اختزال أمل دنقل في قصيدة «الرفض» ينتقص من تجربته

اختزال أمل دنقل في قصيدة «الرفض» ينتقص من تجربته

قبل أكثر من عشر سنوات، في أثناء زيارة إلى المغرب، كنت أتبادل الحديث مع شاعر ومثقف لبناني كبير حول الشعر المصري، وعندما ورد اسم الشاعر «أمل دنقل» قال الرجل بشيء من التحفظ: «أمل شاعر مهم وربما كان كبيرًا، لكنه يظل شاعرًا مصبوغًا بالمحلية». حاولت أن ألتمس وقتها سببًا يبرر قبولي رتبة أدنى لـ«أمل» بين شعراء عصره الكبار، لكنني تمثلت في النهاية جانبًا من مقدمة الدكتور مصطفى ناصف لكتابه «صوت الشاعر القديم»: «إذا اختلف الناس في قدرتهم على الإنصات والدخول في عوالمهم وعوالم الآخرين فمعنى ذلك أنهم مختلفون في القراءة».

صعد إلى رأسي ذلك النقاش عندما طالعت ذلك السفر الضخم الذي قدمه الدكتور «جابر عصفور» تحت عنوان: «قصيدة الرفض. قراءة في شعر أمل دنقل»، وهو كتاب صادر قبل أيام عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويقع في نحو ستمئة صفحة من القطع الكبير. يمثل الكتاب جانبًا من حصاد الدراسات والمقالات والأبحاث التي قدمها عصفور خلال سنوات طوال، وينتظر أن يصدر جزؤها الثاني عما قريب. الكتاب ممتع ومؤرق في آنٍ، ومع ذلك ينطوي على سلاسة لا يعرفها النقد التطبيقي لدينا؛ لذلك لن أكون مبالغًا عندما أقول: إنه يعد واحدًا من أهم القراءات التطبيقية التي تقترب من الاكتمال في نقدنا الحديث لأسباب عدة، أولها تلك العلاقة الحميمة التي ربطت بين الشاعر وناقده حتى رحيل «أمل» في عام 1983م، وهي علاقة لا يعتذر عصفور عنها عندما يقول في مقدمته: «لا أعتذر عن تدخل هذا العنصر الشخصي في عملية القراءة، فهو أمر لم أستطع، ولا حتى أرغب، في مقاومته»، وهو اعتراف، على ما ينطوي عليه من أخلاقية، إلا أنه لا يضفي أدنى قيمة على دراسة علمية بهذه الكثافة. أما ثاني تلك الأسباب فيتمثل في ذلك التتبع الدؤوب لتنامي تجربة أمل الشعرية عبر تطور مستويات وعيه المعرفي سياسيًّا وثقافيًّا، بدءًا من وعيه القروي الرومانسي الطابع؛ الذي أنتج في إطاره دواوينه الأولى مثل «مقتل القمر»، إضافة لعشرات من القصائد العمودية التي نشرها ثم عاد وأنكر معظمها بعد ذلك، ثم مرحلة صعود الوعي القومي وتبلوره الذي ارتبط بدوره بتطور وعي «أمل» بالمدينة. وقد استطاع عصفور أن يقدم قراءة «سوسيو نقدية» فريدة حول هاتين المرحلتين. فمرحلة الوعي القروي ترتبط عادة بالأسطورة وتنامي أصداء الخرافة والعلاقات البطريركية والمناخات المحافظة والغرائبية في آنٍ. أما التكوينات القومية فقد ارتبطت بالخطاب الوطني التحرري من جانب، ومن جانب آخر ارتبطت بتطور الوعي المديني لدى الشاعر حيث سيادة أنماط الإنتاج المغايرة وما تنتجه من علاقات معقدة ستساهم، قطعًا، في تنامي مفاهيم المجتمع البراغماتي الأكثر تنظيمًا والأكثر استجابة لحاجات الدولة الحديثة. أما ثالث تلك الأسباب فيكمن في أن عصفورًا نفسه يعد واحدًا من أبناء الدولة الناصرية القومية الطابع، وهو أيضًا أحد أبرز نقادها، رغم وصفه المسرف لتلك الدولة بـ«التسلطية» على ما دأب عليه المثقف العربي الذي يعد مثالًا لـ«الهارب الطبقي» لدى غرامشي، ولا سيما في بحثه عن المناطق الدافئة الرمادية الطابع.

