عن مستقبل قصيدة النثر العربية

عن مستقبل قصيدة النثر العربية

لم أسأل يومًا، بالرغم من أنني أحد شعرائها، الذين قضوا جل حياتهم يكتبونها، ويدافعون عنها، ويبشرون بها: «ما مستقبل قصيدة النثر العربية؟» إلّا وأبديت بعض التردد، لدرجة أبدو بها كأني غير راغب بالإجابة. ولكن، مرة، وأنا أحاول التهرب كعادتي، بحجة أني لست الشخص المناسب لتقديم الجواب الشافي على هذا السؤال، واجهني صديقي الشاعر عباس بيضون بسؤال آخر، من النوع الذي يحار المرء مهما بلغت حجته كيف يرد عليه: «لماذا لا؟». حقًّا، لماذا لا؟! وها أنذا أفعل. ولكن ذلك لن يحول دون ذكري الأسباب التي كانت تدفعني للتردد، وهي مثلها مثل كل شيء نبرر به ما نفعله وما لا نفعله، تنقسم إلى، أسباب خاصة، داخلة بي، وأسباب أخرى خارجة عني، عامة، داخلة في الموضوع نفسه:

الفرح ليس مهنتي.. والنقد كذلك: أولًا، مشيرًا إلى ظاهرة، أن عامة المشتغلين في نقد الشعر عندنا، هم الشعراء أنفسهم. عملًا بالقول الجاري: «أهل مكة أدرى بشعابها»، فذلك يستدعي أول ما يستدعي السؤال: ما إذا كان الشعراء حياديين عند الحكم على أنفسهم أو على نتاج أقرانهم؟ أو ما إذا كانوا مؤهلين؟ أو هل يمتلكون الحق؟! ولا أظن التذكير بمكانة ص. ت. كولريدج كناقد، أو شارل بودلير، أو بول فاليري أو ت. س. إليوت، أو أرشيبالد ماكليش صاحب كتاب «الشعر والتجربة»، وغيرهم من الشعراء الذين عُرفوا بكتاباتهم التنظيرية والنقدية عن الشعر والشعراء، يصلح كإجابة داحضة لهذه التساؤلات. ذلك أنهم، كانوا أقرب إلى المنظرين لمدارس ومناهج ورؤى شعرية جديدة، منهم إلى نقاد مختصين. كما أنهم أقرب لأن يشكلوا ظاهرة لافتة وليس قاعدة عامة.

وفي المقابل لم أجد عند الشعراء العرب، قديمًا وحديثًا، من أعطى شعر الآخرين ما يكفي من الوقت والجهد، للحد المطلوب من الناقد. فأدونيس رغم الحجم الكبير لدراسته في «الثابت والمتحول» والعديد من كتبه حول الشعرية والحداثة وغير ذلك، لم يقم بأي دراسة نقدية لشاعر، إلا بعض المقدمات لعدد من المختارات الشعرية، كمختاراته من قصائد يوسف الخال إصدار دار مجلة شعر 1962م. فجوهر عمل أدونيس حول الشعر تنظيري استشرافي أكثر منه نقدي. وكذلك، بطريقة ما، الدكتور كمال أبو ديب. وعشرات الشعراء العرب الذين إذا كان لهم مساهمات نقدية نظرية أم تطبيقية، فهي لا تزيد عن كونها اجتهادات جاءت لتملأ الفراغ النقدي الذي يشكو منه الجميع. أما بالنسبة لي، أنا الذي يحاول الآن معرفة المآل الذي ستمضي إليه قصيدة النثر في المستقبل، فيومًا لم أَتَنَطَّع لأكون دارسًا لحركة شعرية ما، أو لجيل شعري محدد! ويومًا لم أعمل على جمع مقدمات، أو معطيات، أستطيع أن أستنتج بواسطتها خلاصة ما. وكنت دائمًا أفتقد القدرة على إصدار أحكام، فلطالما آمنت ببراءة الجميع، وصدقت بما يسوقونه من مبررات وأدلة غياب. أما عن كوني، مثلي مثل الكثيرين، قد كتبت عددًا من المراجعات النقدية لمجموعات ولتجارب شعرية كنت أعرفها عن قرب، بطريقة أو بأخرى، فهذا شيء، والقدرة على تقديم خلاصات أو تعميمات، شيء آخر.

ثانيًا- كنت أهزأ، من بين الأشياء الكثيرة التي كنت أهزأ منها، من أن للشعر ملكة التنبؤ بالمستقبل، كتشبه الشعراء بزرقاء اليمامة أو كاهنة معبد دلفي، ومن أنهم يتمتعون بقدرة سحرية على رؤية ما سيأتي في الغد، وأشياء أخرى من هذا القبيل. فيومًا لم أقرأ شاعرًا عربيًّا أو غير عربي بلغ به الخبل لأن يقول: «سوف يحدث كذا، وتنبهوا من كذا، في المكان كذا، والزمان كذا». ذلك أني لا أصدق أن إنسانًا عاقلًا، شاعرًا كان أم غير شاعر، يمكنه أن يدعي بأنه كائن استثنائي، خرافي، يملك المقدرة على معرفة الغيب.. ما أستطيع الادعاء أني أعرفه، هو ما مضى، ما عبَر من أمامي وتنبَّهت له، فقد كنت أردد قولًا، لا أذكر من قاله: «لا أكتب إلَّا عمّا رأيت وسمعت». وهو قول أصلح للقصاصين والرواة منه للشعراء.

ثالثًا- يحتاج البحث في مستقبل قصيدة النثر العربية، متابعة حثيثة، ومن ثم معرفة واسعة، للأنسال الجديدة التي تدخل مضمار قصيدة النثر في البلاد العربية وخارجها، الأمر الذي شُفيت منه وما عاد شغلي الشاغل منذ زمن، فما أقوم بفعله اليوم هو أكثر ما يعنيني إن لم أقل كل ما يعنيني، أما عن حرصي على الاطلاع على ما يكتبه الآخرون؛ الأسماء التي أتابع تجاربها لأهميتها المؤكدة، والأسماء التي يتناهى لي بعض التصفيق لها وهي تدلف الساحة، الشعراء الجدد الذين يتواصلون معي، فلم يكن يومًا بدافع المقارنة والحكم. وقد يستغرب المرء كيف له أن يجد مفرًّا من إجراء المقارنات والتوصل إلى، إن لم يكن إلى أحكام، فليكن إلى آراء، إلا أنني في الحقيقة أفعل هذا لمنفعتي الشخصية، وبوجوه عدة، أهمها، أني أغذي به ذلك المزاج الذي أحتاجه للاستمرار والمتابعة.

