنابك الجياد الرأسمالية الجامحة.

النفط يقتحم بيوتنا دون استئذان

سنوات-النفط-٣نحن لا نطالب الروائي بأن يكتب عن النفط إنما نريده أن ينغمس في الواقع، والواقع ليس وليد النفط، إنما هو نتيجة عوالم مختلفة. وإنما جاء النفط مقتحمًا بيت الإنسان من دون استئذان، لذلك حتى يتم التعرف على هذا الضيف المفاجئ فلا بد من استضافته لزمن يستحق أن يكون فيه الضيف قد لامس مشاعر الإنسان المضيف، ويستحق التحدث معه بطلاقة من غير توجس، وقد يقول قائل: إن للنفط دورًا مهمًّا في التغير الذي طرأ على حياة الناس في الخليج العربي، ونقول: أجل حصل هذا، ولكن ما حصل لم يكن بفعل النفط، إنما بفعل الاستعداد اللاشعوري للناس بأن يتغيروا، وهذه هي طبيعة الأشياء، وإذا أردنا الاقتراب من هذه الظاهرة روائيًّا فعلينا أن ندخل في كنز اللاشعور، ولا بد أن نقترب من هذا البحر لنعرف ما الذي تغير في الإنسان؛ الشعور أم اللاشعور، وأنا موقن تمامًا أن اللاشعور الجمعي ما زال كما هو، وما حدث هو تغيير في الشعور، والروائي لا تهمه الصفات بقدر ما تهمه السمات، الأمر الذي يجعلنا دقيقين جدًّا في الحديث عن الموضوعات التي يجب أن يتطرق إليها الروائي.

النفط‭…‬‭ ‬مادة‭ ‬روائية

أعتقد أننا ما زلنا بعيدين عن موضوع النفط كمادة روائية؛ لأنه على الروائي الخليجي أن يغوص في أعماق التاريخ، وأن يبحث في الرواية الأهم، وهي رواية الإنسان نفسه، هذا الكائن الذي جاء في الأصل من صلب ثيمة روائية، وعندما يحصل هذا التواصل ونختتم علاقتنا برواية الإنسان قبل رواية النفط نستطيع أن نتحدث عن النفط وغيره من موضوعات أنهكت العقل البشري واستنزفت مشاعره، نحن بحاجة إلى هذا (التزمت) حتى ننتصر للإنسان وحتى لا نضعف طموحاته في الحياة في اختزاله في برميل نفط، نحن يجب أن نضع للعربات قوانين، وكما قال الوجودي العتيد «صموئيل بيكيت»: «إذا كانت العربات الفارغة أكثر ضجيجًا فلا بد أن يكون هناك قانون ما يحدد مستوى هذا الضجيج»، فالروائي الخليجي بحاجة إلى أداة متمرّسة تخلّصه من الضجيج أولًا لتمكينه من فهم العالم، وبالتالي سيكون من السهل عليه أن يكتب عن النفط وما يتبعه من تطورات في الشكل والمضمون.

خلاصة القول، أريد أن أقول هنا في هذا المقال: إننا لسنا شعوبًا نفطية، بل إن حضارتنا لها جذور في التاريخ ضاربة الأطناب، ولو أردنا أن نتجنى ونلصق أنفسنا فقط بالنفط فبالنسبة لي أنا ابن الإمارات يجب عليَّ أن أنفصل كليًّا عن أبي وأمي وجدي وجدتي، وأن أعيش في جلباب النفط فقط، لو فعلت ذلك سأصبح بالتالي مقطوع الجذور وبلا هوية، وبهذا الانفصال المزري لن أكتب رواية، إنما سأكتب أي شيء إلا الرواية، فهذه الرواية جنس من أجناس التاريخ والتاريخ يكمل ولا يهمل الحلقات. نحن مطالبون الآن بأن نكتب عن التاريخ واللحظة الراهنة التي نرى فيها وطننا العربي يتمزق بسيوف المنفصلين عن التاريخ، يجب علينا أن نضع أقلامنا رهن التاريخ لا رهينة الانفصال عن التاريخ، ولو عرف المنفصلون مدى فداحة الألم الذي يصيب الوجدان عندما تدمر مآثر التاريخ في سوريا والعراق وليبيا وغيرها، لَمَا نظروا لواقعية خارج الواقع، ولَمَا أحرقوا ملابس التاريخ في تنانير الحقد والجهل.