مراد وهبة: خيانة المثقف جلبت الأصولية إلى العالم

مراد وهبة: خيانة المثقف جلبت الأصولية إلى العالم

هو واحد من الشخصيات التي يصعب عدم الانتباه لحضورها الفكري والثقافي، ليس لأنه صاحب الخصومة الطويلة مع تيارات الإسلام السياسي، ولا لأنه يرى أن العلمانية هي الحل لخلاص الشرق الأوسط من صراع الأصوليات الذي يجتاحه، ولا حتى لأنه التلميذ الأوفى في زماننا لابن رشد، والداعي لإحياء الرشدية العربية في إطار نظرية فلسفية جديدة، ولا لأنه من كبار المثقفين الذين دعوا للحوار مع إسرائيل، وتغيير مناهج التعليم في المنطقة لتكون على أساس علماني لا أصولي، ولكن لأنه نموذج الفلَّاح المصري القادم من قراه البعيدة ليكون ممثلها الأمثل في ردهات المركز النابض بكل أنواع الثقافات والعلوم.

لا يمكنك أن ترى البروفيسور مراد وهبة لا يتحدث عن الصراع الدائر بين الأصوليات، ومفارقات الذهنية المصرية والعربية في الزمن الحديث، وعلاقته الملتبسة بعبدالناصر والسادات، والفاترة حد الجمود في زمن مبارك، لا يمكنك أن تتحدث ولا تجده ينصت باهتمام بالغ، ليسألك عما يجري وما يدور من أحداث في العالم، وهو المفكر الكبير الذي احتفل في الرابع عشر من أكتوبر الماضي بإتمامه العام الحادي والتسعين، وصاحب الكتب الإشكالية، بدءًا من «المذهب في فلسفة برجسون» (1960م)، و«محاورات فلسفية في موسكو» (1977م)، و«فلسفة الإبداع» (1996م)، و«مستقبل الأخلاق» (1997م)، و«جرثومة التخلف» (1998م)، و«ملاك الحقيقة المطلقة» (1998م)، و«الأصولية والعلمانية» (2005م)، فضلًا عن مقالاته في كثير من الجرائد المصرية والعربية، وسعيه الدائم لإحياء فلسفة ابن رشد، بوصفها الجسر الذي نقل أوربا في القرن السادس عشر من غياهب الظلام إلى آفاق التنوير، وهي الحل الأمثل الآن ليس للمنطقة العربية فحسب، لكن للحضارة الإنسانية عامة، وبخاصة بعدما طغى عليها صراع الأصوليات المتناحرة في كل مكان.

في هذا الحوار مع «الفيصل» يتيح لنا الدكتور مراد وهبة أن نتأمل معه ما جرى له مع كثير من الأنظمة، بدءًا من الملكية التي استشرى فيها الفساد فسقطت، مرورًا بعبدالناصر الذي عيَّنه سرًّا مستشارًا خاصًّا له في شؤون التعليم، والسادات الذي كتبت له أجهزته السرية أن وهبة هو أخطر أستاذ جامعة على النظام، فكان أستاذ الجامعة الوحيد الذي عزله السادات من وظيفته، في حين حاصره مبارك، وفي النهاية جاء الإخوان الذين لم يلبثوا كثيرًا في الحكم. يتحدث أستاذ الفلسفة في جامعة عين شمس عن زيارته لإسرائيل، وكيف راوغت السلطات في السماح له بالذهاب إلى تل أبيب، يحكي عن ذهابه إلى باكستان وكيف رأى تخليها عن أفكار محمد إقبال لصالح «أبي الأعلى المودودي»، متهمًا المثقف بالخيانة، والمجتمعات العربية بعشق التراث وكراهية الحداثة، هنا يرصد كيف يعيش العالم حضارة واحدة، يجتاحها صراع المطلقات:

● أمضيت جانبًا كبيرًا من جهدك العلمي في الدعوة لإحياء فلسفة ابن رشد، على الرغم من أن زمن ابن رشد نفسه، كان زمنًا أكثر قوة وتنويرًا مما نحن فيه، إذ لم يُقبَل بفلسفته وأُحرقت كتبه وجُرِّمت أفكاره، ألا ترى أن ذلك مفارقة تحتاج إلى تفسير؟

■ المفارقة تعني أنه يوجد تناقض، وكان في زمن ابن رشد تناقض، وفي زماننا أيضًا تناقض، وحين دعيت لإحياء فلسفة ابن رشد في إطار فلسفة جديدة أطلقت عليها «الرشدية العربية» كنت أدرك تمامًا هذا الفارق، أين يكمن الفارق بين زمن ابن رشد وزماننا؟ في زمن ابن رشد السلطة السياسية هي التي استدعت ابن رشد؛ لماذا؟ لكي يشرح ما هو غامض في فلسفة أرسطو؛ لماذا؟ لأن أرسطو هو الملقَّب بالمعلم الأول، وكان فيلسوفًا في القرن الرابع قبل الميلاد، وأرسطو كان له منطق يعتمد على مفهوم البرهان، ومن هنا أمكن لإقليدس أن يؤسس علمًا هندسيًّا نظريًّا على أساس مفهوم البرهان، كما ورد في فلسفة أرسطو.

إذًا استعانت السلطة السياسية بأرسطو، وتركت ابن رشد يقوم بتأسيس تيار أرسطوطالي ولكن بنكهة إسلامية، وكانت تعني أن العالم الإسلامي عليه أن يكون منفتحًا على الحضارة اليونانية، وبالأدق على الفلسفة اليونانية، والدافع إلى ذلك هو رؤية السلطة السياسية في حينها مع مستشارها ابن رشد أن الغزالي، وهو فيلسوف إسلامي في القرن الحادي عشر الميلادي، كان مهيمنًا على الشرق العربي، والثغرة الموجودة في فلسفة الغزالي أنه ضد الانفتاح على الفلسفة اليونانية، ولذا كفر الفلاسفة المسلمين عندما استعانوا بفلاسفة اليونان، واتهمهم بالكفر على نحو ما جاء في الفقرة الأولى من كتابه «تهافت الفلاسفة»، وكان على ابن رشد ومعه السلطة السياسية أن يمنعوا هذا التيار اللاعقلاني للغزالي من الانتشار في المغرب العربي، ولكنه واجه صعوبات أدت في النهاية إلى اتهامه بالكفر وحرق كتبه ونفيه إلى قرية «أليوسانا»، وهي قرية كانت تتميز بأن أغلبية سكانها من اليهود، ولذلك أطلقت إشاعة بأن ابن رشد من أصول يهودية.

وبذلك انتهت العقلانية في المغرب العربي الذي انضم بعد ذلك إلى المشرق العربي، فأصبح العالم الإسلامي محاصرًا في إطار فلسفة لا عقلانية يتزعمها الغزالي، وفي القرن الثالث عشر، وهو القرن التالي لاضطهاد ابن رشد سيطر ابن تيمية في اتجاه الغزالي على توليد قوة مانعة من أي رغبة للانفتاح على الفلسفة اليونانية، وهذا واضح في رفض ابن تيمية لإعمال العقل في النص الديني؛ لأن آيات القرآن كلها -في رأيه- واضحة المعنى، وليست في حاجة إلى أي إعمال للعقل، وبالتالي هبط بالعقل إلى مستوى الحس، وكفَّر من يستعين بالتأويل في فهم النص الديني، ومن هنا أصبح الفارق الجوهري لابن تيمية في فهم أو قبول التأويل. ابن رشد يقول عن التأويل: إنه يكشف عن المعنى الباطني للنص، وهو الأمر الذي يستلزم الاستعانة بالمجاز، من دون الاستعانة بالمعنى الحسي، أما ابن تيمية فيرفض التأويل تمامًا، وهذه هي حقيقة المعركة في العالم الإسلامي في القرن الثالث عشر.

● ماذا حدث بعد ذلك؟

■ ما حدث هو أن العالم الإسلامي وقف عند ابن تيمية، وبالتالي يمكن القول: إن العالم الإسلامي يقف الآن عند القرن الثالث عشر. والآن عندما فطنت إلى أن ابن رشد هو الحل لإخراج العالم الإسلامي من الذائقة الموجودة فيه وجدت أمامي ظاهرة مكتسحة بدأت مع منتصف السبعينيات، وهي ظاهرة الأصولية الدينية، وهي لا تخص العالم الإسلامي وحده، إنما تخص أيضًا العالم الغربي، فماذا تعني ظاهرة الأصولية؟ تعني أن المعتقد الديني في أي دين هو مطلق، فإذا تعددت العقائد الدينية المطلقة فمعنى ذلك تعدُّد المطلقات، وإذا تعددت المطلقات سندخل بالتالي فيما أسميه صراع المطلقات؛ لأن المطلق بحكم تعريفه هو واحد لا يقبل التعدد، وبالتالي إذا تعددت المطلقات فلا بد من مطلق واحد يمارس إقصاء المطلقات الأخرى، يقصيها بتكفيرها في الحد الأدنى وقتل أتباعها في الحد الأقصى، والظاهرة القريبة ما يحدث في ميانمار أن الأصولية البوذية تذبح أتباع الأصولية الإسلامية، والأصولية الهندوسية تقف وراء الأصولية البوذية في إقصاء واضطهاد الأصولية الإسلامية في ميانمار. «الرشدية العربية» الآن تأخذ معنى أوسع مما حدث في القرن الثالث عشر، بالرغم من أن مصطلح الرشدية يوحي إليك بأنها مسألة عربية، لكنها ليست كذلك، بمعنى أنه يتحدث باللغة العربية، لكنه مطلوب للعالم بأسره، وذلك لأنه في القرن الثالث عشر في أوربا، عندما أرادت أوربا أن تخرج من العصور الوسطى كان هناك الإمبراطور فريدريك الثاني يقف ضد الأصولية المسيحية المدعمة بالنظام الإقطاعي، وكان فريدريك يقف إلى جانب الطبقة التجارية الصاعدة، فقيل له: لكي تنتصر لا بد أن تستعين بفلسفة ابن رشدن، فوافق وأصدر قرارًا سياسيًّا بترجمة مؤلفات ابن رشد، وبدأ ينشأ تيار في جامعة باريس ثم في إيطاليا اسمه تيار الرشدية اللاتينية، وسُمي كذلك لأن مؤلفات ابن رشد في أوربا كانت باللاتينية، إضافة إلى العبرية، ودخل تيار الرشدية اللاتينية في مواجهة مع السلطة الدينية المدعمة بالإقطاع، وفي النهاية انتصرت الرشدية اللاتينية، فتأسس عصر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، ثم التنوير في القرن الثامن عشر. هنا يوجد فارق بين الاستعانة في أوربا بابن رشد خلال أوقات مختلفة، وحاليًّا في العالم الإسلامي يُستعان بابن تيمية، إذًا فالرشدية العربية تتجاوز الآن العالم الإسلامي إلى العالم الغربي؛ لأن العالم الغربي يعاني الأصولية الدينية كما يعانيها العالم الإسلامي، معنى ذلك أن العالم الإسلامي الآن لا ينفرد بالأصولية الدينية، لأنها شائعة في جميع الأديان، وأنا الآن أريد لابن رشد أن يكون معينًا للحضارة الإنسانية من تدهورها وانزلاقها نحو الأصولية الدينية، وكي تخرج من مأزق الإرهاب، وقد سعدت حين علمت أنه في الجامعة الألمانية يوجد كرسي لابن رشد، وهذا معناه أن الغرب في حاجة لابن رشد.

● في كتابك «جرثومة التخلف» ترى أن العقل العربي هو عقل ديني في مجال التقدم، وعقل علماني في مجال التخلف.. فكيف ذلك؟

■ لدينا في مجال الدين الشيخ محمد عبده وقاسم أمين وغيرهما يطالبون بتحرير المرأة، ولكنه تحرير في إطار الدين، ومن هنا نحن نقول: إذا كنا نتقدم فنحن نتقدم في هذا الإطار الديني، ولكن عندما نريد أن نوسع دائرة الإصلاح الديني إلى إصلاح سياسي في إطار العلمانية فهذا أمر مرفوض، ورفض العلمانية يعني التخلف، وبالتالي أقول هذه العبارة الملتبسة: «العقل العربي هو عقل ديني في مجال التقدم، وعقل علماني في مجال التخلف»؛ لأنه يقبل الأول ويرفض الثاني.

خيانة المثقف

● في الكتاب نفسه تذهب إلى أن مشكلة المجتمعات العربية ليست في صدام المثقف مع السلطة، ولكن في صدامه مع المجتمع ذاته؛ لأن المجتمع متخلف، ووظيفة المثقف هي الكشف عن جذور التخلف… فهل هذا هو السبب الذي جعلك فيما بعد تتّهم المثقف بالخيانة؟

بطرس غالي

■ نعم هو خائن وما زال، لماذا؟ اليوم نعاني تيار الإخوان المسلمين وما نتج عنه من تيارات أخرى، ونحن نتّهم هذا التيار بأنه تيار إرهابي تكفيري في الحد الأدنى، ويقتل في الحد الأقصى، ماذا أنتجنا من تيار ضد هذا التيار؟ لا شيء، والمثقف يكتفي فقط بإدانة الإرهاب، ويمتنع عن إزالة هذا الإرهاب، كيف يمتنع؟ هنا تكمن الخيانة، فهو يريد أن يبعدك من التفكير في ظاهرة الإرهاب، ويجرف عقلك في قضايا أخرى لا علاقة لها بالإرهاب، مثل الفقر والجهل وغيرهما، هنا الخديعة والخيانة؛ لأن هذه الأمراض موجودة قبل الإرهاب وبعده، ولها حلول أخرى لا علاقة لها بالإرهاب، فالمثقف يقول دائمًا: إنه يوجد إرهاب، لكن ما سببه؟ سببه الفقر. هذه خديعة، لأن «بن لادن» و«الظواهري» وأغلب قيادات الإخوان مليونيرات ومليارديرات، فعلى المثقف ألا يكون خائنًا، وأن يعمل على تأسيس تيار فكري مناقض لتيار الأصولية الدينية، وهو لن يفعل، وأذكرك بما حدث لنجيب محفوظ، من شاب جاهل طعنه بسكين، ومحفوظ سأله: إنْ كان قرأ أولاد حارتنا؟ فقال لا. فمن الذي قرأها؟ الذي قرأها مثقف قال للشاب: أن يقتل نجيب لأنه كافر، نجيب أدى دوره التنويري بكتابة رواية «أولاد حارتنا»، وأنا أول من كتب عنها في جريدة «وطني» حين انتهى من نشرها مسلسلة في الأهرام؛ لأني لمحت الدور التنويري في هذه الرواية، لأنه جعل من عرفة رمز العلم، وجعله لقيطًا، ولا أحد يعرف من أين جاء ولا أين ذهب، وهذا يعني أننا ضد العقل والعلم، ولعل السؤال هو: أين دور المثقف الذي عاصر نجيب محفوظ، لقد أمضى المثقفون وقتهم في الالتفاف حول نجيب محفوظ والتسامر معه، من دون أن ينجزوا ما عليهم، وحين لمح نجيب الدور المتخاذل للمثقف من حوله، أدرك أنه لن يكون سندًا له، وبالتالي لا نطالب نجيبًا بأكثر من أنه كتب الرواية ونشرها. فهل يقتل نجيب محفوظ نفسه من أجل مثقف كلُّ دوره أنه يتباهى بصداقته بنجيب، أم أن المسألة هي الالتفاف معًا لتغيير الذهنية المصرية؟

السيسي والعادات الذهنية

جمال عبدالناصر

● في الوقت الذي يُتهم فيه المثقف بالتعقيد والتقعُّر، فإنك ترى أن مهمة المثقفين في الأحزاب هي تبسيط الأفكار للجماهير وجعلها أكثر شعبية، وأن مشكلة الأحزاب أنها بلا فلاسفة. أليست هذه مفارقة للواقع؟

■ نعم مفارقة، أحزاب بلا فلاسفة هي أحزاب بلا دور، لا بد أن يكون للأحزاب فلاسفة، وإلا فإنها تنتهي، ومن هنا ينتصر الحزب بمعارضة السلطة فقط، متخليًا عن دوره في تنوير الجماهير، ويلزم التنويه إلى أننا نعيش في عصر الجماهير بسبب الثورة العلمية والتكنولوجية، المفارقة أن هذه الثورة ليست من إنتاج الجماهير، ومع ذلك وجدت لخدمتهم، ونحن أبعدناها عنهم، ونوضح أن الثورة العلمية والتكنولوجية أفرزت مصطلح mass، وهو له معنيان: أحدهما كتلة، والآخر جمهور، وأنا اخترت معنى الجمهور؛ لماذا لأنه نشأت ألفاظ بها لفظ mass مضاف إليه لفظ آخر، كأن نقول:mass- media  (وسائل إعلام جماهيرية)، mass- communication (وسائل اتصال جماهيرية)، mass-socity  (مجتمع جماهيري)، mass- man (رجل الشارع).

نحن نقول: تنمية، ولا يمكن وجود تنمية من دون رجل تاريخ مستنير، ومن يقوم بتنوير رجل الشارع؟ المثقف الذي تركه، وذلك كي يتفرغ للاصطدام بالسلطة، وهذا ما أسميه: وهم الصدام، فحقيقة الأمر أن المثقف والسلطة في مركب واحد، والسخرية أن المثقف منشغل بأسئلة وهمية مثل: هل السيسي فقد شعبيته؟ ونسي المثقف أن دوره هو تنوير الجماهير كي تساند السيسي في إصلاحاته السياسية والاقتصادية، فالسيسي منشغل بتغيير العادات الذهنية المتخلفة، فهو يقول: إن المشكلة هي الإرهاب والانفجار السكاني، وتعني كلمة انفجار سكاني وجود عادات ذهنية متخلفة، مثل القول بأن كل ولد يأتي ومعه رزقه، ومن المفروض تغيير هذه العادات الذهنية، وهذه مهمة المثقف وليست السلطة السياسية.

