«الآخر» لم يعد أجنبيًّا

«الآخر» لم يعد أجنبيًّا

في يوم ربيعي من عام 2007م، كنا مجموعة من كتّاب وصحافيين في روما، نجلس على طاولة رصيف لمطعم يهودي إيطالي، متكئين على منزل من القرون الوسطى تقول دكنته وانطوائيته تلك العتمة التي عاشتها أوربا مع الخوف والجوائح والحروب. لكنها الآن تبدو كديكور سينمائي رومانسي. وأمامنا على بعد مترين ينتصب معبد روماني بجبروت عتيق وحجري، ومن ورائه يطلّ مشهد الفاتيكان الكاثوليكي. نحن الزبائن، «مسلمون» و«مسيحيون»، عرب وأوربيون، على طاولة مطعم لعائلة يهودية، يديره مهاجر مصري، مسلم، يتحدث الإيطالية والعربية. الفتاة الجزائرية لا تجيد سوى الفرنسية (ولا كلمة بالعربية). الشابة الإيطالية تتحدث العربية بطلاقة وباللهجة المصرية، اللبنانيان يفضلان التحدث بالإنجليزية. الصحافية الفرنسية تختار التحدث بالإيطالية. والطاولة «حوارات» وترجمات متبادلة. اليابانيون، بالقرب منا، الإسبان أيضًا، الأميركيون كُثُر، جنسيات العالم تقريبًا في مئة متر مربع، حيث مهرجان اللغات – الثقافات، من وراء الأطلسي إلى قلب آسيا، هنا في هذه المدينة المتوسطية. في الزُّقاق الضيق ذي الإنارة الشاحبة كما لو أنه مضاء بالشموع. ونحن لا نفعل شيئًا سوى تداول هذه «العجينة» من اللغات الخائنة لهوياتها.

حنان الشيخ

هيام يارد

في خريف عام 2016م، كنا مجموعة من أربعة كتَّاب هولنديين (منهم كاتب من أصل ليبيري)، ولبنانيين كُثُر (بينهم كاتبة فرانكفونية) وكاتب بولندي متخصص بالشؤون التركية، وكاتبة هندية. على المائدة أربع لغات: العربية، والفرنسية، والهولندية، إضافة إلى الإنجليزية كلغة وسيطة، ركيكة في الأغلب. أيضًا، ثمة ثلاث لغات: البولندية (والتركية) والهندية يحتفظ بها أصحابها. بين اللبنانيين الكاتب فادي الطفيلي وزوجته الفنانة التشكيلية منيرة الصلح اللذان يعيشان في أمستردام ويُتقِنان اللغة الهولندية. الكاتبة الهولندية ديوك بوبينغا متخصصة بالأدب العربي، تدريسًا وترجمة. يحدث أني عشت في ليبيريا وعملت في الكويت، والكاتب الليبيري فامبا شريف الذي عاش في ليبيريا والكويت أيضًا يقول لي: «هذه المرة، اذهب أنت إلى هولندا ودعني أنا في بيروت، هكذا نكمل الدائرة». كان ترمب، المرشح للرئاسة الأميركية حينها هو نجم السهرة. القلق من الوجهة التي ستسلكها أوربا بعد أزمة المهاجرين والبريكست البريطاني يسيطر على الأحاديث. الكاتب الهولندي الشاب مارتين كنول يفاجئني بالسؤال عن حركة «بيروت مدينتي»؛ كيف له أن يعرف بتفصيل محلي للانتخابات البلدية في العاصمة اللبنانية؟ مآلات «الربيع العربي» والكوارث التي حلَّت بالشرق الأوسط تختلط بالكلام عن رحلتي إلى «غوا» في أثناء حديثي مع الكاتبة الهندية أوشا كونيغا راماسوامي. كنا نجلس على شرفة مطعم هو بالأساس منزل لبناني قديم بهندسة هجينة محلية وإيطالية وعناصر من العمارة الكولونيالية الفرنسية، نطل على خرائب بيوت حجرية باقية من زمن الحرب، وعلى برج سكني حديث يشبه تلك النابتة في دبي أو هونغ كونغ. «هوياتنا» مسيحية (كاثوليكية، بروتستانتية)، وإسلامية (سنية، وشيعية، ودرزية)، وهندوسية.. ومعظمنا على ما أظن علمانيُّو النزعة والقيم.

وعود ليبرالية

بهذا المعنى، كانت الطاولة نموذجًا صغيرًا عما حققته الوعود الليبرالية في العقدين الماضيين: عولمة في القيم والأفكار والمعلومات والحساسية الأخلاقية، وهي اليوم مهددة بارتدادات عنصرية وشوفينية وأنواع من رهاب الأجنبي والمختلف. المجموعة نفسها كانت في صباح اليوم ذاته قد تلاقت لأول مرة، داخل قاعة في الجامعة الأميركية ببيروت التي يعود تأسيسها إلى أكثر من 150 سنة. والمدهش أن اللقاء كان فرصة ليس للتعرف إلى هؤلاء الكتّاب الأجانب وحسب، بل أيضًا كي ألتقي لأول مرة الكاتبةَ اللبنانية حنان الشيخ التي تعيش في لندن، والكاتب اللبناني عيسى مخلوف المقيم في باريس، الذي لم ألتقِ به منذ عشرين عامًا. ربما هذا هو الأمر: نحن لا نتعرف إلى الآخرين بل إلى أنفسنا عبر الآخرين. هم أيضًا يفعلون ذلك. سرعان ما تجاهلنا خدمة الترجمة الفورية، طالما أننا عفويًّا رحنا نتداول عجينة لغاتنا، كما فعلت على نحو مبهج الكاتبة اللبنانية الفرانكفونية هيام يارد، وراحت عباراتها تتقافز بين عربية ركيكة وفرنسية راقية وإنجليزية متقنة. كذا كانت الكاتبة الهولندية ديوك بين عبارات عربية بلهجة مصرية وإنجليزية صافية.