مفرد بصيغة الجمع.. وجمع بصيغة المفرد

أولًا- ليس فقط لأني شفيت من حمّى قراءة كل شيء، بل لأنه أصلًا لا يتوافر بين يدي ما يكفي لألقي نظرة متفحصة ولتكوين فكرة صحيحة عن واقع قصيدة النثر العربية. وهذا ما يمكن له أن يجعل من الكتابة في هذا الموضوع، إن لم يكن قفزة في الظلام، فهو وقوع في السياج الشائكة الكثيرة التي تقيمها الكتابة باللغة العربية التي ينطق بها ما يقارب ثلاث مئة مليون إنسان، ولكن بنسبة أمية عالية، ونسبة قراءة متدنية لدرجة كارثية، يتوزعون على عشرين بلدًا، يتصل بعضها ببعض على شكل سلسلة ذات حلقات مغلقة. فما يكتب في الأردن لا يتخطى الأردن، فلا كتب ولا مجلات ولا صحف أردنية تدخل بلدًا متاخمًا له كسوريا، وأغلب ما يكتب في سوريا لا يُعرَف إلا في سوريا. حتى في داخل سوريا، البلد الذي اتصف بالاستقرار لعقود سنين طويلة، ذي التطور الاجتماعي والتقاليد الثقافية الفاعلة، نجد أن شعراء مدينة حلب، حتى أصحاب المجموعات الشعرية منهم، مجهولون في اللاذقية وحمص وأيضًا في العاصمة دمشق حيث يفترض أن يصبّ فيها كل شيء، إلا إذا حدث وانتقل أحدهم على نحو شخصي، وبخاصة بعد أن تعففت دور النشر المهمة عن طباعة كتب الشعر إلا للأسماء المستطيرة! وصار الشعراء يطبعون على حسابهم عددًا ليس كبيرًا من النسخ، تضاءل في العقدين الأخيرين من ألفي نسخة إلى ألف، ثم إلى خمس مئة، ثم إلى لا أكثر من مئتي نسخة!! يوزعها الشاعر على أصدقائه وأقاربه وعلى شعراء مدينته، وأحيانًا على الشعراء الذين يستطيع الوصول إليهم في مدن أخرى ضمن بلده؛ الأمر الذي يضطره أحيانًا للسفر بنفسه، وغالبًا ما يكون من المتعذر عليه أن يقوم بذلك لإيصالها إلى شعراء بلد عربي مجاور، فكيف إلى بلد عربي يأتي في السلسلة على بعد خمس حلقات!!

وأحسب أنه قد حدث للعديد من الشعراء أن اجتمعوا في مهرجان ما مع شعراء عرب آخرين من جيلهم أو من جيل سبقهم، وهم لم يسمعوا بمجرد أسمائهم، ثم إن كانوا قد سمعوا بهم سماعًا، فهم ليسوا على أي اطلاع على نتاجهم. فأول مرة سمعت باسم علاء خالد مثلًا كان عند لقائنا في مهرجان كافالا في اليونان عام 2002م، أما جرجس شكري، المصري الآخر فقد عرفته فقط في مهرجان جرش عام 2004م. ولا أخجل إن قلت في ذلك المهرجان عرفت لأول مرة أن رئيس اتحاد الكتاب في المغرب هو الشاعر حسن نجمي، ولم أستطع أن أحدد ما إذا كنت قد سمعت باسمه في السابق أم لا.. في سوريا لا تستطيع أن تحصل على المجموعات الشعرية المهمة التي تميزت بها دار الجديد البيروتية، في الثمانينيات والتسعينيات، فكيف لك أن تحصل على أعمال لشعراء تونسيين أو جزائريين أو يمنيين، يومًا لم تقع عيناي لا في المكتبات السورية ولا اللبنانية على كتاب سوداني أو تونسي أو ليبي، والسؤال هو: ألا يطبعون كتبًا في السودان وتونس وليبيا والجزائر والصومال واليمن وقطر والبحرين على الإطلاق؟! وهذا لا يقتصر على الشعر وحده، بل أيضًا الروايات والقصص القصيرة حتى الكتب المترجمة، أما ما يصلنا من مجلات ودوريات ثقافية، لا أدري إن كانت توزع في أنحاء الوطن العربي كافة أم لا، فإنك حتى إن قرأت قصائد لشاعر ما، فإنك سرعان ما سوف تنساه، وذلك لكثرة الأسماء، الداخلة الخارجة في ساحة الشعر. وهذا ما حدث لي عندما كتبت عن الشاعر العراقي الراحل رعد عبدالقادر، فقد ظننت أن قصيدته التي قمت بدراستها في ردِّي على ما كتبه سعدي يوسف عنها أول عمل أقرؤه له، مع أن عددًا من قصائده كان منشورًا منذ مدة ليس بعيدة، على الصفحة المقابلة لقصائد لي في مجلة نزوى العمانية.

ثانيًا- هناك الآن، لا بد من الاستدراك، مصادر أخرى متاحة للاطلاع والمتابعة، إذا كان لدى المرء الرغبة والوقت وجهاز كمبيوتر موصول بشبكة الإنترنت. مواقع ثقافية مثل موقع «جهة الشعر» الذي يشرف عليه الشاعر البحريني قاسم حداد، وموقع «كيكا» بإشراف، لا أدري بماذا أصفه، الشاعر والروائي والناشر العراقي صموئيل شمعون، وموقع عراقي آخر هو «الإمبراطور» يشرف عليه شاعر عراقي آخر هو أسعد الجبوري وهناك أيضًا عدة مواقع سورية جديدة مثل: «الجدار» و «ألف» و«أبابيل» و«أوكسجين» هذه كلها يغلب فيها النتاج الشعري، إلا أن موقعًا كـ«قصيدة النثر المصرية» الذي يشرف عليه الشاعر المصري عماد فؤاد يسمح على نحو استثنائي بالاطلاع الوافي على حال هذه القصيدة في بلد عربي كبير تأخر فيه ظهورها نسبيًّا عن لبنان والعراق وسوريا، حيث يتضمن ملفًّا عن كل من سبعة وستين شاعرًا وشاعرة من الأجيال الثلاثة الماضية للقرن المنصرم. كما أنه يتوافر على صفحات «الفيسبوك» عشرات المواقع الفردية لشعراء من كافة البلدان العربية.

ثالثًا- ما يربك هنا هو، ليس الكثرة والتنوع فحسب، بل أيضًا مستوى النتاج، التراكم الكمي الذي يبدو كأنه استطاع الهروب من حتمية أن التغير الكمي يؤدي إلى تغيير نوعي، وكأن ما يأتي لاحقًا لا يقوم على محو ما أتى سابقًا، أو كأن كلَّ شيء يبدأ بنفسه على نحو ما، ذلك أني التقيت شعراء شبابًا كثيرين يكتبون قصيدة النثر، لا يعرفون توفيق الصايغ ولا شوقي أبي شقرا ولا عصام محفوظ ولا حتى أنسي الحاج، أما في سوريا فسليمان عواد الأب الروحي لـمحمد ماغوط شبه نكرة، وإذا كان عواد شاعرًا ظهر في الخمسينيات، فماذا يقال عن شاعر سوري آخر هو بدوره شبه مجهول في بلده، مثل نوري الجراح الذي أصدر أعماله الشعرية بمجلدين سميكين منذ ثماني سنوات؟ رغم ما يعرف عني من حرص على رؤية الأشياء من الزاوية الجيدة، وتصديقي بأن الرسامين والشعراء والموسيقيين يشتهرون بفضل عددٍ من أحسن أعمالهم وليس بأعمالهم كلها، ورفضي لفكرة القراءة بهدف إصدار الأحكام والبحث عن أدلة، وذلك لحرصي بالمقابل على الاستمتاع بهذا الفن الذي وصم حياتي، أجدني غارقًا بشعور معاكس تمامًا، أقرب للشعور بهدر الوقت وإضاعة الجهد والأحاسيس، منه للمتعة والفائدة، وصولًا إلى الشعور بالإحباط والخيبة.

أسماء كثيرة، ومجموعات شعرية كثيرة كثيرة، وقصائد كثيرة كثيرة كثيرة، نستطيع قراءتها هنا وهناك، لا تصنع سوى ذلك التراكم الذي لا يحتاجه أحد، وقليلها يستحق أن يتوقف المرء عنده، ويعيد قراءته محاولًا أن يبقيه في ذاكرته. ولكن، ولكن، يأتيني صوت، وسؤال: «أليس هذه هي الحال دائمًا، أليس دائمًا هناك تلك القلة التي يُعوَّل عليها بأن تقوم بصناعة الفرق؟!».

