عبدالقادر عبداللي.. ترجمان الألسنة يغيب في روايته الأخيرة

عبدالقادر عبداللي.. ترجمان الألسنة يغيب في روايته الأخيرة

أورهان باموق

ناظم حكمت

لا يعرف أورهان باموق كيف سيتدبر أمره بعد الآن، فقد غاب الكاتب لا المترجم، ربما اختلط الأمر على الأديب التركي، ربما راوده السؤال: من فينا الكاتب ومن فينا المترجم، أنا أم عبدالقادر عبداللي؟ سؤال لا نبالغ إن كرّسناه في هذا التقرير، ملتفتين إلى إرث صاحب «اسمي أحمر» وقد دخلنا سوق النقاشين التركي، حاملين معنا لغو الألسن وعجمتها، فليس اللسان هنا شيئًا أمام براعة تقليبه وتقمص حركاته وأحرفه اللثوية، ليست الشفاه ولا مخارج الحروف ولا نبرات الكلام وتصاعده وهذيانه، بل هي الترجمة بكل أبعادها الثقافية والاجتماعية والسياسية التي نقلها المترجم السوري الراحل من التركية إلى العربية، ناقلًا معها أقصى خلجات أدبائها وأشد حالاتها المفارقة، متمثلة في ترجمة السخرية.

مهلًا.. وهل نستطيع ترجمة السخرية؟ أجل لقد فعلها عبدالقادر عبد اللي، الذي انطفأ مؤخرًا عن ستين عامًا قضى جُلَّها في الترجمة، لا تنطحًا ولا تطاولًا على أدب عزيز نيسين، بل من باب معرفته بالشيء، وغوصه العميق في الشيفرا الثقافية التركية التي كان خبرها عن قرب أثناء دراسته فنون المسرح والمشهد في «جامعة المعمار سنان» في إسطنبول. من هناك اقترب ابن مدينة إدلب (شمال غرب سوريا) من المعيش التركي، مقتحمًا أسواقه وجلسات مثقفيه وشوارعهم، مطلًّا على الثراء الحياتي للشعب التركي، وناهلًا من معين حِرَفهم وتقاليدهم وطرفهم اليومية، ليتبلور هذا الوعي لا باللغة وحسب، بل بالكلام كمادة تصوغ الفكر والمنطوق، وتوازن بين الفصيح والشعبي، بين المكتوب والمحكي.

هكذا فعلها (عبد اللي) هو الترجمان الصميم الذي ما فتئ يصيغ خيمياء اللغة على ميزان ذهب، مصدِّرًا أدب الأناضول إلى المكتبة العربية، كاشفًا الحجاب عن روايات وقصص (نيسين) ويشار كمال، وخلدون طانر، وإليف شافاق، وذلك بعد أن ترجم العديد من أشعار تلك البلاد، كان رأسها الأعمال الكاملة لناظم حكمت. تراجم حملت تلك التوازنات النصية المعقدة والمركبة بسلاسة ولين، وجرأة فنية لافتة في إيجاد حلول لغوية وتراكيب ماهرة، سبك (عبدالقادر) عبرها جواهر الأدب التركي، منافحًا عن روح ساخرة ومريرة في البنية النصية التي قدمها، مجاهِرًا مع كل ترجمة يخترعها باللغة عن معين فياض ودفق لا نهائي في إعادة تأليف هذه النصوص للقارئ العربي، لا خيانتها بل توضيبها من داخلها للنفاذ إلى ظرف زمان ومكان الأدب التركي، إن كان قصة أو رواية أو قصيدة.

صنعات أدبية وفنية

عزيز نيسين

إليف شافاق

هذه الحرفة التي أتقنها (عبد اللي) كما يعرف الجميع لم تكن الوحيدة في رصيده؛ بل جمع المترجم الراحل بين صنعات أدبية وفنية عديدة، فعمل بصمت على لوحته التشكيلية، مستنبطًا زيت وزيتون مسقط رأسه ليكون مرادفًا لأجواء أعماله التشكيلية التي نستطيع أن نرى تقاطعاتها مع عبقريته في الترجمة، وإدراكه الرهيف أن توزيع عناصر اللوحة وتوازنات بؤرها اللونية، وتوليف مناخاتها بين الرطوبة واليبوسة، لا يقل شأنًا عن مادته الأصلية في فن الترجمة الذي خبر دهاليزه، مستوحيًا ذلك من تمارينه اليومية في الكتابة للصحافة، مطوِّرًا بذلك نمطًا جديدًا من المترجمين دائمي السعي نحو رشاقة الجملة والتنويع عليها والخروج بها من سجنها اللغوي الأم -إن صح التعبير- إلى لغته العربية. لقد أبعد هذا الرجل مخاوف عديدة تكتنف الكثير من مترجمي العربية، متكئًا في ذلك على الأديب الذي في داخله، فلم يكن تقنيًّا ينقل حذافير العبارات ميكانيكيًّا، بل شدد على روح النص، مسترشدًا بسيمياء عالية الجودة، ليشتغل على طزاجة غير معهودة في تنميق تراجمه وتخفيف غلظتها عبر الاستعانة بعلوم الإشارة والدلالة، لكن بعفوية نادرة واطّلاع واسع على مرادفات الجمل والتراكيب، وصولًا إلى الوقت الذي أصبح فيه هذا المترجم الأديب (شيخ المترجمين) من التركية إلى العربية، محتلًّا المرتبة الأولى عند أدباء أتراك كبار، آثروا أن يكون (عبد اللي) سفيرهم المخلص إلى لغة الضاد.

قد لا نسوق مديحًا هنا إن قلنا: إن (عبدالقادر) كان بحق سفيرًا فوق العادة للأدب التركي في العالم العربي، ومرشدًا نزيهًا لرواياته، فالثقة التي حازها الراحل الكبير جعلت منه رجلًا بحجم مؤسسة، لا سيما مكانته التي انتزعها لدى الأكاديميين الأتراك في بحوثهم الجامعية التي تعمل اليوم على دراسة تجربة (عبد اللي) والتمحيص في مختبرها اللغوي الهائل، الذي استطاع تنقية هذا الكَدَر بين ثقافتين، لَطَالما كانتا على طرفي نقيض بفعل النزعات القومية والتاريخ الاستعماري الطويل منذ الاحتلال العثماني للبلاد العربية، فالجهود التي بذلها هذا الرجل الموهوب لم تتوقف على لغة المنقول عنه، بل دراية عميقة حصلها الراحل في لغته الأم، منصاعًا إلى جذور الأسماء والأفعال، ومهندسًا لكنايات واستعارات وتوريات حاذقة، أعاد عبدالقادر إحياءها في النص المترجم، خالصًا إلى اشتغالات عدة نقلته فيما بعد إلى ترجمة أعمال سينمائية ودرامية (أبرزها وادي الذئاب) إلى محطات البث العربية.

موسوعي يختفي

بهذا يكون عبدالقادر عبد اللي واحدًا من هؤلاء الموسوعيين الكبار الذين اختفوا في عصور التخصص، عصر ثقافة التخصص تلك التي كرّست الأميّة الثقافية، وجعلت من ثقافة العمق قفصًا للمعارف الجزئية، مطلقًا لم يكن هذا الكاتب والمترجم والفنان والصحفي لينضم إليها، غير قانع بمعارف التكنوقراط الجديدة، بل مثابرًا على الدوام على أبحاثه اللغوية العميقة، مطوِّرًا معارف اجتماعية من خلال معمله اللغوي والتشكيلي الذي أفل باكرًا ليغيب في قبرٍ بعيد من بلاده في مدينة أضنة التركية.

يبقى أن نقول ما وصل إليه عبد اللي كان غيضًا من فيض أنشطته السياسية، وعمله الدائب على تحقيق مطالب التحرر والكرامة والعدالة الاجتماعية، وتشهد لذلك مقالاته الجريئة ونزعته الدفينة ببلاد أكثر عدلًا ومساواة، فالمترجم الذي أمضى سحابة عمره خلف أوراقه ونصوصه، لم يكن يدعي أدوارًا لنفسه، بل كان عمله لافتًا في ترجمة نتاج العديد من الأدباء الأتراك، ومن المشارب السياسية كافة. من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مع ميله عقائديًّا لهذا الأخير، فلا تحزب لتيار محافظ وليبرالي أو شيوعي، ولا إهمال لأدب الهامش التركي، بل كان المتن لدى عبد اللي هو النص، بغض النظر عن اتجاهات كتّابه. النص بريئًا من كل هذه الإحالات والإنشاءات العقائدية، وهذا برأيي ما جعل منه مترجمًا مستقلًّا، ولعله يستحق بذلك مناصفة باموق على نوبل، ويفتح الباب عريضًا على حقوقه المهدورة لدى الأوساط التركية السياسية والثقافية التي لم تصنع ما يليق بوداع رجل من هذا الطراز الرفيع.

الطيب تيزيني: القاتل الذي أنتج داعش هو الغرب وتبعه الشرق (سامر إسماعيل)

الطيب تيزيني: القاتل الذي أنتج داعش هو الغرب وتبعه الشرق (سامر إسماعيل)

بين حمص ودمشق يعيش اليوم المفكر السوري الطيب تيزيني (1934م) منكبًّا على كتابة سيرته الذاتية، بمساعدة ابنته الباحثة الاجتماعية منار تيزيني، حيث تظهر الفتاة أنها سر أبيها، فهي من تواظب على تحرير السيرة، وعلى تنظيم مواعيد الدواء، وتشرف على مراسلات الأب مع مؤتمرات ولقاءات وندوات دولية لم ينقطع عنها صاحب كتاب «من يهوه إلى الله»؛ فالباحث والمفكر السوري الذي حمل لقب فيلسوف، وأصدر أول كتاب له باللغة الألمانية، يبدو عنيدًا أكثر من أي وقتٍ مضى في مناصرة المستضعفين، والعيش قريبًا من حكايات الناس وهواجسهم.

الطيب يخبر «الفيصل» عن مراجعاته النظرية الأخيرة، وعن إعادته النظر في كتبه التي أصدرها، ولماذا طرأ هذا على نظرته للإنسان والعالم. المفكر الذي اختير عام 1998م واحدًا من أهم مئة فيلسوف في العالم من المؤسسة الألمانية الفرنسية، يدعو اليوم إلى إعادة قراءة العالم في مواجهة ظاهرة الإرهاب الدولي، كاشفًا في هذا الحوار أنه على وشك تحويل بيته الكائن في حي دمشق الجديدة إلى مركز أبحاث اجتماعية. شجون كثيرة ونقاش قطعته مرات عديدة دموع الطيب كلما تذكر ما حلّ بوطنه، وما آلت إليه حال الناس في بلاده التي تدخل منتصف العام السادس من الحرب. إلى نص الحوار:

● عندما نتحدث عن الفكر العربي، ماذا نقصد بالفكر العربي وما سماته وما عدته الفكرية؟

Tizini-Book-1– هذا سؤال يطرح سؤالًا آخر: هل هناك فكرٌ ما صافٍ في مرجعيته إن كان فكرًا فرنسيًّا أو ألمانيًّا أو عربيًّا، لكن لا توجد حالة من هذه الحالات، فكل فكر مشوبٌ بما لا يستطيع المفكر نفسه أن يضع يده عليه، لكن البنية الأخيرة هي التي تشكل رصيدًا، والفكر العربي خاضع لهذه العملية، الفكر العربي مر بمراحل متداخلة كثيرة من بداياته، وخصوصًا في الجزيرة العربية التي كانت مأوى للتجار والقوافل، وهذا كان ذا أهمية كبرى؛ لأن هناك من يقول: إن الإسلام نشأ في بلاد الشام، خصوصًا أن الرسول الكريم كان يزور الشام كثيرًا، وأشاد بالشام وأهلها وبفكر الشام وأهلها. إذًا ليس هناك فكرٌ صافٍ بشكلٍ مطلق، حتى لو قمنا بعملية تفكيكٍ تحليلية قد لا نشهد النهايات لذلك. وعدم الصفاء أن اللحظة المعنية مشوبة بلحظات أخرى، فلست قادرًا على وضع اليد على شيء هو نسيج ذاته، وهو بلغة المنطق هو هو، ولكن بعد مروره بمراحل قد لا نستطيع الوصول إليها، إذ إنه طبقات تاريخية تجثم فوق عشرات الطبقات، وهنا يأتي منهج الحفريات، المنهج الحفري الذي أشدد عليه في عقود ماضية في الغرب كما في العالم العربي، لذلك أن نتحدث عن فكر عربي أو فلسفة عربية أمر وارد.