أتينا للقاء تحت عنوان «طرق الحوار»، وكل منا لديه ما أسميه «أوراق اعتماد» كتلك التي يقدمها السفراء، أفكار جاهزة بنوايا جيدة، كأن نتلفظ بكلمات «الانفتاح» و«التسامح» و«التنوع» بوصفها عناوين للصواب السياسي والثقافي والأخلاقي الذي يتوجب علينا التقيد به. وهذا صحيح وحقيقي تقريبًا في عالم الكتّاب حول العالم، فالمثقفون اليمينيون واليساريون والليبراليون وما بين بين، بات لديهم «مرجعية» ما بعد الأيديولوجيات، إنسانوية إذا صح التعبير. وعلى هذا النحو، كنا في اللقاء الصباحي نردد كل هذا الذي نؤمن به، أي ترفّعنا على القوميات والفوارق الدينية والعرقية والثقافية، نحتفل باختلافاتنا بوصفها التنوع الإنساني ومصدرًا للغنى الثقافي.

عيسى مخلوف

خلال ثلاثين عامًا من تمرسي في العمل الصحافي والأدبي، غالبًا ما كان يتسم أي لقاء أوربي – عربي (شرق أوسطي تحديدًا) باستنفار سجاليّ، يضمر شعور التفوق من جهة وشعور الدونية من جهة أخرى، ويستحضر الماضي الاستعماري عند العرب، والخطاب الاعتذاري عند الأوربي (أو التبرؤ من التاريخ الإمبريالي)، عدا طبعًا منسوب الجهل بالآخر والأفكار النمطية ووطأة «مركزية الغرب» ومسألة الصراع العربي – الإسرائيلي.. إلخ. وكان أكثر ما يغيظ المثقفين العرب هو أنهم مطلعون على أبرز نتاجات الغرب الأدبية والفكرية والفنية، في حين –إذا استثنينا المستشرقين والمستعربين– لا دراية للكاتب الأوربي عمومًا بما ينتجه العالم العربي أدبًا وفنًّا وفكرًا. ويضاف إلى ذلك، التفاوت الاقتصادي واختلاف نمط العيش والسلوك والمظهر والتقاليد والأعراف الاجتماعية. كان هذا النوع من اللقاءات المغلفة بالدماثة تتسم بالنفور والتكاذب أو الجفاء أو الحذر الدبلوماسي. أظن أن ذلك تضاءَل إلى حد كبير، بزخم من حركتين كبيرتين حدثتا تحت جناح «العولمة»: حركة الفكر ما بعد الكولونيالية في الغرب، وحركة الفكر ما بعد القومية في العالم العربي. التقت الحركتان في منتصف الطريق، هناك عند تقاطع بروز نخبة ليبرالية عربية بعد عام 2000م، واستشراء «نقد الحداثة» في الغرب (ما بعد الحداثة).

عمليًّا، خلال العشرين سنة الماضية، ورغم الأحداث الاستثنائية (9 سبتمبر 2001م، غزو العراق، والإرهاب العالمي، والأزمة الاقتصادية.. إلخ)، أجد أن السفر والإنترنت خلقا عالَمًا شديد التواصل، وأحيانًا بسرعة أكبر من القدرة على الاستيعاب. وبعيدًا من السياحة عبر التكنولوجيا أو عبر المطارات، وبسبب الوقائع الثقيلة الوطأة، يمكن القول: إن منسوب الجهل بالإسلام وبالعرب بات أقل في الغرب، ومن جهة أخرى أصبح الغرب أكثر قربًا من العرب والمسلمين، ليس فقط بسبب جاليات المهاجرين، بل أيضًا بسبب التعليم وحركة الترجمة وسهولة التنقل والتلفزيونات الفضائية والإنترنت، وأدوات التواصل الفوري، والتعامل التجاري الواسع النطاق والمعاشرة شبه اليومية، إلى حد انتفاء المسافة على نحو أصاب الفزع أولئك الذين باتوا اليوم وبسبب هذا الفزع تحديدًا «جهاديين» انتحاريين. ويمكنني الادعاء أن أيديولوجيا الإرهاب الإسلامي ولدت من شعور حقيقي بأن الحدود انتفت مع الغرب، بالضبط كما حركات اليمين المتطرف في أوربا نهضت من شعور حقيقي بأن الحدود مع الشرق انتفت. ثمة حرص عند متطرفي جانبي الحدود على إرث الكراهية والعداء المتناسل ربما منذ الحروب الصليبية. هو ما أسميه حرصًا على «البقاء في التاريخ»، إعادة تدوير للماضي.

