ما يشغلني بعد «السفير»

ما يشغلني بعد «السفير»

.. وتسألني: ماذا يشغلني بعد «السفير»؟

يشغلني ما كان يشغلني قبل «السفير»، وخلال دهر إصدارها. بل ما قبل إصدارها والاستمرار في تحمل أعباء هذا الإصدار، وكل ما اتصل به ونتج عنه من فرح وإحساس ممتع بأننا قد حاولنا ونجحنا في التعبير عن ضمير الناس وفي رفع صوت الذين لا صوت لهم، كما في خدمة قضايا أمّتنا بكل ما نستطيع من جهد وما نملك من خبرة وما يعمر قلوبنا ووجداننا من إيمان.

لقد اجتهدنا، زملائي وأنا، في أن نخدم قضايا أمّتنا في وطننا العربي الكبير، انطلاقًا من بيروت- الأميرة، كتاب العرب ومنتداهم الفكري، جامعتهم ودار ضيافتهم وصحيفة الصباح… عبَّرنا عن ضمير الناس، وعن طموحهم إلى التحرر وتحرير إرادتهم بعد أرضهم، وبناء غدهم الأفضل، وعن شوقهم إلى التقدم ولعب دورهم الثابت والمؤكد تاريخيًّا في خدمة قضايا الإنسان وحقوقه.

حاولنا بقدر الطاقة أن نؤكِّد المؤكَّد في هوية لبنان العربية، وفي دوره وإسهامه الثابت في النهوض العربي، فكريًّا وثقافيًّا، وأن تكون «السفير» شهادة جدارة في هذا المجال: صحيفة العرب، كأمة ذات تاريخ مضيء، وذات حق ثابت في الإسهام في الحضارة الإنسانية، وأن تكون صوت الناس المعبِّر عن ضميرهم، حاملة راية حقوقهم في وطنهم وهم بُناته وحماته والمساهمون في صناعة دوره الحضاري

إنني، بداية وانتهاء، صاحب قلم، وصاحب تجربة عريضة في عالم الصحافة، وقبل ذلك وبعده صاحب قضية مشرفة، وحامل أوجاع مُمِضّة نتيجة الخيبات وتهاوي الآمال قبل الأحلام وبعدها.. فلقد عشت، مع أبناء جيلي نمدّ أيدينا ونقطف النجوم، نتطلع إلى الوحدة العربية فنراها في مدى أذرعتنا، وإلى التقدم فنراه حقنا الذي يمكننا أن نحققه بسواعدنا مع عقولنا وجهدنا، وإلى التحرر الكامل بعنوان تحرير فلسطين من مستعمرها ومسترهن إرادتنا الاحتلال الصهيوني المعزَّز بالدعم الدولي المفتوح.

وبالتأكيد فإن تاريخي هو أول ما يشغلني، كصاحب قلم وصاحب تجربة عريضة أمضى أكثر من ثلثي عمره في مهنة يراها –إذا ما مورست بكفاءة معززة بالضمير- واحدة من أشرف مجالات خدمة الإنسان وقضاياه المُحِقّة، بدءًا بتحرير الأرض والإرادة، وصولًا إلى حقه في بناء مستقبله الأفضل بجهده وعرق الجبين، بطلب العلم والاستزادة منه -وهو البحر البلاحدود– من أجل خدمة مجتمعه، وتأكيد جدارة هذا الإنسان العربي -فضلًا عن حقه– ببناء مستقبله الأفضل.

ومع التواضع فإنني أفترض أن تجربتي الشخصية والمهنية تستحقّ أن تُروى، خصوصًا أنها تمَّت عبر المخاض العظيم الذي عاشته الأمة العربية، بمختلف أقطارها، وهي تحاول انتزاع حقها في الحياة الحرة الكريمة فوق أرضها المستقلة من غاصبي ذلك الحق وهادري كرامتها على امتداد أجيال.

لقد عشت في قلب الأحداث تجربة عريضة عرفت خلالها معظم الأقطار العربية، بشعوبها والتضحيات الغالية التي تكبدتها من أجل الكرامة والاستقلال واستعادة قرارها الحر… عرفت العديد من القيادات السياسية، بعضها رجع إلى ربه، وبعضها الآخر ما زال حيًّا. عرفت مئات من المبدعين والمثقفين، شعراء وكتابًا، باحثين ومفكرين، ممثلين وممثلات ومخرجين، مطربين ومطربات سكنوا ضمائرنا وأغنوا وجداننا. وعرفت البلاد العربية بأهلها الفقراء الطيبين من اليمن السعيد إلى المغرب الأقصى، مرورًا بالعراق وأقطار الجزيرة العربية وسوريا ومصر التي علمتنا وأرشدتنا إلى الطريق، ومعها ليبيا وتونس والجزائر نشيد نضالنا الذي لن يهدأ ولن يتوقف حتى تحقيق أماني الأمة المجيدة التي تستحق حياة أفضل ودورًا يليق بتاريخها.

٭٭٭

أتمنى أن يكرمني الله بشيء من العمر يتيح لي أن أروي تجربتي لعلها تفيد زملائي وإخواني الذين يصرون على أن يجدوا مستقبلهم الأفضل في مهنة البحث عن المتاعب، إحدى ركائز الغد الأفضل.

وشكرًا لمجلة «الفيصل» التي نحتفظ بذكرى صاحب الفضل في اسمها، في قلوبنا، على استضافتها لي لأكتب هذه الكلمات.