رابعًا- أحسب أن أي محاولة تبصرية لمعرفة مستقبل حركة أدبية ما، تحتاج إضافة لاجتهاد صاحبها، وقدراته، أن يتوافر لديه بعض المراجع والدراسات التي سبق وقدمت تصورًا، صغيرًا أو كبيرًا لموضوع البحث. وهنا مرة أخرى، تعترضنا إعاقة قاسية في بدن الحركة الشعرية العربية الحديثة، وهي عدم مواكبتها بحركة نقدية حقيقية، نظرية وتطبيقية. مع اعترافي بأنه يساورني قدر كبير من الشك ما إذا كان الشعر العربي اليوم يدين، سلبًا أم إيجابًا، لهذا الغياب النقدي، حيث أكتفي بترجمة بعض المراجع والمنطلقات النظرية التي مهَّدت لقصيدة النثر عالميًّا، مع محاولة بسيطة وساذجة لتأصيلها، بوصف النص القرآني والسرديات العربية بأنواعها، جذورًا لها. أما تطبيقيًّا فلم يزد الأمر عن عدة كتب نقدية تطرقت للرواد على نحو أساسي، فقد رافقتهم حركة نقدية لافتة بالمقارنة مع من جاء بعدهم، أولئك الذين لم يحظوا في أفضل الأحوال سوى بمتابعات لمجموعاتهم الشعرية في الصحف والدوريات التي تصدر هنا وهناك، تجمع أحيانًا في كتاب، وغالبًا ما تهمل. ولكن منذ فترة وجيزة، نتيجة لهذا النقص وهذه الحاجة بدأت تظهر بعض المحاولات لرصد حركة الشعر العربي الحديث، ومن الغرابة أن ما اتفق على تسميته أنطولوجيات شعرية صدرت كلها بلغات أجنبية.

ماضي الأيام التي لن تأتي

انطلاقًا مما ذكرت، يمكن أن يرسل المرء نظره إلى مستقبل قصيدة النثر في اتجاهين مختلفين، الأول: هل سيكون لقصيدة النثر مستقبل؟ والثاني: ماذا ستكون عليه قصيدة النثر في المستقبل؟ كيف ستكتب؟ وبأية أشكال ستوجد؟ وأحسب أن البحث في كلا الأمرين على تكاملهما الصوري، يشبه حقًّا الرجم بالغيب، وبخاصة في بلاد كبلادنا، لا أحد، حتى المنجمون، يستطيع أن يخمن مستقبلها، التي لم تجد في بحثها عن نقطة انطلاق إلا أن تعود القهقرى لما وراء نقطة الصفر. وإذا اعتبرت أن مستقبل قصيدة النثر العربية هو مستقبل الشعر العربي، أو جزء من مستقبل الشعر العربي، فكثيرًا ما قرأت، أن مستقبل هذا الشعر، يتوقف أساسًا على مستقبل الإنسان العربي نفسه، الناطق باللغة العربية. ثم يأتي ذلك الاستنتاج، الذي لا تعيبه عموميته بالقدر الذي تعيبه شاعريته، بأنه ما دام هناك عرب سيكون هناك لغة عربية، وما دامت هناك لغة عربية فسيكون هناك شعر عربي؟! ولكن ما نعدّه اليوم شعرًا ونفكر فيما يمكن أن يكون مستقبله، قد يختلف لدرجة يصير بها فنًّا من جنس آخر، باختلاف كبير في الطرائق والأدوات كما في الأغراض والمآرب، لا بل قد يأتي يوم ليس بهذا البعد كما يبدو، تزداد به عزلة الشعر وتزداد هامشيته، حتى ينقرض. عندها يمد رأسه ذلك السؤال الصفيق: «ومن قال: إن البشر، لا يستطيعون الحياة بدون الشعر؟». ففي العالم اليوم، يولد ويحيا ويموت الملايين من البشر، عربًا وغير عرب، محرومين أم مرفّهين، متخلفين أم متحضرين، أكلة كافيار أم نابشي حاويات قمامة، دون أدنى اعتبار لوجود الفن التشكيلي أو المسرح أو… الشعر. وبخاصة بعد أن دفع بالأخير أصحابه الشعراء، لسبب أو بدون سبب، ليصير إلى هذه النصوص المربكة التي يتعذر فهمها وتقديرها إلا من قبل أهل الكار أنفسهم، أي أولئك الذين بدوافع جيدة أو سيئة هم الأقل مصلحة في هذه العملية.

ماء إلى حصان العائلة المتروك وحيدًا

لا بد من الاعتراف بذلك الشوط الذي قطعته قصيدة النثر العربية، من الخواطر الشعرية والنثر العاطفي إلى قصيدة تبدو كأنها أصيلة متجذرة تنبت فروعًا متعددة وثمارًا متنوعة، من الاتِّهام والعداء والتحريم إلى الاعتراف والقبول والإباحة، وربما… الانتصار. هذا الانتصار الذي تبدَّى على عدة أصعدة؛ منها انتقال العديد من الشعراء الرواد لكتابتها، كما فعل يوسف الخال وأدونيس وشوقي أبي شقرا وعصام محفوظ في الستينيات، ثم تبعهم في السبعينيات شعراء كانوا مؤسسين على القواعد العروضية مثل: نزيه أبو عفش، وبندر عبدالحميد، وقاسم حداد على سبيل المثال لا الحصر. بعد هذا صارت قصيدة النثر الاختيار الأول لأفضل المواهب الوافدة إلى حقل الشعر. وبسبب انتشارها الشديد فتحت لها أبوابها أكبر حصون الشعر العمودي والتفعيلة، بعد حرب استنفدت فيها كل مخزونها من الذخائر الثقيلة. ومن اللافت أنه قد حدث هذا على نحو تنازلي، أي من الأعلى إلى الأدنى فالأدنى، فمن اتهام كُتَّابها بالتخريب والخيانة، إلى الاكتفاء بتعييرهم بالتقليد والنقل، ثم لفتح الأبواب على مصراعيها لقصائدهم. حتى إن لم تتوافر تلك القدرة على تمييز الجيد منها من الضحل. فاتحاد الكتاب العرب في سوريا، الذي كان، حتى الأمس القريب، يرفض، عند ممارسة دوره كرقيب، الموافقة على طبع المجموعات الشعرية النثرية، ولو على حساب أصحابها، بات يصدر ضمن منشوراته ما هب ودب من هذه المجموعات. ومجلات كمجلة الآداب مثلًا، أو مجلة العربي الواسعة الانتشار ذاتها التي كانت تتحف قراءها بمخلفات القصيدة العمودية، صارت تقبل القصائد النثرية وتنشرها مع رسوم ملونة لأزهار وفراشات ووجوه نساء على صفحاتها، وصار المرء يقع على دوريات أدبية وملاحق ثقافية لا تنشر سوى قصائد نثرية. فعندما سأل جوزيف عيساوي عباسَ بيضون في برنامج «قريب جدًّ»: «لماذا تطغى قصيدة النثر لهذه الدرجة على الصفحات الثقافية لجريدة السفير؟».. أجاب عباس بما معناه: «ماذا أفعل إذا كان لا يصلني سوى قصائد نثرية؟». وكذلك ما قاله حسن طلب: «بأنهم باتوا في مجلة إبداع لا ينشرون سوى نصوص قصيدة النثر». أما تلك الأنطولوجيات الشعرية التي ذكرت، إذا لم تكن مقتصرة على الشعراء النثريين، وتحاول بحيادية أن تعطي صورة واقعية عن تنوع الشعراء الذين يحتلون الواجهة الشعرية العربية المعاصرة، فإن عدد شعراء النثر بينهم قد يصل إلى نسبة 75%. ولولا الرغبة في إظهار بعض الاعتدال، وورود عدد من شعراء التفعيلة يقلّ عن أصابع اليد الواحدة بين ثمانية وثلاثين شاعرًا تضمنتهم أنطولوجيا الشعر اللبناني الحديث التي أعدتها الشاعرة جمانة حداد باللغة الإسبانية، لأطبق عليها النثارون دون أدنى ديمقراطية.