الأدب طريق إلى الحوار

أوشار اماسوامي

أعود إلى ذاك الصباح في منتصف نوفمبر 2016م، في حضن الجامعة الأميركية ببيروت. كل منا يقدم نفسه ويتكلم عن أفضل سبيل لـ«الحوار»، أي تجسير العلاقة مع «الآخر». وبإيمان ثابت، الجميع تقريبًا يرى في الأدب، والقراءة، والفن.. طريقًا رحبًا وواضحًا لهذا الـ«حوار». شخصيًّا، أنتبه إلى أن الآخر هو مجرد ذريعة كي يحاور واحدنا نفسه، يكتشف ذاته أكثر. «الآخر» موجود طبعًا، لكنه بات أقل آخَروية بكثير مما كانه في الماضي. أقصد أن الآخر فقدَ اختلافه، فما من أحد أجنبي تمامًا، خصوصًا في الأدب. ذاكرتي الأدبية قائمة على قراءات معظم روايات أميركا اللاتينية. ما من رواية أميركية بارزة إلا وكلنا قرأناها (كل شعراء الولايات المتحدة منذ وولت ويتمان لهم حضورهم في القصيدة العربية الحديثة!). ويليام فوكنر هو الروائيّ المفضل عندي. الأدب الياباني ليس غريبًا ويمكننا أن نعدد 15 روائيًّا يابانيًّا نعرفهم مترجمين إلى أكثر من عشرين لغة على الأقل. نشأنا على قراءة نتاج الأدب الفرنسي، والألماني، والتشيكي، والروسي، والإسباني، بل حتى العلامات البارزة في الأدب الهندي والإفريقي والصيني.. إلخ. أقرأ في هذه الأيام رواية «فتيان الزنك» للكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسيفيتش.

ربما يجوز التحسر على الماضي حين كان ثمة «غريب» و«إكزوتيكي» و«أجنبي» ينبغي اكتشافه والتمتع بسحر الغرابة والتعجب والدهشة. كل هذا خسرناه. العالم بات أليفًا إلى درجة محبطة. ما من جغرافيا مجهولة بعد اليوم، وعلى الأرجح ما من «محلية» صافية. حين قَرَأَتِ الروائيةُ الهندية أوشا راماسوامي نصوصَها، تلقفنا على الفور وعلى نحو اعتيادي حيلتها الأدبية وأسلوبيتها ومصدر تخييلها ومسعاها في استثمار الإرث الديني والأسطوري في مواجهة الوقائع اليومية ومغزاها الدرامي. لم يكن «أجنبيًّا» نص مارتين كنول الكئيب، السينمائي النزعة، ومنحاه الوجودي الغارق بأرق الوحدة والجوع العاطفي والفردانية المعاصرة. شعرنا بألفة فائقة مع نص ويتولد جابلوسكي وهواجسه السياسية وسخريته اللاذعة، طالما أننا كأدباء من الشرق الأوسط لا نفعل سوى التفكير بالسياسة والسخرية ومقارعة الفساد واليأس. فامبا شريف، قرأ مقاطع من روايته، المكتوبة بأسلوب يتقاطع فيه الذاتي مع التاريخي، ونستوعب تمامًا تلك «المعلومات» التي يضمرها السرد ووجهة الحكاية. نعرف تمامًا أن مأزق الهوية هو الحافز والعصب في كتابته.. تمامًا كما في كتاباتنا. هكذا نحن جميعًا، أصبحنا أولاد «تقاليد» أدبية معولمة. إذًا، ما من «آخر» لكن مجرد مرايا متعددة لـ«أنا» مركَّبة، باتت معتادة حتى على مستوى اللغة. منذ اليوم الأول، لزم الأمر ساعة، ودردشات جانبية في استراحة القهوة، أو في أثناء الغداء، مستأنفين السجال «الرسمي» الذي دار في الجلسات، لا لكي نستعرض مهاراتنا الفكرية أو النقدية، لكن كي نوطِّد لحظات التواطؤ الشخصي ونحوِّلها إلى صداقة. هذا ما حدث لي مثلًا مع مارتين كنول، حينها رحنا باستمرار ننتحي جانبًا بالحديث، أو نختار الجلوس متجاورين. أو أن ننقسم في المساء إلى مجموعتين: مدخنين وغير مدخنين. وتصير هذه الصفة «حزبًا اجتماعيًّا». أو عندما ننتهي من يوم حافل بالجلسات والنقاشات والقراءات، وننقسم في سهرنا بين هواة «الكارايوكي» والنافرين منه.