جابر عصفور

وسنرصد في تقدمة الكتاب وبعض فصوله كثيرًا من الإدانات التي وجهها عصفور لدولة مبارك رغم كون الرجل أحد رموز إنتاج سياستها، مع الوضع في الحسبان أن تلك الفصول لم تكن تتضمن تلك الإدانات عند نشرها في ظل الدولة التي عمل عصفور في ظلالها، ثم عاد لإدانة سياستها. أما رابع تلك الأسباب فهو نجاح عصفور في الالتقاط الحي والدقيق لتمايزات ما يسميه بقصيدة «الرفض» عند أمل، بداية من تحولات الوجدان الفردي «الرومانسي الطابع» مرورًا بتشكل الوجدان الجمعي، حسب التعبير الذي ينقله عصفور عن الدكتور محمد مندور، وهي مرحلة يطلق عليها الناقد والشاعر الإنجليزي ستيفن سبندر مرحلة «الذاتيات الكمية» التي تكون فيها ذات الشاعر اختصارًا لذوات المجموع. يتناول عصفور ما يسمى بقصيدة القناع، وهي من أبرز الملامح الشعرية لدى أمل منذ قصيدته «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» ويرى أن تلك الحيلة كانت إحدى أهم أدوات الشاعر للهروب من«الانفعالات الذاتية وخلق معادل موضوعي ينأى عن الدفق المباشر للمشاعر الفردية»، ويرصد عصفور في السياق ذاته قصائد مثل: «العشاء الأخير»، ثم قصيدة «حديث خاص مع أبي موسى الأشعري» التي كتبها أمل في مارس من عام 1967م، وتنبأ فيها بالهزيمة. ومن خلال تلك القصائد يقدم عصفور قراءة معمقة لدلالات الأقنعة ومشكلة التناقض التي تفاقمت بين الأنا والآخر كأحد آثار هزيمة يونيو. ثم يستكمل الحلم الكابوسي الذي كلل الشاعر في قصيدته «تعليق على ما حدث» كرد فعل على مذبحة أيلول الأسود عام 1970م، وهي القصيدة التي حملت عنوان أحد أهم دواوين أمل، حيث بدا احتجاجًا شعريًّا رفيعًا على ما حدث في مصر من سياسات انفتاحية في الحقبة الساداتية. وفي هذا السياق سيمنح عصفور صديقه أمل دنقل عشرات الألقاب مثل: شاعر الفرح المختلس ص 271، والشاعر الرائي ص 289، ثم شاعر المد القومي، وشاعر الرفض وأخيرًا وليس آخرًا شاعر أنسنة الموت.

وينتهي الدكتور جابر عصفور إلى محاولة حسم عدد من القضايا الخلافية التي يبدو أنها لن تحسم أبدًا، مثل قضية حق الشاعر وحق الجمهور. وقد حاول، جريًا على ناموس النقد العربي في دعوته البغيضة للاعتدال، أن يتخذ موقفًا وسطًا بين حق الشاعر في تبني خطاب يقيم اعتبارًا لقارئه لكنه في الوقت ذاته يربط ذلك بألا يكون استجابة تنال من شعرية القصيدة. وهي إشكالية أظن أن جابرًا نفسه جزء من معضلتها. فمصطلح قصيدة الرفض، الذي قامت عليه بنية الكتاب، على ما فيه من ثورية، يبدو مقززًا بنفس قدر ثوريته، حتى لو كان من أطلقه متمرد كبير اسمه لويس عوض. فالمصطلح يبدو تعبيرًا «بونابرتيًّا» لميراث فاجع من الشمولية ينتهي إلى مقولة «نابليون»: «السياسة هي الشكل الحديث للقَدَر». وتلك قضية أثارت جدلًا واسعًا في الغرب حقبة ما بين الحربين، لكن الصراع كان يبدو أكثر رشدًا حيث استُبدل بقصيدة الرفض مصطلح أكثر موضوعية وأكثر علمية هو «أدب الالتزام»، وبدلًا من اللغط حول مصطلحات مثل حق الشعر وحق الجمهور حلَّ مصطلح وظيفة الفن عمومًا ووظيفة الشعر على نحو خاص. لكن المؤكد أن دعاة أدب الالتزام أنفسهم كانوا يتوجسون خيفة من أن يتحول أدبهم إلى أدب مذهبي تحت وطأة قناعاتهم الأيديولوجية؛ لذلك حذروا من تحول الكاتب الملتزم إلى معيار للحقيقة في إطار الصراع بين المثال والواقع. من ثم بدا تعبير «قصيدة الرفض» نموذجًا بدائيًّا للوعي المستلب لصالح الموقف العقائدي أو الأيديولوجي، وهو في أفضل أحواله يمثل وعيًا مثاليًّا يقترب من فوضى الميتافيزيقا باعتبارها حقيقة نفسها، وليست حقيقة من يعبر عنهم الشاعر. من هنا أتصور أن ارتباط شعرية أمل بقضايا سياسية جزئية تحت لافتة قصيدة «الرفض» أمر ينتقص من مشروعه الشعري، ويعزز المقولة التي تنتهي إلى أنه، رغم أهميته، يظل شاعرًا محليًّا.