إلَّا أن هذا الانتصار السريع لقصيدة النثر، الذي جاء بعد حرب عُصابية بامتياز، لم تستغرق أكثر من عقدين من السنين، هو الشبهة الخطيرة التي تحوم حول هذه القصيدة. حيث لم ينقضِ من الوقت ما يتيح لقصيدة التفعيلة، الابنة الشرعية للقصيدة العمودية التي عاشت قرونًا، أن تأخذ كامل أبعادها، أو فقط لأن تصل إلى نقطة قريبة، ما يكفي، من نهايتها. ذلك ما أدى إلى عدم حسم السؤال حول شرعية قصيدة النثر، وأحقيتها، وهل جاءت ضمن السياق الطبيعي للشعر العربي أم أقحمت إقحامًا؟ وربما ببعض الظن، جيء بها لضرب هذا السياق وتقويضه! أو هل أنها استجابة لحاجة حقيقية، أي منعكس لواقع حي معيش؟ الأمر الذي، رغم كل الاعتراضات، يمكن أن يفسر ويبرر انتشارها، أم مجرد تقليد أعمى لمنتوج حضاري غربي يكتسحنا مع ما يكتسحنا من أفكار ونظريات ومخترعات؟ لا دور لنا فيها سوى دفع كلفتها عشرات الأضعاف والإصابة بعسر الهضم بعد استهلاكها. أو أنها في الحقيقة، مثلها مثل الأيديولوجيات التي راجت عند النخبة العربية كالماركسية والوجودية والليبرالية، تعبير عن تغريب هذه النخبة، وشكل من أشكال القطيعة والعداء بينها وبين محيطها!؟ فبقدر ما تفشت قصيدة النثر بين الشعراء بقدر ما انحسرت بين الناس. حتى صار يقال: إن جمهور الشعر اليوم لا يزيد عن عدد الشعراء أنفسهم، أو ربما أقل! أي أنه قد تم الوصول إلى حالة يقتصر فيها استهلاك الشعر على منتجيه، سقاة يبيعون الماء في حي السقاة!! فأي بائعين وأي مشترين إذن؟! وهكذا صار يتضاءل عدد حضور الأمسيات الشعرية في المهرجانات الثقافية، التي صار بعضها يقتصر على مشاركة شعراء النثر، بوصفهم الأكثر لمعانًا هذه الأيام، إلى أعداد مخزية بالفعل، توازي ما ذكرناه عن أعداد النسخ القليلة التي باتت تطبع وتباع من كتبهم. وهكذا تبدو الأمور كأنها تدور في مكانها، أو في حلقة أوسع قليلًا لكنها مغلقة… شعر نخبوي، يخرج عن السائد ويقطع بصورة حادة مع الذائقة العامة، متخطِّيًا مقدرة بقايا الطبقة الوسطى المتعلِّمة على فهمه، فينفرط عقد جمهوره حوله، ويبتعدون منه للحد الذي تنعدم فرصته في الوصول إليهم، رغب بهذا أم لم يرغب، ترفَّع عنه، أم قدم له ما أمكنه من تنازلات، حتى راح هذا الانتصار يبدو كأنه القمة التي ليس بعدها إلا الانحدار منها، وبقدر ما يكون الصعود سريعًا بقدر ما يكون الهبوط سريعًا، وربما، بمساعدة جاذبية الماضي، جاذبية الموت، أسرع.

نقد الألم.. الذي هو الشعر

اليوم ما عادت قصيدة النثر تمردًا أو ثورة أو مواجهة مع السائد وخروجًا على التقاليد، نعم فقدت قصيدة النثر هذا التميز، هذا الشرف، صار هناك أناس يكتبونها دون أن يفكروا بالخروج عن شيء، صارت قصيدة النثر، مثل ما كانت عليه قصيدة العمود وقصيدة التفعيلة، تكتب اتباعًا وتقليدًا، صارت بدورها سائدًا أدبيًّا. والمشكلة هنا تكمن في أنها صارت تقليدًا ليس له تقاليد، وسائدًا ليس له في الأصل مكانة! منقبات يكتبن قصيدة النثر، هذا ما قرأته في مقالة عن ملتقى الشعر العربي الثاني الذي أقامته وزارة الثقافة اليمنية في صنعاء، بحضور أكثر من 300 شاعر شاب عربي. حيث أهدى وزير الثقافة اليمني، الملتقى إلى روح الشاعر الكبير محمد الماغوط، محققًا بذلك، كما أعلن، ما طمحت إليه اللجنة المنظمة من هذا المهرجان، وهو: «الاحتفاء بالقصيدة العربية الجديدة، قصيدة النثر تحديدًا». والغريب أن ما نافس قصيدة النثر في هذا الملتقى هو القصيدة العمودية والمدائح النبوية والبيانات الرسمية!! وهكذا وسط هذا الهرج الشديد، أشعر أنه صار محتّمًا علينا جميعًا، وعليَّ بالتحديد، أن أعيد التفكير بما سبق وأطلقته من أحكام، كما حين قلت: إن أفضل المواهب الشعرية الجديدة تختار لنفسها كتابة قصيدة النثر، فالأصح الآن، أنه ليس أفضل المواهب فقط تختار قصيدة النثر، بل أيضًا أكثر هذه المواهب تواضعًا وشحوبًا باتت تكتب قصيدة النثر، حيث يصح أن الكم التراكمي ذا الآلية المعطلة ذاك، هو من عمل أولئك الذين يكتبونها لظنهم أن تحررها من الضوابط والقيود لا غاية له إلا سهولة كتابتها. وهذا، ربما أحد أقرب التفاسير لرأي الكثيرين في غلبة الرداءة على المشهد الشعري العربي الراهن.

ولكن هل هذا يعني أن الشعر العربي، في مسيرته الشكلية، إذا سمحنا لأنفسنا في تقسيمها إلى الأربع مراحل التالية: من البحور الكاملة والقافية الموحدة، إلى البحور المنقوصة والقافية المتنوعة، إلى البحور الخافتة الإيقاع وعدم الحرص على القافية، قد وصل بسياق طبيعي، إلى محطته الأخيرة وهي قصيدة النثر، غير الموقعة وغير المقفاة. أحسب أن أي جواب على هذا السؤال، يحتاج إلى أن يأخذ في حسبانه عدة تهيؤات إشكالية، يمكن أن تصل إلى مرتبة الحقائق المؤكدة في ميدان الأدب:

أولًا- لم يصل أي نشاط إنساني، علمي أو فلسفي أو فني، إلى ما يمكن تسميته المحطة الأخيرة. وأحسب أن القبول بتلك الفرضية اليوم، هو مجاراة شكلية للأحكام التي درجت مؤخرًا، بنهاية الفلسفة، أو نهاية التاريخ، أو حتى نهاية العالم. الأمر الذي من الصعب على البشر الحياة على أساسه، والقبول به كحتمية.

ثانيًا- هناك قاعدة معروفة في الفن، وهي عودة القوالب المحددة، ولو بأشكال مختلفة، بعد كل مرة تُحطَّم ويُطاح بها. أي أنه بعد كل تحرر تأتي قوانين جديدة ضابطة للعملية الفنية. فكما أن هناك ميلًا غريزيًّا عند البشر للحرية والانفلات هناك حاجة بشرية مُلِحَّة للانضباط والواجب.