عامل استيقاظ

فامبا شريف

أذكر أن إيمان حميدان، رئيسة جمعية القلم الثقافية في لبنان، حين راحت تشرح لي مشروع استضافة الكُتَّاب الأجانب في بيروت ضمن برنامج «طرق الحوار»، لم أكن مقتنعًا كفاية بالجدوى الثقافية منه. لكن، حدث في اليوم الثالث للنشاط، حين ذهبنا جميعنا إلى مدينة صور، وتحلَّق حولنا في منتدى المدينة جمعٌ غفير من الجمهور، من بينهم طبيب هندي وزوجته، وصاروا يناقشون الكاتبة الهندية والكاتب الهولندي، عبر الترجمة الفورية، انتبهت إلى «المعنى» من حضور «الضيوف الأجانب». إنهم عامل استيقاظ. ما أن يأتوا حتى نجتمع ونبدأ بالعمل الجماعي، ونتواطأ على الإصغاء وعلى تقديم أفضل ما عندنا ونشحذ همتنا، ونبرز ما نظنه فضائلنا. بوجودهم تسنَّى لي لأول مرة أن أصغي للشعراء اللبنانيين: فوزي يمّين، ومحمد ناصر الدين، وللكاتبات اللبنانيات: سحر مندور، وحنان الشيخ، وزينة الخليل، وهيام يارد. مرة أخرى: «الأجنبي» ذريعة للتعرف إلى «الذات». الأفضل من ألفة الكتّاب فيما بينهم، هي الألفة الفورية بين الجمهور والكُتَّاب الضيوف، خصوصًا في المدن خارج العاصمة: طرابلس، وبعلبك، وصور، وبعقلين.. ثم هناك في المدارس مع الطلاب. ربما التعليم المتعدد اللغات في لبنان (الفرنسية والإنجليزية والعربية) سهل الأمر كثيرًا، لكن ما نسمِّيه Pop culture «الثقافة الشعبية» (السينما، والتلفزيون، والموضة، الموسيقا..) لا تخلو من معرفة أدبية غير مباشرة، تسهم في توحيد الذائقة والمرجعية، وأحيانًا الخيال وطرائق التعبير وقاموس المجاز. تجربة الأسبوع من المعاشرة والقراءة ومشاركة الطعام والسجائر وتداول الأفكار.. منحت الكُتَّاب الضيوف معرفة حسية ومباشرة من تنويعات الأدب اللبناني، من الحياة اللبنانية. اكتسبوا دراية سياسية بالتعايش الصعب والمنازعات الخفية بين الجماعات والطوائف هنا، وهو ما قد يستثمرونه أيضًا في بلدانهم بمواجهة الأسئلة الملحَّة اليوم في أوربا إزاء مسألة الهجرة والتنوع الديني والتعصب العرقي أو القومي.

بالنسبة لي، كان مشهد روما عام 2007م، الذي ذكرته في البداية، يتوِّج إنجازات الزمن المبتدئ منذ انهيار جدار برلين. ومشهد بيروت 2016م، يشكِّل فِعل مقاومة ضد «تسونامي» الانعزالية المتفاقمة في كل مكان.

مرور سنة على رحيله الروائي إمبرتو إيكو..  سياسي حتى العظم

مرور سنة على رحيله الروائي إمبرتو إيكو.. سياسي حتى العظم

بعد رحيله في 19 فبراير من العام الفائت 2016م عن 84 عامًا؛ قرأنا الكثير عن الروائي الإيطالي إمبرتو إيكو أديبًا وأكاديميًّا وسوسيولوجيًّا وناقدًا وباحثًا في القروسطيّات وعالمًا في اللغويّات والسيميائيّات (دراسة الأدلّة)، ولم نقرأ عنه كناشط سياسي؛ علمًا بأنه كان منخرطًا في عالم السياسة حتى أذنيه، وكان يكتب في أحداثها وتطوّراتها بانتظام، خصوصًا في مجلة «ليسبريسو» الإيطالية، وفي صحيفة الـ«نيويورك تايمز» الأميركية. وبما أن الرجل شكّل ظاهرة ثقافية وإبداعية كبرى، جرّاء انتشار رواياته بالملايين، ليس على مستوى بلده إيطاليا والاتحاد الأوربي فقط، إنما على مستوى العالم بأسره، فإن آراءه السياسية، هي بالتأكيد محل رصد ومتابعة وتقييم؛ ولها -لا شك- تأثيراتها الاعتبارية؛ ناهيك عن أن الرجل معروف أصلًا بيساريته، التي يقال: إنه طعَّمَها بليبراليّة متمادية في العقدين الأخيرين من حياته، ما أغضب الكثير من «رفاق الأمس» داخل البلاد وخارجها. ومن هنا كان لافتًا أن تقول صحيفة «لاريبوبليكا» الإيطالية «بأننا سنفتقد نظرته إلى العالم». وقال فيه رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماتيو رينتسي: «إن الراحل كان نموذجًا استثنائيًّا للمثقفين الأوربيين، حيث جمع بين فهمه الفريد للماضي وقدرة لا تنضب على التنبؤ بالمستقبل» وهو يقصد بالطبع المستقبل الاجتماعي والسياسي والحضاري العام لبلاده؛ لأن إمبرتو إيكو كان ينشق دومًا عن ثقافة اتساع الرؤية، والسياسة كانت جانبًا حيويًّا من جوانب هذه الرؤية.

أما صديقه المفكر الفرنسي جاك لوغوف فقال: «إمبرتو إيكو روائي سياسي حتى العظم، وعلى هذا الأساس يجب أن تُقرأ مختلف رواياته». وهذا الرأي في محلّه على ما نعتقد؛ إذ إن اللجوء إلى مسرح التاريخ واستخدام موضوعات أحداثه، هو سمة كتابة إمبرتو إيكو الروائية في الإجمال، بدءًا من روايته «اسم الوردة» – 1980م، مرورًا بروايات: «بندول فوكو» – 1986م، و«جزيرة اليوم السابق» – 1944م، و«مقبرة براغ» – 2010م، و«الشعلة الغامضة للملكة لوانا» – 2004م وصولًا إلى روايته الأخيرة «العدد صفر» – 2015م، وعبرها جميعًا عرف الروائي الكبير كيف يوظّف أحداث التاريخ برمزية صارخة ودالّة بقوة على خارطة الحاضر بصراعاته السياسية المركزية موضوع التناول أو المعالجة الفنية.