لِيلي بريك.. من عشيقة ماياكوفسكي إلى عميلة في الشرطة السرية!

لِيلي بريك.. من عشيقة ماياكوفسكي إلى عميلة في الشرطة السرية!

عاشت لِيلي بريك بالطول والعرض. عاشت حتّى شبعت من العيش، فأنهت حياتها بكامل رغبتها في السابعة والثمانين من عمرها. كأنّ ليلي لا يليق بها أن تموت دون إرادتها، ميتة عاديّة مثل كلّ الناس. كأنها أرادت أن تحدّد وقت موتها بنفسها، حتّى وهي في أرذل العمر، وأن تختم تاريخها الطويل في التمرّد، بمقاومة سلطة ملاك الموت، وهي جلد على عظام. كانت ليلي قاتلة. لا القتل الكلاسيكي بالرصاص الحي، إنما باللحم الحي. بحرارتها وحريّتها، بجبروتها وجرأتها. كانت أينما تسير، يتبعها طوابير من المعجبين والعشّاق والمجانين. حين تراها لن يكفي أن تقول: «جميلة»، لا بدّ أن تصرخ عاليًا: «منتهى الجمال»!

ما الذي يتبقّي لي لأكتبه عن ليلي بريك؟

لا شيء تقريبًا، لا كبيرة ولا صغيرة، إذ إنها حين كانت تعطس، يكون هناك من يحتفي في قصيدة أو لوحة أو قطعة موسيقيّة، بروعة عطستها. واحدة من أكثر النساء تأثيرًا في الثقافة السوفييتيّة، لا يصعد شاب سلالم الشهرة، مهما كانت موهبته، إلا إذا منحته تأشيرة الدخول، ووصفها بابلو نيرودا بأنّها «مُلهمة الطليعة الروسيّة»، وهو إعجاب ملطّف، إذ لا بد أنه كان يريد أن يمدحها أكثر، لكنه خاف على مشاعر «ماتيلدا»، أو خاف من عقاب «ماتيلدا»!

*      *      *

وُلدت ليلي يوريفنا كاجان يوم 11 نوفمبر 1891م لعائلة يهودية ثريّة في موسكو. أبوها محامٍ وأمّها معلّمة موسيقا، أما أختها الأصغر منها، فهي إلزا تريولية، التي ستُعرف فيما بعد باسم إلزا أراغون، نسبة إلى الشاعر الفرنسي لويس أراغون الذي خلّد عيونها في ديوان كامل.

تلقّت ليلي تعليمًا راقيًا، وأتقنت الألمانية والفرنسية، ورقص الباليه، والعزف على البيانو، وتخرّجت من معهد موسكو للهندسة المعماريّة. في سنّ الثالثة عشرة أدركت قدرتها الباكرة على «سحر الرجال». جلبت كثيرًا من المتاعب لوالديها، تقول: «أمي لم تعرف الراحة بسببي، كان لا يغمض لها جفن». كانت دائمًا «تقع في الحب بسهولة»، وهو في كل مرّة «حبّ حتى الموت»، مع ليلي دائمًا هناك حبّ جديد.

ما إن بلغت السابعة عشرة، حتّى تكوّر بطنها الجميل. ممّن؟ لا تذكر المراجع اسم ذلك الحبيب في سلسلة الحبّ الطويلة، ليلي نفسها لا تذكره، أو ربّما لا تتذكّره. أجرت عملية إجهاض في قرية نائية، وكان الثمن عدم قدرتها على إنجاب أطفال بقيّة عمرها. لا بأس أيضًا، ليليشكا طفلة الجميع المدلّلة، فما حاجتها لطفلة أو طفل؟!

في 26 فبراير 1912م تزوّجت الشاعر والناقد أوسيب بريك، وانتقلت للعيش معه في سانت بطرسبرغ، وبعد أشهر عدة قرّرا تحويل الشقّة كلّ أحد إلى صالون أدبي للكتّاب والشعراء والرسّامين وصنّاع الأفلام والثوريّين من الجيل الجديد.

