ليس بالرواية وحدها تحيا الثقافات!

ليس بالرواية وحدها تحيا الثقافات!

ماذا لو قرر ناقد عربي أن يؤلف كتابًا حول الأسلوب المتأخر لعدد من الكُتَّاب والفنانين العرب مثلما فعل إدوارد سعيد مع كُتّاب وفنانين غربيين، ليدلنا على من حافظ منهم على عناده، ومن احتفظ بجذوة الموهبة مشتعلة للنهاية، مختتمًا حياته ضد زمانه مشاغبًا ومقلقًا مثلما بدأ؟

ستكون خدمة جليلة يؤديها ذاك الناقد للثقافة العربية، وستكون رحلة مقلقة ومخيبة للآمال دون شك؛ فقد عرفنا، خلال قرن ونيف من النهضة العربية الحديثة، مفكرين كبارًا تخلوا عن الإزعاج في أخريات أيامهم؛ اعتذروا عن الشغب الفكري الذي بدأوا به حيواتهم، أو تراجعوا عنه دونما اعتذار، بينما الظاهرة اللافتة في حقل الإبداع أن معظم المبدعين العرب كتبوا أعمالهم المهمة في بواكير شبابهم، ونالوا عنها شهرة كبيرة، ثم كفوا عن أن يكونوا كتابًا دون أن يتوقفوا عن إصدار الكتب. ربما لهذا يبدو الطيب صالح استثناءً نادرًا.

بعض أسباب التراجع الفكري ينبع من ذات المفكر، إعمالًا لمفهوم التوبة بالمعنى الديني، وبعضها يكمن في أسباب قاهرة تعرضت لها الثقافة العربية؛ بسبب التحولات السياسية بما صاحبها من ردة اجتماعية، فلم يتركنا القرن العشرون إلا منهكين ثقافيًّا، فاقدين قدرتنا على النقد، فقراءَ في الفكر فقرًا كميًّا وكيفيًّا. في الجهة الأخرى، يبدو أن افتقاد الخوف من الكتابة السبب الأساسي وراء انطفاء المبدعين. ما أن يصبح الكاتب مشهورًا حتى يتخلى عن وظيفة الكاتب ويحترف الشهرة، لم ينجُ من هذا المرض سوى قلة، لهذا نبدو فقراء في الكيف الإبداعي الذي يعاني كثرةً كغثاء السيل، ويكاد ينحصر في لون واحد من الكتابة هو الروايات التي تمر دون مساءلات جادة.

٭٭٭

تراجع النقد (الفكر النقدي عمومًا والنقد الأدبي خصوصًا) جعل ثقافتنا مسالمة مستريحة للكذب؛ الأمر الذي تسبب لاحقًا في انهيار الإبداع. وقد تفاقمت الظاهرة في السنوات الأخيرة، حيث تلمع أسماء وتحمل صفة «الكبير» تمضي بمتاعها الهزيل آمنة مثل بقرة الهندوسي، لا توقفها بوابة الناشر ولا بوابة الناقد ولا معايير الجائزة الأدبية!

يصل تواضع المستوى لدى الكثيرين ممن يتمتعون بدفء صفة «الكبير» حد الافتقار إلى سلامة اللغة أسلوبًا ونحوًا وإملاءً، لكن ذلك لا يقلقهم أو ينتقص من مكانتهم التي تظل محفوظة طوال حياتهم؛ يذودون عنها بالتودد والصداقة وبالشراسة أحيانًا؛ فإن همُ ذهبت حيواتهم ذهب إبداعهم الرائج إلى النسيان ليفسحوا الساحة لكبار آخرين، ليسوا كبارًا إلا بمعايير النقد المداهن والقارئ المأخوذ بهالة الشهرة.