وإمبرتو إيكو كان يحذو بذلك حذو الروائي الأسكتلندي الشهير، السير والتر سكوت، «أبو الرواية التاريخية» المكتملة العناصر والتشويقات في أوربا والعالم (1771 – 1832م)، وذلك مذ سطّر هذا الأخير روايته الأولى «ويفرلي» في عام 1814م، وأتبعها بـ 55 رواية تاريخية، كان ينتقي معظم أبطالها من العصور الوسطى. ومن أشهر كتبه السياسية: «حياة نابليون» في تسعة أجزاء. وقد درج على منوال والتر سكوت كُتَّاب كُثر في أوربا من أمثال فكتور هوغو وألكسندر ديماس في فرنسا، وتولستوي في روسيا، وألكسندرو مانزوني في إيطاليا. ومع إرهاصات نهايات القرن العشرين الأدبية، ظهر إمبرتو إيكو في إيطاليا أيضًا كمفجّر مستأنف لهذا النهج الكتابي الروائي السياسي المشوّق.

السياسة وصناعة الكذب

قضايا سياسية كثيرة تطرّق إليها إمبرتو إيكو في مقالاته التي كان ينشرها دوريًّا في الـ«نيويورك تايمز»، من بينها مقالة أشارت إلى صناعة الكذب في السياسة حملت عنوان: «الحياة السياسية.. حتمية الكذب»، يعود فيها إلى كتاب الروائي والناقد الإنجليزي جوناثان سويفت: «فنون الكذب» الذي ألفه في عام 1712م، مقتطفًا منه عبارات دالّة على زمننا الحاضر سياسيًّا، يقول على لسان سويفت: «إن ثمة نقطة أساسية يفترق فيها الكذّاب السياسي عن سائر الكذّابين، هي في قدرته على اجتراح الكذبة وجعلها تتّسم بذاكرة قصيرة، وذلك كي يتجاوز بسرعة واقع كيف ناقَضَ نفسه أمام نفسه، وأمام أتباعه في آنٍ واحد».

وفي رأي سويفت «أن انتشار الكذب على نحو واسع، لا يستغرق زمنًا طويلًا، حتى لو كان المصدر كذَّابًا سياسيًّا محترفًا ومحنّكًا في الصميم». ويردف الكاتب «عادة ما تصحّ مقولة: إن تصديق كذبة ولو لساعة واحدة فقط، تفي بكامل الغرض المراد منها؛ فالكذب المؤذي الخطير ينتشر بسرعة البرق، في حين أن الحقيقة تظهر بعده عرجاء بَكْماء، وريثما يتحرر المرء من صدمة الكذبة والإفاقة النهائية منها، تكون الأمور قد فات أوانها وأتت أُكُلها».

وفي مقالة أخرى له نشرتها الـ«نيويورك تايمز» أيضًا تحت عنوان: «قصتي مع الألوية الحمر»، وبعد مناقشته وتصحيحه لما نقل عنه في صحيفة «إلباييس» الإسبانية بأنه قال: «إن «الألوية الحمر» كانت محقّة في اعتقادها بضرورة محاربة الشركات متعدّدة الجنسيّات، لكنها كانت مخطئة في إيمانها بالإرهاب كأسلوب. ويستنتج بالتالي كاتب «إلباييس» أني أوافق، بهذه الطريقة، على أن تلك المنظمة الإرهابية، هي مجرد عبارة عن «رفاق ضلّوا الطريق»، وأني أدعم مقولة: «إن الأفكار كانت مقبولة، وأما الطرق فلم تكن». وقد اختتمت الجريدة الإسبانية المقال المنشور كما يلي: «إن كانت هذه المساهمة التي تقدّمها الذهنيّة الثقافية الإيطالية بعد ثلاثين عامًا على اغتيال رئيس الوزراء الأسبق ألدو مورو، فهذا فلم سبق وشاهدناه يا للأسف..» يقول إمبرتو إيكو مصحّحًا ومعلّقًا: «أما ما يمكننا أن نصفه بالهذيان في طريقة تفكير منظمة «الألوية الحمر» والمجموعات الإرهابية الأخرى، فهو الاستنتاجات التي توصلت إليها. فقد ظنّت المنظمة أولًا، أنها إن أرادت القضاء على الشركات متعدّدة الجنسيات، فعليها أن تحثّ على اندلاع «ثورة» من خلال اقتراف موجة واسعة من أعمال العنف في إيطاليا. ثم اعتقدت أنها بقتلها «ألدو مورو» والعديد من الأشخاص الصالحين، تمارس بذلك ضغطًا على الشركات متعدّدة الجنسيات. وأخيرًا رأت أن تلك الأعمال، ستدفع بأفراد الطبقة العاملة إلى التمرّد. وقد كانت هذه الأفكار كلها جنونية حقًّا؛ لأسباب ثلاثة: ما كانت ثورة في بلد واحد لتزعج الشركات متعددة الجنسيات حتى لو قليلًا، وفي أي حال كان الضغط الدولي ليعيد وضع الأمور في نصابها على الفور. ثانيًا- لم تكن لسياسي إيطالي واحد أي أهمية تذكر في لعبة المصالح الدولية. ثالثًا- كان الأجدر بمنظمة «الألوية الحمر» أن تدرك أنه مهما قتلت من أشخاص، فإن الطبقة العاملة لن تثور».