ذات ليلة من ليالي يوليو عام 1915م جاءت إلزا التي كانت في التاسعة عشرة من عمرها، ومعها عملاق فارع الطول، قويّ البنية، وعيناه تقدحان شررًا. ما الذي ستفعله «ماكينة بشريّة» كهذه في صالون أدبي؟ ستفعل كثيرًا، ستغيّر حياة ليلي بريك برمّتها، وتغيّر وجه الشعر الروسيّ كلّه. كانت الغرفة معبّأة بدخان السجائر، ومليئة عن آخرها بضيوف جاؤوا لإلقاء أشعارهم. كسر فلاديمير ماياكوفسكي آداب صالون آل بريك، وألقى واقفًا قصيدته الطويلة «غيمة في بنطلون»، التي تشتبك فيها اللغة الثوريّة باللغة الدينيّة، كأنه شجار عنيف بين امرأتين، وحين انتهى، كان يمكنك أن تسمع رنّة إبرة على البلاط لدقائق طويلة.   الكتاب الصغير الذي كتبته إلزا عن ماياكوفسكي، وصدر في باريس بعد تسع سنوات من وفاته، يتضمّن «تشريحًا» لجسده بعيون أنثويّة: «يخيّل إليّ أنني ما زلت أراه يمشي في شوارع موسكو، برأسه العالية مقارنة برؤوس غيره من المارّة، تلك الرأس المذهلة ذات الجمجمة الضخمة المستديرة، والوجنتين المستطيلتين الغائرتين، والفكّين القوييّن، والعينين الكستنائيتين العميقتين الذاهلتين، برموشهما التي لا تكفّ عن الرفيف، وجبهته بأخاديدها القصيرة المتغضّنة. كان يمشي على قدمين قويّتين، ونصفه العلوي، بمنكبيه العريضين، كأنه تمثال نصفي».

كانت ليلي قد سمعت عن هذه «القنبلة» أنه منبوذ من المجتمع، وسُجن ثلاث مرّات في سنّ المراهقة، وتخلّى عن السياسة الحزبيّة، ويبادل المؤسسات البرجوازية ريبة بريبة، وانتقل إلى موسكو لدراسة الفن، ويحظى بمحبّة طاغية في أوساط الشباب الراديكالي، ويقرأ قصائده في الشوارع. ماكينة بشريّة وطاقة شعريّة، هذا كافٍ ليجذب ليلي، ولتبدأ واحدة من أهم قصص الدراما والحب في التاريخ الروسي. ماذا عن زوجها؟ لا يهمّ، ليلي سترتّب الأمر، ليلي عندها حلّ لكلّ مشكلة.

*      *      *

ليلي وماياكوفسكي

في عام 1918م، كتبت ليلي: «بعد التأكّد من مشاعري تجاه ماياكوفسكي، كنت قادرة على إخبار بريك بكل ثقة عن حبّي، وقرّرنا نحن الثلاثة، أن نواصل علاقتنا الحميمة». بوضوح أكثر: احتفظت ليلي بالرجلين، واقتسمها الرجلان، بالعدل، وسط صدمة وقتها في المجتمع الروسي. انتقل ماياكوفسكي للإقامة في شقة سانت بطرسبرغ بعد طول تشرّد في الشوارع، وهناك صورة من هذه الحقبة تُظهر ليلي واقفة بين «رجُليها» وابتسامة عريضة تكسو وجهها. ماذا عن إلزا؟ ليست مشكلة. يبدو أن إلزا شبعت أو ملّت من ماياكوفسكي، وتنازلت عنه بطيب خاطر لأختها الكبيرة، وستجد بكل تأكيد واحدًا غيره. بلا ميلودراما، الحكاية بسيطة: ليلي خطفت لُعبتها، وستقتني لُعبة غيرها.