ثالثًا- بغض النظر عما إذا كان يجب أن نهلل، نحن شعراء قصيدة النثر، لكونها المحطة الأخيرة للشعر العربي، الآن أم لاحقًا، بحيث يصدق وعدنا بأنها تمثل مستقبل هذا الشعر، فإن قصيدة النثر اليوم ما عادت قصيدة واحدة، وما عادت نثريتها جنسًا شعريًّا بحد ذاتها. فقد تباينت وتفرقت لأنواع عديدة من القصائد، كل منها له اتجاهات ومعايير فنية مختلفة، فمن القصيدة اليومية ذات اللغة المباشرة وغير المنمقة إلى القصيدة الذهنية ذات اللغة المجردة، ومن القصيدة الحسية المادية إلى القصيدة التأملية والفلسفية، ومن القصيدة السردية التي تروي وتصف، إلى القصيدة المكثرة من البديع والمحسنات، ومن قصيدة ذات وحدة موضوعية إلى قصيدة تبدو كأنها بلا موضوع…

رابعًا- لا يدل النتاج الشعري الجديد، على بذل الجهد اللازم في حقل كتابة الشعر اليوم. وكأن قصيدة النثر، كأختها قصيدة التفعيلة، وبفترة زمنية تعادلها قصرًا، قد اقتربت من، إن لم أقل وصلت، إلى مرحلة استنفاد أدواتها وأساليبها. بعد أن عُممت هذه الأدوات والأساليب، لتنتج قصيدة غير شخصية على الإطلاق، ذات مواصفات موحدة ومعروفة؛ مما أفقدها ذلك التنوع المثير الذي كانت قصيدة النثر، في تحررها من التقاليد المنهكة في الشعر، تعد به. و بات من غير المتوقع، إلا بدائرة الاستثناءات، أن يحظى المرء بتجربة ذات خصوصية لافتة، في نتاج الأجيال الجديدة لهذه القصيدة. أما الأسماء المكرسة، من الجيل الثاني والثالث فقد بدأت بنشر أعمالها الشعرية الكاملة، كإيذان بقرب إكمالها لدورتها الإبداعية. فلا تجارب جديدة تطرأ في مختبر قصيدة النثر، وتلك السردية التي هي الآن السمة الأشد حضورًا في قصيدة النثر اليوم، وكثيرًا ما عُدَّت المطب الأخطر لقصيدة النثر، ما هي إلا عودة إلى أصول قصيدة النثر الأولى، ومن السهولة بمكان أن يجدها المرء في النتاج الشعري الباكر للرواد. وكأن بعضًا قد تنبه الآن فقط، إلى أن اختيار النثر لكتابة الشعر، كان منذ البداية اختيارًا لخصائص النثر المعروفة والمتفق عليها بين الجميع، كالسرد والوصف والحوار، وإن غاية التحرر من الوزن والقافية وأنواع البيان والبديع كانت ولا تزال لإحكام اللغة وللسدادة في انتقاء الكلمات والدقة في تأدية المعنى.

الخروج من المدار المغلق

بعد كل هذا يبقى التساؤل الأخير.. ما العمل؟ هل يمكن مواجهة حالة انحسار، انكفاء، تراجع، الشعر، بالطلب من الشعراء إجراء تسويات بينهم وبين الناس الذين يكتبون الشعر لأجلهم، أو بتعبير أكثر مباشرة، الناس الذين يطالبونهم بتصديقهم، وبشراء كتبهم، وقراءة قصائدهم. أقصد، إجراء ما ينبغي من تغييرات في كتاباتهم، كل منهم حسب ما يلائمه، وحسب ما يجده صوابًا، أقصد حلولًا، تساعد على زيادة تقبل الناس للشعر عمومًا، وللشعر الحديث خصوصًا، ولقصيدة النثر بالذات؟! والسؤال: كم من الشعراء سيرضى بذلك؟! كم منهم من سينظر إلى طلب كهذا بوصفه حلًّا مقبولًا وليس تنازلًا وإقرارًا بالهزيمة؟! ومن جهة أخرى، هل يساعد على انتشار الشعر وعودته لاحتلال مكانته عندنا، القيام بالمبادرات المتنوعة لتعريف الجمهور الأوسع من الناس، على ماهية الشعر، وأهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه في حياتنا؟ كتقديم قراءات شعرية خارج القاعات والمنابر التقليدية، مثل الحدائق والمقاهي، وبطرق مبتكرة تجنب الجمهور الضجر الذي ينتابه من طريقة القراءة المعروفة. الاحتفاء بالشعراء وإطلاع الناس على نتاجهم وسِيَرهم الحياتية بطرق غير نخبوية، التأكيد على حضور الشعر الجديد في المناهج المدرسية منذ المراحل الأولى، زيادة الحضور الشعري في وسائل الإعلام المرئية خاصة، تشجيع نشر كتب الشعر وتوزيعها واقتنائها… ولكن السؤال هذه المرة: كم يجدي ذلك كله في سياق ثقافي واجتماعي يمضي دون أن يلوي على شيء، في الاتجاه المعاكس؟

* لا أظنه يخفى على أحد من المهتمين بهذا الموضوع، أن جميع العناوين الداخلية مقتبسة من عناوين مجموعات شعرية معروفة:

1- «الفرح ليس مهنتي» محمد ماغوط (1970م).

2- «مفرد بصيغة الجمع» أدونيس (1977م).

3- «ماضي الأيام الآتية» أنسي الحاج (1965)م.

4- «ماء إلى حصان العائلة» شوقي أبي شقرا (1962م) الفائز بجائزة مجلة شعر.

5- «نقد الألم» عباس بيضون (1974م).

6- «المدار المغلق» جبرا إبراهيم جبرا (1964م).

معراج نون النسوة  في«الغزلية الكبرى»  لسليم بركات

معراج نون النسوة في«الغزلية الكبرى» لسليم بركات

الغزليةُ الكبرى: عنوانٌ يُفاقمُ مسألة الزمن حضورًا في مواجهة نَفْسهِ ماضيًا، عنوانٌ يبدو ظاهريًّا من الجاهليةِ لكن متّحدًا بغزلٍ أكبر آنًا حاضرًا، هذه ليست إلا وشاية يشي بها سليم بركات نَفسهُ عن كتابهِ هو. لكن ما أن يتم الغوص في بحر ومتن هذه الغزلية، حينها، نُدركُ أيّ فخًّ نصبه سليم لقارئ كتابهِ، حيث الغزلية ليست كما المتداولِ بالغزل المفتون بقامةِ وانسياب الحبيبةِ الأنثى وغُنجها، إنما هنا غزليةُ سليم: سيرةٌ كاملة للأنثى، سيرةٌ لهنَّ في مشاغلِهنَّ ومجالسهنَّ وكلامهنَّ وظرفِهنَّ وأحوالِهنَّ وقيودِهنَّ وقدرهنَّ وزرعِهنَّ وحصادِهنَّ وسيرتهنَّ أمهاتٍ وأخواتٍ وزوجاتٍ وسيداتٍ حاملاتٍ، حضرياتٍ وقروياتٍ، سيرةُ شَغَفِهنَّ وكُرههنَّ وحبِّهنَّ وحرمانِهنَّ وامتلاكهنَّ، وثرثرتهنَّ، وبكائهنَّ، وكلّ الأزمنة التي تدورُ وفق ساعاتِهنَّ أو حتى دونَهُنَّ، هُنَّ وجودُ غيرهنَّ، هُنَّ كلُّ الكلماتِ بمضمونها مختومةً بنون النسوة التي لهُنَّ.

الأنثى بكلِّ تفصيلات كينونتها، بكلِّ الغموضِ فيها، والمجهولِ في تقلبات روحِها، يعجنُ سليم بماء الكلمات، طحين روحها في صحن جسدها، رغيفًا من تنورِ كلمةِ «أُحبُّهُنَّ»: «أُحبُّهُنَّ، هُنَّ تخمينٌ»، ص22.