● كيف جعل الاستعمار العقل العربي الذي حمل مشعل الحضارة لأكثر من خمسمئة عام مصابًا بالعجز عن ممارسة العقلانية؟

■ هذا سؤال جيد، لكن معناه أننا نُرجِع التخلف إلى الاستعمار، وهذا خطأ، فالاستعمار في حقيقته استثمار، عندما يجد إنسانا متخلفًا ينجذب نحوه؛ لأن من الممكن استثماره، فهو جاهز ومستعد لذلك؛ إذ إنه ليس لديه مقاومة، ولذا من المفروض القول بأن التخلف ليس سببه الاستعمار، ولكن عوامل داخلية مرتبطة بخيانة المثقف، المفكر الجزائري مالك بن نبي له عبارة ملهمة تقول: إن العالم الإسلامي لديه القابلية للاستعمار، وهذا معناه أن العالم الإسلامي جاذب للاستعمار، وذلك لأنه سلبي، فإذا أردت ألا تتخلف فلا بد من تفجير الطاقات الإبداعية، ولكن تفجير هذه الطاقات ممتنع بسبب وجود محرمات ثقافية، والمحرمات الثقافية ليست من صنع الاستعمار، ولكن من صنع الشعب والجمهور وخيانة المثقف. ومن ثم فربط التخلف بالاستعمار هو من بين الأوهام التي يعيش عليها المثقف لتبرير خيانته، فعلى سبيل المثال ستجد من يقول: إن الشعب المصري أو العربي متدين بطبعه، فهل الشعب الألماني أو الإنجليزي أو الياباني ليس متدينًا؟ للأسف هذه أوهام عظيمة كاذبة لتبرير خيانة المثقف لدوره في مجتمعه.

السلطة تنحاز

● على الرغم من أنك تقول: إن المثقف والسلطة شريكان في مركب واحد، فإنك تلقي باللائمة دائمًا على المثقف متهمًا إياه بالخيانة، وتبرئ السلطة رغم امتلاكها الأدوات والإمكانيات؟

■ السلطة هي ثمرة تداخل عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية، وليست هي السبب، فمثلًا السادات بوصفه سلطة سياسية اعتمد على التيار الإسلامي لضرب اليسار والناصرية، هنا السلطة وجدت نفسها أمام تيارين فاختارت واحدًا، وأنا الأستاذ الوحيد الذي فُصل من كليات التربية عام 1981م، وجاء في تقرير سبب الفصل، وهو تقرير صادر من مخابرات القصر الجمهوري: هذا الأستاذ أخطر أستاذ على النظام في الجامعات. فالنظام اعتبر عدائي للتيار الإسلامي عداء له، وهذا غباء؛ لأنه لو تركني وترك أمثالي فإنه سيجدهم وقتما يحتاج إليهم، والدليل أنه حين قتل الإسلاميون السادات لم يجد النظام تيارًا بديلًا للتعامل معه غير الإسلاميين، فاضطر مبارك إلى التواطؤ على وجود الإسلاميين، والسير على نهج السادات، فسلم لهم البلد. المقصود أن الذي يخلق التيار هو المثقف، والذي يستعين بالتيار هو السلطة، ومن ثم فالسلطة لا تخلق، لكنه المثقف يفعل ذلك، وحين يتراجع المثقف عن دوره فإنه يصبح خائنًا.

● طالبت باقتحام المحرمات الثقافية كما حدث في أوربا، بينما كانت أوربا الناهضة في ذلك الوقت تحتل الأميركتين وثلاثة أرباع المعمورة، بينما المجتمعات الشرقية تعيش حالة من التقزم والتضاؤل بسب الاحتلال الأوربي الممنهج منذ نحو خمس مئة عام حتى الآن، فكيف يمكن اقتحام هذه المحرمات الثقافية؟

■ لديك محرمات ثقافية تخصك، فإنك ممنوع من تأويل وفهم النص الديني، وممنوع من قبول أي نظرية علمية تقف ضد ظاهر النص الديني، ومن ثم أنت تقف ضد نظرية التطور، بينما تقبلها أوربا بفضل الإصلاح الديني والتنوير، حين تحدث تيارًا تنويريًّا تستطيع أن تحدث تطورًا، وعدم اقتحام المحرمات الثقافية يجعل الباب مفتوحًا لاستثمارك في كل ما يتصل بالاستثمار، بعد ذلك تتوهم أن سبب تخلفك مردود إلى ما نسميه الاستعمار، وهو في حقيقته استثمار.

الخير وهم

● وصفت في كتاب «مستقبل الأخلاق» أو «الميتافيزيقا والأخلاق» الخير بأنه وهم.. فكيف ذلك؟

■ الخير وهم، حين تبحث في معنى الخير فأنت تبحث عن الجذور، فأنت تحدد هذا خير وهذا شر، ومع الوقت والتطور تجد أن ما كنت تقول عنه: إنه خير أصبح شرًّا، وما كنت تصفه بالشر أصبح خيرًا، ومن ثم فجذور التفرقة ليست في الخير والشر، ولكن في الأسباب التي تدفعك للقول بأن هذا خير وهذا شر. مثلًا حين يكون الناس في جلسة ويأتيهم خبر مفرح يقولون: «خير اللهم اجعله خير»، أي أنك تصنع معنى الخير، أي أنه لا يوجد خير في حد ذاته، ولكننا الذين نحدد هذا الخير، فالخير من ثم وهم، فحين أعطي مساعدة لشخص فإننا نقول: إن ذلك عمل خير، أما الأوربي فيقول: إن هذا ليس عمل خير؛ لأننا نساعده على التقاعس.

● ما هو تفسيرك لأن يتبنى الأزهر المذهب الأشعري، وهو أكثر المذاهب تشددًا وإعمالًا للنقل لا العقل، وأن تتبنى الكنيسة المصرية المذهب الأرثوذكسي القبطي، وهو أكثر المذاهب المسيحية تشددًا ورفضًا لكل ما هو جديد؟

■ المناخ منذ القرن الرابع الميلادي في مصر هو مناخ أصولي، وذلك منذ أن حاولت الفيلسوفة هيباتيا في مكتبة الإسكندرية أن تمزج بين الأفلاطونية الحديثة والمسيحية، فكان رد فعل المسيحيين هو قتلها، وانتشار فعل التشدد واللاعقل بسبب خيانة المثقف الذي يبتعد من طبيعة الصراع، ويخلق أفكارًا وهمية يلقي عليها بتبريراته لخيانته، فالمثقف الأوربي لم يكن خائنًا لقضاياه، ومن ثم أمكن لأوربا أن تنهض من جديد، وأن تقيم الإصلاح الديني وتدخل في عصر التنوير، فسارتر كان يقول: «طالما أنا عائش في الحرب العالمية الثانية فأنا مسؤول عن إشعالها»، هذا هو تحمل المسؤولية تجاه القضايا الاجتماعية والوطنية وعدم التبرير والهروب.

● ما الذي دفعك للصدام مع السادات؟

أنور السادات

في عام 1974م أصدر السادات قانون الانفتاح الاقتصادي الذي يقول: «استيراد بدون تحويل عملة»، بمعنى أنك حين تستورد ستدفع دولارات، لكن لا تذهب إلى البنك كي يعطيك العملة، بل اذهب إلى السوق السوداء واشترِ الدولار وتعامل مع الأجنبي من دون المرور بالبنك، أي دون تحويل العملة عن طريق البنك، مما جعل البنوك لا تمتلك دولارات، ولكن السوق السوداء هي التي تمتلكها، هذه السوق التي يسيطر عليها مدرس تربية رياضية متفاهم مع شركات توظيف الأموال، والتي صدرت بفتوى دينية حرمت التعامل مع البنوك، هذه الشركات التي أسميتها بالرأسمالية الطفيلية، أي أنها تتعامل مع غير المشروع، وفي هذه الحالة توجد علاقة عضوية بين الرأسمالية الطفيلية والأصولية الدينية، ومن ثم لم أصمت. وكانت لي علاقاتي في الخارج، فبدأت أتساءل عن مدى صحة فكرتي، ووجدت تأييدًا لها في الخارج، وتأكد لي أن هذه العلاقة اتسعت ووصلت إلى الدول الأخرى، وكان هجومي عليها ضمنيًّا يعني هجومًا على السادات باعتباره الحاضن لهذه العلاقة العضوية، وكان صديقي وقتئذ هو وزير الخارجية بطرس غالي، وكان الإسرائيليون قد بدؤوا يدعونني لمؤتمرات فلسفية في إسرائيل، فكنت آخذ الطلب الذي يأتيني وأذهب به إلى السلطة فتراوغ؛ لأنها وقعت على معاهدة من بين بنودها التطبيع الثقافي، فلا تعطيني الموافقة على الطلب إلا بعد أن تقوم الطائرة من المطار. تكرر هذا الأمر ثلاث مرات، كان آخرها مع عمرو موسى حينما كان وزيرًا للخارجية.

● قمت بزيارة إسرائيل، ودعوت للتعاون مع أساتذتها الجامعيين، فما ظروف هذه الزيارة وكيف تعامل الأمن معها؟

■ كان رأيي أن الشرق الأوسط محكوم بأصوليات ثلاث، هي الإسلام والمسيحية واليهودية، هي أصوليات ثلاث حاكمة للمنطقة، وأصحاب هذه الأصوليات أهل حرب؛ لأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، ولكي ننهي الحروب، ونتخلص من الأصوليات الثلاث، ونحلّ الصراع العربي الإسرائيلي،

فإن ذلك لن يحدث إلا بتأسيس تيار علماني، هذه العبارة قلتها بعد أن اعتُمد إعلان كوبنهاغن، بعدها طلبت الكلمة وقلت رأيي فهاجمني اثنان؛ أحدهما أصولي يهودي والآخر أصولي إسلامي، هكذا لم يتفقا معًا إلا على مهاجمتي، والسبب أنني أطرح بديلًا غيرهما، أطرح العلمانية كاختيار ينهي الصراعات والحروب والإقصاء والنفي، فما كان من هما إلا أن هاجماني وطلبا إعادة صياغة البيان بحيث يضيفان عليه نكهة أصولية أكثر وأعمق، كان ذلك عام 1975م في كوبنهاغن.

ومن ثم جاء ذهابي إلى إسرائيل امتدادًا لتنفيذ هذه العبارة، فرأيت أنه عليَّ أن أذهب إلى إسرائيل كي أقول لهم: إن الحل في إقامة العلمانية، وهناك التقيت عميدة كلية التربية في تل أبيب، فقالت لي: لقد قرأنا مشروعك عن الإبداع في التعليم، ونحن متحمسون لإدخال الإبداع في التعليم للخلاص من الأصولية الدينية، فكيف نعمل معًا على ذلك؟ فقلت لها: أن تأتي إلى القاهرة، إلى حيث كلية التربية التي أعمل بها، لتلتقي عميد كلية التربية في مصر، وحين عدت إلى القاهرة كلمت عميد كلية التربية، لكن لم يمضِ كثير من الوقت حتى وجدتني قد عُزلت من عملي في نهاية أيام السادات.

نجيب محفوظ

● ما قصة مؤتمر «وحدة المعرفة»؟

■ في عام 1980م دعوت لإقامة مؤتمر دولي بعنوان: وحدة المعرفة، دعوت لحضوره كبار الفلاسفة والعلماء، وكانت فكرتي أن جميع العلوم متداخلة، ولا يوجد فارق بين علوم طبيعية وعلوم حيوية، وكانت نيتي أن أغيِّر في المناهج والمقررات في الجامعات، وكان الفلاسفة موافقون على إجراء التغيير في المناهج، حتى إن رئيس جامعة كندا قال لي: إنه متحمس لتنفيذ المشروع. المهم أنه في هذا المؤتمر أرسل إليَّ اثنان من الفلاسفة والأساتذة الجامعيين الإسرائيليين طالبين الحضور للمشاركة، فحملت الطلب وذهبت به إلى رئيس الجامعة، فقال لي: إنه لا علاقة له بالموافقة، فحملت الطلب وذهبت به إلى صديقي بطرس غالي وزير الدولة للشؤون الخارجية، فسألني: هل أنت موافق؟ فقلت: نعم، فقال: وأنا أيضًا، فقلت له: اكتب لي على الطلب بالموافقة، فضحك قائلًا: إن خالي قال لي أن أوافق بـ«البق» فقط.    

● في كتابك «الأصولية والعلمانية» عرَّفت الأصولية بأنها نظرية في المعرفة وليس السياسة، ثم ذهبت إلى أن المودودي هو المنظِّر الأول للأصولية، ومن بعده سيد قطب والخميني صاحب «الحكومة الإسلامية»، فكيف ذلك؟

■ هل أنشأ حسن البنا حزبًا سياسيًّا؟ وهل فعل ذلك أبو الأعلى المودودي أو سيد قطب؟ بالطبع لا، ومن ثم فالسلطة تستثمر هذا الاتجاه لصالح أغراض تخصها هي، وأذكر أنني جاءتني دعوة إلى باكستان عام 1975م، للمشاركة في مؤتمر فلسفي هناك، لكنني لم أستجب، وقلت: إن هذه دولة دينية وأنا علماني، فطلب السفير الباكستاني في القاهرة مقابلتي، وحين سألني عن سبب رفضي قلت له ذلك، فقال: إن باكستان دولة دستورها ينص على الدين لكن أسلوبها علماني، في حين أن الهند دولة دستورها علماني، في حين أن أسلوبها ديني، فوافقت وذهبت متحدثًا عن الإصلاح الديني، فلاحظت أن كبار الأساتذة صاروا ضدي، بينما الشباب صاروا معي. وبدأت وسائل الإعلام تحكي عن الصراع الذي حدث، وطلبوا مني أن أبقى لما بعد المؤتمر كي أرى باكستان على مهل، وبعد مناقشات ورحلة طويلة خرجت بنتيجة واحدة، وهي أن أبا الأعلى المودودي وكان لا يزال على قيد الحياة وقتها، كان يدعو لأصولية دينية، وأن تعاليمه تدخل البيوت بدلًا من تعاليم محمد إقبال، لأن إقبالًا لديه انفتاح على الغرب، في حين المودودي يرفض الغرب، وكان ذو الفقار علي بوتو وقتها هو الحاكم في باكستان، وقد استقبلنا في حفل خاص بالأساتذة، كان النظام علمانيًّا، فحدث انقلاب ضياء الحق على «ذو الفقار بوتو»، وأصبح مستشار ضياء الحق هو أبو الأعلى المودودي، في حين قتل بوتو.

الفيزياء اليهودية

● إلى أي مدى ترى أن صراع الحضارات ليس قائمًا على صراع الأصوليات؟

■ هي حضارة واحدة وليست حضارات، حضارة واحدة تتحرك من الفكر الأصولي إلى العقلاني، ومن ثم تتأثر المجتمعات بهذه الحركة، فمن يقترب نقول عنه: متقدم، ومن يبتعد نقول عنه: متخلف، والتعدد هو تعدد ثقافات في إطار حضارة واحدة، فالصراع هو بين الثقافات والحضارة الواحدة، تدخل فيها وتفتحها ولا تعرضها، هذه هي القضية، وأهم شيء لدى اليهود هو أن يتحكموا في الحضارة الواحدة، من خلال إبداعهم في النظريات العلمية والفلسفية؛ لأنهم بوصفهم أقلية ولكي يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم، فإنهم يدافعون عن الحضارة ويؤسسونها أيضًا، وفي القرن العشرين نشأت الفيزياء الحيوية، وكانت تسمى اليهودية؛ نظرًا لأن أغلب مبدعيها كانوا من اليهود.

● أتيح لك أن ترى عددًا متباينًا من الأنظمة السياسية بدءًا من الملك مرورًا بالناصرية والساداتية والمباركية، فماذا كانت مواقفك منها؟

■ كنت ضد الملكية؛ لأن الفساد كان منتشرًا، وأنا كشاب كنت أريد أن تكون لي مكانة، فكنت منزعجًا من الفساد، لكن قامت الثورة، وهي ثورة جيش، فأخذت أتأمل كيف سيتصرف عبدالناصر، فوجدت أنه ضد الإخوان، وكنت مع عبدالناصر لأنه رجل وطني لا يفرق بين الأديان، فظللت مؤيدًا له، إلا أنه كان عضوًا بالإخوان مثلما كان عضوًا في «حدتو»، واكتشفت أنه التقى الهضيبي قبل الثورة وأخبره أن الجيش سيقوم بالثورة، لكن الهضيبي طلب منه أن يؤجل الأمر مدة خمس سنوات فقط، حيث سيكون الإخوان قد تمكنوا من وضع أيديهم على التعليم، فتقع البلاد في أيديهم وحدها، لكن عبدالناصر أخبره أنه مضطر للإسراع بالأمر لأن الملك لديه علم بأمرهم، لكنه يَعِدُه بأن يجعل للإخوان السيطرة على التعليم، ومن ثم عيّن كمال الدين حسين وزيرًا للتعليم، فكان أول قرار له أن ألغى تدريس الفلسفة من المدارس ففسد التعليم، ولم نكتشف ذلك إلا قرب النكسة، ومن ثم اتصل عبدالناصر بكمال الدين حسين وطلب منه أن يفسح لي المجال في مجلة روز اليوسف؛ كي أتحدث عن التعليم وإصلاحه، فأفسح لي صفحات روز اليوسف كي أكتب رؤيتي، وبعدها عيّنني عبدالناصر مستشارًا سريًّا له في شؤون التعليم، فكان لي مكتب في القصر الجمهوري، لكن لا أحد يتعامل معي إلا الساعي أو الفراش، كان يحضر الأوراق فأقرؤها وأبدي الرأي ثم أمشي، ظل هذا الأمر لمدة ستة أشهر، بعدها مات عبدالناصر. أما السادات فقد عزلني من وظيفتي كأستاذ جامعة عام 1981م، في حين أن مبارك حاصرني، فكان ممنوع علي أن أكتب في الأهرام، وقد حاول أسامة سرايا لكنه فشل، ومبارك كان متلاحمًا سرًّا مع الإخوان، فعمل خدعة كبيرة؛ إذ جعلها في العلن جماعة محظورة، لكنها في السر كانت جماعة محظوظة.

حسني مبارك

● هل كان مبارك يستحق الثورة عليه؟

■ نعم، فقد أجهز على طموحات الشباب، فكان الشباب لا يستطيع أن يتزوج أو يعمل أو حتى يحلم، ومن ثم كان شبابًا محبطًا، ومن ثم قاموا بالثورة عبر تقنيات الثورة التكنولوجية والإلكترونية الحديثة.