كتبت ليلي في مذكراتها: «ماياكوفسكي وقع في حبّي مرّة واحدة إلى الأبد. أقول: إلى الأبد؛ لأنه سيبقى لقرون عدة، ولن يولد من يمحو هذا الحب من وجه الأرض».  ماذا عنها هي؟ أحبّته؟ ها هي إجابة: دائمًا تحكي ليلي هذه الحكاية ولا تملّ من تكرارها: «ذهبتُ مع ماياكوفسكي إلى مقهى بتروغراد الشهير. قبل مغادرتنا، نسيت حقيبتي، وعاد لاهثًا لجلبها. على الطاولة المقابلة كانت تجلس سيدة مذهلة، الصحافيّة المعروفة لاريسا ريسنر، نظرت بحزن إلى ماياكوفسكي وقالت: يبدو أنك ستحمل هذه الحقيبة مدى الحياة». تعلّق ليلي بفخر على حكايتها قائلة: «أنا ليليشكا! عليه أن يحمل هذه الحقيبة في فمه، لا كرامة في الحبّ». ستصبح ليلي ملهمة ماياكوفسكي لمدة عشرين عامًا. كرّس لها وعنها القسط الوافر من قصائده الغنائيّة، وكتب سيناريو فلم «السلسلة» وقاسمها بطولته، كما نشر بالتعاون معها ومع أوسيب بريك والمصوّر ألكسندر رودتشينكو، مجلّة الفنون اليساريّة التي فتحت صفحاتها للمبدعين الجدد.

في أواخر سنة 1920م، كاد الشرخ يضرب جدار العلاقة الثلاثيّة؛ بسبب شخصيّة ماياكوفسكي الدراماتيكيّة المتقلّبة. تعرّف خلال رحلة في باريس على روسيّة شابّة، هي تاتيانا ياكوفليفا، وبدأ معها قصّة غراميّة. امرأة تأخذ ماياكوفسكي من ليلي؟ مستحيل. ها هي تستعيده: «أقنعتْه بأن يعود من باريس بسيّارة رينو، وأن يتعلّم القيادة. أنا كنت دائمًا وراء عجلة القيادة. عندما كان هناك تهديد بالفراق بيني وبينه بسبب علاقته مع تاتيانا ياكوفليفا؛ طلبت من أختي إلزا، التي تعيش في باريس، كتابة رسالة تزعم فيها تاتيانا بأنها ستتزوّج من نبيل ثري، وقراءتها بصوت عال في إحدى الأمسيات. بُهت ماياكوفسكي وقرّر على الفور إنهاء علاقة الحبّ مع تاتيانا، التي لم تكن على علم بهذه المؤامرة».

*      *      *

عام 1928م تبدّلت موسكو. ازداد قمع الشعراء والفنانين، واستقرّت الستالينيّة على كرسيّ الحكم، مما ينذر بحمّام دم في العقد القادم، وبدأت التمزّقات الروحيّة تهزّ بدن ماياكوفسكي العفيّ. في 14 إبريل 1930م، أطلق رصاصة على قلبه بدون سابق إنذار. خيبة أمل في الثورة أم في ليلي؟ ربّما الاثنان معًا. ترك رسالة بخطّ يده: «إليكم جميعًا، أموت، ولا تتّهموا أحدًا في موتي، أرجو تجنّب القيل والقال، هذه الأشياء أكرهها. أمي، وأخواتي، ورفاقي، سامحوني. هذه ليست الطريقة الصحيحة (لا أوصي بها الآخرين)، ولكن ليس هناك طريقة أخرى للخلاص. ليلي أحبّيني. الرفاق، الحكومة، عائلتي تتكوّن من ليلي بريك، ماما، أخواتي، فيرونيكا فيتولدوفنا بولونسكايا، إذا كان يمكنكم أن توفّروا حياة كريمة لهنّ، أشكركم. أعطوا هذه القصيدة غير المكتملة لآل بريك، سيدقّقونها».

أما القصيدة التي لم يكملها فهي:

«ما يجب أن يحدث حدث

قارب الحبّ تحطّم

على الروتين الكئيب

اختبرتُ الحياة

ويجب أن نتخلّى

عن تبادل الأذى

والآلام والضغائن».

استقبلت ليلي خبر الانتحار بهدوء. قالت: «كان عصبيًّا دائمًا. أنقذته منه قبل مرتيّن». فعلًا، متعب يا ليلي أن تنقذيه في الثالثة.

شُيّعت جنازة ماياكوفسكي بعد أربعة أيام. سار 150 ألف شخص وراء تابوته في شوارع موسكو. حشود لم تجتمع من قبل إلا في جنازتين: لينين وستالين. لو دققّت في الصور، ستجد عينين واسعتين وسط الجموع، فشلت الفجيعة في تخفيف حدّة جوعهما للحياة، عينا ليلي.