● لكن هل نستطيع أن نتكلم عن فيلسوف عربي، وهل يستطيع أصلًا فيلسوف عربي أن يبزغ ولا يتعرض اليوم لقمع أو تكفير من هذا الطرف أو ذاك؟

– هذه مسألة تاريخية لها منهجيتها، وتنتظر نضوج ظروفها الموضوعية، فكما أشرتُ لك من قبل الفكر العربي ليس صافيًا، مثله مثل أي فكر في بلد ما من العالم، حتى الفيلسوف الألماني نيتشه قال: «ما أصعب أن تكون وريثًا»، وبهذا المعنى جميعنا ورثة. فإذا أخذت ما كتبه مثلًا ابن رشد، أو الرازي، أو ابن سينا، أو فرح أنطون الحديث، هؤلاء فلاسفة سبقوهم، كما تأثر العظماء بآخرين، لا يوجد شيء صافٍ في ذاته، الذات هي بنية، ليس هو شيئًا منفردًا، هناك كتاب صدر مؤخرًا بعنوان «حياة إيزيدور»، وهذا كان فيلسوفًا نشأ في أعقاب التقدم التاريخي العربي الشرقي قبل ستة قرون، هذا الرجل كان منتهيًا في نظر المؤرخين، فاكتُشف مؤخرًا أنه كان شيئًا.

● هل نستطيع أن نحظى بأسماء تقدم نفسها كفلاسفة، وأين دور علماء الاجتماع العرب، أين دورهم في دراسة مجتمعاتهم كما فعل مثلًا عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو عندما وضع كتابه الضخم من ثلاثة أجزاء «بؤساء العالم»؟ لماذا اليوم علماء الاجتماع العرب يعيشون فقط في الجامعات، وفي قاعات الأكاديميات المغلقة مع طلابهم؟

– السبب يعود إلى الصيغة التاريخية التي قطعها الفكر العربي، أو الوجود العربي عمومًا، فحين ظهر العرب كأمة ليس كفعلٍ داخلي فحسب، إنما بفعلٍ خارجي، وهذا ما قام به الغرب، النهوض الغربي كان ذا حضور كبير. بمعنى آخر قبل الحديث عن الفلسفة العربية، يجب أن نتحدث عن الحضور الغربي في الشرق، هذا الحضور أسهم في تكوين تدخلٍ نسبي فكري بما سيتحقق لاحقًا على صعيد الفكر، إذا أخذنا حركة الاستشراق فهي نشأت مع محاولة الغرب لاقتحام الشرق، نابليون بونابرت عندما دخل مصر كان قد جلب معه مجموعة من المستشرقين والباحثين والعملاء، قدموا له مادة غنية حول الشرق، ففهم الأوربيون الشرق استشراقيًّا عبر مجموعات نابليون وسواها من أدب الرحالة الأوربيين، لذلك كان هذا التدخل الغربي في الشرق أكثر فاعلية مما كان موجودًا باسم التعارض بين الشرق والغرب أيام الإسلام، وقتها كان هناك حدٌّ ما من التوازي التاريخي بين الحضارات، ومنها الحضارة العربية. الآن الحضارات الحديثة طُوّقت، والغرب أمسك هذا الخط الأساس، ورُسِّمت الحدود بين ما يسمى شرقًا وما يسمى غربًا. الخط الاقتصادي والثقافي والسياسي، يعني أصبح استعمارًا، وليس حالة اقتصادية وحسب، بل حالة ثقافية، وكان الاستشراق هو حصيلة هذا الفعل، أي نتيجة من نتائجه.

الشرق الحقيقي

● ما رأيكم بما قدمه إدوارد سعيد في هذا المجال؟

– سعيد قد يكون الباحث الأول الذي قدم صورة قريبة مما صنعه الغرب، وفتح بذلك الباب على الشرق الحقيقي، طبعًا لم تكتمل عملية الفتح، فجاء باحثون ليكتشفوا ما هذا الذي أُطيح به على يد الاستشراق الغربي، وأساء إساءة بالغة للشرق، والآن الاستشراق لم يعد له دور أساس، إن المستشرقين صاروا ضعافًا أمام شرق صار يظهر بشكل أو بآخر بأوجه مختلفة، فمن لم ينشأ بصورة مباشرة من بنيته وعبر إدخالات أخرى، سيكون التشوه قائمًا بمعنى ما، التدخل هو الإساءة، والتقارب بين الحضارات هو بمثابة نمو للفكر العربي، والتشوه الذي أحدثك عنه أتى عبر أفعال تتقصد أن تملك الآخر عبر ملكية ما يفكر به، وهذا ما حدث عن طريق الاستشراق.

● حللتم التراث الإسلامي تحليلًا ماديًّا نحو ثورة على النمط والنظرة التقليدية للتراث، ووضعتم كتابكم المعروف «من التراث إلى الثورة» عام 1976م، برأيكم هل ما زال هذا العنوان قائمًا بعد جملة من المتغيرات الكبرى التي حدثت في العالم، ومنها انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وانكفاء اليسار العربي؟

Tizini-Book-2– قدمت هذا الكتاب ومعه كتب أخرى عن اليسار التاريخي، اليسار عندي هنا ليس فكرًا جاء من هنا أو هناك، إنما هو تعبير عن حدث أطاح بالنظر إلى العالم بوصفه نقطة واحدة، ولقد وضعت يدي على نقاط مغيبة أو غائبة، أبرزها أن هناك الوجه الآخر لما كُتب عن الرؤيا اليسارية. بالمناسبة كلمة يسار أتت تعبيرًا بسيطًا عن حالٍ جديدة في التاريخ الفرنسي أيام الثورة، حين اجتمع فريق سُمي باليسار لأنه وقف في اليسار، وآخرون وقفوا في اليمين، فهو تعبير دلالته بسيطة، لكن هذا التعبير أشار إلى حالةٍ جديدة. ليس من الضروري أن تكون متكاملة، فما عنيت ذلك ولم أعنِه، فاليسار حالة وفكرة في إطار تحول عميق قد يذهب إلى اليمين وإلى يمين اليمين. قبل أن يسقط الاتحاد السوفييتي هذا السقوط المدوّي والمؤسف الذي خيّب آمال ملايين الناس لأنه قام على أسسٍ لم تخدم العلم، فقد سقط الاتحاد السوفييتي من الداخل، وليس من الخارج، سقط عبر غياب الإنسان الذي تحدث عنه ماركس عندما قال: «الإنسان أولًا»، وسقط لأن الدولة البيروقراطية الأمنية – هذا الذي وضعت يدي عليه متأخرًا – أسقطت ذلك الكيان ذا البعد الواحد، القائد الواحد، الحزب الواحد مع غياب الديمقراطية البرلمانية، غياب القدرة على إمداد الحوار الذاتي مع الآخر الذي قد يكون مخالفًا، فحتى قبل ذلك كنت أقول: إنني أعيد النظر فيما كتبته، وحتى الآن. إعادة النظر ليس أمرًا يأتي بسبب تحول عالمي مثل سقوط الاتحاد السوفييتي، إنما قد يحدث بالنسبة للمفكر أو الكاتب الذي يكتشف أمرًا كتبه وفيه ثغرات لا تحصى، فكنت أصدر طبعات جديدة من كتبي وأشير إلى ذلك، فلقد أعدت النظر في كتاب «مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر»، هذا الكتاب أضفت إليه كثيرًا، والآن ما أكتبه دائمًا يضاف إليه أشياء أخرى، وهذا من طبائع الأمور، لكن الذي جاء في صيغة مدوية تمثلت في الاتحاد السوفييتي الذي قدم نفسه ليس فقط كحالة سياسية واقتصادية، بل أيضًا كفكر ينتج عالـمًا جديدًا، فحتى تفكيري اليوم بالوطن العربي تأثر تأثرًا كبيرًا بهذا الأمر.

● ما الذي تغير اليوم في نظرتكَ تحديدًا؟

– برأيي كل المسائل سابقًا أُخضعت لتغيير أو آخر، والإخضاع للتغيير لا يأتي دفعةً واحدة، بل يأتي في سياق الفعل، معروف أنني وضعت كتبًا أخرى جديدة وضح التغيير فيها على الصعيد الثقافي والسياسي والإنساني، إضافةً إلى الشعري العاطفي، ليست كتبًا شعرية، بل ما قصدته هو اللمحة والحالة الشعرية الدافئة في النظر إلى البشر، هذه النظرة تعمقت وخصوصًا بعد أن اكتشفت أمرين اثنين: الأمر الأول الذي حدث في إطار الثورة الفرنسية حينما كانت النساء اللواتي يذهبن إلى العمل يمتْنَ على أبواب المعامل بسبب الفقر والمرض والجوع، وهذا ما ظهر في رواية البؤساء، كتاب فيكتور هوغو العظيم الذي خلّد الثورة الفرنسية عبر نضال النسوة اللاتي كن ينتقلن من مدنهن وبلداتهن البائسة إلى أماكن العمل ليقضين هناك.

الأمر الثاني هو النساء في الاتحاد السوفييتي السابق، وهذا عرفته شخصيًّا من أصدقاء لي في ألمانيا وروسيا، حيث كان هناك تهجير للنساء إلى سيبيريا وسواها من منافي السوفييت. حدثان جعلاني أضع خطًّا حاسمًا لإعادة قراءة ما حدث فعلًا في التاريخ، خصوصًا ما قدم إلينا كعرب على أنه هو الأمثل: فإن ما رأيته لم تره ولم تسمع به فعلًا. هذه الأمور جعلتني لا أثق بشيء مباشرةً، ودفعني إلى أن أعيد النظر في كل ما كتبت، وهي فضيلة عظمى، وأنا الآن أتابع ضمن هذا السياق، وحينما تأتيني الفرصة بإعادة طباعة ما كتبته، سأعيد النظر في ذلك من بداياته، فالتاريخ مفتوح وليس هناك من ثوابت مطلقة.