بريطانيا إسلامية

● ترى من أين أتت داعش، وما مستقبلها؟

■ هي تفريعات من الإخوان؛ لأن الغاية واحدة عند كل الفروع النابعة من الأصولية الإسلامية، كلها ينشد الخلافة الإسلامية، كانت الخطة هي القضاء على الكتلة الشيوعية، ثم الرأسمالية، وهم نجحوا في الأولى، وفي الطريق للقضاء على الثانية، ولكن ترمب على وعي بهذه المسألة، وعلى الضد من أوباما، الإخوان تغلغلوا في جميع مؤسسات دول العالم، فأصبحت دول العالم من حيث لا تدري محكومة بفكر الإخوان. جمعيات حقوق الإنسان لعبت دورًا مهمًّا في ذلك؛ لأنها تبنت الدفاع عن الإخوان باسم الحريات، فكلما يتم القبض على الإخوان تطالب بحريتهم. ومنذ نحو أربعة أعوام سألني أستاذ فلسفة إنجليزي: تفتكر بريطانيا من الممكن أن تكون دولة إسلامية بعد عشر سنوات؟ وفي مؤتمر بإسبانيا منذ نحو خمس سنوات قالت أستاذة سويدية: إننا في السويد نحاول أن تكون الشريعة هي المادة الثانية في دستور السويد.

● في رأيك، ما أبرز مفارقات الواقع الثقافي العربي؟

■ المفارقات الشهيرة التي أؤكد دائمًا أنها موجودة في الثقافة المصرية، ورأيت أهمية مناقشتها في الاحتفالية التي أعدَّتها وزارة الثقافة لتكريمي، هي: مفارقة ابن رشد، وتعني أن ابن رشد ميت في الشرق وحي في الغرب، ومن ثم فليس لدى العالم العربي تيار رشدي. ومفارقة الديمقراطية وهي تعني ألا ديمقراطية بلا علمانية. ومفارقة التنوير وتعني أننا نزهو بأن لدينا تيارًا تنويريًّا في حين أنه منعدم بحكم سيادة الأصولية الدينية التي تعارض التنوير بلا تيار مضاد يمنع سيادتها. وأخيرًا مفارقة الإرهاب، التي تعني أن الإرهاب ديني في حين أننا نتعامل معه على أنه ظاهرة اجتماعية وسياسية واقتصادية، الإرهاب أصبح ظاهرة كوكبية ولا بد من مواجهته كونيًّا.

● هل نحن شعوب تؤمن بعبادة الأسلاف أم لدينا فوبيا من الحداثة؟

■ هناك عبارة تقول: نحن محكومون بالموتى وليس الأحياء. أي أننا محكومون بالتراث، فأي فكرة جديدة ناقشها مع التراث، فإن اختلفت ألغِها. ومن ثم فالحداثة لدينا مرفوضة، ومن ثم الغرب مرفوض، ورفض الغرب يعني العودة إلى الأجداد، أي الدخول في التراث.

مقارها تشبه بيوتًا مهجورة في وسط المدن..  مجامع اللغة العربية تعيش في غربة على هامش العصر

مقارها تشبه بيوتًا مهجورة في وسط المدن.. مجامع اللغة العربية تعيش في غربة على هامش العصر

هل من حضور اليوم فاعل وفعلي لمجامع اللغة في الوطن العربي؟ سؤال تستدرجه القطيعة بين هذه الكيانات المعنية بحراسة اللغة، والواقع الذي يتجدد في كل لحظة، القطيعة التي يستشعرها على نحو واضح، المثقف والمختص والرجل العادي؟ فعلى كثرة انتشار مجامع اللغة في الوطن العربي، بدءًا من مجمع دمشق عام 1916م، ومجمع القاهرة (1932)م، مرورًا بالمجمع العلمي العراقي (1947م)، والمجمع الأردني (1961م)، والمجمع التونسي (1983م)، والمجمع السوداني (1993م)، وأخيرًا مجمع اللغة بالشارقة (2016م)، فضلًا عن كثير من المؤسسات والروابط المعنية باللغة، إلا أن أحدًا لا يشعر بحضور أي من هذه المجامع والروابط والمؤسسات في الحياة الاجتماعية والثقافية، على الرغم من الأدوار الأساسية التي أنشئت من أجلها، وعلى الرغم من أهمية المعاجم والقواميس التي عكف شيوخ اللغة الكبار على إنجازها… فقد ظلت مغلقة على نفسها حتى إن بعض مقارها يكاد يكون أشبه ببيوت مهجورة في وسط المدن، لذلك لا عجب أن تسأل عن مقر مجمع ما للغة في عاصمة عربية ولا تعثر على إجابة شافية، الأمر الذي يعكس حال العزلة الذي أضحت تعيشه هذه المجامع ومن ينتسب إليها، العزلة التي راحت تتفاقم مع تقدم ثقافة العصر وتقنياته، فما تقترحه هذه المجامع من معادل لغوي لكثير من مفردات العصر لا يلقى الاستحسان، إما لوعورة الكلمة المقترحة، أو لعدم تعبيرها عن روح المفردة الجديدة، إضافة إلى التحديات التي تواجهها هذه المجامع، ومنها ضعف التمويل وعدم صدور قرارات سيادية تلزم بتوصياتها.  فهل تجاوز الزمن فكرة مجمع اللغة، أم أن خروج العرب من دائرة الإسهام الحضاري جعل لغتهم ومؤسساتها خارج اهتمام المثقف وليس فقط المواطن العادي؟

محمود فهمي حجازي: التمويل لا يتناسب مع الطموحات

مجمعا اللغة العربية في القاهرة وفي دمشق أُسِّسَا على نمط مجمع اللغة الفرنسية في باريس، ومن ثم فقد أخذ العمل فيهما عمقًا لغويًّا أكثر، ومن ثم تمثل دوره الثقافي في عمل ملتقيات لغوية من حين إلى آخر، وهناك اتجاه قوي الآن لعمل ندوة شهرية بدءًا من أكتوبر المقبل عن موضوعات لغوية أو ثقافية سواء في الإطار المصري أم بالتعاون مع جهات عربية مماثلة. المجمع له دور قومي قديم في تحقيق التراث العربي، وهذا موجه إلى جمهور الباحثين، كما أن له دورًا في صناعة المعاجم المتخصصة في الأنثربولوجيا والهندسة والرياضيات، فضلًا عن معاجم اللغة التي تهم جمهور المثقفين، ومن بينها المعجم الوسيط الذي يعد أهم معجم صُنِّف في العصر الحديث، كما أن المعجم الوجيز كان يُسلَّم لتلاميذ المدارس في دول عربية عدة من بينها مصر وتونس.

وأكبر المعوقات التي تواجه المجمع في أداء دوره المنوط به أنه يعمل وحده، بوصفه مؤسسة متخصصة ووحيدة في هذا المجال، في حين أن الأكاديمية الفرنسية، أو المجمع الفرنسي الذي أُنشِئ المجمع العربي على غراره، تعمل إلى جانب كثير من مراكز البحوث العلمية في الجانب اللغوي، وليس لدينا في بلادنا مراكز حقيقية متخصصة في ذلك، حتى المركز القومي للبحوث لا علاقة له باللغة، والجامعات بها أقسام لغة عربية لكنها ليست متخصصة في دراسات وأبحاث وتاريخ اللغة، وفي الوقت الذي توجد فيه دُور نشر متخصصة في نشر كتب لغوية وتوزيعها مثل دودن في ألمانيا ولاروس في فرنسا، مما يحقق عائد يمكن إنفاقه على الباحثين وأبحاثهم، فإن هذا غير موجود في بلادنا، ومن ثم فالتمويل أغلبه من الحكومة؛ إذ يتبع المركز وزارة التعليم العالي، وإن كان تدخل الوزارة هامشيًّا لدرجة يمكننا القول من خلالها: إن المجمع جهة مستقلة، فوزير التعليم العالي يفتتح المؤتمر السنوي، ويعتمد قرارات المجمع وانتخابات الأعضاء الجدد. ومن المعوقات عدم وجود سياسة لغوية في البلدان العربية، والمقصود هنا تحديد المجالات التي تستخدم فيها لغتنا العربية، وكيف يمكن إبرازها والتأكيد على هويتنا من خلالها، ومن ثم فلا بد من وجود قوانين تنظم وضع اللافتات واللغة المستخدمة فيها، وكذلك تنظم اللغة المستخدمة في الإعلام والمدارس والتعليم بشكل عام. وفيما يخص التمويل فهو أمر يحتاج إلى تأمل؛ إذ إنه ضئيل ولا يتناسب مع الطموحات الموجودة، لأننا في المجمع نتبع القوانين المصرية، والقوانين تكبله في تعامله مع الجهات الخاصة أو تلقي تبرعات منها.

عضو المجمع المصري

منصف الوهايبي: المجامع تنهض بترتيب العلاقة بين اللغة وتراثها

ينبغي أن نقرّ، ونحن نمهّد السبيل إلى جواب سائغ مقبول، أنّه ليس من حقّ أيّ منّا أن يستصدر حكم قيمة، على مجامع اللغة العربيّة، وبيوت الحكمة، في استجوابات خاطفة  كهذه؛ وهي المؤسّسات التي تؤدّي عملها في ظروف مادّية صعبة. على أنّ ما يعنينا أنّ هذه المؤسّسات تواجه علميًّا قضايا لغويّة شائكة، لعلّ من أظهرها أنّ ضبط حقيقة الكلمة أو ماهيتــها أو غير هاتين المقولتين من مقولات تنتسب إلى نفس العائلة المفهوميّة الكبرى نظير المفهوم والحدّ والجوهر والهويّة… وما إلى ذلك، عمل لا يخلو من صعوبة في ثقافة العرب المعاصرين؛ لأسباب: من أبرزها أنّ المصطلح مادّة لغوية بالأساس، وليس بالميسور الإلمام بأطرافها والوقوف على نموّها وتطّورها في معاجم مثل معاجمنا تستدعي الداني والقاصي، وتجمع الشاذة والفاذّة؛ فإذا الكلمة تقفز من عصر إلى عصر، ومن معنى إلى معنى، عبر فجوات فاغرة، ومتاهات لغويّة متشعّبة الأصول والفروع، قد لا يقدر الباحث على تخطي عقباتها ورياضة صعابها. والكلمة شأنها شأن المصطلح، لا تنهض بوظيفتها، إلّا إذا أدّت عن «المفهوم» الذي وضعت له، بدقّة من جهة، واتصلت بأفهام القرّاء من جهة أخرى، ودخلت حيّز الاستعمال. وعلى أساس من هذه الوظيفة المنوطة بها، نستطيع تقدير رجحان مصطلح على آخر، كلّما كانت منزلته تكافئ منزلة مفهومه أو كان أوفر حياة وأوفى دلالة.

إذن قد يكون مردّ الإشكال في مستوى أوّل إلى أنّ معاجمنا عامّة تنقلنا من عصر إلى عصر؛ دون أن يعبأ صاحبها بما انسدل بين هذه العصور من كثيفِ حُجُب الزمان والمكان. صحيح أنّنا نكتب بلغة «واحدة» هي الفصحى. ولكنّ الأمر في واقعنا العربي ليس بهذه البساطة، فثمّة مؤثّرات اللغات الأجنبيّة واللهجات المحليّة في كلامنا ونصوصنا. وهذا ممّا لا تتفطّن إليه المؤسّسات المذكورة، أو هي تتحاشاه، لأسباب قد تكون دينيّة «قداسة» اللغة العربيّة، أو سياسيّة. أليس في هذا الاستعمال اللغوي المختلف أو المتنوّع؛ ما يؤكّد أنّ الكلمة لا تمضي على ثبات وديمومة واطّراد؛ وإنّما تغيّر ما بنفسها توسيعًا أو تقييدًا أو تحويلًا؟
فهذه «العربيّات» يجري أكثرها على أصول العربيّة وقوانينها في اشتقاق الصيغ وتصريفها؛ على نحو يتيح لنا الرجوع إلى صورة الكلمة أو وزنها أو صيغتها أو بنائها، ولكنّ استعمالها «يختلف» من بلد إلى آخر.

وهذه المؤسّسات هي التي تنهض بإعادة ترتيب العلاقة بلغتنا وتراثها؛ بل إعادة وصفها دون تهيّب.

عضو المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة)

وفاء كامل: لا يوجد قانون يلزم بالأخذ بتوصيات المجمع

رسالة المجمع تكمن في الحفاظ على اللغة وسلامة نطقها على ألسن الجميع، والوفاء بمتطلباتها من مستلزمات الحضارة والعلم ومصطلحاتهما الحديثة، إضافة إلى دراسة تاريخ اللغة وتطورها عبر مراحلها المختلفة. المشكلات التي يواجهها المجمع أنه لا يوجد قانون ملزم لبقية هيئات المجتمع بالأخذ بتوصيات المجمع، كان الدكتور فتحي سرور قد شرع في إعداد قانون لمجلس الشعب بهذه الصيغة لكن الأمر توقف ولم يكتمل. وضعف التواصل بين المجمع وغيره من مؤسسات المجتمع يعد أكبر المعوقات، فكثير من المحاضرات والأبحاث التي تُنشَر في مجلة المجمع لا تصل إلى الناس، وكم الترجمات عن المنجزات العلمية أو غيرها كثير، وأي دراسة علمية تحتاج إلى وقت وجهد وتأني، وهنا تكمن المشكلة الكبرى، فالمجمع يبدو أداؤه بطيئًا، ويضم مجموعة من كبار السن غير قادرين على ملاحقة ما يحدث، في حين الترجمات المتوالية لا يمكن توقيفها إلى حين الانتهاء من ترجمة المصطلحات، ومن ثم تنتج لدينا مصطلحات عُرِّبت بمعرفة المترجمين على عجل، ورغم أنها لا تحمل الصواب الكافي لدلالتها المعرفية إلا أنها تذيع وتنتشر إعلاميًّا، ويصبح من الصعوبة تغييرها في أذهان الناس، ولا يتقبل أحد ما يقدمه المجمع من تصويبات أو مصطلحات.

أعد المجمع قواميس في الأنثربولوجيا والهندسة والفيزياء والطب وغيرها، لكن أحدًا لا يعود إليها ولا يلتزم بها، وقد طالبت فور انضمامي للمجمع منذ ثماني سنوات بضرورة عمل لجنة لمراجعة ما ينشر في الصحف والمجلات؛ لجنة تجتمع بشكل يومي، وترد على الأخطاء وتصوِّبها، ولا يكون موعد اجتماعها أسبوعيًّا مثل بقية لجان المجلس، لكن هذا الاقتراح ذهب أدراج الرياح، ربما لمعوقات إدارية أو بيروقراطية. أكبر المشروعات التي يعمل عليها المجمع هو المعجم التاريخي للغة العربية، وهذا قام به الألمان والفرنسيون في بلادهم في غضون أربعين سنة، شاركت فيه مجموعات كثيرة وكبيرة، بدءًا من أساتذة الجامعات مرورًا بالباحثين في اللغة وصولًا إلى مدرسي اللغة في المدارس.

هذا المشروع بدأه الألماني فيشر حينما كان مقيمًا في مصر في الأربعينيات، وكان يعمل بطريقة التسجيل على الجذاذات الورقية، وحين سافر إلى بلده قامت الحرب وفقدنا الجذاذات التي جمعها. أنا أول عضو نسائي بالمجمع، وأيضًا أول امرأة عملت على التاريخ اللغوي في رسالتي للماجستير في الوقت من 1970 إلى 1974م عن «كعب بن زهير: دراسة لغوية»، وكانت وقتها جامعة القاهرة قد قررت أن يقوم كل باحث ماجستير على دراسة شاعر أو أديب من القدماء، وقمت بدراسة دلالية للمعاني والأضداد والمترادفات، وسجلت كل المعجم اللغوي لكعب بن زهير في نحو 525 صفحة من أصل الرسالة المكونة من 725. في مطلع الألفية الجديدة، بدأ تعاون بين مجمع اللغة العربية وجامعة القاهرة من خلال مشروع المعجم التاريخي، هذا الذي تبرع حاكم الشارقة ببناء مبنى خاص به هو واتحاد المجامع العربية، وتعهد بأن ينفق على أبحاث المعجم التاريخي، التي تهدف إلى دراسة اللغة في العصور الأولى، ثم تطور صيغها في العصور التالية حتى وقتنا الحالي، وهو أمر يحتاج إلى تمويل كبير لأنه بحاجة إلى تكاتف كثير من الفِرَق البحثية، وإذا كان الألمان والفرنسيون أنجزوا المعجم التاريخي للغاتهم في أربعين عامًا، فأنا متفائلة أننا قادرون على إنجازه في زمن لن يتجاوز عشرين عامًا، وعشرون عامًا في عمر الشعوب رقم ليس بكثير.

أول عضو نسائي في المجمع المصري

علي السامرائي: قضايا لا طائل منها

من وظيفة المجامع اللغوية إنشاء تواصل بين لغات العالم بهدف نقل المنجزات الثقافية والفنية والحضارية والإفادة منها في تلاقح اللغات وتعميق أواصر المنجزات العلمية بين الأمم، لكن يبدو أن المجامع العربية لم تفلح إلى يومنا هذا في فهم واستيعاب هذا الهدف فبقيت تجتر قضايا لا طائل منها ولا أهمية لها.

ترقد الآن على رفوف المجامع العربية مئات الآلاف من المصطلحات في كل العلوم والفنون والآداب والفلسفة ومسميات علمية كثيرة لم يجدوا ما يقابلها في اللغة العربية، ما يعزز الرأي أن العربية قاصرة عن استيعاب هذا الكم من المعارف والواقع أن عدم إيجاد ما يقابل ذلك في اللغة العربية ليس قصورًا بل إن ذلك ربما يضيف إلى لغتنا ثراءً معرفيًّا في إدخال هذه المصطلحات بأسمائها أو الأقرب إليها، لكن المجامع تعد ذلك خطرًا على اللغة، من هنا فدخول أسماء إلى لغتنا ليس لها عهد بها هو أمر حتمي شئنا أم أبينا، والحاضر يقتضي من المجامع العربية أن تنظر الأمر بجدية للحاق بركب المنجزات العلمية التي تخطو سريعًا.

ناقد ولغوي عراقي

أحمد فؤاد باشا: التدريس في الجامعات «سمك لبن تمر هندي»


المجمع كأي شيء في المجتمع يقوى بتقوية إمكاناته، شأنه شأن التعليم والمرافق الثقافية وغيرها، لكن مشكلته في أن توصياته

وقوانيه لا تفعَّل، وهو ليس مسؤولًا عن تفعيلها؛ إذ إنه يخاطب على سبيل المثال التربية والتعليم لتصحيح المناهج وتعديلها، ويخاطب الإعلام لمعالجة أخطاء المذيعين، ويخاطب الجهات القانونية لتعريب المصطلحات القانونية، وقد قام على تعريب مصطلحات كل العلوم في مجلدات، لكن لا الجهات التنفيذية تستجيب لتوصيات المجمع ومخاطباته، ولا أحد يخرج المجلدات ليقرأها.