على الرغمِ من ضآلةِ القوةِ في هيكلهنَّ إذ: «إنهنَّ رضوضٌ/ في/ الهواء،/ وكسورٌ/ في/ الرملِ، بل دُعاءٌ بقشرهِ قشر الكوسا». ص116، إلا أنَّ سليماً يُعيدُ منبتَ الذهولِ في الوجود إليهنَّ: «لقد بذلنَ الوجود بفائضٍ من ثناء الذهولِ» ص9. ويربطُ بين المآزِقِ ومخارجها، وبين الشرِّ المنثورِ في الوجودِ والخير المتمددِ ظلًّا لهُ، وبينهُنَّ كحبلٍ سرِّيٍّ يربطهُنَّ بكلِّ بداية مأزق وشرِّهِ ونهايةِ كلّ مَخرجٍ وخيرهِ، إنهُنَّ صخبُ الوجودِ وعُنفُ المُعضل: «أُحبُّهُنَّ لا يُصالحنَ إذ تنفجِرُ المآزِقُ الخالداتُ بأقاويلها عن حدودٍ للناريِّ» ص94. وكلُّ الكلام الدائرِ في المآزقِ من خيره وشرّهِ يتمُّ على بوابات البيوتِ كطُرقٍ إلى المتعة برضا قلبهنَّ المتأهبِ دومًا للانقلاب: «باستئذانٍ، أو من دونهِ يُكلِّفنَ أنفُسهُنَّ نقلَ الشرِّ إلى أرق الخير جلوسًا قُرب البواباتِ». ص47.

سليم بركات

سليم بركات

لا يقينيات تتملكهُنَّ أو يملكنها، الكلُّ والشيءُ في بحرِ الشكِّ مُستدرج حسب عضلةِ قلبهنَّ الراقصة، لا تخومَ تحدُّ لحظتهنَّ، ولا زمن يستدرجهُنَّ إلى صعودهِ بل يُنزلنهُ إليهنَّ، هُنَّ دائمًا قبل الزمن الحقيقي بكثير: «أُحبُّهُنَّ هُنَّ/ المألوف/ العازمُ/ على /إنكارِ/ كلّ/ يقين» ص66-67. «أُحبُّهُنَّ يتصنعن البكمَ إن خاطبن الأعمارَ، ويتصنعن الصمَّ إن أنشدتهنَّ الأعمدةُ ما رفعت القرونُ/ عليها/ من/ وساوس/ الهياكل». ص61. «عاشقاتٌ هُنّ، بقلوبٍ / أو / من / دونها». ص5.

أيًّا كانت نوع الأقفال الموصدةِ لقلوبهم، وإن لم تكن أقفالًا في الطليق من المكان والظرف، تبقى قلوبهُنَّ مداخنَ للبوح بوجعِهنَّ، يبقيهنَّ عاشقاتٍ أو تصبحنَ عاشقاتٍ أو تعودنَ عاشقاتٍ: «تعوّدنَ السكنى في المنازلِ بلا أبوابٍ/ بلا نوافذ/ بلا جدرانٍ/ لكن لمداخنها حمل البوح/ الذي/ تعرفُ/ كلُّ/ عاشقةٍ أنّهُ/ بوحُ/ قلبها المدخنة». ص48. لا إيمان يُجزى ولا إيمان خوفٍ يُربكُ حِسابات قناعاتهنَّ وتدرُّج ظنونهنَّ، إنهنَّ البراهينُ والظنونُ حين تتآلفُ في القبضِ على المُعضلةِ أو في خلقها لتكنَّ ظلال الأثر في وجودهنَّ: «البراهينُ أضرَّت بأنفُسها في عِناقِهنَّ، والظنونُ، اشتكت الظنونَ»، ص101.

لا يسعينَ إلى آخرِ الشيء أو الحدث لربحٍ أو خسارة، هُنَّ أخطأنَ حين جعلنَ من أنفُسهنَّ مصبًّا لشبقِ اللّذةِ وتركنَ حبل قدُّومها بيد الرجلِ، أخطأنَ خطأ العمر في بقائهنَّ تَحتَهُ، تتلقينَ ضربات الغضبِ والتعبِ بأنفاسِ لذةٍ، هُنَّ الرحمُ في ولادتِها:

“لم يُجازِفنَ بشيءٍ قبلًا، إلا حين أنَّثنَ اللذاذةَ، وذكَّرنَ مشيئتها». ص24.

هُنَّ، تتبرجنَ، لا لتغدونَ جميلاتٍ فقط، بل لإساءة وتعنيف الموت، بتبرج أمام مرآةٍ تنكرُ الموت، في بقاء الخلودِ لحظةَ التبَرُّجِ، بدءًا من أظافرهنَّ طلاءً إلى خيوط شعرهنَّ صبغًا: «بالغن في الإساءة إلى الموت بإنصافهِ مَدحًا أقلقَ الموتَ:

شبهنَهُ بأقدامهنَّ في الخفافِ، بأنفاسِهنَّ في العِناق، بخزائنِهنَّ مفتوحةً، بالبخارِ صباحًا من ماء استحمامهنَّ الدافئ، بخفقِ مناماتهنَّ الواسعةِ قبل أن يندسسنَ في الفُرشِ، بربط شعورِهُنَّ أضاميمَ قبل النوم، بالنظرةِ مُختَلسةً إلى المرآة عن بعدٍ، بمراهم الماء الملينة على جلود أيديهنَّ، بالجلوس مُمداتٍ أرجلَهُنَّ على مساند عالية». ص69-70

ما يَقُلنهُ هو الصواب، لا يُصدِّقْنَ إلا أنفُسهنَّ، وكلُّ الأحوال بجمادها وناسها، حياةً، وقتًا، خيرًا، مآزق، خيرًا، شرًّا، جثثٌ مُلقاةٌ على قارعةِ رعشة قهقهتهنَّ: «الوقتُ مُنطرحٌ/ أرضًا/ على/ مرمى/ قبلةٍ/ من أسرَّتهنَّ/ والسماءُ منطرحةٌ أرضًا/ والحياةُ منطرحةٌ أرضًا، والغدُ منطرحٌ على أرض البارحةِ، أرضهُنَّ الأساطيرُ الجواري بقياثر في أيديهنّ يُطربنَ الأهوالَ، غرقًا، ويُشجينَ الملاحمَ». ص135-136.

هي هكذا غزليةُ سليم بركات، ليست ولهًا بالمحبوب وانغماسًا فيهِ، إنما هي الأنثى بكلِّ الحالات التي توجدُ فيها، مع الدجاج، وعلى الأرصفةِ أمام البوابات وهُنَّ يُقشرنَ البزر، سبقهُنَّ الديكُ فقط في الصباح، غزليةٌ عن وفي الأنثى، الشجرةِ، متمايلةً تهزُّها الريحُ حين الإدلاء بأيِّ شيءٍ حين المُعضِلِ.

«خنجر» رياض الصالح الحسين

«خنجر» رياض الصالح الحسين

«ثلاث نقاط

ثلاثة أحرف لا تلفظ

ثلاثة أصوات صامتة

ثلاث نظرات عمياء

ثلاث عيون على صفّ واحد في جمجمة

ثلاث شهقات

ثلاث لطمات رأس بلا رنين على حافة معدنية لسرير في مشفى عام

ثلاث خطوات باتجاه شفير هاوية

ثلاث درجات إلى مقصلة أو مشنقة أو غرفة تحقيق أو أيّ نوع من منصات الموت المحلية

ثلاث طلقات مسدس كاتم للصوت

ثلاث نقاط

. . .

ثلاث قطرات دم متخثرة».

bag-riiid«ما رأيك لو تنام عندي هذه الليلة؟» سألني. «لا مكان آخر لدي» أجبت. مغارة البدوي بندر عبدالحميد، حيث قضينا السهرة، باتت مدخنة. ورغم أن الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل، فقد ذهبنا سيرًا على الأقدام، أقدام الروح ربما، يا للشاعرية! لأن أيًّا منّا لم يبال بالمسافة البعيدة التي تفصل بين مغارة بندر والوكر الذي آل إلى (رياض)، في حي الديوانية، بعد انتقال فواز الساجر منه – بدوره شدّ الرحال باكرًا – من يصدق أنني أعيد الآن كتابة ما كتبته منذ /35/ عامًا! في ذلك الحيّ الترابي الذي سكنت فيه يومًا عائشة أرناؤوط وصخر فرزات – هو الآخر مات – الحيّ الذي كثيرًا ما استحال عليَّ تذكر اسمه، ولا موقعه، ولا كيف مضينا إليه. كنت سعيدًا، وكان سعيدًا، لا أعرف (رياض الصالح الحسين)، وأرجو ألا يخيب هذا ظن بعضكم، إلا سعيدًا! طوال الطريق كان ينطّ أمامي وخلفي وعلى جانبيّ، وهو يردّد ضاحكًا: «إنها حياة جميلة.. إنها حياة حلوة.. إنها حياة لذيذة»، بصوته الذي لم أستطع وصفه من قبل، أمّا الآن، وقد توضّح كل شيء، فإنه صوت رجل عاش سنواته كلها يلفظ، أو ربما، يلتقط، أنفاسه الأخيرة.