*      *      *

الحياة تستمر. مع ليلي، يجب أن تستمر. مَن القادم؟ لا بد أن يكون رجلًا مناسبًا للمرحلة. حصلت على الطلاق من أوسيب، وبعد شهور قليلة من انتحار ماياكوفسكي، تزوّجت القائد العسكري فيتالي بريماكوف. من حبيبة شاعر، إلى زوجة جنرال، يا للهول! «خطوة تكتيكية ذكية لضمان فتح خط ساخن مع ستالين لإقرار الدولة بمكانة ماياكوفسكي في التاريخ الروسي»، هكذا يبرّر بعضٌ أسباب انحدار ليلي من المستقبليّة إلى الستالينيّة. عام 1935م اشتكت فعلًا في رسالة إلى ستالين مباشرة من تجاهل الدولة لأشعار ماياكوفسكي. غسيل سمعة، أم شكوى حقيقية؟ لا يمكن الجزم. صدر أمر فوري من ستالين نفسه إلى نيكولاي يزوف: «الرفيق يزوف، يرجى الاهتمام بشكوى بريك. ماياكوفسكي كان ولا يزال الأفضل، الشاعر الأكثر موهبة في عصرنا السوفييتي. تجاهل ذكراه وأعماله الإبداعية جريمة. شكوى بريك مبرّرة في رأيي». لكن هذا القرب الحميم من ستالين، لم يمنع اعتقال بريماكوف سنة 1936م بتهمة الخيانة وإعدامه رميًا بالرصاص مع عدد من التروتسكيين، على رغم تبرئته بعد وفاته بـ21 عامًا.

ليلي بريك تتعاون مع الشرطة السرية

ليلي مع زوجها وماياكوفسكي

تجربة مؤلمة؟ ليس كثيرًا. واصلت ليلي تعاونها مع الشرطة السريّة (OGPU)، ووزارة الداخلية (NKVD)، وجهاز أمن الدولة (CHEKA)، وغيرها من وكالات الاستخبارات السوفييتيّة، كما كانت «زائرة» دائمة لاتحاد الكتّاب في بيريدلكينو، وهو ما أثار تساؤلات عن دورها في القبض على عدد من المبدعين خلال تلك الحقبة.

كثيرون أعربوا عن شكوكهم في تعاون ليلي وأوسيب مع السلطات منذ وقت طويل. بوريس باسترناك كان يصف شقّتهما بأنها: «قسم شرطة موسكو». سيرجي يسينين، كتب بالطباشير على باب الشقّة: «هل تظن أن بريك، الناقد الأدبي، يعيش هنا؟ مخبر أمن الدولة يعيش هنا». آنا أخماتوفا أطلقت على الشقّة نفسها اسم: «ملتقى الكتّاب مع أمن الدولة».

في عام 1990م، بعد الإفراج عن المحفوظات السريّة لوزارة الداخلية السوفييتيّة، نشر الصحافي فالنتين سكورياتين تحقيقًا في العدد الخامس من مجلة (ru) بعنوان: «من، أنا، أطلقت النار على نفسي؟ لا تقل ذلك!»، يتناول فيه موت ماياكوفسكي الغامض وحصّة ليلي من الميراث بعد وفاته. تضمّن التحقيق الأرقام التسلسليّة في أمن الدولة لكل من أوسيب وليلي (24541 – 15073 على التوالي)، مؤكدًا تجنيد أوسيب عام 1920م، في حين لحقت به زوجته في عام 1922م.

الاتهامات بالعمالة، لم توقف ليلي عن مواصلة الحياة. «موهوبة في فنّ العيش» كما يقول ماياكوفسكي. في عام 1938م تزوّجت من الناقد الأدبي الشاب، فاسيلي كاتانيان، وبقيت معه حتى وفاتها. حاولت في السنين اللاحقة استعادة الماضي، بتحويل شقّة موسكو إلى صالون أدبي، لكنها أخفقت في إعادة تدوير الزمن. حاولت تكرار العلاقة الثلاثيّة مع زوجها وحبيب جديد هو المخرج سيرجي باراجانوفا، لكن الجسد كان قد ترهّل، ولم تعد تجدي صعقات كهذه في لفت الأنظار. سعى الشيوعيون «الأرثوذكسيون» منذ أوائل السبعينيّات، لطيّ صفحة أوسيب وليلي بكل ما تستدعيه ذكراهما من مستقبليّة، بوهيميّة، ومغامرة أخلاقية تشوّه سمعة ماياكوفسكي.