الأمر يحتاج إلى قرار سيادي لجعل اللغة العربية هي اللغة الأولى بالفعل، ولك أن تنظر إلى حال التعليم وتعدده، وهو ما يوضح أن الأمر أكبر من إمكانيات المجمع، وأننا صرنا على الأقل بحاجة لأن تكون خطابات المسؤولين باللغة العربية، وليس العامية. المدهش أن الأساتذة في الجامعات لا يقومون بالتدريس باللغة العربية، رغم أن اللغة قسمة أساسية في الهوية، والتنازل عنها هو تنازل عن الهوية، وعلى الرغم من كثرة إثارة الموضوع إلا أن أحدًا لا يستجيب، حتى إن قاعات الدرس صارت كما يقولون: «سمك لبن تمر هندي»، كلمة عربية وأخرى إفرنجية، وبينهما كلمات عامية، ومصطلحات علمية تارة، وشعبية تارة أخرى. علينا أن نستفيد من تجربة المأمون في إنشاء دار الحكمة، أليست الدول العربية قادرة على إعادة إحياء هذه التجربة؟ فبيت الحكمة العصري هو المخرج من هذه الأزمة التي تزداد حدة، نظرًا لأن المصطلحات العلمية في تزايد، والأمر يحتاج إلى قرار سيادي قوي.

لغوي وأكاديمي مصري

عبدالله مليطان: مؤسسات منفصلة عن الواقع

يؤسفني القول: إن مجامع اللغة أصبح شأنها شأن ما يجري في الواقع العربي على كل المستويات… بعيدة من الواقع منفصلة عن حياة الناس على الرغم من طبيعة علاقتها بوسيلة التخاطب، وهو اللسان العربي… وإن قال قائل: إن أمرها يتصل بالشأن الأكاديمي والعمل العلمي، فماذا قدمت في هذا الصدد؟ وفي تصوري أن أي مؤسسة لا تتصل مباشرة بالناس لا جدوى من وجودها. ترى ماذا قدمت المجامع العربية من برامج وخطط ومشاريع للارتقاء بلغة التخاطب؟ ماذا قدمت من معاجم لتوحيد المصطلحات العربية المستخدمة في مجالات الإعلام والصحافة والسياسة والعلوم والتقنية؟ أين دورها في ترجمة المصطلحات المستحدثة في عالمنا المعاصر؟ بالطبع هناك من سيتعلل بعدم وجود الإمكانات المادية الداعمة لنشاطه وبالعراقيل التي تواجهه إداريًّا وفنيًّا… وهو أمر واقع لذلك فإن الدول التي لا يعنيها أمر اللغة ومجامعها ما كان عليها أن تنشئ مجمعًا لتتركه يعاني الدعم وقلة الإمكانات ليكون عبئًا عليها وثقلًا يضاف إلى أثقالها. لذلك من الطبيعي ألا تجد لها أثرًا في حياة الناس، وربما لا يعلم كثير من الناس بوجود مجمع للغة لديهم. حتى ما اتفقت المجامع العربية على تعريبه منذ سنوات لا يزال الناس لا يعرفونه إلا بلغته الأصلية، ولا يتداولون ما اتفقت عليه تلك المجامع؛ لأن المجامع العربية لم تحسن الترويج له والتعريف به. وهو تقصير منها بالطبع للدور الذي كان عليها أن تقوم به إزاء دورها في خدمة لغتنا العظيمة.

كاتب ليبي

ممدوح فراج النابي: لا يتردد اسم المجمع سوى عند الموت

دور مجمع اللغة العربية في الواقع الثقافي مع الأسف لا يتردد إلا في مناسبات الموت، فلا نسمع اسم المجمع ورئيسه إلا إذا غيّب الموت أحد أعضائه أو استبدال آخر براحل. هكذا اختفى الدور الفاعل لمجمع اللغة العربية على الرغم من الحاجة الماسة له الآن في ظل حالة الخلط اللغوي التي صارت دخيلة على اللغة. لم يأخذ المجمع بالصيحات والدعوات المطالبة بالحفاظ على اللغة العربية، ومقاومة القبح اللغوي الماثل في استخدام الحروف اللاتينية في اللوحات الإعلانية، أو على الأقل لم يسعَ لتنفيذ قراراته، كما أن المجمع صار دائمًا متأخرًا خطوة للخلف في ملاحقة الطفرة التكنولوجية والمتغيرات العالمية التي انتقل تأثيرها إلى اللغة. في ظل كثير من الكوادر العاملة في المجمع التي يعوّل عليها.

ناقد مصري

محمد المغبوب: يبدو أن أمرًا قد حدث في غفلة منا ولم تدركه المجامع

لم يعد للدور المناط بمجامع اللغة العربية في الوطن العربي من عمل نراه على الواقع المعيش، حيث نجد لغتنا في ظل لغة الآلة الغربية وقريبًا الصينية وهي تتوسع على حساب لغة القرآن الكريم حيث تأتي بمفردات جديدة تلصق على ألسنتنا وتتسرب حتى إلى الديوان الرسمي وإلى القنوات الإعلامية ووسائل الاتصال المباشر، ناهيك عن زحف اللغة المحكية حيث كل اللهجات تمارس إزاحتها للغة الضاد، وهذا أمر يمكن أن يساهم في اضمحلال عدد الكلمات المستخدمة التي نجدها الآن قد تقلصت كثيرًا حتى إننا نحتاج إلى ترجمات للمعلقات وإلى الموروث الأدبي العربي كي نفهمه جيدًا. يبدو أن أمرًا قد حدث في غفلة منا ولم تدركه المجامع العربية ولا قدر أصحاب اللغة من بحاث وأدباء وأساتذة اللغة على اللحاق به ومعالجته لعدم الوقوف عليه.

إن أهم ما في الأمر كله هو أن المصطلح صار يشكل لنا ربكة في الفهم تفسيرًا وفهمًا، وقد يتلون المصطلح الواحد بعد إيحاءات تجعلنا في لبس وفي حيرة. ويتجلى هذا حتى عند تفسير القرآن الكريم حيث نخلط بين النزول والهبوط والسقوط مثلًا، وبين الكتاب واللوح والذكر والقرآن، وحين عقد المعاهدات الرسمية والعقود مع الآخر على مستوى الترجمة والتأويل.

هذا كله لم يكن وليد اللحظة بل هو تراكم عبر حقب التاريخ، وبخاصة ما بعد القرن التاسع عشر بعد ثورات عالمية في السياسة والحكم وفي العلوم كافة، إذ حين هم يثورون ويغيرون كنا نحن العرب نمارس فعل الفرجة ونتلقى المنجزات ولا نأتي بها، فصار العالم يتحدث بلغته وكذلك نحن فاعلون.

كاتب ليبي

سيد‭ ‬الوكيل‭:‬‭ ‬كيانات‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬صالحة‭ ‬للعمل

آخر مرة سمع فيها اسم مجمع اللغة العربية كان منذ خمسة عشر عامًا، عندما أخبرني الأديب محمد مستجاب أنه يعمل هناك. أنا لا أقصد إهانة أحد، لكني أشير إلى أن ثمة كيانات كثيرة فقدت وجودها بالتقادم، مثلًا لو سألت مئة أديب عن دار الأدباء، فإن تسعين منهم لا يعرفون عنها شيئًا. هذه الكيانات: إصدارات قديمة، لم تعد صالحة للعمل وتحتاج «فرمتة» وإعادة «تسطيب». في الماضي، كان لمجمع اللغة العربية وظيفة ثقافية مهمة، مثلًا: عندما دخلت الثلاجة الكهربائية إلى مصر، كانت الأسر الأرستقراطية تسميها «فريجيدير» لكن جهود المجمع جعلت كل الناس تقول «الثلاجة». وأنا أعرف أن دوره كان كبيرًا في مجال تعريب المصطلحات العلمية (الهندسية والطبية والفيزيائية…) ولولا هذا التعريب لما عرفنا شيئًا عن هذه المصطلحات وظللنا جاهلين بها.

ومع ذلك فليس كل ما أطلقه المجمع استخدمه الناس، فلا أحد يقول عن التلفزيون «مرناء»، ولا على التلفون «مسرة». الناس تعلمت تصريف المصطلحات الأجنبية، وهضمها في التكوين الثقافي الذي يلبي حاجاتهم اليومية مثل: تلفزة، تلفنة.. وتدليت وتسطيب وفرمتة وهكذا، وشيئًا فشيئًا حلّت محل هذه الكيانات، وأصبحت تسيطر على الحراك اللغوي في الشارع، وهذا الدور اتسع بشكل كبير مع عصر التكنولوجيا. مثلًا، الناس تقول: اديني ماسيج أو ميسد كول، وتقول فلان «بيشيّت» على طول، أي مدمن على الشات.. أو «نتّاوي» أي مدمن على الإنترنت أو «يدوّن» أي يحمّل أشياء من على الشبكة. وتنتقل هذه اللغة إلى السلوك والصفات، فنقول: فلان «هاكر». أي يسرق أفكارك ويستخدمها لنفسه.

والتوسع في هذه الظاهرة، يشير إلى أمر من الاثنين: إما أن الناس فككت هذه الكيانات وحلت محلها وقامت بدورها، وإما أن هذه الكيانات ماتت إكلينيكيًّا والناس مضطرة لأن تملأ ذلك الفراغ بطريقتها الارتجالية. والسؤال الآن: إلى متى سنتلكأ قبل إعادة النظر في هذه الكيانات، سواء بتحديث دورها أو بإحالتها للتقاعد مع الشكر. لكن المؤكد أنها كثيرة ومعوقة لأي نهوض.

تضييق‭ ‬الخناق‭ ‬على‭ ‬العزلة‭ ‬التي‭ ‬تعانيها‭ ‬‮«‬العربية‮»‬

لا يختلف اثنان على ما تشهده مجامع اللغة العربية من عزلةٍ أو غربةٍ عن محيطِها لأسبابٍ متعلقة بها أو خارجةٍ عن إرادتها، وهي «أزمة» تستفحل أو تخْفُت، تبعًا لطبيعة المشروعات وفاعلية البرامج التي تتولى المجامع تنفيذها، أملًا في مدّ الجسور بين الواقع والمأمول في مجال الحفاظ على «العربية» وحمايتها.

«نعم، هناك عزلة تعانيها المجامع لا يمكن إنكارها»، يقول الأمين العام لمجمع اللغة العربية الأردني، الدكتور محمد السعودي، رادًّا ذلك إلى أسباب من أبرزها «غياب التشريع» كما يرى. ولهذا فإنه يؤكد أن مجمع اللغة العربية الذي فاز بجائزة الملك فيصل العالمية (فرع المؤسسة العلمية الفائزة عن فرع اللغة العربية والأدب لعام 2016م)، نفضَ كثيرًا من الغبار عن كاهله، وتجاوَز مرحلة «مراوحة مكانه» بعد إقرار تشريعَين مهمَّين مؤخرًا، هما قانون مجمع اللغة العربي، وقانون حماية اللغة العربية.

ويوضح السعودي أن قانون المجمع أعاد تنظيم الأدوار داخل المجمع ببنيتَيه الإدارية والفنية، أما قانون حماية العربية، فهو «إنجاز كبير» على حدّ تعبيره، جاء محصلةَ نضالاتٍ طويلة تواصلت على مدى سنوات. ومن البنود التي تضمّنها القانون ويعوّل عليها القائمون على المجمع وسدَنة «العربية»، عدم تعيين أيٍّ من المشتغلين في مجال اللغة من معلمين وصحافيين وسواهم، إلّا بعد اجتياز «امتحان الكفاية» الذي صدر نظامه مؤخرًا، وحُوِّل إلى الحكومة ليوضَع موضع التنفيذ.

ويؤكد السعودي أنّ هذا الامتحان طُبِّقَ بنجاح في وزارة التربية والتعليم سنة 2016م، وأن استمرار تطبيقه عند ملء الوظائف الشاغرة سيضيّق الخناق على العزلة التي تعانيها «العربية»، وسيخلّصها من «غربتها» إلى حدّ ما. ويضيف أن المجمع يعمل حاليًا على تبسيط امتحان الكفاية بغيةَ إخضاع الطلبة الجامعيين الجدد له، ومَن يجتازه بنجاح سيسقط عنه مساقان دراسيان في اللغة العربية. وبالتالي فإنّ في هذا التوجّه تخفيضًا للنفقات وتوفيرًا للوقت، إلى جانب تشجيع الشباب على إثراء مخزونهم اللغوي.

ويشير الأمين العام للمجمع، إلى مكتبة الأطفال التي دُشِّنت في أواخر يوليو عام 2017م، وهي «مشروع رائد» يغرس حبَّ العربية في نفوس الطلبة، ويعمل على تنمية مهاراتهم اللغوية كتابةً وقراءةً ومحادثةً واستماعًا، وإثراء حصيلتهم اللغوية بمفردات جديدة ومتنوعة، وخلق روح الإبداع اللغوي فيهم، وحفزهم إلى إدراك مفاهيم اللغة هوية الأمة ووعاء حضارتها وحاضنة تراثها.

ولأن التواصل مع الشرائح المستهدفة في المجتمع يتطلب صيغًا متنوعة تواكب المستجدات، جاءت فكرة إذاعة المجمع التي بدأت بثها التجريبي حريصةً على الارتقاء بالذائقة الفنية للمستمعين، وتحبيب الناس بالفصيحة، وتعريفهم بقدرات اللغة وكنوزها ومرونتها وغناها اللفظي والتعبيري.

ومما يُحسب للمجمع، أنه بدأ يتصدّى لمهمة تعريب المصطلحات الأجنبية ووضعها في السياق العربي، مثل: مصطلحات الطاقة المتجددة، ومصطلحات السياقات السلوكية والطبية والصحية والبيئية والعمرانية. وهذا يتم بالتعاون مع مجموعات طلابية مهتمّة تتفاعل على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك).

من ناحية، للباحث والأكاديمي الدكتور غسان عبدالخالق، رأيٌ آخر في مسألة حضور مجامع اللغة العربية وتأثيرها، وعجزها عن تطبيق مقترحاتها اللغوية؛ إذ يؤكد أن هذه المجامع «تمثل تجسيدًا حقيقيًّا لمدى انفصال مستودعات اللغة عن إيقاع الشارع ومستجدات الحياة»، موضحًا أن هذا الانفصال متفاوتٌ من مجمع لآخر؛ فهناك مبادرات «جديرة بالاحترام» مثل مبادرات مجمع اللغة الأردني، لكن المشهد المجمعي العام «لا يدعو للتفاؤل».

ويضيف عبدالخالق أنه أطلق قبل سنواتٍ دعوةً لرصد ألفاظ ومصطلحات «الربيع العربي» وتوثيقهما وإفرادهما بمعجم خاص، لكن هذه الدعوة التي لا تحتاج لأيّ تبرير فـ«الربيع العربي» يمثل أخطر ما مرت به الأمة العربية في العصر الحديث- ما زالت تصطدم بذهنية «أمين المستودع اللغوي» الذي يفضّل الاستغراق في مفردات القرون الهجرية الأولى بدلًا من الانخراط في مواكبة واستدخال مفردات القرنين العشرين والحادي والعشرين.

ويذكّر عبدالخالق بما ذهب إليه كلّ من هشام شرابي ومحمد عابد الجابري وفهمي جدعان قبل عقود بخصوص «أبوية مجامع اللغة وصنميتها»، وهو النهج الذي يرى أنه ما زال ساريَ المفعول. وكان رئيس مجمع اللغة العربية الأردني الدكتور خالد الكركي، أكد خلال تسلّمه جائزة الملك فيصل العالمية التي مُنحت للمجمع في 4 إبريل من العام الحالي، على أهمية إقرار قانون حماية اللغة العربية الذي يركز على العربية السليمة لا الفصحى، ويُلزم المؤسسات الحكومية والخاصة باستخدام اللغة العربية في جميع وثائقها وإعلاناتها. ودعا الكركي الأمانةَ العامة للجائزة، إلى تبني مبادرة توحيد مجامع اللغة العربية تحت لواء مجمع عربي موحّد، يكون مقره الرئيسي في مكة المكرمة، وذلك بهدف صياغة الرسائل الإستراتيجية والعامة التي تخدم لغة الضاد في محيطها وعمقها العربي.

الصحافة المصرية تواجه «الأزمة» بالبحث عن «خلطة» تناسب القراء

الصحافة المصرية تواجه «الأزمة» بالبحث عن «خلطة» تناسب القراء

لم يكن يحلو لكثير من الناس أن يتحرك إلا والجريدة مطوية تحت إبطه، كأنه يحمل رسالة من الوالي إلى أبنائه المنتظرين عودته في البيت. لم تكن الجريدة مجرد حصول على خبر، لكنها كانت انتماء، وكل حزب بما لديه سعيد، ولا يصدق الخبر إلا إذا كتب في جريدته المفضلة، وكانت أشهر اللقطات التي أبرزتها السينما للمخبر في أثناء عمله وهو جالس خلف الجريدة يتابع تحركات المجرم، في حين كان فلم «بياعة الجرائد» من أشهر كلاسيكيات السينما المصرية، وفيه غنت ماجدة الصباحي ليوسف شعبان أغنيتها الشهيرة «أهرام، أخبار، جمهورية».

كانت الصحف الورقية هي القوت اليومي للمواطن، ولا يمكن تصور رجل ينتمي للطبقة الوسطى لا يجلس على المقهى مطالعًا جريدته المفضلة. وكان نجيب محفوظ قبل الاعتداء عليه من متطرف ديني عام 1994م يذهب إلى مقهى «علي بابا» في ميدان التحرير في تمام السابعة صباحًا ليتناول فنجانه من البن ويطالع جرائد الصباح.