الجيوش غير العسكرية

● هنا عن أي تاريخ نتكلم بالضبط، عن التاريخ بوصفه ماضيًا دينيًّا أم ماضيًا حضاريًّا؟ أم عن التاريخ المعيش؟ هل نستطيع القول: إن لدينا مستقبلًا بهذا المعنى؟

Tizini-Book-6– هذا السؤال يتصل بحقل علمي اسمه الإبستمولوجيا– التدقيق المعرفي الحاسم في صوابية هذا أو ذاك، ما طرحته لا يأتي في يوم وليلة؛ لأن التاريخ هو أيضًا قادم، والقادم يصوّب ما انتهى، فانهيار الاتحاد السوفييتي، وفكرة العدالة أو المساواة فتحت آفاقًا لا تغلق، خذ فكرة العالم الثالث على سبيل المثال، وفكرة الجيوش الوطنية. مؤخرًا كتبت مقالةً بعنوان «ما بين الجيوش غير العسكرية والانقلابات العسكرية»، والجيوش العسكرية هي الجيوش التي تمتلك القدرة العسكرية إضافةً إلى القدرة الكاملة على وضع يدها على كل ثروات الوطن، وهذه الجيوش غير العسكرية فعلُها أخطر من العسكرية، حيث كان الأخ الكبير لدى السوفييت مديرًا أو محاسبًا ولم يكن يقوم بمهمات، وهذا يوجد اليوم في بلاد العالم الثالث كلها؛ الانقلابات العسكرية حدثت تحت تأثير هذا الذي حدث منذ مدة طويلة سابقة، فلذلك  نحن بحاجة إلى إعادة قراءة العالم، وأظن أن ما يحدث الآن مع ظهور داعش يضعنا أمام محطةٍ جديدة هائلة في الدلالة، ولماذا نشأ هذا الداعش؟ أحد السياسيين الفرنسيين منذ مدة قصيرة قال عبر وسائل الإعلام: «نحن نحتاج لإزالة الإرهاب إلى عشرين عامًا»، وهذا كلام غبي وفي غاية الغباء، أنت الآن كإنسان يُفتح عليكَ تاريخكَ كاملًا، أين كان هؤلاء الدواعش؟ وأجيب: هؤلاء كانوا خارج السلطة خارج الملكية، خارج الحياة، هؤلاء هم الذين أمّنوا الخلية التي أنتجت ما ولد تحت اسم داعش.

غياب الحرية والكرامة والعدالة والمحبة والمساواة كان بمثابة الولادة الحقيقية لهذا الداعش، فأنتَ الآن من أجل أن تفهم داعش من أين أتى، عليكَ أن تعيد قراءة العالم، وبالمناسبة كتبتُ أيضًا مقالةً جديدة تحدثتُ فيها عن ضرورة تأسيس مركز عالمي للدراسات والبحوث المقارنة، تكون له مراكز فرعية، إنه عملٌ لا قيمة له أن تصحح أمنيًّا ما حدث في نيس أو باريس أو ميونخ أو بروكسل، لكن الأمر ليس هنا أبدًا، بل ربما يوظف هذا الذي يحدث في الغرب من إجراءات في خدمة استمرارية داعش، على هذا النحو نحن تباعًا أمام فرضٍ تاريخي لإعادة قراءة العالم، وقبل هذه القراءة إعادة تصنيع ما نستطيع تصنيعه، ولذلك وضعتُ كتابًا هو مشروع ثقافي بالأصل خاضع لما يحدث اليوم. من هنا جاءت فكرة إعادة ما كتبته وفق المنهج والنظرية والتأثيرات الداخلية والخارجية، بل ذهبت باتجاه الدعوة إلى استنباط لغات جديدة تستوعب الأحداث التي تُعاش، فلقد بليت اللغة اليوم، بمعنى لم تعد قادرة على أن تكون وعاءً فكريًّا يقدم أجوبة لما يحدث.

● ماذا تقصد باللغات الجديدة؟

– اللغات كلها، اللغة بذاتها، أي لغة اللغة التي عليها أن تجيب عما هو قائم فاعلًا في حالة الفعل، اللغة التي اخترعتها سوريا العظيمة الذبيحة، بعد أن كانت عبارة عن رسوم ورموز وإشارات، وهذا يعني أن سوريا هي التي أوجدت الأبجدية التي اكتشف الإنسان نفسه من خلالها، اللغة أوصلتنا إلى المفهوم وإلى المصطلح وإلى البنية، اللغة التي أصبحت أدوات للكشف العلمي، يجب أن تخضع إلى ولادة جديدة قادرة على أن تقرأ العالم، وتعيد إمكانية الحلم به.

● كررت مفردتي العالم والإنسان، والمعروف أن العالم كمفهوم ظهر بعد الثورة الصناعية وبعد الحروب الكبرى، ومعروف أن الحضارة استغرقت الزمن كله، فيما تطورت البشرية في مئة عام تطورًا خاطفًا على صعيد التقنية والحوسبة وعلوم الفضاء والأسلحة والفنون. العالم العربي كما يقول بعضهم لم يستوعب هذه الصدمة الرقمية الحضارية. برأيك هل يستطيع العالم العربي أن ينتقل من كونه مستهلكًا للتقنية إلى مشاركٍ أو منتجٍ لها؟

– العالم له منعرجات واتجاهات كثيرة ومختلفة، فالعالم هو عوالم، وأي بيئة تشكل عالـمًا بذاته، فحينما تكتشف خصوصيتها تصير عالـمًا. هذه الخصوصية التي تجد ما يشبهها، وهذه الخصوصية مثلت مرحلةً مهمة في التطور التاريخي الحضاري، وبدونها لما كانت العوالم في عملية التشكل والتحول مختلفة، فقد تشكلت أيضًا بيئات مختلفة في البداية كانت متفارقة، لكن مع الزمن وعبر التجارة والحرب والهجرة وكل أفعال الطبيعة والمجتمع، بدأ ينشأ ما نسميه عالـمًا هو العوالم مجتمعة، قد لا تكون العوالم كلها مجتمعة في هذا العالم، وقد نكتشف الآن عوالم أخرى لنضمها إلى عالمنا، لذلك المسألة مفتوحة.

الأنا والآخر

Tizini-Book-5● هل هذا التصور هو تصور أخلاقي عن العالم، أم أنه ترميز لهذا المعطى الذي ندعوه العالم؟

– كلاهما وأكثر من ذلك، اكتشاف عوالم أخرى يعني الاعتراف بوجود الآخر، وأنت لست ذات العالم، أنت لن تكون شيئًا دون الآخر، ولاحظ أن هناك ثنائية الأنا والآخر نشأت حتى بين اثنين حين اكتشفا بعضهما، بل إنه في الأساطير القديمة معروفٌ أن المرأة والرجل في البدايات لم يعرفا من أين جاء وليدهما، لكن الوليد أتى وأضاف عالـمًا جديدًا، فالوليد هو عالم جديد لم يكن معروفًا من هذه المرأة ومن هذا الرجل، فالعملية هنا مفتوحةٌ وتكتسب طابع المفاجأة.

● وهل العالم العربي استطاع أن يحقق التجاوز من الأنا نحو الآخر، رامبو يقول الأنا هو الآخر، والحلاج وابن عربي كلاهما تحدثا عن الأنا والأنت ووحدة الوجود مع الآخر في الخطاب الصوفي الرفيع؟

– نعم، بالأساس نشأة هذه الثنائية ( الأنا – الآخر) كانت جزءًا حاسمًا في تكوين البشرية؛ لأنك لن تعرف نفسكَ إلا إذا عرفتَ غيركَ، الأنا والآخر هما ثنائية تقوم على طرفين مختلفين لكنهما متقابلان، بل إن الأنا لا تعرف نفسها إلا عبر الآخر، فأنت في هذا المعنى مضطر أن تكون مع الآخر، وقد يكون الآخر معك، ومن هنا كان مصير كارثي عبر التعايش الكوني التاريخي، إلى أن نشأت الحروب والمصالح الاقتصادية فأطاحت بهذه الثنائية بعد تعاظم الحروب والمصالح القاتلة، فاكتشف هؤلاء المتقاتلون أن الخاسر في هذه الحال كلاهما، الأنا والآخر.

● لكن ماركس قال: «إن الحرب أو العنف هو القابلة القانونية التي تولّد المجتمعات الحديثة من رحم المجتمعات القديمة»، كيف تعلّقون على هذه المقولة التي تبرر العنف كحركة جدلية لا بد منها لتقدم وتطور البشرية؟

– لا يمكن هذا القول أن يكون تبريرًا أو تسويغًا للعنف، أبدًا، العنف هو الذي يحدث في الطبيعة والمجتمع، فليس العنف هنا مقصودًا بالحرب والتحارب، أنت تمارس العنف مع الطبيعة حين ترغمها أن تنتج كذا وكذا، فهي مكملٌ لكَ وأنتَ مكملٌ لها، وكذا الآخر الذي لا يعرف مصالحه بعد إلا بعد أن ينتهككَ، فجدلية الفعل والمفعول تصبح الجدلية هنا الفاعل مفعولًا والمفعول فاعلًا، كلاهما يتحمل المسؤولية عبر تبادل أدوار الجلاد والضحية، وهذا يتم حتى تنبثق إشراقات الوعي الجديد الذي يقوم على تبين أن الإنسان ليس مناهضًا أو عدوًّا للآخر.

● في الفلسفة أو الفكر العربي ثمة من يعيب على هذا الفكر أنه مع نشوء البدايات الأولى للدولة الإسلامية هناك من همّش وألغى فئات وفرقًا صوفية وباطنية تحت طائلة «من تمنطق تزندق». برأيك هل تكون المقولات الصوفية اليوم فسحة يتجدد عبرها الإسلام في طرحه وقراءته للعالم؟

– حينما نفكك الخطاب الإسلامي أو أي خطاب توحيدي نتبين أن الآلهة وتحديدًا الله الإسلامي قُدِّم للبشر على أنه الخطاب المطلق، هذا يدخل فيما يسمى بالصفات الذاتية التي يعدها بعضهم تسعةً وتسعين، وبعضهم مئة، وبعضهم الآخر مئةً وواحدًا. اتضح أن هذا الأمر ذو أهمية قصوى، إنه يظهر عبر هذه الأسماء والصفات ولا يظهر هو نفسه، ولقد أكدتُ في محاضراتي البيروتية أن كل طرف أو كل فرقة في الإسلام ترى الله من حيث هي، لا من حيث هو، وهذا ما أكّد عليه النبي الكريم محمد حينما سأله أعرابي: «أين الله يا رسول الله؟» فأجاب: «الله موجودٌ حيث تراه». انظر إلى هذا الجواب البديع، وهذا ما قدمته في محاضراتي بالمغرب، فعقبت بعد ذكري لهذا القول أنه إذا كان الأمر كذلك، فالجميع محقٌّ في إسلامه، لذلك كل المتصارعين في المغرب في لحظةٍ واحدة اجتمعوا بعد سماعهم هذا الرأي.