عاشت ليلي على بقايا مجدها الغابر. لا احتفاءات تقريبًا ولا تكريمات، باستثناء دعوات متناثرة في باريس للمشاركة في معارض استعاديّة، و«فستان رائع» أهداه لها مصمم الأزياء الفرنسي الشهير إيف سان لوران في عيد ميلادها الخامس والثمانين. يوم 4 أغسطس 1978م، في منطقة بيريدلكينو، بلعت ليلي جرعة هائلة من أقراص «نيمبوتال»، ونامت نومها الأبدي، بعد أن كتبت رسالتها الأخيرة: «لا تلوموني. فاسيك، أنا أعشقك، سامحني. والأصدقاء، سامحوني. ليلي».

«لا» حرف نهي

ليلي تأمر وتنهي من الموت

إياكم أن يلومها أحد، نفّذوا.

مقهى صغير لأرامل ماركس.. محنة الشعر.. أم محنة الأيديولوجيا؟

مقهى صغير لأرامل ماركس.. محنة الشعر.. أم محنة الأيديولوجيا؟

بقدر ما أنتجت الرمزية من التباسات، فإنها أنتجت في المقابل نظامًا للعلامات خفضَ من سطوع الواقعية وغباء المحاربين باسمها. وفي الديوان الضخم (464 صفحة) «مقهى صغير لأرامل ماركس» للشاعر أشرف يوسف الصادر بالتعاون بين داري العين وشرقيات، يبدو أمر الرمزية أكثر تعقيدًا مما تصوره مالارميه صاحب أبرز بياناتها. فيوسف الذي استفاد تقريبًا من المذاهب الشعرية كافة في ديوانه يبدو على وعي تام بمرجعية تلك الهلوسات التي سارت شعرية الديوان تحت وطأتها، فتشكلت على هيئة زمن دائري قوامه اللغة الهشة والمناخات الغرائبية، لكن هذا الزمن الدائري الذي يبدأ منه الألم ولا ينتهي لا يسعى لعلاج مرضاه، بل يستقصي طاقات لوعتهم وبقايا ظلالهم التي تركوها في أماكن غارقة في عتمتها السحرية.

وتبدو رسالة الشاعر هنا بين أعلى التعبيرات الكاشفة للكثير من زيف لحظته. فالعصر الذي بدا متصالحًا مع قضاياه الكلية بدا في الديوان كواحد من عشرات الحقائق العارية. وقد شكلت شعرية الديوان أكبر افتضاح ممكن للمأزق الإنساني عبر تلك التمثيلات التي استغرقها ضمير المؤنث الذي غلب على معظم قصائد الديوان. وربما كانت درجات السخرية المتفاوتة من الأيديولوجيا واحدة من أبرز تلك التعبيرات. فالمقهى الصغير ذو الملامح الاعتيادية، الذي حمل الديوان اسمه، تجوهر حول صورة مفارقة عندما ربطه الشاعر بأنه مقهى «لأرامل ماركس» على ما تحمله التسمية من انتهاك لعصر كامل من الحروب العقائدية، ومع ذلك لم تتجاوز تعبيرات تلك الحروب كونها أحد تمثيلات انهيار اليقين. المقهى هنا لم يعد ملائمًا للاعتراف بالحب ص382، كما أنه يمثل «ذلك الركن المعتم» الذي يبدو الذهاب إليه قدرًا مقدورًا ص 232، وفي موضع أكثر جلاءً يقول أشرف يوسف: «كيف أقتل اشتياقي الحار/ لصوته في مقهى صغير يدعى أرامل ماركس/ ولست مهتمة على الإطلاق بهذا الماركس ولا بأرامله» وسيتبدى ذلك أيضًا في قصيدته «امرأة يهودية» التي يتعامل فيها بخفة مماثلة مع ليون تروتسكي ص 199.

