الكاريبي ديريك والكوت.. شاعر الشتات والتشظي – محمود عبدالغني

الكاريبي ديريك والكوت.. شاعر الشتات والتشظي – محمود عبدالغني

«سأغني عن ذلك الرجل  لأن قصصه تسرُّنا».
  د. والكوت من قصيدة «عودة عوليس»

_2-كتاب-ديريك-والكوتولد الشاعر والمسرحي ديريك والكوت سنة 1930م، وتوفي يوم الجمعة 17 مارس 2017م، بجزيرة سانت لوسي، المستعمرة البريطانية التي نالت استقلالها سنة 1979م. ظل طوال سنوات يقضي وقته بين ترينيداد وبوسطن حيث كان يدرّس الأدب الإنجليزي في جامعة بوسطن. فاز بعدّة جوائز أهمها: «الميدالية الملكية الذهبية للشعر» سنة 1988م، وجائزة «و.هـ. سميث الأدبية سنة 1990م عن ملحمته «أوميروس، هوميروس»، ثم جائزة نوبل للأدب سنة 1992م. ورث الشيء الكثير من والده ووالدته التي بدأت حياتها مُدرّسة ثم مديرة مدرسة. يقول عن تأثره الحتمي بهما: «توفي والدي وأنا في السنة الأولى من عمري. كان يرسم ويكتب الشعر. ظلّت والدتي دومًا تعدّه نموذجًا. منذ شبابي قرّرت أن أحمل مشعله. هكذا اعتمدت على نفسي في التعلُّم، عن طريق القراءة وتقليد الشعراء الكبار. في تلك المرحلة، لم تكن هنا دور للنشر أو متاحف. كنّا نتعلّم كل شيء من الكتب والمدرسة». ولأنه كان يمتلك موهبة الحفظ السريع والتعلّم الحصيف من الآخرين، فإن الشاب ديريك نهل كثيرًا من مكتبة والدته والمكتبات الموجودة في محيطه، حيث صادف الشعراء الكبار: شكسبير، وتي سي إليوت، وإزرا باوند. وفي سنّه الرابعة عشر نشر أولى قصائده في إحدى الصحف المحلية. وقد كانت تلك القصيدة بداية أولى لعمل شعري ضخم كان بمنزلة «أرخبيل شعري» حسب تعبير صديقه الشاعر جوزيف برودسكي ( 1940- 1996م).

الفقرة أعلاه، المقتطفة من حوار طويل كان قد أجراه معه «ملحق الكتب» بجريدة لوموند الفرنسية، تختصر جميع النزعات الإنسانية والأدبية التي ظلّ والكوت متشبّثًا بها. فالرسم، الذي أمسك مشعله من والده، هو ما جعله يمارس بإتقان فنّ الألوان، ويُصدر كتابًا جميلًا رفقة الرسام «بيتر دواغ». وتقليد الشعراء الكبار منذ سِنِي شبابه الأولى عبّر عنه بهذه الجملة وهو في السبعين من عمره: «الخوف من التقليد يُخيف الشُّعراء الصِّغار وحدهم».

وظائف طقسية

_3-كتاب-ديريك-والكوتأعطى والكوت الشعرَ وظائفَ طقسية، بمعنى أننا حين نتوجه إلى كتاب إبداعي، أو إلى مجموعة أشعار نحبُّها، «فإنّنا نذهب هادئين، بصمت، وباحترام قد ينقلب إلى وجع من المؤكَّد أنه سيُعيد تأكيد القناعات. لا وجود لشعر يسبّبُ الضّرر للرّوح الإنسانية، وإلا فإنّه ليس بالشعر»، وبذلك فقد ظلّ والكوت يدعو جميع المجتمعات إلى المشاركة في تلك التجربة الطقسية. ويحثُّ الشعراء على أن يوجّهوا اعتراضهم ضدّ الظُّلم وفقدان الحس الإنساني. وقد استعمل في محاضرة نوبل التي حملت عنوان: «الأنتيل: شظايا ذاكرة ملحمية» مفاهيم واستعارات تعبّر عن الشّتات الإفريقي والآسيوي، الذي شبهه بملحمة «رامايانا» الهندوسية. والشتات طالع من وجوده كمواطن يعيش في جزر تشكّل جغرافيًّا وثقافيًّا ودينيًّا رمزًا للشّتات والتشظي؛ فهو شاعر ناطق بالإنجليزية، تربّى في حضن أقلّية بروتستانتية، في جزيرة ذات أغلبية كاثوليكية لها ثقافة فرانكفونية. لكن هذا التشظّي المركَّب يُنتج ما عبّر عنه في خطاب نوبل بهذه الاستعارة الرائعة: حين تنكسر مزهرية ويُعاد جمع أجزائها تُصبح محاطة بحبّ أكبر من الحب الأول حين كانت سليمة. والصّمغ الذي يُعيد جمع القطع والشّظايا يعيد ترسيخ الشكل الأوّلي. وهذا الحب هو ما يوحّد الشظايا الإفريقية والآسيوية.