إن أحدًا لا يملك الحقيقة، فالجميع له حقيقته، ومن المصدرية الأساسية ألا وهي النبوّة، هذا هو الحل، ولقد رآه بعض المفكرين في المغرب حلًّا جديدًا، ودخل في الروزنامة الدينية. التأكيد على إطلاقية الله الإسلامي هو تأكيد على أن الجميع يملكون الحقيقة، وهم كلهم محقون، لأنهم يرون الله من حيث هم، وليس من حيث هو، و(هم هم) في التعريف، ماذا يعني في التعريف؟ (هم هم) في ثلاثة أمور: المعرفي والمصالحي والقوة، الناس يعرفون وفق هذه المداخل التي يمتلكونها، فهذا شخص فقير بائس متخلّف لم يقرأ القرآن سيعرفه بطريقته: (القادر، والحنون، والعارف، واللطيف)، والثاني هو: (المصالح)، وهنا يتكلم المرء عن الدين والسلطة، والثالث هذا وذاك مع القوة، مع من يملك القوة، فأنت بذلك مسلم بكل المعنى.

المسألة الدينية والنخب الثقافية

● قلتم: إن المسألة الدينية العربية أُهملت إهمالًا مرعبًا من النخب الثقافية، ماركسية كانت أم قومية أم ليبرالية، ونبهتم أن الخطورة تكمن في أن النص يقرأ بطرق متعددة، هل يمكن اليوم تقديم قراءة عقلانية تاريخية للنص الديني وصولًا إلى فكرٍ نهضوي جديد؟

– هذا سؤال العصر الآن، بالأساس النص نصٌّ يحمل دلالات لغوية، لكن من يقرؤه وفق ما هو عليه، لذلك نشأت ثنائية (البنية والقراءة)، وهي بنية واحدة.

● لكن ألا تعقد التفاسير والاجتهادات المسألة بين المسلمين أنفسهم؟

– كله مشروع على أساس أن هذه التفاسير أو القراءات تأتي ناتجًا لتلك القنوات الثلاث كما أشرت: (المعرفي والمصلحي والقوة)، فالجميع إذًا مسلمون، إسلام للكل حسب ما يفهمه، حتى تلك الطقوس التي يقوم بها من صلاة وصوم وزكاة قد يضاف إليها شيء، والحقيقة أنني استنبطت هذه الفكرة منذ سنوات عندما كنتُ في الصين، حيث دُعيتُ للتحدث عن الدين والثقافة الإسلامية، وقبل المحاضرة أخذوني إلى مقابرهم، ولحظت أن مقابرهم مختلفة عن مقابر الآخرين، فلا يوجد لها شواهد أو بنية معمارية، فسألتهم عن سبب ذلك فقالوا: «نحن هكذا»، خذ السعودية مثلًا حتى اليوم لا يوجد شواهد قبور لموتاهم فـ«خير القبور الدوارس»، وهذا يختلف حسب اختلاف فهم النص بين فرقةٍ وأخرى. وهذا الفهم يأتي من المصالح والمعارف والقوة، فإن لم يوجد الفهم، سيوجد الإيمان العفوي، فالإنسان البسيط يؤمن بشيء لا يعيه لكنه يحتاجه.

● نتكلم عن الدين والدين حاجة إنسانية، لكن ماذا عن دور المؤسسة الدينية في حياة المجتمعات العربية؟ كيف تقيمه؟

– المؤسسة أتت لاحقًا، الدين من حيث هو أتى دون هذه المؤسسات، فهذه الأخيرة جاءت كمحصلة للفهم والمصالح والقوة أيضًا، فظهر المسجد وكان له قوته وخصوصيته وفاعليته، وأتت المؤسسة الدينية، وهذا جزء من التحولات التاريخية التي لا يمكن أن تنكرها، فهي موجودة، لكن الكشف عن بواعثها العميقة البعيدة يحررك منها.

● كيف يتم ذلك؟

– يتم حين تعود إلى المطلق إطلاقًا والنسبي إطلاقًا، النسبي لا يمكن أن يصبح مطلقًا، والمطلق لا يمكن أن يصير نسبيًّا ولكنه يستوعب النسبي. هنا تطيح بكل المؤسسات الدينية. ذات مرة في محاضرة ببيروت تكلمت عن هذه الفكرة، ورأيت أنها كشف هائل، ووقف أحد الحضور فقال لي: هذا نوع من التشفي من الإسلام، فسألته: كيف، فقال: «المسلم سُمّي مسلمًا لأنه يعرف الله، ويصلي له ويؤمن به ويقترب منه، والآخرون يبتعدون». فأجبته أن هذه المشكلة تُحل عبر تحديد العلاقة بين المطلق إطلاقًا؛ فالنسبي ليس نسبيًّا، إن قلتَ: إنه نسبي معناه أنكَ أطحتَ به، فــ (الله) مطلق، لذلك عبّر بعضهم عن الدين بأنه إلهام، نستلهم لكننا لا نعرف تمامًا. من هنا أصبح كل الناس مسلمين ومسيحيين مؤمنين بإسلامهم ومسيحيتهم، ولا أحد يستطيع أن يملك الحقيقة، لا ملك ولا أمير ولا سلطان ولا قائد ولا إمام.

● بين المادي والمثالي حرصتم دومًا على عدم الوقوع في التفسيرات الغيبية الميتافيزيقية للتعبير عن الإسلام كظاهرة اجتماعية؟

الطيب-التيزيني– طبعًا عندما نتحدث عن وحدة الأديان السماوية نعني أنها تقوم على ثنائية المطلق والنسبي إطلاقًا كما أشرت، على هذا الأساس ألح الإسلام عندما جاء على فكرة النسبي الفاعل، وجعل من المطلق قريبًا منه، أقرب من السواد إلى البياض، أقرب من حبل الوريد، وهنا كأنكَ تتحدث عن وحدة كونية، وذلك هذا القرب الحميمي الذي أنتج ما يلازمه على صعيد الواقع المشخّص والمعيش، لذلك كان الإسلام أقرب الأديان إلى الواقع. دعنا نتذكر هنا ما حدث في التاريخ المسيحي في روما، حيث توجد هناك انتفاضة كان زعيمها سبارتكوس قائد ثورة العبيد الذي كان عبدًا، وهناك قول بديع: «لو نجحت ثورة العبيد لما كان محتملًا أن تنشأ المسيحية». العبيد قُتِلوا في ذلك الزمان بأعدادٍ هائلة، حتى إنه سميت هذه الحادثة بأسبوع العبيد، ما أريد قوله أنه ما كان هناك مسيحٌ بعينه، بل مُسحاء، ربما واحد أكثر من الآخر، فثورة العبيد أخفقت ودُمّرت فجاءت المسيحية التي أوجدت هذا الرباط، بعد أن كان سبارتكوس قد نادى بكل الحقوق التي نادت بها المسيحية. المسيحية تاريخها ممتلئ بالدلالات الكبرى للتاريخ العالمي، أما الإسلام فقد عاش في عصر متقدم (القرن السابع الميلادي)، وفي بقعة أصبحت مرتادة من مجموعات بشرية واسعة في العالم، ولا سيما عبر التجارة، فجاء الإسلام دينًا فاعلًا مباشرًا، وهو أيضًا حرر العبيد لكن بطريقته، والجميع أخذوا منه، وهذا ما جعل الإسلام أقرب إلى الواقع عبر معالجته مشكلات الناس العينية المباشرة، كالعبودية والثروة والزواج والخصيّ وغيرها من المشكلات. لقد أجاب الإسلام عن مشكلات مرحلته، وعلى رغم ذلك ظل كل من الإسلام والمسيحية قائم على فكرة المطلق والنسبي. المسيح هو ذاك الذي في الأعالي «يا أبانا الذي في الأعالي». الإيحاءات صُنّعت وفُعّلت وكوِّنت منها أحداث هي مشكلات انتهت بهذا الفعل، هذه الخصائص قد لا تكتشفها في أديان أخرى.

● فرّقتم في بحوثكم بين مفهوم الشفاعة المحمدية وبين مفهوم الخلاص المسيحي. برأيكم هل من الممكن اليوم توحيد رؤية فكرية وفلسفية عن الإنسان العربي مسلمًا كان أم مسيحيًّا في إطار حضاري مشترك؟

– التمييز بين هذا وذاك هو تمييز نسبي وليس مطلقًا، النسبي أنه خضع للتحولات التي تمت بالإسلام نفسه، فكان الإسلام يقترب أكثر فأكثر من الناس لمعالجة مشكلاتهم. في المسيحية نشأ اتجاه في هذا المنحى، لكن ظلت الفكرة الأكثر فاعلية ودخلت في حياة البشر المدينين بالمسيحية كمحفز، ولم تتدخل في حياة البشر الخصوصية كالتجارة والتعليم والاقتصاد.

● في حوار سابق قلتم: إن داعشًا ظاهرة عالمية. كيف نستطيع اليوم قراءة ظاهرة الإرهاب المنتشر في العالم؟

– نعم إن داعشًا ظاهرة عالمية بقدر الإفقار والإذلال واللاكرامة التي يعيشونها في بلدانهم، هؤلاء قتلة لكنهم أيضًا ضحايا، قد يكون بعضهم الآخر مجرمين، فهم لا يملكون شيئًا، القاتل الذي أنتج داعشًا هو الغرب، وتبعه الشرق الأعلى. داعش نتيجة الغرب الاستعماري المتجبر والشرق الذي أصبح مقلدًا للغرب يحاول أن يفعل ما يفعله. لقد نشأ داعش عالميًّا لكن في النية الخفية غير المرئية، لذلك التخلص من داعش يعني أن تبني عالـمًا جديدًا.

● أريد أن أستوضح منك أولًا موقفكَ الجديد من القراءة الجابرية للفكر العربي، ثم كيف يمكن مواجهة فكر العولمة الذي يهدد تفكيك الهوية العربية، وبالتالي إجهاض أي احتمالات لنهضة قادمة؟

– سؤالك هذا ينقلنا إلى الذروة التي وصل إليها الفكر العربي، ذروة ذات طابع حاسم، إما أن تكون أو لا تكون، الذروة هنا في نبش الكينونة ونفي هذه الهوية، فالجابري كان صديقًا مأسوفًا عليه بطبيعة الحال أنه رحل، ولقد ظل صديقي حتى آخر أيام حياته. مؤخرًا كنتُ في المغرب، وكانت هناك لقاءات مهمة جدًّا، حيث التقيت عائلته وآخرين من أصدقائه، الحقيقة كانت هذه الزيارة مناسبة لمراجعة موقفي من الأستاذ الجابري، وذلك بعد عرض ما قدّمه، فلقد كان لقاءً مركبًا بين الشخصي والفكري، والجميع بات يعرف أن في المغرب حركة ثقافية، كانت مقموعةً قبل نهاية الأحداث في تونس خصوصًا. الفكر العربي مر بصعوبات كبرى، لكن هذه الصعوبات حملت نتائج إيجابية، كانت بمثابة ولادة أنتجت أشياء مهمة جدًّا. آخر لقاء مع المرحوم الجابري كان في بلدٍ خليجي، أظن في الإمارات، وكان الرجل قد أوصل فكره إلى موقع الفكر الذي يندرج مع الشرق مقابل الغرب، تحديدًا ثنائية الشرق والغرب التي أسس لها المستشرقون، وهذه الذروة التي قرأها الجابري بشكل مطول، لكن الجدير بالذكر أنه وقبل وفاته بمدة قصيرة بحث عن ذروة أخرى ووجدها في الفكر الإسلامي، وقال: إن الإسلام هو الحل كما يقول الآن الإسلاميون، ما زاد الموقف اضطرابًا بيني وبينه، وكنت قد كتبتُ كتابًا خاصًّا حول الجابري، بعنوان «من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي»، وفيه نقدتُ ما قام به الجابري، ورئي في حينه أن مسألته وصلت إلى حدها النهائي القاطع.

