غرفة استقبال الضواري

غرفة استقبال الضواري

أجلس على طاولة إزاء كونتر الاستقبال في الفندق الذي أنزل فيه، أتأمل القادمين والذاهبين من كل الألوان والأجناس، من البلدان البعيدة والقريبة.. في هذا الفندق الذي يقع وسط غابة صغيرة تشكّل امتدادًا للغابة الكبيرة المتلاطمة الأشجار والحيوات والطيور الصادحة طوال الليل، بأصوات تتهادى إلى مسمعي بين العواء الجريح، والفرح الحالم في نومه.

قبالة غرفة الاستقبال الخشبيّة، المكان الذي يذكّر أو يختصر محطّات قطارات حديثة أو تلك القديمة التي يعلوها الدخان، والسُّخام… بالمطارات الكبيرة والصغيرة، أحدق في سحنات وجوه القادمين المتْعبَة من الرحلات الطويلة التي تشبه رحلتي من عُمان في الضلع الأقصى من شبه جزيرة العرب، إلى الشرق الآسيويّ الأقصى.. وبخاصة إذا كان المسافر قد تقدم به العمر والزمن، تكون ضريبة التغيير وشمّ الهواء في البلاد الأخرى المختلفة، مرهقة وباهضة، وستأخذ الرحلة وتبعاتها يومًا أو يومين حتى يبدأ المترحّلُ في التخلص من عناء السفر ومتاعبه الجمّة، وبخاصة في هذه البرهة المضطربة في تاريخ العالم بحواجزه البوليسية ودوائر مطاراته المتحفزة دومًا بالريبة والانقضاض.

أحدق في وجوه القادمين والذاهبين إلى ديارهم بطمأنينة من قضى فترة نقاهة واستجمام، وتفترسني وجوه ملايين البشر الذين يتوزّعون مخطوفين (بمعنى الألم وليس النشوة) في المتاهات البريّة والجويّة والبحريّة لأسباب مختلفة، في طليعتها الحروب التدميريّة الصاعقة.. وأستحضر رحلة البشر في التاريخ المتراكم والزمان، رحلة الكائن في مختلف عصوره وأمكنته، من المهد إلى اللحد. ملحمة الألم والعبث والأحلام المجهضَة في آخر المطاف أو أوَّله، وأنادي (هرمس) الإله حامي المسافرين والرعاة في أساطير الإغريق، أن يرفق إن كان مزاجه رائقًا لمثل هذا الرفق، بكائناته ورعاياه، لكني أستدرك على الفور أن هذا الإله الوثني الذي تقع في اختصاصه حماية المسافرين في ليل المسافة، هو نفسه المكلف بقيادة الأرواح إلى العالم السُّفلي. وهنا تكمن المفارقة المضيئة بالدلالة والمعنى في متون الرحلة الكبرى لهؤلاء المترحّلين والمسافرين عبر الأزمان، التي تتأرجح بين جنّة الحماية، وجحيم السفر إلى المجهول.

٭  ٭  ٭

في هذا المساء البحريّ

أحسبُ القوارب والسفنَ،

ضواري وجوارحَ ستنقضّ بعد قليلٍ

لافتراسِ المغيب..

٭  ٭  ٭

كلابٌ محتدمة بالنباحِ على

الشمسِ الغارقة في صُفرة المغيب

كأنما النباحُ شكلًا من أشكالِ

التبجيل والوداع..

٭  ٭  ٭

سلامًا على ظهوراتك الشبحيّة أيتها

الضواري، ترتسمُ على صفحة الأفق

المحيط متآخية مع البروق وانفجارات

الرعد، وأنتِ تلعبين الغمّيضة مع

أطفالك على تخوم الغاب..

سلامًا على النيازك تسّاقط

في أحضانكِ والحنين..

٭ ٭  ٭

أيتها العظاية الصغيرة، تتسلّلين من بين شجيرات الأكمة إلى طاولة الإفطار خفيفةً رشيقةً، بلسانك الصغير الذي لا يكاد يُرى، كومضِ برقٍ عابر بين سُحبٍ كثيفة. تحدّقين بي وحيدًا في هذا الصقع النائي، لكن رغم نأيه ووحشته أكثر ألفةً من أوطان البغضاء والحروب.

ساهمةً أيتها الصغيرة سادرةً.. بماذا تحدثين نفسك يا مؤنستي وأنتِ تقفين على مشارف الغابة المطيرة المأهولة بالوحشي والمجهول حيث تتنزّه الجوارح والتماسيح…؟ هل تحلمين بأن تكوني مثلها، مثل التماسيح سلالتك الكبرى والمثال الافتراسي الأكثر قِدمًا من الإنسان والحيوان حين كان الكون مفازةً شاسعةً وحرّة للزواحف والماموث. حين لم تظْهر بعد بذور النسل البشريّ كالقرَدَة وأشباهها (الأورانغوتان على الخصوص) وليس من نبوءةِ آلهةٍ بذلك المقْدم والظهور.. بماذا تهجسين يا تمساح صباحاتي الذي أنتظر إطلالته البهيّة بهاء الغابة والشجرة، على رغم حزن محيّاك، كل صباح..

٭  ٭  ٭

أقرأ لألبير كامو، عن مشقّة السفر، وبخاصة للفقير ماديًّا.. وعن قبح الاستقرار. وبأن الاستقرار ليس مخيفًا في حدّ ذاته لكن النوع القبيح منه.. ومن حق الإنسان أن يكون سعيدًا في حياة عابرة مفعَمة بالعبث واللاجدوى. لماذا كل هذا الألم؟ -يضيف كامو- ضمن أطروحته الأثيرة، بالانتحار بمسدس عيار… أو بالزواج… إلخ… أضيف أن إنجاب الأطفال يبطل مماثلة الزواج بمسدس الانتحار أو يعجّل به وفق حساسية الشخص، ونزوعاته ومحيطه..

أطفال البشر، هل يمكن التوقف عن التسلسل المنطقي للأفكار، واستدعاء أطفال التماسيح والضواري الأخرى، يلعبون بغريزة الوحشيّ مع الشُّهب المتناثرة في فضاء الخليقة بسعادةٍ وأنس؟