يُعدّ ديريك والكوت من الشعراء الكبار القلائل الذين نقلوا المكان شعريًّا وخلّدوه ذاكرةً متشظيةً. ممّا دفع العديد من دارسيه، نستشهد هنا بدراسة للناقدة الأنتيلية دومينيك أوريليا، إلى عدّ شعرية والكوت مرتبطةً شديد الارتباط بمفهومي المكان والذاكرة. المكان، إذًا مرتبطٌ عضويًّا بالتاريخ. فحسب والكوت المكان يصنع الذاكرة، والمكان يقرأ الذاكرة ويقولها بمختلف اللغات التي يتحدثها الناس المقيمون فيه. المكان لغة وثقافة.

شعر والكوت إقامة جديدة في تلك الأمكنة، ويُطلق تسميات جديدة على عالم أراده أن يكون آدميًّا. ورغم ذلك فإن والكوت ظلَّ منفلتًا من التصنيفات الثنائية الضيقة التي تستند على مقولة التّهجين، وذلك أمر طبيعي بالنسبة لكاتب أصدر أكثر من عشرين مجموعة شعرية (لم يُتَرجم منها إلى العربية إلا مجموعة من القصائد كان الفضل فيها لصبحي حديدي وغريب إسكندر)، والعديد من الدراسات، وعشرات المسرحيات (تُرجم منها إلى اللغة العربية «عودة عوليس» بقلم الشاعر السوري ممدوح عدوان). وبذلك وطّد انتماؤه إلى جيل من كُتّاب جزر الكاريبي الأنغلوفونية الذين خلقوا في أوطانهم أدبًا خصوصيًّا منذ خمسينيات القرن الماضي، قبل أن يُرغموا على المنفى (جورج لامّينغ، وف.س. نايبول، وصامويل سيلفون) احتجاجًا على العيش في مجتمعات شغلتها كثيرًا فكرة إيجاد مكانة في العالم، جاهلة تمامًا أن كُتّابها وأدباءها قادرون على إيجاد ذلك المكان داخل جغرافية العالم.

جمهورية اسمها الشعر

كتاب-ديريك-والكوتهذا الارتباط الوثيق بأدب الأنتيل، تجسّد بقوّة في محاضرة نوبل، حين ذكّر والكوت بأنّ الشاعر سان جون بيرس كان أول أنتيلي يحصل على جائزة نوبل، هنا مقتطف مما قاله والكوت: «لقد وُلد بيرس في غواديلوب وكتب بالفرنسية، لكنه لم يجد ما هو أشدّ طراوة ووضوحًا من الإحساس من تلك القصائد التي كتبها في طفولته…ومن صوت الصفحات وأشجار النخيل التي تتمايل مثل صعود رائحة القهوة على الأدراج». إن والكوت يحتفل بعبقرية شاعر كاريبي، رغم أن بيرس كان يمثّل، بالنسبة لبعضٍ، رمزًا لاحتلال الجزر من طرف المستعمر الأبيض الناطق بالفرنسية. لكن والكوت يستطرد وعيًا منه بهذه المفارقة: «لكنها مفارقة هذه الجمهورية التي اسمها الشعر؛ إذ لا أكاد أُبصر أوراق الملفوف أو جريد النخيل وهي تتمايل عند الفجر، إلا وأخال أنها تتلو شعر بيرس».

هذا الحوار النادر مع الطبيعة، ظل مصدر ثنائيات كثيرة عند والكوت المسكون بسؤال الأصل والهوية والجذور والتلاشي. فكلما رأى غابة تحركها الرياح، أو ساحلًا تصطدم به الأمواج؛ ناح باكيًا القبائل المندثرة. متأمِّلًا ضبابية الأثر الذي خلّفته وراءها، وأصبح محدّدًا بالاختفاء الأبدي، فيستخلص الشاعر: «مرّة أخرى ليس هناك أحدٌ هُنا». البكاء هو ما يبقى من كل ما ضاع وتلاشى من المكان ولم تستطع إنقاذه إلا الذاكرة، يقول في حوار من مسرحيته «عودة عوليس»:

السكلوب: عيناي تغيمان حين أضحك. يجب أن تعلّمني كيف أبكي.

عوليس: حسن. أولًا يجب أن تفقد أشياء تحبّها.