ولم تفقد ثقافتنا قدرتها على النقد بين يوم وليلة، بل استغرق الأمر النصف الثاني من القرن العشرين أو أغلب سنواته. وإذا تأملنا تاريخنا الثقافي جيدًا سنجد أن المعارك الأدبية الكبيرة تركزت في النصف الأول من القرن. ولم تزل الصحافة الأدبية تستدعي معارك الرافعي والعقاد، ومعارك الأخير مع طه حسين، وغيرها لإثارة فضول القراء وكسب اهتمامهم في حقبة التثاؤب التي قل فيها الجدل، وأشرعت فيها أبواب المجاملة على اتساعها.

٭٭٭

كانت الليبرالية العربية في مراكز إنتاج الثقافة (القاهرة، وبغداد، ودمشق) خلال النصف الأول من القرن العشرين منقوصةً بلا أدنى شك، لكنها أتاحت تنوعًا فكريًّا وإبداعيًّا لم يزل ملهمًا، ويمكننا أن نتخيل المدى الذي كان بوسعنا أن نصل إليه، إذا لم يقع الحدث الأسوأ في تاريخ الثقافة العربية، وهو تحول الحكم إلى أنظمة عسكرية في المراكز الثلاثة مع مطلع الخمسينيات. من طبيعة الأنظمة العسكرية في كل مكان مجافاة الفكر، بينما يمكنها أن تسمح بالفن والأدب؛ لأنه ينطوي على إمكانيات الاحتفال بالإنجاز، وإذا ما جنح للنقد فنقده مبطن ومحتمل. وقد نظر الحكام الضباط إلى الفنانين والمفكرين والمبدعين المخضرمين بريبة؛ مثل النظرة إلى «الطلقاء» الذين أسلموا بعد فتح مكة عندما لم يكن من الإسلام بد، وكان لا بد من جيل جديد للعهد الجديد، تطمئن السلطة لمساندته وتثبت من خلاله أن الانقلاب على الليبرالية قد أثمر فنًّا وأدبًا ولم يصب الأوطان بالعقم.

في مصر، المركز الأكبر، كانت الموسيقا والغناء الفن الأكثر طواعية. سرعان ما لحن المخضرمون وغنوا للعهد الجديد، وتعايشوا إلى جوار نجومه الشباب، وكذلك فعلت السينما التي أنتجت أفلامًا تدين «العهد البائد» بينما ظل المخضرمون من المفكرين والمبدعين يكتبون على طريقتهم المثلى. منهم من أبدى توجسه أو توقف ارتباكًا وامتعاضًا من التغيير، مثلما فعل نجيب محفوظ الذي احتاج خمس سنوات من الصمت قبل أن يكتب رواية جديدة.

٭٭٭

لم تكن الثقافة من الهواجس الملحّة على النظام الجديد في البداية. انشغل عبدالناصر معظم عقد الخمسينيات بالتغييرات السياسية والاجتماعية التي جلبت له شعبية جارفة، لكن ذلك العقد لم ينتهِ، إلا وقد أصبحت للثقافة وزارة في مصر. وبدأ الضبط والربط العسكريان يعرفان طريقهما إلى الثقافة، التي ستفقد تنوعها تدريجيًّا. كان المخضرمون يكتبون أعمالهم الفكرية على الهامش، بينما لا يكاد أبناء العصر الجديد يقاربون إلا الإبداع، في الشعر والقصة والمسرح والرواية، وسرعان ما أخذ الشعر والقصة والمسرح في الانحسار، حتى إذا دخلنا حقبة الثمانينيات لم نجد سوى الرواية مَلِكَة وحيدة على عرش الثقافة العربية. ولا يمكن أن نعزو معالجة المؤسسين من أمثال طه حسين ومحمد حسين هيكل ومعروف الرصافي لأكثر من لون أدبي وبحثي إلى طبيعة عصر التأسيس أو إلى الحرية التي صبغته فحسب، بل إلى موسوعية هؤلاء الشعراء والكتاب ومتانة تكوينهم الثقافي، وهذا لن نجده لاحقًا إلا عند قلة من أبناء جيل، كانت أعجوبته الأساسية أن جُلَّ رموزه لم يلتحقوا بالجامعة.