رفيق أخطأ التفكير

Imberto_book_33ويستطرد إمبرتو إيكو معلقًا: «إن من يستقي الاستنتاجات الخاطئة من مقدمة منطقية مقبولة إلى حد ما، ليس مجرد «رفيق أخطأ التفكير»؛ وإذا قال أحد رفاقي في الفصل الدراسي: إن الشمس تدور حول الأرض، أو إن اثنين زائد واحد يساويان خمسة، فلن أعده رفيقًا أخطأ التفكير، بل سأعُدّه غبيًّا». وبخصوص مصطلح «المؤامرة» الذي كان على ما يبدو سائدًا في الأدبيّات السياسيّة القديمة، مثلما هو سائد في الأدبيّات السياسيّة الحديثة، فلقد تناوله إمبرتو إيكو في مقالة ساخرة نشرتها الـ«نيويورك تايمز» في عام 2008م. ورد فيها أنه، وبعد تصفّحه موقعًا للإنترنت باللغة الفرنسية، واسمه «عالم اليسوعيين المريض» لـ«جويل لابرويير»؛ وكما يوحي به العنوان، يقدم هذا الموقع مراجعة واسعة للأحداث كافة، التي انطلقت من مؤامرة عالمية رسمها أعضاء جماعة اليسوعيين الدينية. فلطالما «جهد اليسوعيون نحو تأسيس حكومة عالمية عبر التحكّم بالبابا وبعدد من الأمراء الأوربيين. ومن خلال جماعة المتنوّرين من إقليم بافاريا الألماني، حاولت «جماعة يسوع» الدينية إسقاط الأمراء الذين حظروا وجودها. ليس هذا كل شيء، يتابع إيكو: «فأعضاء جماعة اليسوعيين الدينية هي من أغرق سفينة «تيتانيك»؛ لأنه بداعي هذه الحادثة تمكنوا من تأسيس مصرف الاحتياط الفدرالي الأميركي وبوساطة من فرسان مالطا». ويشدد محرِّرو موقع «العالم المريض» على أن غرق سفينة «تيتانيك» لم يؤدّ بالمصادفة إلى وفاة اليهود الثلاثة الأغنى في العالم: جون جاكوب آستور الرابع، وبنجامين غوغنهايم، وإيزيدور شتراوس، الذين عارضوا في ذلك الوقت تأسيس المصرف. وبالعمل من خلال الاحتياطي المركزي، تمكّن اليسوعيون من تمويل الحربين العالميتين اللتين صبّتا في مصلحة الفاتيكان دونما شك.

أما فيما يخص اغتيال الرئيس جون كينيدي، فيجدر التذكير –وكله بحسب إمبرتو إيكو عن الموقع الفرنسي– بأن تأسيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، كان مخطّطًا يسوعيًّا أيضًا، مستوحى من التمارين الروحية للقديس إغناطيوس، وأن اليسوعيين تحكّموا بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية من خلال جهاز الـ«كي. جي. بي» السوفييتي، ومن ثمَّ اغتيل كينيدي على يد الأشخاص أنفسهم الذين أغرقوا سفينة «تيتانيك» الضخمة. وبالطبع -بحسب إيكو- فإن التآمر اليسوعي، هو من يقف خلف الجماعات النازية الجديدة والمناهضة للسامية كلها، واليسوعيون يسيطرون على نيكسون وكلينتون؛ كما قاموا بمجزرة مدينة أوكلاهوما. وهم من أوحى إلى الكاردينال سبيلمان، الذي حرّض على الحرب في فيتنام، التي جلبت بدورها 220 مليون دولار إلى صناديق الاحتياطي الفدرالي الخاضع أيضًا لسيطرة اليسوعيين من خلال فرسان مالطا. ويختم إمبرتو إيكو ساخرًا جدًّا من مصطلح «المؤامرة» أو «نظرية المؤامرة» عندما يقول: إنه «ما من داعٍ للتساؤل عن سبب إقبال الناس الكبير على كتب الروائي دان براون، فلعل لليسوعيين علاقة بذلك أيضًا!».

تبرير اغتصاب فلسطين

Imberto_book_22أما بخصوص إسرائيل، فإن إمبرتو إيكو، وإن كان ينتقد بعض سياساتها، خصوصًا لجهة قوله، وأكثر من مرة: إن مصطلح «معاداة السامية» مملوء بالتناقضات، إلا أنه في حقيقة الأمر، كان حتى آخر يوم من حياته، من أشد المدافعين الأذكياء عن إسرائيل. وقد استفزّ الكثير من قرائه العرب، وبخاصة الفلسطينيين منهم، عندما أصرّ على المشاركة في «معرض القدس للكتاب» في عام 2011م، ملبِّيًا دعوة بلدية الاحتلال الإسرائيلي في المدينة المقدسة، وذلك بعدما ضرب عرض الحائط بكل مناشدات قوى المقاطعة الثقافية والأكاديمية للدولة العبرية، التي طلبت منه عدم تلبية هذه الدعوة.