لكن قبل رحيله قدّم الجابري ما كان مُبعدًا في نفسه، واتضح لي أنه كان بالأساس إسلاميًّا، لكنه تقمص شخص الباحث في الفكر العربي، إذًا الجابري كان له موقفان. طريف أن أقول: إنني انطلقت من منطلق الجابري الفكري، وهو منطلق عام أساسه النقد التاريخي، ووصلت إلى أنه كان من المندهشين بالغرب بصورة فاقعة، بحيث وصل ما وصل إليه الشاعر البريطاني (كبلينغ) عندما قال قولته الشهيرة: «الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان». الجابري وصل إلى ذلك بلغة الفكر، ومن ثم الجابري ترك إرثًا كبيرًا يتحرك ضمن هذا الحقل، لكن في آخر حياته اتضح أنه ينطوي على بنية خبيئة لم تُفصح عن نفسها، على الأقل لم تفصح تمامًا وظلت غير واضحة، وقبل وفاته أشار إلى ما كان خبيئًا وبلغة كتبت بلغة المقالات والمشاورات والأحاديث الذاتية.

هنا انطلقت من موقعين: الغرب والشرق، فمرجعية الجابري المنهجية التاريخية كانت الغرب، وكان يرى أن الشرق يبقى شرقًا كما يأتي لاحقًا مفكرون آخرون يقولون: نحن لا نستطيع أن نكون في موقع قريب من الغرب. هذه الفكرة هي فكرة استشراقية بالأساس، مع العلم أن كثيرين من المفكرين الغربيين بعد نشأة الاستشراق، خصوصًا الطليان منهم لم يسلكوا مسلك المستشرقين الآخرين وأخذوا خطًّا قاطعًا، حيث النزعة الكولينالية تظهر ضمنًا. لكن الأمر يظهر فكرًا واجتهادًا، فقد كان الدافع الخفي هو العالم الجديد الذي انطلق منه الجابري حين رأى أن الفكر العربي فكر غير منتج وغير مبدع، وغير سآّل، أي لا يقدم أسئلة، وهذا ما أعلنه صراحة «بيجيه» أحد المستشرقين الفرنسيين حين أدرك أن الشرق لا ينتج أسئلة، وهناك طرفة جديدة فكتاب بيجيه كان بعنوان «الباب الضيق»، وأراد أحدهم أن يترجمه إلى العربية، وفعلًا تُرجم بإشارة من طه حسين، وكان ذلك، وحين علِمَ صاحب الكتاب بذلك بعث رسالة إلى المترجم قال فيها: إلى من تقدم كتاباتي؟ وهل هناك من يقرأ عندكم، هل هناك من يهمّه المسائل التي أطرحها؟ الجواب لم يأتِ من المترجم بل من طه حسين إذ قال له: «إنكَ سلكتَ مسلكًا صحيحًا عمليًّا، لكنكَ خُدِعت من آخرين، إن الفكر العربي أيضًا هو فكر سآّل».

الجابري‭ ‬والذهاب‭ ‬إلى‭ ‬الوصية‭ ‬الأخيرة

قال المفكر العربي الطيب تيزيني: إنه دهش حين اكتشف ما آل إليه المفكر الراحل محمد عابد الجابري، «فالرجل قدم الكثير للفكر العربي، على رغم أنه في قطعياته الأخيرة ألغى ما عُدَّ فكرًا عربيًّا فاعلًا متجددًا… أعتقد أن هذا المنعطف كانت له جذور قديمة وعريقة في نفسه ظهرت لأسباب كثيرة تحيط بالمفكر والكاتب، فظهر كأنه مفكر إسلامي، وانتهت المسألة العربية الفكرية لديه، ولهذا الآخرون الذين ساروا باتجاه الفكر الإسلامي التجديدي ساروا متوافقين مع المرحوم الجابري ورأوا فيه سندًا لهم من مصريين ومغاربة، لكن هذه المدة لم تطل في فاعليتها. شخصيًّا إنني أحترم الجابري واجتهاداته يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، لكن المهم أنه كان في حياة الجابري عامل قائم ربما من الطفولة، وأتت الدراسة في فرنسا وغيرها لتحدث تحولًا، وظهر أن هذا التحول أتى متأخرًا حين أصبحت الأسس المتينة قد ثبتت، هذا تحليل أولي، لكن الجابري مشكور في كل الأحوال حتى في مسألة اكتشاف الإسلامية؛ لأن هذا الكشف يقدم لنا مهمات جديدة بأن نقرأ ما لم نقرأه. فالجابري لم ينتقل من حقل إلى آخر، ولم يحدث شرخًا بين الأمرين، بل حافظ على كليهما، وهذا يضيف إلى الفكر العربي إشكالية جديدة بأن مفكرين عربًا لم يستطيعوا أن يخرجوا من الإشكال الأول الذي ولد معهم، فنشأت نتوءات سمحت بإضافات جديدة ظهرت أواخر العمر، حينما يصل العمر إلى أواخره يحس أن الأيام اقتربت من نهايتها، وأن عليه الذهاب إلى الوصية الأخيرة.

• هذا يقودنا إلى شخصية المفكر العربي التي لم تحل مشكلتها مع الغيب؟ كيف تعلقون على ذلك؟

هذا سؤال صحيح، ليس مع واحد أو اثنين من المفكرين العرب، بل ربما مع معظمهم، وأنا أقول ذلك عن معرفة بأصدقاء جمعتني بهم علاقات كبيرة وطويلة. لا أريد أن أقول شيئًا عن المرحوم حسين مروة المفكر العلماني الذي نشأ في مكان إسلامي هو الحوزة الشيعية، وقد كان يحدثني عن ذلك كثيرًا، أذكر أننا كنا أنا ومروة في مؤتمر بإسبانيا، وكان حديثه بحديث من يرغب في العودة إلى بيئته الدينية أو يتبنى ذلك، إذ كان هذا جزءًا من وعيه يحترمه، لكن مروة كان يظن أنه وصل إلى ما وصل إليه عبر الطريق من هذا وذاك.

الأقليات السورية في مرايا الأدب

الأقليات السورية في مرايا الأدب

ما يصح في السياسة قد لا تقبله الثقافة بمعناها المعرفي الواسع، فالتعدد الثقافي الإثني والمذهبي والطائفي في بلاد مثل سوريا كان على الدوام أحد أغزر المنابع الثقافية وأكثرها ثراءً وسط جغرافية تمتد بين بادية الشام مرورًا بالجزيرة السورية وصولًا إلى ساحل البحر المتوسط، ومن عين ديوار في أقصى شمال شرق سوريا إلى سهول حوران وجبل العرب جنوبًا. فلا السنة علب سردين مصفوفة بعضها فوق بعض، ولا الشيعة علب كبريت مصطفة بعضها فوق بعض، ولا المسيحي أو الدرزي عبوات كوكاكولا متناظرة في حجومها.

إن الخصومات التي مهدت لها النخب الحاكمة في المدن الرئيسة السورية، كانت على الدوام هي بذرة كل ما يحدث اليوم، كون معظم هذه النخب شكلت ما بعد الاستقلال عام 1946م نواة لبرجوازية وطنية جمعت أموالها من سرقة مواسم القمح والقطن يوم أن كانت لا تزال تمثل السلطة الإقطاعية الرسمية… هذا يحيلنا مباشرةً إلى طبيعة النص الذي أفرزته تلك النخب الهاربة، التي تركت الحبل على غاربه لنشوء برجوازية عسكرية عملت فيما بعد وعبر العديد من الانقلابات على تقليد سلفها البرجوازي، لكن هذه المرة عبر سرقة المال العام والهيمنة على امتيازات اقتصادية عملاقة داخل جسم الدولة. هذا النمط الاقتصادي من مراكمة الثروات جعل الصراع في سوريا دائمًا هو صراع بين الفقراء والفقراء. حرب يمولها الأغنياء بغض النظر عن الطائفة والمذهب والقومية. عائلات بعينها تسيطر على مقدرات البلاد، وتعمل ليل نهار على استنساب وريث دائم لثرواتها المنهوبة من قوت الجياع والمستضعفين والمغلوبين على أمرهم، والأهم من هذا وذاك هو استقواء هذه النخب الاقتصادية بالعائلة كمرجع نهائي يبتّ في أمور التجارة والصناعة وتحالفاتها مع شركات عابرة للجنسية والحدود الدولية، لصوص بلا حدود ترفعهم العائلة إلى مصافّ الأباطرة والمعصومين.

من هنا كانت الرواية السورية إشارةً قوية على عكس هذا الخراب العميم في إصداراتها. أقليات غنية مدعومة بعائلات أبدية في مواجهة أكثرية منكوبة ومحتقرة. لقد أسس هاني الراهب لهذه المفارقة في روايته «بلد واحد اسمه العالم» تمامًا كما هي الحال في روايته «الوباء» التي اعتمد فيها (الراهب) على تفكيك البنى القائمة ماركسيًّا في جدلية الدولة والعنف، مشرحًا القيم التي نشأ عليها الفقراء في الثقافات الفرعية، والتي برأيه «تتعارض مع قيم الطبقة المتوسطة التي اكتسبها الفلاحون والعمال وصغار الكسبة» متنبئًا بـ«مئة سنة قادمة ستكون عصر العنف، فضغط الدولة في العالم سيزداد، والخائفون سيخرجون من جلودهم ويصيرون مادةً للعنف. العنف الشامل وطغيان الدولة سيلغي القانون نهائيًّا، ويعيد الفقراء إلى وضع همجي، تفكك وانحلال، لكل قيمة وبنية وعلاقة»؟

نزاعات جانبية

sor-2هذه النبوءة هي ما دفعت فيما بعد الكاتب سعد الله ونوس (1941- 1997م) لقراءة المدينة العربية المعاصرة من موقع الفقراء نفسه والشعور بغطرسة المركز على الأطراف، فنصوصه التي استلهمها من التراث العربي، وخصوصًا كتاب الليالي العربية «ألف ليلة وليلة» كانت جميعها تدور أحداثها في مدينة بغداد، على نحو «مغامرة رأس المملوك جابر» و«الملك هو الملك» حيث تحضر المدينة كفضاء للدسائس وحفلات التنكر، وسقوط الأقنعة، وقطع الرؤوس، في حقبة تاريخية وصفها المؤرخون بزمن «الشطار والعيارين» وتحالف السلطة مع عيونها وأصحاب شرطتها وجلاديها على الشعب ومصايره؛ فيما تحضُّر دمشق كمدينة تتألف في نصوص صاحب مقولة «محكومون بالأمل» من سجون ومواخير وأسواق وقلاع كما في مسرحيته «طقوس الإشارات والتحولات». ليصل الصراع إلى أشده في مسرحيته «سهرة مع أبي خليل القباني» النص الذي يعدّ مجابهة صادمة بين العقلية الرجعية وفن المسرح… مجابهة وضعت إشارات استفهام كثيرة على دور المدينة لمسؤولياتها الحضارية، لكنها لا تخلو من حزازات نخبوية مضمرة، تعلن انتماءها لقيم اجتماعية مرموقة، لكنها مواربة في تحديد موقفها من تطاحن «أكثريات ريفية فقيرة» و«أقليات مدن غنية»، وأسبقية سكان الثانية على الأولى. إذًا ليست الأقليات ولا الأكثرية، لا الغالبية المذهبية بل الغالبية السياسية التي تقهقرت عامًا بعد عام، لتجد النزاعات الجانبية ثغرات في هذا الجدار، ولتظهر فروقات هائلة بين عائلات ريفية وأخرى مدينية، أو انتمت إلى المدينة وتقمصت (الدمشقة) في سلوكها الحياتي ومظاهرها العامة، وصولًا إلى سيادة أخلاق السوق، وانهيار كبير للطبقة الوسطى في المجتمع السوري التي كانت تخفف من الغلواء بين جانبي الصراع، ما ظهر جليًّا في ازدياد أحزمة الفقر حول المدن الكبرى، من أحياء عشوائية يقعي فيها حطام هذه الطبقة المتوسطة السورية من متعلمين وحرفيين ومثقفين وعمال وموظفين حكوميين.