لكن هذا كله أصبح شيئًا من الماضي، فمع مطلع الألفية الجديدة تراجع دور الصحافة الورقية، ولم تعد مصدرًا لتقديم الخبر إلى القارئ، فقد سبقتها إليه القنوات الفضائية، والمواقع الإلكترونية على النت، ومواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت بمنزلة نبض الشارع والحياة، هكذا حرمت الصحافة الورقية من ملايين الجنيهات التي كانت تتدفق عليها من الإعلانات، وتوقف قطاع كبير من القراء عن التعامل معها، وهو قطاع الشباب أو من هم دون الأربعين، هؤلاء الذين لم يدمنوا ملمس الورق ورائحة الحبر ومطالعة الجريدة الصباحية، هؤلاء الذين نشؤوا في عصر الستالايت والشبكة العنكبوتية والسمارت فون، فصرنا نسمع عن توقف جرائد عريقة كالسفير اللبنانية، والبديل المصرية، ونسمع عن توقف إصدارات في مؤسسات أكبر وأكثر عراقة مثل الأهرام والأخبار المصريتين، فما مستقبل الصحف الورقية؟ وهل هناك حلول لبقائها في المنافسة؟ أم أننا قد نستيقظ يومًا لنجد العالم وقد أصبح بغير جريدة الصباح وفنجان البن اللذين طالما تغنى بهما شعراء وكتاب ينتمون إلى بلدان ومدن عربية؟

عدد من رؤساء تحرير الصحف المصرية ومسؤولي الإعلام لم يقطع في الحديث حول نهاية قريبة محتملة للصحافة الورقية. وأدلى هؤلاء لـ«الفيصل» بشهادات مختلفة حول واقع الصحافة في مصر وفي الوطن العربي، وفقًا لعدد من المعطيات، ومع ذلك فإنهم أكدوا على أزمة كأداء تمرّ بها الصحافة العربية:

فهمي عنبة:

الصحافة الورقية مريضة لكن لن تموت

فهمي عنبة

بلا شك تواجه الصحافة الورقية تحديات في العالم كله بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ووصول النت إلى معظم البيوت، فقد أصبحت المعلومات متاحة للجميع، والخبر يرد إليهم في وقته وربما آن حدوثه. لكن الصحافة الورقية تمرض ولا تموت، ولو تذكرنا ظهور الراديو، وما تردد وقيل وقتها عن موت الصحافة الورقية، وتكرار هذا الأمر مع ظهور التليفزيون ثم الفيديو، نتأكد أن الصحافة الورقية تمرض، أو تمر بأوقات ضعف مع ظهور أي تقنية أو وسيلة إعلامية جديدة، لكنها لا تموت، وإن كان مرضها هذه المرة قد يستغرق مدة أطول، أو أكثر قوة وشدة من أوقات مرضها مع ظهور الراديو والتليفزيون والفيديو. لكننا نراهن على أن متعة القراءة لا يساويها متعة، ومن ثم فعلى الصحافة أن تركز ليس على الخبر لكن على ما وراء الخبر، والنزول إلى الشارع حيث العمل الميداني، وإبراز الرأي أو ما يعرف بصحافة الرأي، وتقديم خدمات جديدة للقراء.

تبقى الصحافة الورقية الأرشيف القومي للشعوب، في حين المواقع الإلكترونية أو وسائل التواصل الاجتماعي نجد جانبًا منها يقوم على الإشاعة أكثر من الحقيقة، وفكرة إثارة القراء وجذبهم، ثم العودة بعد دقائق لبثّ أخبار جديدة، من دون التأكد من صحة الخبر أو حقيقته، ومن ثم فالصحافة الرصينة سواء قومية أو حزبية أو خاصة، ستجد نفسها خارج الصندوق في وقت ما، لكنها سرعان ما ستعود بقوة حين يكتشف القارئ أن المواقع الإلكترونية لا تقدم له سوى هوس المتابعة الدائم، وعدم تقديم معرفة حقيقية في شيء. علينا أن نعترف أن خريطة الإعلانات تذهب في الدرجة الأولى الآن لبرامج «التوك شو» التي تستحوذ على ثلاثة أرباع المتاح من الإعلانات، يأتي بعدها المواقع الإلكترونية وهي متعددة وكثيرة، ثم إعلانات الشوارع التي أصبحت تغطي كل مكان، ثم الصحافة الورقية، ويمكننا الرهان في الحقبة المقبلة على أفكار مثل الصحافة الإقليمية أو المحلية أو ما يعرف بصحافة الكومباوند أو الأحياء المجاورة، هذا النوع يمكنه الاعتماد على إعلانات بسيطة وبأثمان زهيدة لكنها تغطي تكاليفه وتكفل له الاستمرار. وهناك نوع من الجرائد الخدمية حقق انتشارًا وتوزيعًا عاليًا كالوسيط القائم على الإعلانات فقط، إضافة إلى أننا في «الجمهورية» قدمنا تجديدًا في أبوابنا، فلدينا باب خاص بالمعاشات، وباب للعمال، ولدينا صفحات الفن والمسرح، ونقوم على العمل الميداني بالدرجة الأساسية حيث الجمهور وتحليل الخبر.

رئيس تحرير جريدة الجمهورية

محمد السيد صالح:

البحث عن دخل إضافي

محمد السيد صالح

توزيع الجرائد الورقية في مصر مُتَدَنٍّ جدًّا، وبعض الجرائد أغلق، كالتحرير والبديل وغيرهما، لكن الجرائد القومية لن تغلق، والجرائد الخاصة كالمصري اليوم تبحث عن بدائل جديدة، فهي تسعى لعمل معادلة في السعر والورق والبحث عن دخل إضافي من خلال الموقع، واستغلال إعلانات على النت والبحث عن مصادر للورق أرخص من المتاح. وهناك نوع ثالث من الجرائد، لا هو جرائد قومية مملوكة للدولة، ولا جرائد خاصة مملوكة لرجال أعمال، لكنها جرائد مموَّلة من جهات سيادية أو غير سيادية، هذا النوع في ظننا سيتحكم في مستقبل الصحافة الورقية، وهو نوع ليس موجودًا لا في الشرق ولا في الغرب، فالخليج به جرائد مملوكة للأمراء والأثرياء، وفي مصر أو غيرها جرائد خاصة أو قومية، الجرائد الخاصة إما أن تغلق أو أن تبحث عن عمل معادلة في الورق والإعلانات والثمن.

ثمة حلول أخرى على هامش هذه المعادلة، وهي اللجوء إلى نوع جديد من التوزيع الورقي، عبر إقامة شركات توزيع جديدة بديلة عن شركات التوزيع الحكومية التي تسيطر على السوق، والتفكير في صحافة الكومباوند أو المحيط السكني الصغير، هذه التجربة ليست موجودة لدينا، لكنها في أميركا والغرب ويمكن التفكير في إصدارها هنا. من المعروف أن الصحافة نوعان: صحافة خاصة يمتلكها أمراء أو رجال أعمال، وهذه تبحث عن مصادر أخرى للدخل وإقامة معادلة فيما يخص الإنفاق والعائد من التوزيع والإعلانات، وبعضها أمام الضغوط الاقتصادية أو السياسية يغلق، النوع الثاني هو الجرائد القومية التي لو رفعت الدولة يدها عنها فإنها ستغلق، لكنّ ثمة نوعًا ثالثًا ظهر في السوق مموَّل من جهات بعينها، لا يعنيه التوزيع ولا غيره، ولا تشغله الضغوط السياسية ولا الاقتصادية. هذا النوع نعتقد أن مستقبل الصحافة سيكون لصالحة، لأن تمويله قويّ، وأهدافه أن يكون موجودًا بغض النظر عن الضغوط السياسية التي قد تكون لصالح بعض وضد بعض، أو الضغوط الاقتصادية التي يعانيها الجميع الآن، بما فيها الجرائد القومية التي اضطرت إلى تخفيض بعض إصداراتها.

ما زال القارئ التقليدي الذي لم يرتبط بالسوشيال ميديا ومواقع النت مرتبطًا بالإصدارات الورقية من الجرائد، هذه التي يذهب إليها نحو 80% من الإعلانات. بعض الجرائد قامت بإنشاء مواقع إلكترونية أنفقت عليها الكثير؛ كي يعود البريق إلى الجريدة الورقية نفسها، وتستطيع المنافسة في سوق الإعلانات.

رئيس تحرير المصري اليوم.

عماد الدين حسين:

الحاجة إلى تحرير جديد وكُتاب جدد

عماد الدين حسين

هناك تحديات حقيقية تواجه الصحافة الورقية، السبب الأساس هو منافسة وسائل الاتصال وارتفاع أسعار الورق واستيراده، وتعويم الجنيه، وارتفاع سعر الدولار، إضافة إلى غياب أي تصور حقيقي للتطوير. والنتيجة أن عددًا من الصحف التي كانت توزع في السبعينيات بأعداد هائلة اختفت.

توجد أزمة حقيقية في المحتوى، وبخاصة مع ظهور الفضائيات والمواقع الإلكترونية، والصحف التي لن تستطيع في المستقبل أن تطور من أدائها وفكرتها وطرائق تواصلها ومحتواها، لن يكون لها فائدة. فلا بد من وجود حلول، والحلول الجوهرية تكمن في تقديم محتوى مختلف، فلم يعد مهمًّا أن تهتمّ بالخبر اليومي، فلا بد من تقديم محتوى مختلف يشتمل على حوارات وقصص وأمور ليست متاحة للـ«توك شو» على الفضائيات، وهذا بدوره يحتاج إلى نوعية جديدة من المحرِّرين والكُتاب والمفكِّرين، كما يحتاج إلى تدريب وإعادة تأهيل واكتساب لغات ومعارف جديدة.

رئيس تحرير الشروق

سامي حامد:

ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج

سامي حامد

مجدي شندي

الصحافة الورقية تواجه في الوقت الحالي الكثير من التحديات، وبالتأكيد تأثرت سلبًا بعد انتشار المواقع الإخبارية الإلكترونية لكنها لم تمت ولن تموت، فالصحافة الورقية لها مذاق خاص ونكهة مختلفة عما تبثه المواقع الإلكترونية من أخبار وموضوعات. الصحافة الورقية في اختبار حقيقي اليوم؛ فإما أن تكون أو ﻻ تكون، وأرى أن الصحافة الورقية لكي تنجح في اﻻستمرارية عليها اﻻبتعاد بقدر الإمكان من العنصر الخبري، فالمواطن يحصل على الخبر في الحال سواء على الموبايل أو شاشات التلفاز وأجهزة الحاسب الآلي. عليها التركيز على ما بعد الخبر واﻻهتمام بالرأي والتقارير والتحليلات والقضايا سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. وهناك تحدٍّ آخر يواجه الصحافة الورقية هو ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج من ورق وأحبار وزنكات، وهو ما يستلزم في كثير من الأحيان خفض الكمية المطبوعة سواء كانت صحفًا أو مجلات.

رئيس تحرير جريدة المساء المصرية.

مجدي شندي:

وداعًا للتوزيع «المليوني»

اقتصاديات الصحافة الورقية تضررت كثيرًا؛ لأن هذه الصحافة فقدت وظيفتها وهي الإخبار، فقد أصبحت لدينا بدائل أكثر سرعة في نقل الخبر وتقديمه للمتلقي، كما أن أنماط القراءة وعاداتها اختلفت من القراءة الورقية إلى القراء على اللوح الضوئي، هذا هدَّد مستقبل الصحافة الورقية، وبخاصة من قطاعات الشباب؛ لأنه لا أحد منهم يُقبل على شراء الصحف الورقية، فأغلبهم يعتمد على المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما جعل انتظار خروج الصحف الورقية من المطابع، والسير مسافات لشرائها من بائعي الجرائد، عملًا من الماضي، نظرًا لوجود بدائل قوية تبث الخبر في آن حدوثه.

تضررت الصحافة الورقية، وهو أمر ليس خاصًّا بمصر وحدها، فهو متعلق بالثورة التكنولوجية التي أنتجت الفضائيات والمواقع الإلكترونية، وأصبح التوزيع المليوني للصحف الورقية جزءًا من الماضي؛ لأن قُرَّاء الصحف فيما فوق الأربعين وحدهم هم الذين اعتادوا على ملمس الورق ورائحة الحبر، كل الأجيال الجديدة الآن لم تَعتَدْ على ذلك، وليس لديها أدنى ارتباط نفسي مع الجريدة الورقية، وهذا ترك آثاره على الصحف الورقية في العالم كله. صحف عريقة في أوربا والولايات المتحدة تحوَّلت إلى الواقع الافتراضي، أما في مصر فربما يتأخر ذلك التحول قليلًا، وقد تأتي مجلات متخصصة في تفسير وتحليل الأحداث، ما يمكنها من التعايش مع الواقع الجديد، كي نشهد دورًا جديدًا للإعلام الورقي.

رئيس تحرير المشهد

داعش والمهربون أخطر ما يهدد التراث الإنساني في البلدان العربية – صبحي موسى

داعش والمهربون أخطر ما يهدد التراث الإنساني في البلدان العربية – صبحي موسى

في الوقت الذي كانت أوربا لا تزال في عصور الظلام كأنها لم تولد بعد، كانت حضارات الفراعنة والبابليين والآشوريين والسومريين والكلدانيين ترفع مشاعل الفكر في العالم، هذه المشاعل التي حملها من بعدهم اليونان والرومان والفرس، ثم سرعان ما دارت الدورة وعادت الريادة إلى المنطقة العربية عبر الفكرة الإسلامية التي مزجت قانونها السماوي بتراث كل هذه الأمم منتجة حضارة أنارت العالم لعدة قرون، قبل أن يفقد قطار الشرق قدرته على مواصلة السير إلى الأمام، تاركًا ريح التقدم في يد الأوربيين بتنويعاتهم من إسبان وبرتغال وإنجليز وفرنسيين وأميركان.

باندلاع ثورات الربيع العربي، أصبح التراث الإنساني الموجود بهذه البلدان في خطر، فقد اقتحم اللصوص عام 2012م متحف حماة في سوريا، ونهبوا الأسلحة القديمة التي به، كما نهبوا مدينة أبيلا الأثرية في إدلب، وهو ما جعل اليونسكو تصدر بيانًا تدعو فيه الهيئات الدولة لحماية الآثار السورية، وضمان عدم تعرضها للنهب، كما جعل كاتبًا بحجم روبرت فيسك يكتب في الخامس من أغسطس عام 2012م عن أن التراث الإنساني في سوريا، بما فيه من قلاع الصليبيين والمساجد العتيقة والفسيفساء الرومانية، بات لقمة سائغة للصوص، بعدها نشرت نيويورك تايمز تقريرًا قالت فيه رئيسة صندوق الحفاظ على المواقع التراثية العالمية يوني بيرنهام: إن حلب بها العديد من الكنوز الأثرية النادرة التي تتعرض للأضرار الفادحة، كهيكل آلهة العاصفة الذي يعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد، وأكدت اليونسكو في فبراير عام 2014م على أن عمليات التنقيب عن الآثار التي تجري في مواقع متفرقة من سوريا غير قانونية، ودعت جميع الأطراف لوقف العنف في المدن الأثرية لحماية الآثار، مؤكدة أن «داعش» دمر مواقع إسلامية ومسيحية ويهودية، ونسف أضرحة ودُور عبادة يعود تاريخ بنائها لأكثر من عشرة قرون.

ومُقدِّرة قيمة الآثار المنهوبة في كل من سوريا والعراق بنحو 15 مليار دولار، وفي يونيو عام 2015م صفع «داعش» العالم أجمع بصور تدمير أعضائه معبد بعل شمين، ثم المدرج المسرحي الروماني في تدمر، ومعبد بل وأقواس النصر وغيرها، وهو ما ذكَّر الجميع بالصفعة التي وجهها طالبان عام 2001م إلى العالم كله بتفجيره تمثال بوذا…

كل ذلك يجعل «الفيصل» تعيد التساؤل عن القيمة الحضارية التي تمثلها الآثار الموجودة في بلداننا العربية؟ هل يتعارض وجود هذه الآثار مع سؤال الهوية العربية أو الإسلامية للمنطقة، حتى تتعرض لما تتعرض له اليوم من تدمير تارة، وتهريب تارة أخرى؟ وما المشترك والمختلف في هذه الآثار؟

زاهي حواس: أمر فوق المعقول

زاهي-حواسبالنسبة لمصر في عامي 2011 و2012م خرجت كميات كبيرة من الآثار الحقيقية خلسة، وحدثت تعديات رهيبة على أراضي الآثار وجباناتها، وقام بعض الأهالي بنهب العديد من المقابر، أما في سوريا وليبيا والعراق فقد دُمِّرت عشرات المواقع والمتاحف، وما يحدث في ليبيا وسوريا فهو أمر فوق المعقول، فلا أحد يستطيع أن يحصي الخسائر التي وقعت في آثار هذه البلدان، سواء بالتدمير أو النهب والتهريب، والجامعة العربية لا بد أن يكون لها دور في حماية آثار هذه البلدان، ففي مصر توقفت التعديات بحدوث الاستقرار، وقدرة الدولة على حماية المواقع والمتاحف الأثرية، لكن في كل من ليبيا وسوريا والعراق فالأمر خارج نطاق السيطرة، ويكفي أن نعلم أن عالم آثار سوريًّا جليلًا، تخطى الثمانين من عمره، اغتيل على يد المتطرفين.

ومن ثم يجب الانتباه إلى ضرورة حماية الآثار بعيدًا من أيدي المتطرفين وعبثهم، إضافة إلى الفوضى التي يتيحها مناخ عدم الاستقرار، مما يجعل بعض الأهالي والعصابات الصغيرة وغيرهما يفكران في الاستيلاء على آثار وبيعها؛ لذا لا بد من تخبئة الآثار الموجودة في المتاحف في بدرومات المتاحف، ولا بد أن تقوم الجامعة العربية والمجتمع الدولي بدور واضح وقوي في حماية آثار البلدان العربية، ولا بد من إرسال رسالة إلى كل المتطرفين والحمقى المعادين للثقافة الأثرية بأن خَلْقهم الفوضى وتعدياتهم على المواقع الأثرية ونهبهم متاحفنا لن يثنينا عن تكريم علماء الآثار، وفي مقدمتهم العالم السوري الذي اغتيل على أيدي الجماعات المتطرفة.

ولا أعتقد أن الإسلام في حد ذاته لديه مشكلة مع الآثار، لكن المشكلة مع المتطرفين، هؤلاء الذين يسعون لإحضار سلاح وعتاد، ومن ثم يبحثون عن كل ما يمكن بيعه، وهذه الآثار تحقق مبيعات كبرى لدى مهربي الآثار، ومن ثم فكلما ضعفت يد الأمن انتشر مهربو الآثار، وكلما ظهرت جماعة ترغب في التمويل قامت بعمليات تهريب كبري إلى الخارج. الكتب الإسلامية ليس فيها ما يحضّ على تدمير الآثار، والقرآن نفسه حدثنا عن فرعون واحد بوصفه حاكم ظالم وليس كل الفراعنة ولا كل عصورهم، المتطرفون هم الذين يسعون إلى تدمير الآثار تحت ستار الإسلام من أجل مصالحهم الخاصة.

وزير آثار مصري سابقًا.