التقى ضعف التكوين الفكري مع كفالة السلطة للثقافة. والسلطة بطبعها لا تحب الفكر. لكن الخسارة لن تقتصر على الفكر، فسرعان ما سار الأدب إلى الخمول.

لم يعد تمويل الكاتب والناشر يأتي من جيب القارئ، بل من جيب الدولة، بمعنى آخر: من جيب المواطن سواء قرأ أو لم يقرأ. ولا تتعرض لجان النشر الحكومية للمؤاخذة عندما تنشر المستوى الهابط ما دام آمنًا! جوائز الأدب التي نشأت في المجتمع المدني خلال النصف الأول من القرن العشرين صارت جوائز الدولة، يوزعها الزعيم في عيد العِلْم، ولا يمكن لجائزة أن تصيب مارقًا مهما كان حجم إنجازه؛ لأن لجان التصويت -التي تضم موظفين غير مثقفين ومثقفين كالموظفين- ستتكفل بالضبط والسيطرة.

صارت شهرة الكاتب ومكانته تمضي في دائرة مغلقة فيها الكتاب والمقال النقدي والجائزة، بينما تنصرف الكثرة الكاثرة من المواطنين عن القراءة، وتستمر القلة تقرأ دون هُدى، أو بهَدْيٍ من نقد قليل الأمانة، والطريف في الأمر أن الناقد الذي أخرج العفريت، يبدأ في الخوف منه مثله مثل القارئ العادي، فبعد أن تَتَعَمْلَقَ شهرة الكاتب لا يستطيع الناقد أن يفصح عن رأيه بعمل ذلك الكاتب إذا ما عُرض أمامه في عملية تحكيم!

٭٭٭

اليسار مدين باعتذار للثقافة العربية؛ فهو الذي دشن الاسترخاء الفكري والمجاملات النقدية الفجة في جيل الستينيات. الكثير من الأعمال كانت تصدر بتمهيد نيراني كثيف من النقد المنحاز، بل كانت بعض الصحف تحمل مقالات تبشيرية بأعمال قبل صدورها، اطلع عليها الناقد مخطوطة، بينما تنزوي أعمال جيدة مع مبدعيها خلف سحابة الدخان المصاحبة لشهرة المشاهير. ربما كان في تواري مبدع مجيد مثل عبدالحكيم قاسم مثالًا دامغًا على الانحياز النقدي الذي استقر مع جيل الستينيات. مع ذلك الجيل استقرت ظاهرة انفصال الشهرة عن الإجادة، واستبسل المشاهير في الدفاع عن هالاتهم. ومع حلول الثمانينيات ازداد عدد الجوائز الأدبية، وانتقل ثقلها المادي من المراكز التقليدية إلى الخليج، وظل التحكيم من المراكز، خاضعًا لتراتب الشهرة ذاته، وظل مشاهير الستينيات يتسلمون الجوائز تباعًا بالترتيب، كأنها مكافأة نهاية خدمة!

ومع الجيل ذاته استقرت الرواية معادلًا لـ«الكتابة» ولم نَعبُر أبواب الألفية الثانية حتى كان الانفجار الكبير الذي لم يتشكل منه كَوْنٌ روائيٌّ ولا حتى كُويْكِب، كل ما هنالك زيادة الإقبال على مهنة «المشهور» الذي يكتب روايات ضعيفة يستقبلها نقاد يخافون المشاهير وقراء فاقدون للمناعة النقدية!

وللإنصاف، لم تخلُ الساحة تمامًا من الروايات الجيدة، لكن أمة تبتغي الحياة لا يمكن أن ينحسر فيها الفكر كل هذا الانحسار، ولا يمكن أن تميل كل هذا الميل إلى نوع إبداعي واحد.