واقع معقد عكس صورة تحت مدينية في شؤون عديدة اختص بالقضاء والمحاكم الشرعية والأحوال الشخصية، ليدفع الكاتبة والأديبة روعة يونس إلى القول: «أبناء الأقليات أو المذاهب الذين يفضلون تبعية شؤونهم القضائية إلى غير القضاء الرسمي- وزارة العدل. أقصد تحديدًا: المسيحيين والشيعة والدروز، الذين يقصدون في تخاصمهم (المحكمة الروحية) لدى المسيحيين. و(المحكمة الجعفرية) لدى الشيعة. و(محكمة المشايخ) لدى الدروز. يُفترض بأتباع هذه الديانات والمِلل أن يوجّهوا ضرباتهم القاضية لرجال الدين- القضاة في تلك (المزارع) المسماة محاكم؛ لأنهم في معظمهم يمارسون (ظلمين) ظلم الدين وظلم رجاله، فضلًا عن الظلم المكتسب لدى البشر. وعدم اللجوء إليهم للتخاصم والاحتكام لديهم». إن شئتم بعض الجرأة، ولتكن وقاحة- تتابع يونس: «إن ظلم المؤسسة القضائية المتمثلة بوزارة العدل ومحاكمها أخفّ وقعًا على النفس من ظلم من يخبرك أنه ممثل المسيح، وممثل الإمام المهدي، وممثل الحاكم بأمره على الأرض».

الأقليات والأكثرية ومآلاتها

باستشهاد طويل لصبحي العمري، أحد الضباط الذين خاضوا غِمار الثورة ضد العثمانيين وشهد معركة ميسلون ضد الفرنسيين، يعكس فيه مسألة الأقليات والأكثرية ومآلاتها مع رحيل العثمانيين. إذ يقول العمري: «خرجنا من الحكم التركي ونحن متفرقون مفكّكون إلى مسلم، ومسيحي، وشيعي، وسني، وإسماعيلي، ونصيري، ودرزي… ومن القوميات الأخرى: تركي، وتركماني، وشركسي، وكردي، وألباني، وأرمني… وجميع هذه الديانات والمذاهب والقوميات مختلفة مع بعضها، كل منها تعتبر نفسها غريبة عن الآخرين، وتعتقد أنها مغبونة مهضومة الحقوق. فلقد كان المسيحيون بصورة عامة لا يزالون تحت تأثير الماضي. لقد كان المسيحي في العهد العثماني مواطنًا من الدرجة الثالثة، لا يشعر أنه مواطن له حقوق وعليه واجبات، فلا يعقل أن ينقلبوا بمجرد خروج الأتراك قوميين عربًا، وينسوا كل ما مرّ بهم من مظالم وإهانات خلال تلك القرون الطويلة، وهكذا كانت أكثرية المسيحيين، غير مرتاحة للحكم الوطني، فبقوا أصدقاء لفرنسا؛ أما اليهود فهم شعب عدوّ لكل ما هو غير يهودي، يفضلون أن يكونوا تابعين لأي حكم أجنبي؛ والشيعة في حيّهم منكمشون يشعرون بغربتهم عن الأكثرية السنية، وقد لجأ عدد غير قليل منهم للحصول على الجنسية الإيرانية لتحميه من ظلم الدولة؛ والنصيرية في جبالهم منعزلين تحت وطأة الفقر والجهل والإهمال، لا يعرفون عن الحكم سوى أنه ضريبة إلى الجابي في يد الجندرمة (الدرَك)؛ وهكذا الإسماعيليون المرتبطون مذهبيًّا واجتماعيًّا بآغا خان؛ والدروز في مناطقهم الجبلية يشعرون بغربتهم عن جميع من يحيط بهم، وهم دائمًا في ريبة وعدم اطمئنان، والحكومة في نظرهم عدو متربص بهم. أما الأقليات العنصرية، كالأتراك والشراكسة والتركمان وغيرهم، فبقي ولاؤهم للأتراك، يعتبرون أن حركة القومية العربية، التي فصلتهم عن الأتراك المسلمين بالتعاون مع الإنكليز الكفار، حركة خائنة، ويتفق معهم بهذه الفكرة أكثرية رجال الدين المسلمين، والكثير من العامة».

في روايته «قصر المطر» يتعرض ممدوح عزام لهذا الموضوع راصدًا لأنماط عقائدية في محافظته السويداء – جبل العرب، مما دفع بعض المشايخ في الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها الكاتب السوري عزام، إلى إصدار بيان بإهدار دمه بحجة أن «قصر المطر» أساءت إلى المجتمع الدرزي وأخلاقه، وشوهت عاداته وتقاليده ومقدساته وأبطاله الأسطوريين. طالب هذا البيان الذي وقّعه مشايخ طائفة عقل الدرزية الحكومة السورية بمنع تداول روايته وسحبها من الأسواق، علمًا بأن الرواية صادرة عن وزارة الثقافة السورية عام 1998 وقال البيان: إن الرواية والراوي على السواء شوَّها أبطال التحرير الأسطوريين أمثال (سلطان باشا الأطرش).

تجاهل الإعلام السوري وقتها هذا البيان وردود الأفعال الأخرى عليه، مثل بيان المثقفين للتضامن مع الكاتب. على حين غض النظر اتحاد الكتاب العرب آنذاك عن هذا الحدث، ولم يتضامن مع الكاتب، بل دعاه إلى طلب الغفران والتراجع عما فعل ومصالحة شيوخ طائفته. مازن عرفة في روايته «وصايا الغبار» يذهب أيضًا إلى استعراض واقع عيش الأقليات من خلال قصة حب يرويها بين شاب دمشقي من الطائفة السنية وبين فتاة من الطائفة الدرزية، تنتهي قصة العاشقين بزواج الفتاة من رجل ينتمي إلى طائفتها. الواقع الفني الأدبي للرواية السورية يزخر بهذه الأمثلة، ومنها روايات كل من روزا ياسين حسن «أبنوس» ورواية سمر يزبك «طفلة السماء» ورواية «تجليات جدي الشيخ المهاجر» لحسيبة عبدالرحمن؛ إذ تناقش كل من الروائيات السالفة الذكر موضوع التقمص والدين عند الطائفة العلوية.

حق‭ ‬منح‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬للأقليات

%d8%b9%d8%b2%d8%a7%d9%85

ممدوح عزام

%d8%b3%d9%85%d8%b1

سمر يزبك

«واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد» أظنه شعارًا كشف وحشية ولا إنسانيّة الحرب السورية، وهو من أكثر الشعارات افتراء على الحقيقة والواقع، يقول الكاتب والناقد ياسر إسكيف ويتابع: «لم يعنِ هذا الشعار سوى إعلان أكثرية عن ملكيتها الحصرية لحق منح الهوية الوطنية للأقليات. فالشعب السوري لم يكن يومًا كتلة متجانسة ومتماسكة. فالشعب الواحد مقولة فارغة من أي معنى، أو محتوى، بعيدًا من وعي المواطنة في إطار الدولة الوطنية الديمقراطية العلمانية. وهذا ما لم يعرفه، أو يختبره، السوريون يومًا. وكان المجتمع السوري، تاريخيًّا، أكثريّة عربية مُسلمة (سنيّة)، وأقليّاتٍ دينيّة، وقومية، ومذهبيّة، تتعايش فيما بينها وفق علاقة، أو علاقات، مُركّبة ومُعقّدة. حيث تتقاطع هذه الأكثرية قوميًّا مع الأقلية المسيحية العربية، ومع الأقليات المذهبية الإسلامية. بينما تتقاطع إسلاميًّا مع أقليات أخرى (أكراد، وتركمان، وشركس) وتتباعد، أو تتناقض، كما في حالة الأكراد، قوميًّا».

إن الخصوصيات الثقافية هي الطاغية في التمييز بين الأكثرية والأقليات السورية، إذ لم تتوقف تلك الأقليات عن إنتاج مجموعتها الخاصة من القيم والمعايير، كما الأعراف والتقاليد والطقوس، وتجلى هذا بشكل شديد الوضوح في النتاجات الإبداعية (أدبًا وفنًّا) التي عكست فضاء الحريّة الذي تمنحه تلك الأقليات لأفرادها، من ناحية أنها بالأساس تكوّنت على المُفارقة والاختلاف والتمايز. ومن اللافت بهذا الخصوص حجم المُكابدة التي عانتها اللغة في الخروج من استنقاعها وتخثّرها لتتمكن من قبول واحتواء المُختلف من التصوّرات، والرؤى، والمشاعر، والأحاسيس، حتى بدت في أحيان كثيرة غريبة عن نفسها، أو مُختطفة منها، حتى إن بعضهم قد رأى في هذا تخريبًا للغة، أو أن اللغة ذاتها قد تواطأت مع خرابها وسعت إليه. وبالتالي لا أظنها مصادفة أن يكون، على سبيل المثال لا الحصر كل من أدونيس، وحنا مينة، وسعد الله ونوس، وسليم بركات، وممدوح عدوان، ممن ولدوا في بيئات تعود للأقليات.

السرقات الأدبية مستمرة  في أشكال وأقنعة جديدة..  و«حقوق المؤلف» نمر بلا مخالب

السرقات الأدبية مستمرة في أشكال وأقنعة جديدة.. و«حقوق المؤلف» نمر بلا مخالب

مشاهير السرقات الأدبية ماتوا جميعًا بعد أن أصابوا من «كتاباتهم» ما أصابوه في مشارق الأرض ومغاربها، يكفي فقط أن نقرأ كتاب «الكوميديا الإلهية» لدانتي (1256-1321م) حتى نعرف حجم السرقة الموصوفة للأديب الإيطالي من «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، و«الفتوحات المكيّة» لمحيي الدين بن عربي؛ الكتابان اللذان تُرجِما من العربية إلى «القشتالية» عام 1264م على يد الطبيب اليهودي إبراهيم الحكيم، بأمر من ملك قشتالة ألفونسو العاشر. لكن السرقات الأدبية أخذت شكلًا وتعريفًا «أدبيًّا» مغايرًا فيما بعد بين «تناص وتلاص»، وترجمة ونسخ، ونقل وتقليد، ومعالقة ومعارضة ومحاكاة؛ وهذا يجعل البحث هنا عن «الأصالة» ضربًا من المستحيل؛ فالبشر جميعهم «ورثة» من بعضهم الآخر بطريقةٍ أو بأخرى، على حد تعبير الفيلسوف الألماني نيتشه.

shutterstock_388350088

مافيات الصحافة الثقافية

ظاهرة السرقات الأدبية والفنية والإبداعية العربية عمومًا اكتست اليوم لبوسًا مختلفًا في التزوير والتحريف والسطو على المكتبة العالمية؛ ففي عصر «الميديا» المفتوحة، ومافيات الصحافة الثقافية الإلكترونية، وأبطال المدوّنات، وأدباء الفيسبوك، ونسخ موقع «غوغل» لملايين الكتب وتخزينها لصالحه من دون الاكتراث بحقوق مؤلفيها، أو الامتثال للدعاوى القضائية المرفوعة ضد القائمين على محرك البحث الأشهر في العالم من مئات الكتّاب وورثتهم؛ بسبب هذا وغيره بات من الصعب الحصول على «النسخة الأصلية» من دون تشويهات تُبذل على مدار الساعة في كل أرجاء الكوكب.