مضامين أكثر سوداوية

أشرف يوسف

لذلك ليس غريبًا أن يكون المفتتح الفاتن للديوان نعيًا لـ«مؤلف الكتب» الذي يخاطبه الشاعر ممتلئًا بالازدراء: «تعالَ يا مؤلف الكتب/ أيها الرجل المغرور/ سآخذك معي في صياعة منتصف الليل/ وسأسليك بتلك الخواطر التي يقال: إنها حياتي». إن انعدام الثقة في مؤلف الكتب هنا تجد معادلاتها في مشاهد عدة تعكسها معرفية تناثرت في أرجاء الديوان بين أسماء تمثل نوعًا من الغوث بالنسبة للشاعر مثل بول شاؤول، ومحمود درويش، وإدوارد سعيد، جان دمو، وغيرهم، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى بدت مضامين السرد الشعري أكثر سوداوية من أن تحتويها لغة، فتحولت تلك الاستغاثات إلى نوع من الرفض المطرد للعالَم المعيش ولتعبيراته الثقافية التي تبدت في رفض الكثير من مقولاته، وتبرز تلك التجليات بشكل ظاهر في تلك التناصات المستخفة غالبًا، بنصوص تاريخية مثل التوراة والإنجيل وبعض المأثورات المنقولة عن فقهاء ووُعَّاظ وكُتاب وعوامّ، وسنرى ذلك في المفارقة التي يرصدها الشاعر ص 290 عندما يقول: لا زال لديّ رأس يفكر / وقلب لشاعرة من بلاد فارس كأنه خريطة / ويؤمن على طريقته أن لويز فيديليو عاهرة / بخمسة فرنكات ولديها طريق واحدة لكسب المال / بالإكثار من الحديث عن الأخلاق في الفن».

تتراوح شعرية ديوان أشرف يوسف بين السردية المحضة في قصائد ليست قليلة حتى بدا بعضها كأعمال قصصية رفيعة السرد والأبنية لا سيما في «أتون وردة لأنثاه الافتراضية»، و«وجوه يناير» وقصائد أخرى، فبدت جزءًا فاعلًا في متواليته الشعرية، كذلك تبدت تلك المراوحات في الغنائية التي غلفت أجزاء ليست قليلة من الديوان لا سيما في النشيد الثاني وفي قصيدته أساطير التي يقول في مطلعها: «يا جبلنا العظيم أنا إيزيس العاشقة، جئت لأمسح رأسي في ترابك وأشفي» ثم في قصيدة الفتى حيث التناص التوراتي «يا ابنة جبل الأطياب، ياحبيبتي، يا جميلة وزنجية.. كوني تقية»، وكذلك أنسنة التشيؤ في قصيدته «كتالوج لغسالة كهربائية»، ثم الاجتراءات اللغوية الفريدة في قصائد عدة أبرزها في قصيدة «نبية الليل» ص 178، وهي تمثل واحدة من مراتب التماهي في مدارج القدسية بالمعنى الصوفي. في الوقت نفسه بدت الأجزاء التي خلصت إلى الشعرية المحضة أكثر من فاتنة، يتبدى ذلك في القسم الأول من الديوان وبعض القصائد الأخرى مثل: «قري، حلم بداخل فلم، النشيد الـأول والنشيد الثاني».

رمزية النص الجديد

ولا شك أن الشعرية الطافرة، الغنية والمكتنزة في ديوان «مقهى صغير لأرامل ماركس» في تجاوزاتها وقفزاتها خارج الأسوار الواطئة التي ارتضتها لنفسها قصيدة النثر تبدو تعبيرًا عن قيمتين رئيستيْنِ لدى الشاعر أشرف يوسف. الأولى: إدراكه أن رمزية النص الجديد لا تعني تحويل الكائنات الشعرية إلى أوثان، بل تعني الاستفادة من معظم القيم التاريخية على امتداد التراث الإنساني، من هنا بدا الديوان مستفيدًا من غالبية المذاهب الشعرية دون أن يعني ذلك فقدانه للرؤية.

ثانيًا: تبدو قناعات أشرف يوسف بوظيفة الفن مرتبطة بشكل ما بوظيفته الاجتماعية رغم المناخات الإنسانية المضطربة التي تعكسها حركة السرد الشعري؛ لذلك لم تتخلَّ تلك الشعرية عن قارئها، أعني أنها لم تمتهن حواسّه، من هنا بدا وعي الشاعر متجاوزًا للكثير من التصورات المجانية التي أشاعها شعراء يؤمنون بمذهب الفن للفن. وبقي القول: إن تلك المجانية التي بدت عليها استطرادات التخييل وكثافات الصور الشعرية في القصائد التي مالت إلى النثرية المحضة أكثر إخلاصًا للرمزية في صيغتيها الغربية والشرقية، ولعل نموذجها البارز لدينا يمثله نص الشاعر اللبناني وديع سعادة لكنها شعرية، على أية حال، لم تكن ناجزة لخصائص مؤثرة في مسارات قصيدة النثر لارتباطها بحالة تطهرية أقرب إلى اللاهوتية التي عرفتها لغة النثر الفرانكفوني في القرن الثامن عشر، وربما لذلك تجوهرت شعرية هذا الديوان المهمّ في مواقع بعيدة من تلك القصائد.