عالم الآثار السوري خالد الأسعد الذي اغتالته داعش

عالم الآثار السوري خالد الأسعد الذي اغتالته داعش

إياد السليم: النظام العالمي الخاطئ

أياد-السليمأثر الحضارات والتراث فينا قد يكون أكبر مما تتصوره أنت، فقيمنا ومبادئنا، وكثير من عاداتنا، جاءت من هناك، صقلتها التجارب والحضارات، وهنا يحضر ظرفنا القاهر القاسي هذه الأيام، في منطقتنا، الذي للأسف لا يصقل وحسب بل ينهش نهشًا. ظرفنا هذا، يفوق الخيال، وقد يصعب تصديق أحداثه ولو شاهدناها أمام أعيننا، ونقول: يا أسفاه، ماذا حصل للبشرية؟ نحن وصلنا القرن الحادي والعشرين وقلنا لقد تخطينا بشاعة الأمور الإنسانية، لكن وللأسف كانت مفاجأة كبيرة لنا. غدا سياسيو النظام العالمي الجديد يتعسفون بأنانية كبيرة، بل بلؤم وحقد، وغريزة حيوانية، نعم هذا من أسباب الفتك بصروح حضاراتنا هذه الأيام، فمسيِّرو سياساتٍ خارجية ومخابراتية تجاه منطقتنا هذه الأيام، هم مِن أعتى الحاقدين للأسف، ولا يشبعون من تدمير ومحو حضاراتنا، غير مبالين بكونها إرثًا عالميًّا وملكًا للأجيال القادمة.

هؤلاء يستغلون كلّ فراغ أمني وحاجة عسكرية، ليقايضوها بأمر تخريبٍ أثريّ، صفقات مباشرة لحصص سياسية، ولحصص على الأرض، مقابل تهديم الصرح الأثري هذا أو ذاك، فرضوا ظرفًا، تسمع فيه مقاتلًا يقول: «بوط عسكريّ واحد، هو أهمّ من كامل آثار البلد».

مدير مؤسسة الاستكشاف السورية.

خالد عزب: شكوك حول الأساطير والمرويات القديمة

خالد-عزبهناك تطور كبير في علم الآثار خلال الثلاثين عامًا الماضية أدى إلى إعادة النظر في المنطقة العربية ككل، فنحن نتحدث الآن عن وجود لغة أم، ليست بالضرورة هي اللغة العربية التي نعرفها اليوم، لكنها كانت لغة فيها مشتركات كثيرة بين النحو والصرف في اللغة المصرية القديمة والنحو والصرف في اللغة العربية، وهناك مشتركات بين اللغة المصرية القديمة واللغة الأمازيغية. هذه المنطلقات إما أن تستخدم استخدامًا سياسيًّا لتعزيز المشترك العربي، أو تستخدم للتفرقة العربية، فلُبّ القضية هو التوظيف السياسي للآثار.

وإذا كان لدينا كعلماء آثار شكوك كبيرة حول صحة روايات التوراة، التي كتبت بعد السَّبْيِ البابليّ، ومدى مطابقة مروياتها مع ما يمكن تسميته بالمكتشفات الأثرية، فهل يصبح لدينا الآن شكوك حول بعض الأساطير والمرويات العربية؟ فمن المؤكد أن شبه الجزيرة العربية في عصور ما قبل التاريخ كانت بها حضارات وأنهار وغابات، ومنطقة الربع الخالي كانت منطقة زراعية، وعليه فإننا نتساءل: هل نستطيع إعادة كتابة تاريخ شبه الجزيرة العربية مرة أخرى؟ وذلك بناء على ما تُوُصِّل إليه من اكتشافات حديثة.

وهذا كله يعني أننا خلال السنوات المقبلة سنعيد كتابة تاريخ المنطقة مرة أخرى، وربما بطريقة مختلفة، ويصبح التساؤل الملحّ هو: هل سنبحث عن المشتركات التي تقرِّبنا كأمة عربية أم سنبحث عن الاختلافات التي تباعد بيننا؟ أعتقد أن الأمر مرهون بالفعل السياسي الثقافي أكثر منه بالفعل الثقافي الأثري نفسه.

متخصص في الآثار الإسلامية.

داعش-والآثار

حسين عبدالبصير: العالم العربي المحظوظ

حسين-عبدالبصيريعد سؤال البحث عن الهوية وماهية الوجود الحضاري في العالم العربي من الأسئلة المؤرقة دومًا وأبدًا في عالمنا العربي العريق قديمًا، الذي يعاني حاليًّا تــــراجـعًا حضــــاريًّــــا كــبــيــــرًا على كل المستويات الحضـــــارية. ويزيد من حيرة ذلك العالم وحيرة أهله الوقوع بين هويات عدة تمتدّ إلى الماضي البعيد، ويحيط بها الحاضر غير البهيج، ولا أحد يعلم مصيرها في عالم المستقبل الغامض. وتدخل الآثار في البلاد العربية في هذا الخضم الهائل لتزيد من عمق السؤال، وهوّة التناحر، وحدّة التعارض بين تلك الهويات المتعارضة.

ويمكن اعتبار عالمنا العربي محظوظًا من كثافة ووفرة المواد الحضارية الأثرية؛ نظرًا لاحتوائه على حضارات مهمة متعاقبة في أقطار عديدة، لعل من بين أهمها الحضارة المصرية القديمة وحضارة بلاد النهرين وحضارات بلاد الشام وغيرها. ومن بين أروع ما يميز حضارات تلك البلدان العربية هو الاستمرارية والتواصل الحضاري، لا الانقطاع الزمني، على أرضها الحضارية العريقة؛ مما يشكل لها تميزًا بين حضارات العالم قديمه وحديثه، وفي الوقت ذاته تحديًا كبيرًا لتلك البلاد التي تعيش في ظروف حضارية مغايرة لنهضتها القديمة التي أبهرت العالم قديمًا ولا تزال تبهره. ومن دون شك، فإن وجود آثار تلك الحضارات في الأرض العربية، يجعل المواطن العربي مذهولًا من عمق الهوة الحضارية الفاصلة بين ماضيه المشرّف، حين كانت بعض الحضارات الموجودة حاليًّا على الأرض العربية سيدة للعالم القديم في وقت كانت البشرية جمعاء تبحث لنفسها عن بصيص أمل في الظلام الدامس الذي كانت تعيش فيه مسترشدة بأنوار حضارات العالم العربي الباهرة.

لكن السؤال الذي يثار باستمرار :«لماذا نحن متخلفون؟». ويفكر العرب المحدثون بصوت عالٍ: «كيف وصل أجدادنا إلى هذا التقدم المذهل الذي ما زال العالم يبحث في أسراره وكيفية حدوثه؟». وفي حقيقة الأمر، فإن الإنسان العربي الحالي غير معنيّ بالكلية بالبحث عن تراثه، بل أكثر من ذلك يساهم على نحو من الأنحاء في العبث بهذا التراث العريق وتدميره.

رئيس آثار منطقة الهرم والمتحف المصري الكبير.

علي الحضوري: هدموا المقابر وتركوا الأوثان

على-الخضوريالآثار الليبية تعرضت للنبش والتشويه، فبعد سقوط النظام سادت الفوضى، وانتشر اللصوص، والراغبون في البحث عن الآثار من أجل بيعها، ولم يسلم موقع أثري في ليبيا من النبش والحفر بحثًا عن آثار فيه، ولم يسلم العديد من الآثار من التشويه سواء بالكتابة عليها أو دهنها بمواد كيميائية، لكن الأمر ليس مرتبطًا بالإسلاميين إلا فيما يخص المقابر والأضرحة، وهي تعود إلى عقود وقرون بعيدة، أغلبها كان يمثل تحفًا فنية مزدهرة بالنقوش والآيات، وهذه تعاملت معها الجماعات الإسلامية بعنف؛ لأنهم يرونها حرامًا، في حين تركوا الأعمدة الرومانية وغيرها رغم أنهم يسمونها بالأوثان، ولا نعرف آثارًا دُمِّرت كما حدث بالشكل المروع في سوريا، لكننا نعرف ما حدث من تشويه ونبش في المواقع الأثرية الليبية، والقصة في مجملها تجيء بإغراءات من السياح أو مهربي الآثار، ومن ثم فالكل أصبح يبحث عن الآثار بطريقته ومجهوده الفردي؛ كي يبيعها ويصبح من الأثرياء.

الرئيس الأسبق لمصلحة الآثار في الجماهيرية الليبية.

داعشيون

حسين العيدروس.. نقاط مشتركة

حسين-العيدروسالتراث الحضاري على المعمورة، يُعدّ من الشواهد الحية على وجود الإنسان وتفاعله ونشاطه الدؤوب والمستمرّ على مدى العصور، سواء في البلدان العربية أم في العالم أجمع. وإذا ما اقتصرنا على البلدان العربية، فإننا لا بد أن نتعايش تحت أي ظرف من الظروف، وننسى هذه التقسيمات العقيمة، التي شتتت شمل الأمة وفرقتها، فمن خلال معظم التنقيبات الأثرية في العالم، وُجِدت شواهد تثبت الصلات والعلاقات بين الشعوب، وعُرف التلاقح الحضاري فيما بينها، ولولا هذه الصلات لما تحضَّرت الأمة بالأخذ والعطاء (التبادل)، هذه السمة الأخلاقية التي تدلنا على الفضيلة في عدم الاستئثار والأنانية، فالشعوب المحرومة، هي الشعوب المنعزلة، المنكفئة على ذاتها، لا تسمح بالتواصل مع الآخرين، وبالتالي ظلت متقوقِعة، حتى انتهت وأَفَلَ نجمها مهما كان سطوعه.

قد تكون الوحدة الجغرافية في كثير من الأحيان، لها أثر في التقارب بين المجموعات البشرية التي تعيش فيها، وهذا الأمر طبيعي وإيجابي، ليس بالاختيار، لكن في الوقت نفسه قد تنشأ خلافات فكرية، أو اجتماعية، أو سياسية، أو خلاف ذلك، تؤدي إلى نشوب نزاعات، وهذه غالبًا طبيعة بشرية، لكن بالمقابل قد تُحل وتعود إلى وضعها الطبيعي، وقد تتعقد وتُنهِي طرفًا من الأطراف.

أستاذ الآثار بكلية الآداب جامعة صنعاء.

نينوى-داعش

الشرقي‭ ‬دهمالي‭: ‬محور‭ ‬أطماع‭ ‬ومصالح‭ ‬عالمية

الشرقي-دهماليالمتأمل في التاريخ العربي يجد أن منطقتنا العربية شكلت وستشكل دائمًا مجالًا لبروز أطماع ومصالح بين قوى خارجية، وميدانًا لتصفية مجموعة من الحسابات بين أجهزة استخباراتية عالمية يكون فيها المواطن العربي وهويته الحضارية حطَبًا لحروب مفروضة يصاحبها نشاط مكثف لتهريب الممتلكات الثقافية العربية تؤدي إلى فقداننا جزءًا غاليًا من تراثنا، هذا التراث الذي يباع بأثمان خيالية في المزادات العلنية، وأصبح قسم منه في ملكية متاحف عالمية تتباهى بعرضه للزوار، وتحقق من ورائه مكاسب مالية مهمة جدًّا.

وبالرجوع إلى الخمس عشرة سنة الأخيرة فقط، نجد أن عالمنا العربي عرف مجموعة من الأحداث المتسارعة والمؤلمة التي أضرت كثيرًا بمعالم تراثنا المشترك، من خلال استهداف «ممنهج» للمعالم البارزة للتراث العربي كما سيتبيّن من خلال هذه الأمثلة التي سنوردها على سبيل المثال لا الحصر:

– استمرار عمليات الحفر تحت المسجد الأقصى المبارك منذ عام 1967م إلى اليوم، وما نتج عن ذلك من تشققات في بنيته الأساسية وبخاصة في الجدار الجنوبي، إضافة إلى هدم أحياء عربية قديمة بالقدس الشريف من طرف الكيان الإسرائيلي.

– تعرض المتاحف والمواقع الأثرية لبلاد الرافدين، خلال الاجتياح الأميركي للعراق سنة 2003م، لعمليات واسعة من السرقة والتهريب قامت بها، في أغلب الأحيان، عصابات دولية منظمة ومحترفة تحت أنظار قوات الاحتلال. وهنا أسرد حديثًا دار بيني وبين الزميل المرحوم الدكتور توني جورج، مدير متحف بغداد آنذاك، خلال لقائنا في الجمعية العامة للمجلس الدولي للمتاحف بكوريا الجنوبية سنة 2004م، أكد لي فيه عن «وجود حقائق تثبت أن ما سُرق من التحف من المتحف العراقي في بغداد خلال الأيام الأولى للاحتلال تم بشكل منظم على أيدي عصابات مدرَّبة، كما يدل على ذلك طريقة اقتحام المتحف، ومن خلال درايتهم الدقيقة بمحتويات المتحف: ففي المتحف نسخة طبق الأصل من «المسلة السوداء» لشريعة حمورابي الموجودة في «متحف اللوفر» في باريس لم يسرقوها لمعرفتهم بعدم أصليتها.

تتوالى عمليات التخريب للشواهد المادية للتراث العربي لتصل ذروتها مع ما يسمى بـ«الربيع العربي»، وما نتج منه من فراغ وانفلات أمْنيينِ وتدخل أجنبي سافر، وتفريخ لمجموعة من الجماعات المسلحة التي جندت، للأسف فئة من أبناء جلدتنا، وجعلت من تدمير التراث وسيلة للتعبير عن وهمها، ومن الاتّجار في التحف مصدرًا لملء خزينتها من العملة الصعبة. وهنا أكتفي بسرد مجموعة من الأحداث المؤلمة:

– تعرض مجموعة من الآثار الليبية إلى التخريب والتنقيب غير المشروعين بعد التدخل الأجنبي سنة 2011م.

– سرقة مجموعة من القطع من المتحف المصري بالقاهرة في ليلة «جمعة الغضب» يوم 28 يناير 2011م.

– تفجير واجهة وبهو متحف الفن الإسلامي بالقاهرة في يناير 2014م، وتدمير مدخل متحف العريش في يناير 2015م.

– نهب وتخريب محتويات متحف الموصل في فبراير 2015م، وتدمير تماثيل الثور الآشوري المجنح في المتحف وفي «بوابة نركال» الأثرية، التي ترجع إلى القرن التاسع قبل الميلاد.

– قتل مجموعة من زوار متحف باردو الوطني بتونس في هجوم مسلح يوم 18 مارس 2015م.

– تدمير معابد وأقواس مدينة تدمر الأثرية بسوريا، وإعدام مدير متاحف وآثار المدينة د. خالد الأسعد بتهمة العمالة و«حراسة الأصنام» في أغسطس 2015م.

– تدمير مجموعة من المتاحف والبنايات التاريخية باليمن خلال العمليات العسكرية المتتالية.

أساطير على هامش يوميات مترو القاهرة

أساطير على هامش يوميات مترو القاهرة

حين تتحدث مع أي من قاطني مصر الجديدة قائلًا: «ترام مصر الجديدة …» يوقفك بانزعاج قائلًا: «مصر الجديدة ليس بها ترام، دا مترو». هكذا تجد نفسك في مأزق غريب، فمترو الأنفاق يربط في خطه الأول ما بين شبرا والجيزة، وفي خطه الثاني ما بين حلوان والمرج، ويسير تحت الأرض وفوق الأرض بين سورين عظيمين يمنعان الناس والسيارات عن مساره، ويسير بالكهرباء وليس بالوقود كالقطارات، ولا توجد به «سينجة» يشدها الشباب فيقفونه عن السير، وليس به مقابل، وليس له مزلقان كما في القطار، فكيف يمكن القول عن ذلك الذي يمشي على وجه الأرض بين الناس والسيارات، وينعطف ليمرّ بين العمارات في الشوارع دون خصوصية ولا استقلال، ودون هيبة وأسوار تحولان دون مطاردة الأطفال له، كيف يقولون عنه «مترو» وليس «ترام»؟

سوف تتذكر أن مهندسًا في السكك الحديدية المصرية تَقدَّم إلى الملك فاروق باقتراح لإقامة أول مترو أنفاق في مصر وإفريقيا والشرق الأوسط كله، لكن الملك أهمل الاقتراح فماتت الفكرة، ولم تستيقظ إلا مع مجيء جمال عبدالناصر، هذا الذي رغب في أن يكون المؤسس الثاني لمصر الحديثة بعد محمد علي، فاقترح على الخبراء الفرنسيين أن يضعوا تصورًا لإنشاء أول مترو في مصر، واتُّفِق مع بيت الخبرة الفرنسي «سوفريتو» عام 1970م على إنشاء خطين أحدهما يربط ما بين بولاق أبو العلا وقلعة محمد علي بطول 5 كم، والثاني يربط ما بين باب اللوق وترعة الإسماعيلية بطول 12 كم، وفي عام 1973م صدَّق أنور السادات على إنشاء مترو القاهرة، لكنه لم يبدأ العمل فيه إلا في عصر مبارك، وكان أول تشغيل له عام 1987م.

كانت القاهرة قبل أن يربط المترو بين أطرافها أشبه بصندوق مكتظ بالبشر، وكانت أحياء مثل حلوان والمعادي والمرج وغيرها أشبه بدول أخرى، لا يذهب إليها أحد، ولا يسمع بها أحد، ويتندر الناس على من يفكر في الإقامة بها، لكنها مع المترو أصبحت أقرب من وسط المدينة؛ لأن زحام المرور فوق سطح الأرض لا يمنح أحدًا حق التحرك من مكانه، والإشارات لا تفتح أضواءها إلا لتغيرها، وقد عبَّرت السينما في السبعينيات والثمانينيات عن هذا الاختناق المروري المزمن في شوارع القاهرة وكباريها من خلال أفلام مثل «أربعة في مهمة رسمية».

مدن داخلية على أبواب المحطات

لم يكن مترو القاهرة مجرد حدث أو وسيلة مواصلات جديدة، لكنه كان تغيرًا ديموغرافيًّا كبيرًا، فقد امتدت القاهرة الكبرى على ضفاف هذا الثعبان الحديدي، فنشأت مدن داخلية على أبواب محطاته، وصارت علامة «M» الحمراء رمزًا لتجمعات البشرية متباينة، حيث تجار الملابس والفاكهة والزيوت والمساويك والكتب القديمة والموبايلات وكروت الشحن والسماسرة والبهلوانات وأصحاب الثلاث ورقات، فضلًا عن عيادات الأطباء ومكاتب المهندسين وشركات الصرافة وسماسرة العقارات والشقق المفروشة وغيرها، نشأت حيوات وتغيرت طبيعة أماكن، وتوالدت أساطير وحكايات، ليس عن نشأة القاهرة ومجيء المعز بسيفه وذهبه، ولكن عن المترو والترام والقطار الفرنساوي والقشاش، وتحول الناس من آدميين يمشون على أقدامهم رافعين أنوفهم نحو السماء إلى فئران أو أرانب تهرول بمجرد دخولها من باب المحطة، تهرول في أنفاق طويلة وباردة، وسط ضجيج عالٍ وكثير، مسموع وغير مفهوم، ضجيج يبعث على التوتر والسرعة، ليتسابقوا في دخوله على شباك التذاكر، ومرورهم من بوابات ممغنطة، فرحين بوصولهم إلى الرصيف، في انتظار الثعبان الحديدي الكبير، هذا الذي لا تمر دقائق إلا بمجيئه، وحيث تكتظ المحطة بالنازلين والصاعدين، لكنها سرعان ما تصبح خالية في انتظار قادمين جدد.