يتعرض النص الأصلي باستمرار إلى تحوير ممنهج يجعل من مهمة معرفته – حتى من أصحابه أحيانًا- أمرًا صعبًا جدًّا؛ كأن النسخة الأصلية باتت «خطيئة أصلية» في عرف من يحاولون إخفاء سرقاتهم وتمويهها؛ ناهيك عن مجموعات المترجمين الأحرار الذين لا يخضعون لأي سلطة معنوية أو قضائية تحدّ من نقلهم لذخائر المسرح والسينما والرواية والقصة إلى غير لغاتها الأصلية، ومن دون حسيب أو رقيب.

حسن م. يوسف

حسن م. يوسف

الكاتب السوري حسن م. يوسف يعرّف السرقة الأدبية بأنها: «أخذ ما للغير  خفية، والسرقة الأدبية هي قيام أحد ما بنسخ نص أبدعه شخص آخر وتقديمه على أنه له. والحق أن هذا المصطلح يخضع  لتأويلات شتى حتى ضمن إطار الثقافة الواحدة»، ويتابع يوسف: «من المعروف أن مبادئ حقوق المؤلف لا تحمي الأفكار، وإنما تحمي تعبير المؤلف عنها، إلا أننا نقرأ ما يشي بأن هذا المصطلح اكتسب طبيعة مطاطية؛ لأن كل مستخدم يعطيه ما يناسب وجهة نظره، حتى بات يختلف باختلاف المصالح كما مصطلح الإرهاب تمامًا!».

قبل سنوات نشرت الباحثة الإنجليزية آندي ميدهيرست دراسة لافتة في الملحق الفني لجريدة «الأوبزيرفر» الصادر يوم الأحد 4 أيلول «سبتمبر» 1994م، بعنوان «الرائعون السبعة، يستمرون ويستمرون»، وقد قالت في مقدمة بحثها: «لم تعد هناك أفكار جديدة، هناك طرق مختلفة لقول الأشياء نفسها». وبعد ذلك تشير الباحثة إلى سبع حبكات أساسية تكمن في قلب أي نوع من الكتابة النثرية. وهي تورد تلك الحبكات من خلال أسماء أشهر الأعمال التي تعبّر عنها: حبكة روميو وجولييت، حبكة الطرف الثالث، حبكة العنكبوت والذبابة، حبكة الضعف القاتل، حبكة الصفقة الفاوستية، حبكة كانديد أو انتصار البراءة، حبكة ساندريلا.

يتفق الأديب حسن م. يوسف مع كلام الباحثة الإنجليزية فيما ذهبت إليه: «الفنانون الأوائل، كما الجغرافيون الأوائل، اكتشفوا الحبكات الكبرى كلها، والقارات كلها، ونحن الآن، في الجغرافيا والفن، نعيش عصر اكتشاف التفاصيل! ما يؤسف له هو أن طلاب الشهرة سوقوا دسائسهم الأدبية كسرقات، فقاموا باتهام أهم الكتاب والأدباء العرب بالسرقة، بهدف سرقة الأضواء منهم، وقد طالت اتهامات هؤلاء المتنبي وطه حسين ومحمد مندور وإبراهيم ناجي وأدونيس».

سرقات خبيثة وأخرى حميدة!

الشاعر والمسرحي التونسي حكيم مرزوقي يدعو إلى إقامة «مرصد أدبي» يشهّر من خلاله بكل من يسطو على متاع الآخرين، وينسبه إلى نفسه في مختلف حقول الأدب والفكر والفن، أسوة بتلك المراصد التي تنشط في المجتمعات المدنية، وتتعقّب الانتهاكات الحقوقية فتفضح مرتكبيها في الدول والمؤسسات. ويعقب مرزوقي: «قد يبتسم ويسخر في سرّه كل من يعتبر الأمر دعوة طوباويّة، وضربًا من (الفذلكة الثقافية) في مجتمعات تنخرها شتى الأمراض ما عدا (أحمدها وأنبلها) في التهام الكتب، وإدمان حشيشة الفن والمعرفة؛ وقد يذهبون معي بعيدًا ويفرضون  جدلًا أنّ المراصد الأدبية قد أُقيمت على قدم وساق وقلم. وأُحصِي المتلبسون من (اللصوص الأذكياء)، والزجّ بهم ضمن لوائح سوداء قصد التشهير، وردع كل من تسوّل له نفسه (الطمّاعة الذوّاقة) الاعتداء على أصحاب الأكفّ الناعمة من (بروليتاريا) الإبداع، فتعيد للأقلام حقها قبل أن يجفّ حبرها وتعود إلى غمدها».

لكن هل ستُفتح غرف التحقيق، وتُقام المحاكم، وتنصب المقاصل للأقلام المزوّرة، فينصف المعتدى عليه، ويمكّن من استرداد حقوقه المعنوية والمادية؟ يتساءل حكيم المرزوقي ويجيب: «الحقيقة التي لا تقبل الجدل هو أنّ فعل السرقة وآلياتها ومحرّضاتها النفسية والاجتماعية واحدة من حيث هي رغبة كامنة، وسعي للتفوّق المادي والمعنوي على الآخر؛ عبر الاعتداء على ممتلكاته من دون اعتبار أخلاقي أو رادع قانوني؛ وبتواطؤ مع مؤسسات اجتماعية ضمن منظومة فساد واضحة لا غبار عليها».

يقول فقهاء القانون: لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني؛ لكن جرائم السطو الأدبي استمرت وتستمر حتى بعد سن القوانين الخجولة في الملكية الفكرية التي ظلّت  ترفًا حضاريًّا في سوريا وغيرها من البلاد العربية؛ مجرد نمر ورقيّ وبلا مخالب، كما غابت العقوبات إلا فيما ندر، ذلك أنّ هذه النصوص جاءت في البلاد العربية كنوع من ذرّ الرماد، والتبجّح بأننا أمة تحترم المبدعين، وتدافع عنهم.

مسألة يرى فيها الأديب التونسي حكيم المرزوقي: «أنه لا بأس من  غضّ الطرف فيما يخص الملكية الفكرية المتعلّقة بمنجزات عالميّة من شأنها أن تنقذ مجتمعات فقيرة بكاملها من الأوبئة كاللقاحات الدوائية، أو تتعلّق بأمنها الغذائي وثرواتها الطبيعيّة؛ إذ إنني لا أرى حرجًا إطلاقًا في عدم الاستجابة لجشع الشركات المحتكرة ذات النشاط الربحي. كما لا أجد مانعًا من تحويل النصوص العالمية إلى أعمال درامية محليّة من دون التغافل عن ذكر المصدر لدى المتخصّصين؛ فما زلت أنتصر لنظرية روبن هود وطرفة بن العبد في جدوى العدالة الاجتماعية، وإعادة توزيع الثروة عبر افتكاكها من خزائن المترفين لا من أدراج  المبدعين طبعًا… ألم يكن هؤلاء الصعاليك مبدعين؟ فلماذا لم تسرق منهم جذوة الإبداع في العصور الحديثة المتسمة بثقافة الطمع والجبن؟».

لقد كان العرب على حق في تقديرهم  لمبدأ «الاقتباس»؛ ذلك أنّ هذا المصطلح جاء من فعل اقتناء قبس النار من خيمة نحو الأخرى؛ كي تعمّ الفائدة وتُضاء مضارب القبيلة، وكذلك الشأن في مصطلح «الاستنباط» الذي يعود أصله إلى حضارة العرب الأنباط في منطقة وادي موسى، وعليه فقد سمّي كل تطوير في شؤون الدولة والمجتمع استنباطًا، خصوصًا في بدايات العصر الأموي؛ أمّا «التضمين» و«الاستعارة» و«المعارضة» في الشعر العربي القديم فتنمّ عن نبل في الإشارة إلى المصدر؛ لكنّ «التناص» الحديث كثير منه سرقة مبرّرة وغير موصوفة، وكان الأجدر تسميته بـ«التلاص».

موسوعة للسرقات

خليل صويلح

خليل صويلح

%d9%86%d8%a7%d8%b8%d9%85-%d9%85%d9%87%d9%86%d8%a7

ناظم مهنا

«لا أعلم مصير (موسوعة السرقات الأدبية) التي أُعلن عن قرب صدورها قبل سنوات»، يقول الروائي السوري خليل صويلح، ويضيف: «لكنني علّقت على هذا الخبر وقتها، بأنها الموسوعة الوحيدة التي لا يتمنى كاتب عربي أن يجد اسمه في فهرسها. أظن أن (غوغل) لجم مثل هذه الاعتداءات، نظرًا لسهولة كشفها، وانتفاء المسافات بين الجغرافيات المتباعدة، بسطوة الميديا، على رغم أن محاولات الانتهاك لم تتوقّف، أقله في الشوارع الخلفية للكتابة، عن طريق كتّاب مغمورين لا يمتلكون رصيدًا سابقًا يخشون إهداره». اليوم هناك نوع من اللصوصية المضمرة، وذلك بتحويل فلم أجنبي إلى رواية، بإضافة توابل محليّة على الحدث، بقصد إخفاء معالم الجريمة، أو اللجوء إلى مواقع التواصل الاجتماعي ولطش شذرة من هنا وشذرة من هناك، من دون ذكر صاحبها، لمآرب عاطفية لا تتعدى الحائط الهش للموقع، يعقب خليل صويلح، ويقول: «ربما كان (ماريو) بطل رواية أنطونيو سكارميتا (ساعي بريد نيرودا) من أروع لصوص الأدب؛ إذ كان يهدي حبيبته مقاطع من شعر نيرودا لتعزيز علاقته بها، قبل أن تكتشفه أمها، وتدمّر شاعريته المستعارة. لكنني أظن أن فوضى ما نعيشه اليوم، جعلت من السرقة الأدبية في حالة اكتشافها، مجرد وجهة نظر، وليست خيانة، بدليل انطفاء مثل هذه الانتهاكات بسرعة، ليعود أصحابها إلى الساحة ببزة أدبية جديدة، وكأن شيئًا لم يحدث».