من جانب آخر، وبدهاء مركَّب، برَّر إمبرتو إيكو للإسرائيليين اغتصابهم أرض الشعب العربي الفلسطيني عندما قال في مقالة له في النيويورك تايمز: «والبارز لدى الإسرائيليين، هو أنهم استخدموا الوسائل الأكثر تقدّمًا بهدف حرث الأرض وإنشاء المزارع النموذجية. ولذلك في حال حاربوا، ففي سبيل السيطرة على الأرض التي استوطنوا فيها. فهذا هو العامل الذي يحمله العرب «المعادون للساميّة» مأخذًا عليهم، علمًا بأن هدفهم الأساسي (أي العرب) يكمن في تدمير دولة إسرائيل». ويردف إيكو في المقالة عينها: «لا يحبّذ معادو الساميّة فكرة أن يعيش اليهودي إلا في إسرائيل. وفي حال اختار اليهودي أن يعيش في إسرائيل، يرفض معادو السامية ذلك؛ وأنا على علم بأن المكان الذي يعرف اليوم بإسرائيل، كان في الماضي أرضًا فلسطينية؛ فلم تُنتَزع هذه الأراضي باستخدام العنف وعن طريق القضاء على الشعب الفلسطيني صاحب الأرض، كما كانت الحال في شمال أميركا، أو من خلال تدمير الدول التي يحكمها الملوك، كما كانت الحال في جنوب أميركا، بل أساسًا عن طريق الهجرة والاستيطان البطيئين اللذين لم يَجْرِ معارضتهما في البداية». أيُّ دفاعٍ ماكر ومتسلل هذا الذي يبتدعه هنا إمبرتو إيكو دفاعًا عن مغتصبي الأرض الفلسطينية، الذين تدفقوا بإرادة استعمارية استيطانية مكشوفة، ووفق برنامج رعائي استعماري ممسوك ومدار، حضنته في البداية بريطانيا وفرنسا، وفيما بعد، الولايات المتحدة والغرب كله؟ على من يمرر إذًا إمبرتو إيكو رسائل تبرير أن الإسرائيليين هم مجرد مهاجرين عاديين لم يرتكبوا مجازر بحق أهل الأرض، ولم يستأصلوا شأفة الفلسطينيين، وأنهم مجرد شعب يريد العيش بسلام ووئام مع محيطه، ومن ثم فإن الإسرائيلي لم يفعل ما فعله غزاة شمالي أميركا الأوائل بحق من سُمّوا خطأً بـ«الهنود الحمر»؟

إيكو‭ ‬وعصام‭ ‬محفوظ‭.. ‬لقاء‭ ‬في‭ ‬‮«‬الدوماغو‮»‬

عصام-محفوظ

عصام محفوظ

روى لي الناقد اللبناني الراحل عصام محفوظ أنه التقى في باريس الروائي إمبرتو إيكو في مقهى «الدوماغو» في أوائل التسعينيات من القرن الفائت، وتحادثا في أمور ثقافيّة وسياسيّة شتى، لفته خلالها، وأكثر من مرة، سؤال شخصي كان يلحّ عليه إيكو له ومضمونه: أعرف أنك لبناني، لكن من أي منطقة من لبنان أنت؟.. علّقت مبتسمًا بعض الشيء (يقول عصام محفوظ): ما وراء هذا السؤال يا سيد إمبرتو، هب أنني أجبتك، فبماذا سيفيدك جواب عن هذا السؤال؟ قال إمبرتو: أخبرني بعض المعارف اللبنانيين المشتركين أنك من مدينة صغيرة مجاورة للحدود الإسرائيلية– اللبنانية، فهل هذا صحيح؟ «هذا صحيح نعم» أجاب عصام محفوظ «واسم مدينتي الصغيرة هو مرجعيون». هنا تحفّز إمبرتو إيكو وسألني: ما رأيك بعملية السلام الإسرائيلي– الفلسطيني إذًا؟ هل هي ممكنة؟ ما حظّها من النجاح؟ وأنا كإيطالي متوسطي تهمّني الإجابة هنا، وخصوصًا من طرف العرب الذين بلدانهم مجاورة لإسرائيل، وأكثر بكثير من غيرهم. إن لهذه الإجابة مذاقها الخاص عندي بالتأكيد…». وعلى الفور أجابه الناقد والمسرحي عصام محفوظ: «لا أعتقد أن سلامًا حقيقيًّا سيقوم بين اللبنانيين والإسرائيليين -وبالتأكيد مع العرب الآخرين- أتعرف لماذا يا سيد إيكو؟ ببساطة لأن الإسرائيليين أنفسهم لا يريدون السلام الحقيقي والمعافى، أولًا مع الفلسطينيين ومن ثمّ مع سائر العرب، ففي السلام تضؤل دولتهم وتضمحل».

ولكن السلام الإسرائيلي– المصري حقيقي ومعافى، ومعاهدته تؤكدّها الأيام والسنون، وكذلك معاهدة السلام الإسرائيلية– الأردنية، فإنها أيضًا ثابتة ومستمرة. علّق إمبرتو إيكو على كلام عصام محفوظ.. وأردف قائلًا: «بالتأكيد سيُصار ذات يوم إلى قيام معاهدة سلام بين إسرائيل ولبنان، وسيكون لها حظّ النجاح أيضًا، على غرار معاهدتَيْ مصر والأردن مع إسرائيل». وهنا قاطعه عصام محفوظ قائلًا: من حيث الشكل ربما كان الأمر صحيحًا، لكن من حيث المضمون وقوة سلطة التاريخ وأنساق مفاهيم الشعوب وعمقها الواعي واللاواعي فلا أعتقد، بل أجزم، بأن الأمر يعاكس وجهة نظرك يا سيد إيكو. فأولًا- لا سلام حقيقيًّا بين إسرائيل والشعوب العربية في مصر والأردن ولبنان (في حال قامت أصلًا معاهدة بين هذا البلد الأخير وإسرائيل). ثانيًا- إن مفهوم سلام إسرائيل مع العرب، هو مفهوم إخضاعي لهم، وسيطرة مطلقة عليهم، حاضرًا ومستقبلًا، فكل بلد عربي بالنسبة إلى إسرائيل، هو أمة قائمة بذاتها، ويجري التعامل مع كل «أمة من الأمم العربية» على هذا الأساس.. فأي سلام تصدّقه سيقوم بين العرب وإسرائيل أيها الصديق إيكو؟!. أكثر من ذلك يا سيدي: إن الإسرائيليين يدركون في أعماقهم بأن لا سلام عاش وسيعيش بينهم وبين سائر جيرانهم العرب، بالمعنى الشعبي هنا طبعًا؛ لذلك فإن معدة الشعوب العربية لم تهضم إسرائيل في رأيي، ولن تهضمها يومًا. ولذلك فإن الدولة العبرية ستظل باستمرار دولة عسكرية وأمنية مستنفرة، وتخوض حروبًا مباشرة وبالواسطة مع العرب.. فهي بالحروب تحيا وتستمر، وبالسلام الحقيقي تنحلّ وتبور».