لم يكن الأدب بعيدًا من حضور المترو بثقافته الجديدة على الجميع، فقد سجل العديد من الكتاب هذا الحضور في أعماله، من بينها رواية «مترو» المصورة لمجدي الشافعي، التي تدور أحداثها حول «شهاب» مهندس الإلكترونيات الحانق على النظام الاجتماعي والفساد المنتشر في مصر، الذي يقترب من الإفلاس بسبب المنافسة التي يسحق فيها أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة سواهم، ورواية ياسمين مجدي «معبر أزرق برائحة الينسون» الفائزة بجائزة دبي عام 2009م، التي تدور أحداثها في شباك بيع تذاكر في إحدى محطات المترو، وكذلك ديوان حمد عبدالعزيز «عشرين سنة على سلم المترو». وفلم «ساعة ونص» التي تدور أحداثه حول حادث قطار العياط الذي اشتعلت فيه النيران عند منطقة «العياط»، ويحكي قصصًا إنسانية عن ركابه.

في هذا التحقيق نتعرف على مشاعر وانطباعات وذكريات وأفكار وتصورات عدد من المثقفين المصريين والعرب، ممن تعرفوا على مترو القاهرة أو اتخذوا في رحلاتهم مترو دبي أو غيرها من مدن العالم، وكيف تركت هذه الوسيلة الجديدة حضورها لديهم، وكيف تَشكَّل خيالهم معها.

جاكلين سلام: نصوص في مترو تورنتو

جاكلين-سلاميشكل المترو عصب التنقلات في مدينة تورنتو الكندية التي تعد واحدة من أكبر مدن العالم. شخصيًّا أستخدم المترو للذهاب إلى العمل. أحيانًا أقرأ الكتاب الذي في يدي، وأحيانًا أقرأ وجوه العابرين. أحيانًا أكتب الشخصيات والمواقف في دفتر الملاحظات. هنا بعض أحوال مترو المدينة التي يعيش فيها خليط بشري متنوع من كل الألوان والأجناس.

*

خرجتُ مرة في الصباح الباكر وكنت على موعد للذهاب للترجمة الفورية لوزراء كنديين سيتحدثون عن تجربة استقدام اللاجئين السوريين إلى كندا. لبست ثيابي الرسمية وفي منتصف الطريق إلى مكان انعقاد المؤتمر، توقف المترو لعطلٍ ما. اختنقتُ. لم أستطع الخروج من النفق. حين تدبرنا طريقًا للخروج، استقللت سيارة أجرة، كانت عشرات الرسائل الصوتية قد وصلتني من مكتب العمل يسألون عن تأخر المترجمة. حين وصلت إلى المكان، دقائق فقط أمامي كي أرتّب شعري وأشرب الماء، ثم قُدِّمتُ إلى الوزيرة والشخصيات التي ستلقي خطابًا سأقوم بترجمته مباشرة في حضور عدد كبير من القنوات التلفزيونية الكندية. أثناء إلقاء الخطابات عن دور كندا الإنساني حيال مساعدة اللاجئين وتقديم فرص العمل لهم، كنتُ أقول في نفسي: أنا سورية- كندية ومن الممكن أن أتضرر لو توقف المترو في ساعة حرجة. المترو واللغة وسيلتان للوصول إلى مكان والعبور إلى الطرف الآخر.

*

الكلاب أيضًا تستقلّ مترو تورنتو: حين تكون برفقة كلب وتستقلّ عربة في المترو، ستحظى بكل الاهتمام من الركاب. إنهم يداعبون الكلاب ويتحدثون مع مالكها بود شديد. ذات مرة كانت سيدة بجواري تحمل في حضنها كلبًا صغيرًا وسيمًا. الشاب في الكرسي المقابل، صار يداعب الكلب ويقول للسيدة: «لكلبك شخصية مميزة، أعجبني كلبك» نظرتُ إلى الكلب بعين فاحصة وفي داخلي مشاعر متناقضة. مرات كثيرة أرى امرأة تجلس في مقعد في المترو، تبكي ولا أحد يلتفت إليها.

*

في ساعات الازدحام الشديد، أركض بين الجموع كي أصل إلى المترو وكلّي أملٌ أن أجد مقعدًا. حين أصاب بالخيبة أبدأ بتصفح عناوين الكتب التي يقرؤها العابرون إلى قلب المدينة. وأسترق النظر إلى وجوه الأشخاص. بعضهم ينام وبعضهم يأكل. أقرأ الوجوه ككتاب وأدوِّن الملحوظات أحيانًا. العالم محصور في عربة أمامي، أتمنى لو أكتب المفارقات والصور.

*

ينام الشحاذون في المترو أحيانًا. يصحبون معهم أكياسًا كبيرة تفوح منها رائحة عفنة. رائحتهم أيضًا تنتشر في المقطورة. أحيانًا أغيِّر مكاني كي أبتعد من مصدر الرائحة.

*

في المناطق المكشوفة في المترو يتناهى إلى سمعي المحادثات التليفونية الخاصة. أسرار تصلك بالعربية والإنجليزية. أبتسم وأنا أستمع إلى امرأة عربية تشتكي من زوجها، أو العكس.

*

يحدث أن أنغمس في قراءة رواية وأجتاز المحطة التي سأنزل فيها، حينها ألعن الكاتب وأبدأ بتأليف كذبة مناسبة عن سبب تأخري عن العمل.

كاتبة ومترجمة سورية مقيمة في كندا.

عمر العادلي: ضجيج لا يُسمع وسرعة تُرى

القاهرة عام 1986م هي تقريبًا ثلث القاهرة عام 2017م، ليس فقط من حيث عدد السكان إنما من حيث التنامي والانتشار في المدن الجديدة المنتسبة لهذه المدينة العريقة، فهناك بعض المدن التي لا علاقة لها بالقاهرة جغرافيًّا، لكن يبدو أن أصحابها سعداء بالانتساب غير الدقيق للعاصمة المصرية.

في عام 1986م لم يكن هناك سِوى بعض أعمال حفر لما سمعنا في تلك الأيام أن اسمه مترو الأنفاق، ومترو الأنفاق الذي يجري في إنجلترا منذ عام 1899م لم يدخل إلى القاهرة إلا في عام 1987م، وكان المترو حدثًا يعدّ الأبرز وقتئذ، فمن حيث الأهمية فهو وسيلة المواصلات الأسرع على الإطلاق، ومن حيث دقة التنفيذ فقد كانت الشركة الفرنسية المشرفة على المشروع تحدد ميعاد التسليم باليوم والساعة، لدرجة وجود عداد رقمي يتناقص يومًا كل أربع وعشرين ساعة لدقة العدّ التنازلي، وفي صيف عام 1987م أصبح يجري تحت أرض القاهرة مترو أنفاق كالذي يجري في لندن وروما وباريس.

هذه المدينة، القاهرة، جدَّد فيها المترو شبابها في السنوات الأولى من عمله، فقد كانت قد وصلت حد الترهُّل والبدانة، وأصبحت المواصلات العامة في حالة يرثى لها، فيمكن أن يستغرق قطع عشرين كيلو مترًا أكثر من ساعتين، وقد كان المترو يقطع المسافة نفسها في ثلث ساعة فقط لا غير. تغير شكل الانتقال في القاهرة، وتغير معها نظرة الناس بشكل عام، فأصبح متاح لإنسان أن يعطي بسهولة موعدًا ويستطيع الالتزام به، وذلك ببساطة لأن فرق توقيت مترو عن آخر لم يكن يزيد على خمس دقائق، ويمكن القول: إن المترو كان أداة تجميل ضرورية ولازمة بسبب التكدس الذي ضرب المدينة العريقة، وجعلها تستوعب أكثر مما يكفيها من البشر بثلاثة أضعاف على أقل تقدير.

بعض المثقفين فضلوا التنقل عن طريق المترو بدلًا من التاكسي أو وسائل المواصلات العامة، فقد ربط المترو بين مراكز ثقافية في أول المدينة بأخرى على أطرافها، فلو أن هناك منتدى في المعادي مثلًا يُقدِّم محتوى ثقافيًّا؛ ويريد شخص ما أن يذهب إليه وهو يقطن في منطقة المرج أو منطقة الزيتون، هل كان يستطيع الوصول إلى هذه الضاحية البعيدة؟ الإجابة لا؛ لأنه من الصعب تخيل شخص يقطع قرابة سبعين كيلو مترًا فوق أسفلت متكدس وطريق مزدحم وإشارات تغلق أكثر مما تسمح بالمرور، وكان من الصعب أيضًا أن تزيد هذه الكثافة السكانية العالية في هذا الزمن الوجيز دون حلول، فلولا مترو الأنفاق لانفجرت القاهرة.

الآن، وفي عام 2017م تمددت خطوط المترو، وأصبحت تربط أطراف القاهرة من جميع الاتجاهات، وهذا يَسَّر على الكثيرين سرعة التنقل ودقة المواعيد، إضافة إلى شيء آخر ألا وهو التخفف من الزحام قدر المستطاع، فالقاهرة يعمل بها عمالة مؤقتة تتعدى خمسة ملايين نسمة، يزورونها كل صباح ويتركونها في مساء اليوم نفسه.

روائي مصري.

صبحي فحماوي: كلام في المترو

هل كان حيوان «الخلد» هو أو من استخدم الأنفاق تحت الأرض ليمر بسلام آمن؟ وهل سيبقى الخلد حيًّا في أنفاقه تحت الأرض إذا ما قامت حرب نووية أزالت الحياة من على الأرض؟ في المدرسة كنا نقرأ في كتاب الإنجليزي أن المدينة التي يزيد عدد سكانها على مليون مواطن، لا يحل مشكلتها المرورية سوى المترو.. لكن مدينتنا عمّان التي يزيد عدد سكانها مع الضواحي هذه الأيام على خمسة ملايين نسمة لم يصلها المترو حتى الآن. وللمعلومة فإن أول مترو أنفاق أسس في لندن عام 1863م، مقتبسًا من القاطرات البخارية، وأسس مترو الدولة العثمانية في إسطنبول عام 1871م، تلاه مترو بودابست عام 1896م، أما مترو باريس فأسس عام 1900م، ويعد مترو لندن وشنغهاي هما الأطول من حيث خطوطهما، ويعد مترو طوكيو وموسكو هما الأكثر ازدحامًا.

قبل عشر سنوات في لندن نزلت بمصعد مسافة عشر طوابق تحت الأرض ليفتح هناك باب المترو، فكان في وجهي امرأة محجبة مستغرقة في قراءة القرآن.. أدهشني المشهد. أدهشني نفق سيارات «أوراسيا» الذي دشنته تركيا مؤخرًا ليربط الشطرين الأوربي والآسيوي لإسطنبول كأول نفق بحري تركي لعبور السيارات، بعد افتتاح نفق مرمراي للمترو، الذي يمتد مسافة حوالي 15 كم، منها 3.5 كم تحت مضيق البوسفور، ويبلغ ارتفاعه 14 مترًا، وهو مؤلَّف من طابقين للذهاب والإياب، ليربط الطريق بين الضفتين الأوربية والآسيوية هناك، كما سيمكِّن 90 ألف سيارة من العبور خلاله يوميًّا ذهابًا وإيابًا بين طرفي المدينة. ويعمل هذا النفق على توفير 25 مليون ساعة على المسافرين كل سنة، كما سيخفف 85 طنًا من التلوث الناتج عن السيارات. وأما النفق الأوربي، تحت البحر للقطارات والسيارات فيربط بين بريطانيا وفرنسا بطول 50.5 كم، وهو ثاني أطول نفق بحري في العالم؛ إذ إن نفق (سيكان) الياباني للسكك الحديدية، هو أطول نفق بحري في العالم حتى عام 2010م. ويتفوق النفق الياباني للسكك الحديدية، بطوله البالغ 53.9 كم، وكان يعد الأطول في العالم. وفي سويسرا افتتح نفق «غوتهارد» للسكك الحديدية بصفته الأطول والأكثر عمقًا، ويمر تحت جبال الألب في سويسرا، بطول 57 كم، ويربط بين شمال وجنوب أوربا. لتُنقل البضائع عن طريق القطار، بدلًا من نقلها برًّا عن طريق ملايين الشاحنات في العام.

كاتب أردني.

أمجد ريان: ضجيج حبيب إلى نفسي

2أمجد-ريانعلاقتي بـ«المترو»، علامة توحد بيني وبين أبناء جيلي جميعًا؛ لأن هذه العلامة تتكرر بشكل أو بآخر لدى الجميع. تبدأ علاقتي بالمترو منذ الطفولة المبكرة في سن الخامسة وما بعدها، فقد كنت أعيش مع والدي في إحدى العمارات في شارع المقريزي، ويخترقه بامتداده خط مترو «مصر الجديدة» الآتي من ميدان «روكسي» متجهًا إلى ميدان «رمسيس»، وكانت الشقة فخمة وفي حي راقٍ، لا تتناسب مع المستوى الاجتماعي الحقيقي لوالدي ووالدتي، لكنها رمز لتطلعات الطبقة المتوسطة الصغيرة المرتبكة اقتصاديًّا دائمًا. وكان والدي الطالب الصعيدي تلميذ «طه حسين» في كلية الآداب لشدة فرحه بعروسه أجّر لها هذه الشقة، وكانت الشقق وقتئذ متاحة لكل من يمكنه أن يستأجر. كان والدي مدرسًا للغة العربية في مدرسة سراي القبة الثانوية للبنات، وكان راتبه الشهري أقل من ثلاثين جنيهًا، فأجَّر هذه الشقة بسبعة جنيهات، وهو مبلغ كبير جدًّا بالقياس إلى ظروفه. وزوجته (أمي) هي قريبته من بعيد تعيش في حي «السبتية» الشعبي الفقير. وكانت علاقتي بمترو مصر الجديدة وطيدة، فهو يجري ليل نهار أمام باب العمارة محدثًا هذا الضجيج الحبيب إلى النفس، ونوافذه فيها وجوه الركاب، وعيناي تتأملان هذه الرحلات التي لا تتوقف، وكأنها رمز للحياة كلها بل للوجود كله في رهجه وحركته الذاتية المطردة. وكنا نحن دائمي ركوب المترو، وبخاصة عندما نذهب لزيارة جدتي في «السبتية»، فكان المترو هو الذي ينقلني بين مشهدين أو حالتين هما الحي الأرستقراطي من جهة والحي الشعبي من جهة أخرى، بكل ما فيهما من معانٍ ورموز ودلالات موحية. ولا أنسى أيضًا يوم «الخناقة» الكبرى التي اشتعلت في بيتنا بين والديّ، فوضعت أمي على جسدها أول فستان وجدته في الدولاب، ووضعت أقدامنا أنا وأخي «أحمد» في حذائين وحملت أختي «آيات» الرضيعة وجرت بنا غاضبة، وفي المترو اقترب منا الكومساري طالبًا التذاكر، ولكن أمي أخبرته أنها لا تملك النقود، وأفهمته أنها في ظرف خاص، نظر الكومساري لحالتنا وابتعد عنا على الفور دون أن ينبس ببنت شفة، ويبدو أن هيئتنا كانت تنبئ بما كنا فيه، كما أن أخلاق البشر وقتئذ كانت تفيض بالمسامحة وبالتعاون.

وظلت علاقتي بالمترو قوية، حتى بعد أن سكنت في «وادي حوف» بحلوان، وكانت تذكرة المترو القديم بقرش ونصف، ولكن الدرجة الأولى كانت بثلاثة قروش، وكان مجرد الدخول إلى المترو ينبئ بالمستوى الاجتماعي للركاب، وإن كانت المسألة قد تغيرت الآن في المترو الجديد (under ground) الذي استوردناه من فرنسا، وبمناسبة فرنسا فأنا قد ركبت المترو الفرنسي في باريس، عندما دُعيت أنا والشاعرة «رنا التونسي» لنمثل مصر في مهرجان «لوديف» الشعري الدولي. أما الفرق بين المترو المصري والمترو الفرنسي فحدِّث ولا حرج، أبسط فرق هو أنك بمجرد دخولك المترو هناك، تجد أن معظم الناس يمسكون الكتب المفتوحة بين أياديهم، ولا تتوقف عيونهم عن القراءة، مستفيدين من الزمن الذي سيقطعونه في أثناء ركوب المترو.

شاعر مصري.

صلاح حسن: وسيلة عملية ونظيفة

مترو الأنفاق هو واحد من المشاريع المهمة التي تثبت أن قدرة الإنسان غير محدودة في استخدام الطبيعة لتسهيل حياة الإنسان، وجعله قادرًا على الاتصال بالآخرين مهما كانوا بعيدين عن بعض. نشهد اليوم في أوربا بالتحديد مشاريع عملاقة لمد الأنفاق تحت البحر، وقد نجح كثير من البلدان في ذلك، وأكبر الأمثلة هو النفق الذي يربط فرنسا ببريطانيا، والمشروع العملاق بين أكثر من سبع دول أوربية لإنجاز نفق طوله مئات الكيلومترات. إنها تجربة فريدة بالفعل أن تسافر في قطار يسير تحت الماء. بالنسبة لي وأنا أستخدم هذه القطارات بين وقت وآخر أجدها طريقة عملية ونظيفة وسهلة للوصول إلى المكان الذي تريده دون تضييع كثير من الوقت، لكن نحن العرب معتادون على المساحات المفتوحة، نخاف من هذه القطارات لأسباب سيكولوجية، وهي الخوف من الأماكن المغلقة مع أنها غير مبررة طالما أثبتت نجاحها المستمر.

شاعر عراقي. 