(رياض الصالح الحسين) -10/4/1954-20/11/1982- رغم طيبته وطيشه، كان يعلم، كان يعلم في أعماقه، أنه سريعًا سريعًا ما سيكون واحدًا من أولئك الذين يكرههم، ولا يكره شيئًا في العالم أكثر من أن يكون واحدًا منهم.. الموتى. الموتى الذين لا ذنب لهم سوى أنهم ماتوا! غصبًا عنهم ماتوا. وأنهم، لا أحد يدري غايتهم، كانوا ينتظرونه! وما كان لرياض أن يغفر لهم شيئًا كهذا، هو الذي يكاد لا يعترف بخطيئة، كان يؤمن أن الموت هو الخطيئة الوحيدة للبشر. كان (رياض)، ليس كأيّ واحد منّا، بل أكثر بما لا يقارن، يكره الموت ويخافه، يخاف الموت ويكرهه، إلى الحد الذي يجعله يستيقظ باكرًا كل يوم ليحاربه، ليحاربه كل اليوم، كل نفس، كل خطوة، كل حب، كل قبلة، كل قصيدة، كل كلمة. يحارب كل أنواع الموت كل أنواع الحرب، رابحًا دائمًا كل أنواع الخيبة، كل أنواع الهزيمة. مرات ألقى بأسلحته، أقلام وأوراق، تحت أقدامه، ومرات ألقى بجسده، شاحبًا وباردًا، على مائدة عشائه، ومرات، مرات لا حصر لها، أطلق ساقيه للريح بغية الهرب، ولا أيّ مجد آخر… إلى أين؟!

جدران الموت

الموت بالنسبة لرياض، ليس مزاجًا أسود، لم يكن هواء أو دخانًا يملأ الفضاء، بل جدران تحيطه وتضيق عليه حتى تكاد تطبق على صدره، وتكتم على أنفاسه، جدران كان عالم الآخرين برمته يقبع خلفها، وكان على رياض أن يخترقها كي يسمعه ويراه، أن يخترقها كي يحيا هذا العالم. ولكن كيف بمقدوره أن يفعل؟ ماذا بمقدوره أن يفعل؟ ماذا لديه؟ قصائد، قصائد ولا شيء آخر، القصائد كانت كل سهامه ورماحه، وكانت دائمًا ترتد عليه منكسرة، محطمة، ميتة. أو فيما يرى النائم، تتحول القصائد إلى عصافير صغيرة، طائرات من الورق، تطير محلقة فوق هذه الجدران الثخينة العالية. إلا أن (رياض) لم يكن أحمق كفاية ليصدق أن قصائده تستطيع أن تطير به فوق جدران الموت. ليته كان يصدّق، ليته صدّق، وهو يعلم أن الموت لن تثنيه أيّ معاهدة، أيّ صفقة، عن مباغتته، وغدره.

حتى الصداقة التي لم يجد مفرًّا من عقدها معه، وكان يفترض بها أن تساعده على تهيئة نفسه لعناقه، عناق الموت الأبدي، عناق الموت الأبدي، لم تجده نفعًا حتى في تأجيل موعد الحكم. ومقابل كل هذا كان (رياض) يتلهى ويسلو بالحب والأصدقاء والشعر والقضايا المصيرية، والقضايا التافهة، وغير ذلك من حبال، هي على ثخانتها، مهترئة وواهية، كان يتعلق بها ويتأرجح كطفلة صغيرة ذات ضفيرتين، وتحته الموت بعينه الوحيدة، بأظافره وأنيابه، الموت بخوائه، الموت بموته، يفغر شدقه المظلم الكبير، منتظرًا أن يسقط، بلحمه وشحمه وعظامه، فيه.

لم ينتظر طويلًا، تعرفون هذا، لأن (رياض) ببراءته وحماسته لم يطق انتظار ما سوف يأتي حتمًا، فألقى بنفسه قبل أن تنقطع تلك الخيوط. أقول، قبل أن تنقطع تلك الخيوط، لأننا، نحن، ما زلنا نتدلى منها، وربما لأن الموت كان هذه المرة متسرعًا قليلًا، أكثر قليلًا مما يجب، فأرسل لسانه الأسود الطويل ولفّه فوق قلبه، وسحبه.

وعل في غابة

لا أذكر أيّ طريق سلكنا، ولا في أيّ حيّ كانت تقع، لكنني أذكر الغرفة، صعدنا إليها بواسطة درج خشبي مكشوف يصل إلى بابها مباشرة، حيث يوجد مغسلة خارجية على يمين الباب، دعكت فيها جاربيَّ الرماديين، قبل أن أنام، ونسيتهما معلقين على عنق الصنبور. (رياض) من ذكرني يومًا بهذا. أما في داخل الغرفة، فقد كان السرير أول ما تنتبه له، نتيجة ارتفاعه الغريب بسبب الفراشين والعديد من الأغطية المكدسة فوقه، والنافذة التي ما إن فتح ردفتيها حتى اندلقت منها ملايين النجوم، وعلى الجدار، كما يذكر في القصيدة ذاتها: «صورة لغيفارا ولوحة سوداء لمنذر مصري». لا أذكر بماذا كنا نهذر، حين بدأ (رياض) يخربش بجدية على الدفتر مسودة قصيدة. كتب بسرعة، بشغف، القصيدة الأحب لي في مجموعته الأخيرة، التي لم يقع نظره عليها، لأنها طبعت بعد رحيله: «وعل في غابة»، التي حفظتها عن ظهر القلب، من وقتها، وهي ما زالت مسودة، وها أنذا أكتبها الآن من الذاكرة:

%d8%b1%d9%8a%d8%a7%d8%b6-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d8%a7%d9%84%d8%ad-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b3%d9%8a%d9%86«الرجل مات

الخنجر في قلبه

والابتسامة على شفتيه.

الرجل يتنزه في قبره

ينظر إلى الأعلى

ينظر إلى الأسفل

ينظر حوله

لا شيء سوى التراب

وقبضة الخنجر في صدره

يبتسم الرجل الميت

ويربت على قبضة الخنجر

صديقه الوحيد

الذكرى العزيزة من الذين

في الأعلى..»

هذه القصيدة، مع ما يليها من «قصائد الموتى» وأخصّ «فنان»، وقصائد أخرى متفرقة في المجموعة، مثل «أرجوك»، و«المكتب»، ربما أكثر قصائد «رياض» قربًا مني، لكن «الخنجر» وحدها بقيت مغروزة في صدغي، طوال كل هذه السنين. إنها إحدى تلك التي ما أن تقرأها حتى تجد أنك تحيا بها، فيها، إلى أن يأتي شيء ما، أحد ما، ويقتلك. وخلافًا لما كان «رياض» دائمًا يدعيه ويصرّ عليه في الشعر، وكنت لا أوافقه عليه، بأنه تسجيل وأرشفة لأحداث يومية ومشاعر عابرة في الحياة المعيشة، فالقصيدة تهبش من ثمار شجرة الموت الآبدة.