لم يعلّق الرجل على كلامي، يقول لي عصام محفوظ ويضيف: وأنا انتقلت بالحديث معه إلى موضوع آخر.

الصحافة الورقية وموت السياسة

الصحافة الورقية وموت السياسة

يمكن القول: إن عهد الصحافة الورقية موشك عندنا، كما في بقية العالم، على الغياب. وفيما يخصنا فإن الصحافة الإلكترونية غير مجهزة لتحلّ محلّها. إذا كانت المسألة بالدرجة الأولى مسألة تمويل. والحال أن الصحافة الإلكترونية غير قادرة على أن تفعل شيئًا في هذا السبيل. إنها تقلل الخسارة لكنها لا تحول دونها. إذا كانت الصحافة الورقية خاسرة بمعنى أن عائدها لا يساوي كلفتها ونفقاتها، فإن الصحافة الإلكترونية خاسرة من حيث المبدأ على الإطلاق؛ ذلك لأنها مجانية ولا تباع في بلادنا ولا تتلقى نسبة كافية من الإعلانات لأسباب تحتاج إلى تمحيص.

الحال ليست كذلك في الغرب. صحيفة اللوموند، مثلًا، لا تنشر في طبعتها الإلكترونية كل محتوياتها بل تجتزئ من المقال جانبًا، وتوصي من يريد إكماله بشراء العدد كله.

ما يمكن قوله: إن الصحافة الورقية في الغرب أكملت طورها الورقي، وتستعد للانتقال إلى الطور الإلكتروني، والشروط لذلك موفورة، والسبل مفتوحة.

ليست الحال هكذا عندنا. الصحافة الورقية لم تكمل طورها، وشروط الانتقال إلى الطور الإلكتروني ليست تامة، والأرجح أننا بين عهد لم يكتمل، وعهد لم تتوافر أسبابه. لم ندخل بعد العصر الإلكتروني، أو أننا لا نزال على أطرافه وضواحيه، ولو توافر الحاسوب في أسواقنا، وانتشرت تقنيات الميديا الاجتماعية.

العصر الإلكتروني ليس لأمم لا تزال تعيش في العصر الورقي كما هي حال أممنا وشعوبنا. في مجتمعات لا تزال الأمية سارية فيها، ولا تزيد فيها نسبة القراءة عن بضعة أفراد في الألف، لا يمكن أن ننتقل بسهولة إلى عصر يستوجب القراءة المكثفة، كما يفترض فرديّة لا تتوافر في مجتمعات لا تزال تعيش علاقات قبلية ومذهبية ومناطقية وجهوية. الصحافة عندنا تعاني ذلك، فهي بين عهدين لا تستطيع أن تكون في أي منهما.

ذلك يعني موت الصحافة أو احتضارها الطويل الذي يعني في جملة ما، انتكاس عصر كانت الصحافة من مقوماته، كما يعني في جانب منه انتكاس السياسة التي كانت الصحافة عصبها ومسارها، كما يعني انصراف الدول والممولين كافة عن دعم الصحافة، الأمر الذي يؤدي إلى موتها، وموت السياسة معها. السياسة التي لم تبلغ بعد أشدّها، ولا تزال العلاقات الجهوية والعشائريّة تشدد عليها الخناق.

إنّ الكلام عن موت السياسة عندنا ليس كلامًا مجانيًّا. السياسة بوصفها اتفاقًا على مواقف ووجهات تتطلب مجتمعات للمصلحة وللاستقلال الفردي، وللتربية الديمقراطية أثر عميق في تكوينها.

هذا يتطلب تاريخًا ومسارات لم نعرفها. موت الصحافة قد يكون المقدمة الأولى، أو من المقدمات الأولى لموت هذه السياسة الجنينية التي تكافح لتقوم وتتصوّر خلقًا سويًّا.

أما في لبنان الذي كان في يوم من عواصم الصحافة العربية، فهنا فوق ذلك تفتت مجتمع هو مع ذلك مسيّس إلى أبعد درجة. الصحافة لا تعني كثيرًا لطوائف وجماعات منخرطة بجميع أفرادها فيما يسبق السياسة، وفيما يجعلها مسبوقة باستمرار. هكذا تصنع الجماعات بكل أفرادها الأحداث وتفسرها قبل أن تصل إلى الصحف. هكذا تتضاءل الحاجة للصحافة يومًا بعد يوم، فرؤساء الجماعات والجماعات نفسها في معركة دائمة، ولا حاجة للاستفسار عنها وقراءتها في صحيفة.