هاني الصلوي: صيغة كلاسيكية زمنية للإبداع

هاني-الصلوييعد المترو -بلا شك- من أهم وسائل المواصلات الحديثة عند العرب وغيرهم بلا فرق أو مزية، سوى أنه ليس منتشرًا لدينا كعرب بل يكاد ينحصر في دول عربية ليست غنية البتة، عدا دولة الإمارات وأعني «دبي» تحديدًا، وحداثة المترو بين الدول نسبية (دخل بعض المدن في السنوات الأخيرة)، ولعل مسألة الكلفة المادية لإنشاء شبكة مترو العائق الأساسي لإنشاء مثل هذه الشبكة في الدول العربية الفقيرة، أما الدول الغنية حيث دخلُ الفرد مرتفع فيستبدل الناس به السيارات.. وهو أمر معروف وغير محتاج لتفصيل. الأدباء العرب انبهروا كالغربيين بهذه الوسيلة الحديثة والمختلفة، بوسيط نقل متداخل كهذا، بانبهار قديم للكائن البشري بالقطـار، أي أن الاندهاش بالمترو وليد الاندهاش التاريخي بالقطـار، فليس المترو سوى قطار حديث، وكذلك التراموي بصفته وسيلة وسطى أو متوسطة الزمنية والخصائص بين القطار الكلاسيكي وقطار الأنفاق، بل إن بعض الدول بنت شبكة المترو على سكك الترام (التراموي).

على المستوى الأدبي شكَّل القطار (الجد) صيغة كلاسيكية زمنية للإبداع قراءة وكتابة، تتميز هذه الصيغة بالهدوء وراحة البال والاسترخاء والتأمل، كتب كثير من الأدباء أعمالًا أدبية على القطارات في أسفارهم الطويلة أو المتوسطة من دون اشتراط تعلق موضوعات أعمال هؤلاء بالحياة على القطار، بل عهدت شركات القطارات في الغرب لمنظمي فعاليات ثقافية بتسيير الحياة اليومية على القطارات. قد توظف شركة قطار شاعرًا، يسافر في وسائله بشكل يومي ويقرأ للمسافرين، ويشبه ارتباط الأديب العربي والكاتب غيره في ممارسة الحياة على القطارات عدا في سِمة ارتباط القطارات في أوربا -في حالات ما لا يشترط تواترها- بفعليات ثقافية وفنية… كان القطار وما زال وسيلة سفر، وهو ما منحه ما مر من سمات في علاقته بالأدب أو الكتابة، أما مترو الأنفاق (الحفيد الشرعي) فهو وسيلة نقل داخلي داخل المدن مما يجعل ممارسة الانتقال عبره سواء تمت بشكل يومي دوري أو غير دوري، متسمة بالسرعة ومحاولة الإنجاز واللحاق بالمهمات أو أماكن الراحة.

       إنه سياق نقل متوتر وآني، وإذا افترضنا أن هناك من يستغلّ لحظات امتطائه من الأدباء للقراءة والكتابة (وهو ما يحدث كثيرًا) سيكون المقروء خفيفًا وقليلًا يتناسب مع الوقت وطريقة استخدام هذا الوسيلة ووقتها، سيكتب كاتب ما على سبيل المثال قصة قصيرة جدًّا بدلًا من رواية أو قصة. ومضات صغيرة وليست قصائد.. من جانب آخر يوفر مترو الأنفاق أوقـاتًا منزلية ثرية لممارسة الإبداع بعيدًا من الازدحام وضياع الوقت في الطرقات، مما يعد ازدوجـًا فيما تتيحه وسيلة المترو الإشكالية. في حالة كان المترو (قطار أنفاق) لا بد أنه يمنح الذهن فرصة أخرى للتأمل والتساؤل أثناء سير القطار في الأنفاق المظلمة، وهي مجالات ذهنية وخيالية استغلها التفكير الفني الإنساني منذ الوهلة البكر، نجد ذلك في أفلام السينما تحديدًا، والبرامج التصويرية، والروايات والشعر… يشبه الاعتماد اليومي أو المنقطع على وسيلة المترو طقسًا روحيًّا قديمًا… هل نقول عنه حجـًّـا آليًّا ميكانيكيًّا؟ ربمــا.

شاعر يمني.

يسري حسان: دليلك لمعرفة الشخصية

المترو دليلك الصادق لمعرفة الشخصية المصرية.. على المحطات يتراص المواطنون، وبمجرد أن يفتح القطار أبوابه، ودون إتاحة الفرصة لهبوط الآخرين، يندفع الجميع للركوب وتحدث المشادات في المحطات التي يحدث فيها تبديل للقطارات، مثل محطتي السادات والشهداء، تلاحظ أن من يغادرون قطار الخط الثاني مثلًا ليستقلوا قطار الخط الأول أو العكس، جميعهم يهرول للحاق بالقطار، ويأخذون في وجوههم المتجهين إلى القطار الآخر، كثيرًا ما طرحني أحدهم أرضًا وهو يهرول للحاق بقطاره، وأحيانًا كنت أقوم سريعًا فيأتي غيره ليطرحني مرة أخرى، وهكذا..!

القطار في الغالب يأتي كل دقيقتين أو ثلاث، والمواطنون، في أغلبهم، ليس لديهم مواعيد أو اجتماعات لتغيير العالم، فلماذا إذًا يهرولون بهذه الطريقة؟ ظني أنها مسألة في لا وعيهم، فالفرص دائمًا ما تضيع منهم والوعود التي يتلقونها من حكامهم لا تتحقق في الغالب، لذلك فهم يهرولون لاقتناص فرصة وجود القطار؛ لأنهم لا يضمنون أن يأتي قطار آخر.

في المترو إذا كنت في محطة المرج مثلًا، التي تفصلها عن محطة حلوان ساعة على الأقل، لا تستغرب إذا سمعت هذا الحوار عبر الهاتف:

السلام عليكم

…………………

خمس دقايق وأكون قدامك

……………………

داخل على حلوان أهو ودقايق إن شاء الله وأوصل

…………………………..

محمد رسول الله

مترو-القاهرة-3مجرد نموذج للشيزوفرينيا التي يعانيها المصريون، ويمكن أن تسمع أحدهم، على الهاتف أيضًا، يعتذر عن عدم قدرته على لقاء محدثه لأنه خارج القاهرة، لا تستغرب فهذا أمر طبيعي يدل على قوة خيال المصريين!! وداخل المترو أنت في مبنى الإذاعة والتليفزيون، اخترعوا سماعات للهاتف المحمول لكن أغلب المصريين يحبون المشاركة، فمنهم من يُسمعك القرآن الكريم، ومنهم من يسمعك أغاني المهرجانات، ومنهم من يسمعك موسيقا رومانسية حالمة، وعليك أن تستوعب كل ذلك معًا، وإياك أن تعترض على أحدهم، وبخاصة لو كان يدير هاتفه على محطة القرآن الكريم.

من قال لا أعرف فقد أفتى، لكن كل المصريين يعرفون، فإذا سألت أحدهم عن مكان تقصده حتى لو كان يسمع به لأول مرة فلا بد أن يصف لك مكانه، ولسان حاله وهو يودعك يقول: «مع السلامة يابو عمة مايلة» كما فعل أراجوز صلاح جاهين في أوبريت الليلة الكبيرة في الريفي الذي سأله عن مكان يقصده فأرشده إلى سكة اللي يروح ما يرجعش!!

والمترو أيضًا أفضل مكان للتسول، جميع المتسولات منتقبات، وكلهن يروين هذه القصة: «زوجي توفي وترك لي خمسة أبناء، واحدة منهم مصابة بالفشل الكلوي، وتغسل ثلاثة أيام في الأسبوع، واليوم موعد الغسيل الذي يتكلف أربع مئة جنيه وليس معي سوى مئة وعشرين جنيهًا.. ومن لا يصدقني يتصل بقسم الغسيل الكلوي بمستشفى الدمرداش» هو قسم مجاني بالمناسبة!! راقبتُ إحداهن في عربة واحدة من القطار الذي يضم عشر عربات، فاكتشفت أنها حصلت على أكثر من مئة جنيه، اضربْها في عشرة ولا تتعجب إنه عبط المصريين. في المترو حركة بيع وشراء رهيبة من كروت المحمول إلى مشابك الغسيل إلى الملابس الداخلية، ويا ويلك لو قلت لأحدهم: إن المترو ليس مكانًا للبيع والشراء، سيقول لك أحد الملتحين: «ربنا لا يجعلك من قاطعي الأرزاق، دعه يسترزق».

أحب المترو وركوبه، والدقائق التي أقضيها بداخله تمنحني طاقة وحيوية وتجعلني قريبًا من أمزجة الناس وتصرفاتهم واهتماماتهم.. وهم في الأول والآخر أهلي وناسي، ثم من أدراك أنني لا أكون في حلوان وأخبر محدثي على الهاتف أنني على أبواب المرج وأغلق معه قائلًا: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. عظيمة يا مصر!!

شاعر مصري.

إيناس العباس: كاميرا تراقب التفاصيل

المفارقة أنني لم أستعمل المترو في تونس، إنما في سيؤول وفي دبي، وإن كانت متروهات سيؤول في معظمها تمر عبر الأنفاق، فهي عالم كامل من المفاجآت المبنجة للعين والأفكار التي استعملتها لاحقًا في كتابي حكايات شهرزاد الكورية. عالم تحتي كامل من المحلات والمطاعم كشف نفسه مع لمسات حميمية، ستجد محلًّا يبيع أحدث الأفلام أو أدوات الصيد وبجانبه محل ملابس وبجانبهما محل للعناية بأظافر ووجوه الركاب وعاداتهم الصباحية التي تختلف عن المسائية، من يقرأ في الصباح الجرائد ليس نفسه من يقرأ الكتب جالسًا أو واقفًا… الصبايا الضاحكات صباحًا في مهرجان من الألوان والفساتين القصيرة والأحذية العالية بطريقة لافتة هن اللائي يشاهدن الدراما الكورية مساءً متعبات… وأنا هناك مثل كاميرا تراقب التفاصيل وتحتويها. في دبي، المترو يعبر من فوق الطرقات، يعبر المدينة في جولة شبه كاملة سياحيًّا، لو استعملتها من أول إلى آخر محطة، ومن النادر أن تلتقي طلبة به مثلًا، أو ربما كان الخط الذي استعملته لأشهر لا يمر ناحية الجامعات، لست متأكدة… ذاكرتي البصرية تحتشد بتفاصيل الممرضات والعاملات في المطار ومشرفات الطيران. أما مترو القاهرة فقد رأيته عام 2006م أو 2007م، أذكر أنني انبهرت بالبنية التحتية للمترو والعربات نفسها، أذكر أنني للحظة شعرت كأنني في فلم أميركي، حيث بدت المحطة ضخمة ومليئة بالاحتمالات والحكايات.

شاعرة وكاتبة تونسية.

عزة حسين: شبكة صيدٍ طائشة

شرق قريتنا، التي لم تعرف من الآلات سوى ماكينة الطحين، كان هدير القطار، على الشريط الحدودي الموازي للطريق لكل شيء، آسرًا. أيام كنا لا نلتفت لدرجة العربة العملاقة، ولا لفخامة المقاعد، كان هذا الكبير لا يعني سوى الرحلة. الأحلام المدونة على أغلفة الكراسات، وجدران البيت الأسمنتي، كانت تعرف أن نقطة البداية، لا بد أن تتم بمباركته.

كل الوداعات لا تكتمل سوى بمحاذاة قطار، واللقاءات أتخيلها دائمًا مصادفةً سعيدةً على مقعدين متجاورين في قطار. أما الأسى فتكفيه جملة: «كل القطارات تحملني إليك ولا وصول». كمغتربة؛ احتفظت بهذا الوصف، منذ التحقت بالمدرسة التي تبعد من قريتنا نحو 10 دقائق بالسيارة، قبل أن تمتد يد، طالما انتظرتها، لتغرسني في قلب العاصمة، كان الطريق بيتي. ففي السابعة عشرة، وأنا أودع عائلتي، حاملةً أكبر حقيبة ملابس عرفتها في تلك السن، أدركت أنني لن أعود لبيتنا تمامًا، لكن روحي لم تصمد كثيرًا في المرفأ الجديد، وظل قلبي على الدوام عالقًا في الطريق- القطار. في القطار كان كل شيء جديدًا، بلا خبرةٍ سوى بعض حكايات مغتربي العائلة، ومشاهد أفلام السينما: الفقر، والبرد، والمزاح بدرجاته، والبضائع، والبشر، والمعممون، والأفندية، والطلبة، وبائعات الجبن، والخبز، وبائعو «كل شيءٍ بجنيه»، كانوا رفاق طريق؛ لم أعد أتفاداهم أو أخشاهم. وعندما صرت مدينيةً، واحدةً من أرقام وأصفار العاصمة، كان المترو بديل القطار، شبيهه الأقرب، والرفاق تغيروا إلى حد ما، وبخاصة عندما لُذْتُ ككل البنات بعربة السيدات؛ لتفادي كل المخاطر! في البداية لم أرتح للمترو؛ لكونه يسرق مني الطريق، بمساراته المظلمة، وجدرانه التي لا تشبه بأي حال الماء والنخيل والمدن التي تتآكل، بمحاذاة القطارات التي جاءت بي إلى هنا، لكنها العادة تطغى على كل شيء في العاصمة.

خبرت في المترو إلى أي مدى تتشابه النساء، كيف يمكن أن تتحاور غريبتان بالنظر، وكيف تتوحد الحياة والأمنيات العابرة في برهة من الزمن، في مقعد صغير ونافذة، يمكن أن ترسم الأنفاس عبرها قلبًا واهنًا وحروفًا مرتبكة. طالما اعتقدت أن ركاب المترو مختلفون عن غيرهم في أي وسيلة انتقال أخرى، تلك الرحلة الخطية في الزمن والمسافة، المكرورة بنفس تفاصيلها، وبأقل احتمالات المفاجأة، تُكسِب روادَها ملامحَ خاصةً، تحكم قراراتهم، وانحيازاتهم وأفكارهم عن المغامرة، وعن مفارقة المسار، وعن هيئة الطمأنينة. المترو في مدن الزحام، ليس طريقًا ولا عربة، إنه مدينةً أخرى، وزمن موازٍ، طالما استفقت لنفسي في المحطة المنشودة، دون أن أتذكر شيئًا عن تفاصيل الرحلة، كثيرًا ما تشابهت عليّ محطات الوصول، وكثيرًا ما أضعتها عمدًا.

المترو حيث أنا هناك الآن وفي بيتي أيضًا، وحيث عشرات الاحتمالات والمصادفات والوجوه المفقودة، وسيلة مناسبة جدًّا للعواصم والمدن الكبرى، كأنه شبكة صيدٍ طافية أفلتتها يد الصياد، تمتلئ وتفرغ يوميًّا، دون أن تعرف الأسماك أو الشبكة أيهما يسحب الآخر. وبالنسبة إلي نادرًا ما كان المترو مكانًا للكتابة، لكنه احتشاد يومي لها، هو ربما كهف التأمل، برهة الصمت وسط الضجيج اليومي، ولوحة الحياة، بتجلياتها الساكنة والمهرولة. في بعض الأحيان، وربما يعود ذلك لطبيعة الشعر، كتبت بعض القصائد في المترو، لكنها كانت قصيرة نسبيًّا، وغائمة.

شاعرة مصرية.

محمد أحمد بنيس: مهاجرون يتمايلون وقوفًا داخل مقصورات تهدر تحت الأنفاق

لم يعد مترو الأنفاق مجرد وسيلة نقل فرضها تطور المجتمعات المعاصرة وتزايد إقبال الناس على وسائل النقل العمومية، في ظل اتساع المدن والحواضر وتمددها المرعب في عدد من بلدان العالم. أصبح المترو أحد التجليات اليومية التي تعكس غربة الأفراد داخل هذه المجتمعات التي جعلت الحداثة التقنية والاقتصادية أفقًا لتطلعاتها، غربة متعددة الأوجه أمام سلطة هذه الحداثة. تقدم المحطات والأنفاق والسلالم وشبابيك التذاكر الإلكترونية صورة لسلطة المترو في مدن كبرى تعيش تحت رحمة ازدحام يومي غير محتمل، يغذيه سيل السيارات والحافلات الذي لا يتوقف. مئات الرجال والنساء يتدفقون على الأنفاق، تسبقهم أنفاسهم المتقطعة، وسحنات وجوههم، وصراعهم مع الدقائق التي تفصل بين وصول القطارات، يشتركون في ذات الملامح التي لا روح فيها تقريبًا. محطات متناثرة على طول المدن الكبرى لتربط بين أطرافها، تنتظر الصباح الباكر لتبدأ في ابتلاع هذه الأمواج البشرية التي تتلاحق حتى منتصف الليل.

في مدريد وبرشلونة وإسطنبول وبوخارست وباريس والقاهرة ودبي وبوينوس آيرس وليما، ذاتها القطارات تركض مجهدة داخل أنفاق مظلمة تحت الأرض، وجوه شاردة تنتظر محطات بعينها تتشابه في كل شيء إلا في أسمائها. تترك تفاصيلُ المكان بصمتها على المترو، فتصبح له هوية محلية، أتذكر مثلًا صورة الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار في إحدى محطات بوينوس آيرس، كان فيها نوع من التقدير لهذا الكاتب الكبير، ربما في موقع لا يتوقعه عابر مثلي. في دُبي، يبدو المترو جزءًا من تلك «التسوية» بين التقليد والحداثة التي تضمرها مشاريع البنية التحتية الضخمة في بلدان الخليج العربي. في القاهرة، تكاد لا تحس بأن المترو يخفف قليلًا عن المدينة العملاقة من ازدحام شوارعها بالسيارات والحافلات وملايين الناس. في باريس ومدريد وبرشلونة، يجعلك المترو تتعثر بوجوه وسحنات المهاجرين من مختلف الأعراق والثقافات، عرب وأفارقة وأوربيون وآسيويون وغيرهم يتمايلون وقوفًا داخل مقصورات تهدر تحت الأنفاق، ينتظرون متى يفرغهم في هذه المحطة أو تلك.

من ناحية أخرى، تعكس شبكات المترو نوعًا من الوعي العمراني والحضري في بلد معين. مثل هذه المشاريع تمثل استجابة في أوانها لمشكلة النقل المتفاقمة في المدن الكبرى، بمعنى أنه في كثير من الأحيان، ومع اتساع وتمدد هذه المدن، في البلدان النامية على وجه الخصوص، يصبح إحداث شبكة للمترو شبه مستحيل بعدما تتزايد مدن الصفيح والسكن العشوائي وأحزمة الفقر، هذا فضلًا عن الكلفة المالية الكبيرة لمثل هذه المشروعات.

شاعر مغربي.