الجيل الشعري الركيك

كلا.. ليس بسبب ذكرياتي الخاصة عنها، «الخنجر» واحدة من أفضل وأجمل القصائد التي استطاع جيلنا الشعري الركيك والضائع أن يقدمها. لماذا إذن؟ إذا قلت، طرافتها هي السبب، أعود وأقول: إن الطرافة معهودة في شعر «رياض»، لا بل كثيرًا ما كانت برأيي، زائدة، وتسيء إليه. وإذا استدركت وقلت: إنها هذه المرة طرافة سوداء، إنها هذه المرة لعب مع الموت، فهذا أيضًا ليس غريبًا عنه، إذن ماذا؟ أهي تلك الابتسامة العجيبة، ابتسامة في القبر، التي يفترّ عنها ثغر الرجل الميت، وهو يربت على قبضة الخنجر المغمد في صدره؟ كيف له أن يبتسم؟ كيف له أن ينقل يده في التراب ويرفعها ويخفضها وهو يربت بها. أو ربما هو ذلك الشعور الأشد مدعاة للعجب، الذي يعتريه، فيدعو الخنجر صديقه الوحيد، الذكرى العزيزة من الذين في الأعلى!

السؤال: من هؤلاء الذين في الأعلى؟ أ ليسوا هم نفسهم.. قاتليه!؟ أو على الأقل، أليس قاتلوه من بينهم!؟ أليس صاحب هذا الخنجر، صاحب اليد التي طعنته بهذا الخنجر، واحدًا منهم؟! أوليس منهم من حفر له هذه الحفرة وألقى فيها بجثته، وهي ما زالت دافئة، ثم طمره بالتراب دون أن ينزع الخنجر من قلبه؟! ألا يبالي بكل هذا!؟ ألا يفكر فيه؟! ألا يمر بخاطره!؟  أإلى هذا الحد وصلت به البراءة، والغفلة؟ أإلى هذا الحد وصلت به الرقة وما يعرف عنه من لطف؟

أمّا الآن.. وبعد كل هذه الأسئلة، كل هذه التلمّسات العمياء، ينفتح لي الجوهر الغامض، اللبّ الغريب، الذي أحببتها لأجله، فأقول، بكل هذه الفوضى، وبكل هذا الانفعال، شيئًا بالكاد أستطيع أن أعبر عنه بالكلمات، لأنه، وقبل أن أقوله، أشعر باضطرابه، وتناقضه، لكني على رغم ذلك سأقوله: نعم.. إنه لا يبالي ولا يفكر أدنى تفكير به، فقد نسيه أو تناساه لا فرق، مات.. وهذا كل شيء، والميت لا يبالي ولا يهتم. لكني أسرع وأقول ما كنت أودّ لو كان باستطاعتي قوله بذات الوقت: لا.. إنه يبالي به فقط، ولا يهمه سواه، إنه يتذكّره ويصر على تذكّره وحده. أليس عجيبًا هذا الكلام؟ كيف لا يبالي به ثم أقول لا يبالي إلا به؟! ألم أقل: إنه كلام مضطرب متناقض.

لكن أليس الخنجر من صاحبه وانتقل معه من الحياة إلى الموت؟ من النجوم والأشجار والبشر والقصائد، مرورًا بذلك النفق الطويل الملتوي والمعتم، كقطار أعمى، كدودة زاحفة، حيث لا شيء سوى الصمت والعزلة والتراب؟! أليس الخنجر الصديق الذي لم يكتف بقتله والسير بجنازته والاندفاع في حمل نعشه، كما يفعل الأصدقاء المقربون عادة، بل غاص معه إلى القبر، فكيف ينظر ببرودة إلى وجوده، إلى مشاركته مصيره.. إنه كل ما تبقى لديه من أدلة محسوسة على كونه حيًّا ذات يوم، إنه كل ذكرياته مكثفة، إنه مفتاح كل ذكرياته، إنه أكثر من ذكرى، إنه شيء يمكنه لمسه من الذين في الأعلى، أولئك الأحباء الذين لا يحب شيئًا في العالم أكثر من أن يكون واحدًا منهم؛ لأنه يريد أن يكون حيًّا، هذا كل ما يريد، إنه «رياض» الميت يريد أن يقوم من القبر ويعود إلى الحياة. إذن كان صوابًا ما سبق وقلته، لقد ثبت صدقي على رغم ما كنت أشعر بعسفي ومبالغتي فيه، أثبته دون قصد مني.

في تلك الليلة التي لم تغمض فيها عيوننا سوى ساعتين أو ثلاث، حللنا بها ضيوفًا على الموت، كتبت بدوري قصيدة:
«هذهِ اللحظة

mag%d9%80ridوعندَ هذا الشهيق

إنَّها حياةٌ جميلة.

هذا المساء

وعندَ هذهِ الخطوة

إنَّها حياةٌ جميلة.

هذا الليل

ونحنُ نعبُرُ الجبّانةَ بخُطًا واجفة

نسمَعُ أنفاسَ الموتى

إنَّها حياةٌ جميلة..»

قتيل‭ ‬بطعنة‭ ‬خنجر

ها أنذا أردّد ما كان «رياض» بصوته الهشّ، بجسده الواهن، يقوله ويكتبه ويحياه. القصيدة التي أستطيع أن أدعي، توأم «الخنجر». ألم تولد من الرحم ذاته؟ الحياة؟ ومن الظهر ذاته، الموت، في الغرفة ذاتها، وعلى الطاولة ذاتها، وفي الليلة ذاتها؟ ولكن، إذا أردت الصدق، هي لا أكثر من الأخت الصغيرة، تقطف من ثمار الفروع الواطئة لذات الشجرة الآبدة، التي تهبش منها أختها: «تسمع أنفاس الموتى – إنها حياة جميلة»، فالرجل الميت في «الخنجر» واحد منهم لا ريب، ومثلهم يردد بصوت كالفحيح: «إنها حياة جميلة»، ويتململ محاولًا العودة للحياة. إلا أن «الخنجر» يغوص أعمق في الجرح. فالرجل ليس ميتًا فحسب، بل قتيل، قتيل بطعنة خنجر، وهو يسمي الخنجر صديقه، ويسمي قاتليه أعزاءه. إنه شعور ينبجس من قبر شاعر قتيل. يذكرني ذلك بالشاعر (غارسيا لوركا) فهي قصيدة تصلح أن يكون قد كتبها وهو في قبره المجهول. قد يقول أحدكم: «إلا أن هذا يجعل القتيل أقرب ما يكون إلى مسيح يغفر للآخرين كل شيء، حتى قتله؟! لكني حقًّا أرى أن لا علاقة لمفهوم الغفران المسيحي في هذه القصيدة، القتيل لا يفكر به، إنه لا يبكي، لا يندم، لا يشفق على نفسه، لا يفكر بالانتقام، لا يغفر، إنه يمد يده، يمسك بقبضة الخنجر، يريد أن يقف على قدميه ويعود حيًّا، هذا كل ما في الأمر. بينما قصيدتي لا أكثر من محاولة الرؤية بعين مقذوفة كحصاة إلى خلف تلك الجدران، لا أكثر من محاولة السماع بإذن تحت التراب. كتبتها وأنا أمسك الحياة هذه اللحظة، وأهصرها بساعدي هذا المساء، وأدخلها في صدري مع هذا الشهيق، الحياة الجميلة، الحياة اللذيذة، رغم كل شيء، رغم أيّ شيء، رغم المرور بخطا واجفة عبر الجبانة، رغم الحياة في الجبانة. ولكن أيّة جبّانة أسأل نفسي؟ أيّة جبّانة تلك التي أتكلم عنها؟ بينما لم يكن في الحقيقة ثمة شيء من هذا في الطريق الذي مضينا به ونحن نرقص ونضحك. ثم أسألكم أيّ موتى أولئك الذين كنا نسمع أنفاسهم، يرددون، إنها حياة جميلة؟

دمشق 1981- اللاذقية 2016