   

سرقة مع بعض التضليل

القاص والأديب ناظم مهنا يعقب على الموضوع ساردًا حكايته أيضًا مع السرقات الأدبية: «منذ أيام قليلة مضت، أنهيتُ قراءة كتاب مترجم يتجاوز السبعمائة صفحة، اشتبهت بترجمة الكتاب، وتذكّرتُ أن في مكتبتي طبعة قديمة للكتاب نفسه بجزأين لمترجم آخر من بلد آخر، وأن الترجمة مسروقة مع بعض التضليل، وهذا مشين، لا سيما أن الترجمة المسروقة صادرة عن مؤسسة نشر رسمية قد تفقد مكانتها إذا ما استمرت في التهاون بهذه الأمور». السرقات الأدبية أمر شائع جدًّا في التاريخ الأدبي، وقد أفرد لها النقاد العرب القدامى صفحات عديدة في كتبهم، ويكاد لا يخلو كتاب نقد قديم، بقليل أو بكثير، من ذكر هذا الداء- يضيف القاص السوري مهنّا ويتابع: «ابن رشيق يتحفنا بأنواع عديدة من السرقات في كتاب (العمدة) منها: الاصطراف، والاجتلاب، والانتحال، والاهتدام، والإغارة، والمرافدة، والاستلحاق، وكلها قريب من قريب في باب السرقات. ومنها عند بعضهم: الاختلاس، والعكس، والمواردة (التوارد)، والتلفيق، والالتقاط، وبعضهم يسميه الاجتذاب والتركيب. وابن الأثير جمعها في ثلاثة أقسام: نسخ: أخذ اللفظ والمعنى. وسلخ: أي أخذ بعض المعنى. ومسخ: أي إحالة المعنى إلى ما دونه». بعض النقاد خفف من قسوة المصطلح فقال ابن قتيبة بـ «الاحتذاء أو الأخذ». ورأى ابن رشيق أن اتكال الشاعر على السرقة بلادة وعجز، وتركه كل معنى سُبق إليه جهل، وخير الحالات الوسط، والمخترع له فضل الابتداع، غير أن المُتبع إذا تناول معنى فأجاده في أحسن كلام؛ فهو أول من مبتدعه، وله فضيلة حسن الاقتداء. وثمة من رأى منهم أن من أخذ معنى عاريًا، فكساه لفظًا من عنده، كان أحق به. إلا أن عبدالقاهر الجرجاني- كما يقول الأديب ناظم مهنا- رفض هذا لانعدام وجود معنى عار من لفظ يدل عليه، ولشكّه بإمكان أن يأتي أحد بلفظ من عنده لمعنى من المعاني، وأن التغير في اللفظ يتبعه تغير في المعنى والعكس أيضًا.

شعراء كبار اتهموا بالسرقة

شعراؤنا الأقوياء جُلُّهم اتهِموا بالسرقات! من امرئ القيس، مرورًا بأبي نواس، وأبي تمام، والبحتري، والمتنبي، وحتى أدونيس. إنما لا بد أن نميز السرقة الأدبية المذمومة، من التأثر الذي تتوالد منه السلالات الأدبية وتتفاعل- يشرح الكاتب ناظم مهنا وجهة نظره في ذلك قائلًا: «على رغم تداخل الحالتين أحيانًا يكون الخيط الذي يفصل بينهما واهيًا؛ ففي نصوص الحداثة وما بعد الحداثة، يأخذ التفاعل بين النصوص أشكالًا متعددة من التضمين أو عملية ابتلاع وهضم نصوص أخرى في نص واحد، ويعدّ بعضهم هذا سرقة. وفي ذاكرتي عشرات الشواهد التي عاصرتُها وسمعتُ بها عن سرقات أدبية تبلغ وقاحتها حد الطرافة، فلقد تعرّضتُ لحالتين مختلفتين من هذا التماس بين السرقة والتفاعل لا مجال ولا جدوى من الخوض فيهما؛ إلا أنه لا يشغلني كثيرًا موضوع السرقات الأدبية، ولا توجد ملكية خاصة للأفكار، وكما قال الأسلاف: المعاني مطروحة في الطرقات لمن يشاء. إلا أنني أرى أن على الكاتب أن يكون مخلصًا لمخيلته ولشخصيته. وأعتقد أن السرقة بشكلها البشع والوقح شائعة اليوم في عالمنا الصفيق، العدواني إلى هذا الحد، حيث كل شيء فيه مباح بما في ذلك الحياة ذاتها!».

السارق قاضيًا

نذير جعفر

نذير جعفر

إبراهيم المصري

إبراهيم المصري

من المفارقات العجيبة أن كثيرًا من الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي التي تحمل اسم «السرقات الأدبية»، أو «معًا ضد السرقات الأدبية»  تضم عضوية بعض لصوص الأدب والترجمة المشهود لهم! وشر البلية ما يجعل السارق قاضيًا! فكم هو واطئ حائط الأدب والفكر والفلسفة والعلم! – يعلق بدوره الناقد نذير جعفر متسائلًا: «كيف للص أميّ مبتدئ أن يحسب ألف حساب لسرقة مادية عينية صغيرة، ولا يتوانى لص «مثقف» عن سرقة شكسبير أو نجيب محفوظ أو أدونيس أو لوتريامون أو رامبو أو الحلاج بضغطة واحدة في وضح النهار! لا بل سرعان ما يُنصّب ذلك اللص (المثقف) نفسه قاضيًا، ويوجّه التهمة لهؤلاء الذين سرقهم ليبعد الشبهة عما اقترفه بحقّهم!».

كثير مما يسمى سرقات أدبية في التراث ليس سوى تناص وتوارد صور وأفكار وتشابه في سياق التجارب الإنسانية، ومع ذلك عدّه القدماء سرقات، ولم يتساهلوا مع أصحابها سواء على مستوى بيت من الشعر أو مطلع قصيدة أو صورة بيانية، أما اليوم فهناك سرقات موصوفة كاملة لكتب بعينها، وأبحاث، ورسائل جامعية، ودواوين شعر، وهي تمر دون ضجيج لأن هذا الحقل، حقل السرقات الأدبية بات ملتبسًا ومشبوهًا، بسارقيه ومسروقيه وشهوده وقضاته! لا بل إن كثيرًا ممن يدعون سرقة نتاجهم أو يسرقون نتاج غيرهم ليسوا سوى متطفلين على الإبداع، وغايتهم لفت الأنظار، أو تحقيق ربح ما، أو نيل شهادة ليس غير! حتى قوانين الملكية الفكرية لم تُفعّل في بلادنا حتى الآن لإحقاق الحقّ! فمن يملك شرعية توجيه الاتهام أو الحكم بالبراءة؟

قرصنة

سوف يُنظر إليكَ على أنك تُلقي مزحة، لو تحدثت عن (حقوق الملكية الفكرية في العالم العربي) – يقول الشاعر والروائي المصري إبراهيم المصري: «تلك الحقوق المتصلة بإنتاجٍ أصيلٍ ينتجه إنسانٌ ما أو يخترعه، وإذا كانت هذه الحقوق واضحة الحدود إلى حد كبير في شأن المنتجات الصناعية على سبيل المثال، فإنها تكاد تنعدم في المنتجات الإبداعية، إذ عدا السرقة المباشرة التي يتم فيها سرقة كتاب بالكامل أو بعض فصوله، فإن الغموض هو السائد في عدد لا يُحصى من السرقات، لا تتطلب أكثر من تمويه أو إعادة صياغة، ليصبح ثمة مُنتج جديد لم يتعب صاحبه في إنتاجه. لكن حتى لو أمسكنا أحدًا بالجُرم المشهود، فمن سيحاكمه أو يحاسبه؟ حتى لو حُوسب قضائيًّا، فإنَّه يظل طليقًا بعد أن يدفع غرامة على سبيل التعويض، وثمة حكاية تم تداولها مدة طويلة عن (شاعر مصري مشهور تلفزيونيًّا) سرق كما قيل نصوصًا من شاعر آخر في صعيد مصر، وهذه النصوص مصنفة ضمن (فن الواو) أحد فنون القول الشعبي في الصعيد، وبعد الحكم على الشاعر الذي قيل إنه سرق وتغريمه خمسة آلاف جنيه، حكمت محكمة النقض بعد ثلاث سنوات من الجدل حول هذه القضية ببراءة الشاعر، إذ يُعدُّ من (الشطارة) في بلد كمصر أن تدوس القانون وتعبر عليه إلى مصلحتك الشخصية. وإذا خرجنا من السرقات الأدبية والفكرية إلى عالم النشر العربي، فماذا يمكن أن نقول عن الطباعة اللاقانونية للكتب، إلى حد أن روائيًّا مصريًّا مشهورًا يشكو من أنه يجد نسخ روايته المزيفة طباعيًّا أي (المقرصنة بالفعل) مطروحة للبيع على بسطات باعة الصحف في القاهرة!».

محمد‭ ‬مظلوم‭: ‬تعرضت‭ ‬لأنواع‭ ‬من‭ ‬السرقة

%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d9%85%d8%b8%d9%84%d9%88%d9%85

محمد مظلوم

يرى الكاتب والشاعر العراقي محمد مظلوم أن عبارة (سرقة أدبية) تنطوي على «تناقض داخلي في هذا التضاد الظاهر بين الصفة والموصوف، فالسرقة تتناقض مع الأدب بوصفه إبداعًا، لذا لا يمكن للسرقة أن تكون أدبًا، مع أنها ترقى أحيانًا إلى أن تغدو ضربًا من الإبداع المحتال! النقاد العرب القدامى انتبهوا لهذا الجانب فكانوا متشدِّدين فيه، فصنَّفوا حتى السرقات في المعاني نوعًا من الإغارة والغزو بما تحمله من معاني السلب والنهب، وحتى القتل والأسر! وبخاصة عندما يكون المعنى المغار عليه شخصيًّا ومبتكرًا، وليس معنى عامًا مبذولًا. في تجربتي الكتابية واجهت هذا النوع من الاستحواذ غير الشرعي على عبارات وأفكار معينة بدرجات متفاوتة في نصوصي وكتاباتي الأخرى، لكنني لم أحفل للأمر كثيرًا، حتى إنني أوجدت لبعضها مبررًا من دون التدقيق في سوء النوايا المحتمل، فأحلتها إلى الإعجاب والتأثر وحتى التخاطر!».

في لحظتنا الراهنة انتعشت قضية السرقات الأدبية مع انتشار وسائل التواصل الحديثة لتبلغ مبلغًا خطيرًا، وسط هذا الكم المخيف من النصوص المتناسخة، ولا أقول المتشابهة حتى «تشابه البقر علينا» في ظلام هائل معبر عن ظلامية ثقافية راهنة. وهي ظاهرة استشرت ولم تجد من يرصدها أو يدينها، حتى أصبحت جزءًا من أخلاق العصر _ يضيف الشاعر العراقي متابعًا: «مع شيوع تقنيات (النسخ واللصق) في وسائل الكتابة الحديثة أصبح الأمر أقل عناءً من (الإغارة)، ولم يعد السارق بحاجة حتى إلى نسخ ما يسرقه بالقلم والورقة ليخطر له إبدال عبارة أو كلمة أو حتى فاصلة! وهنا لم نعد نتحدّث عن نصوص وأفراد، بل ثمة مؤسسات‌ ومنابر قامت على هذا النوع من الاستيلاء غير الشرعي». بيد أن هذا النوع من السرقات يبقى ضربًا ساذجًا من السرقة، وما لصوصه سوى ضحايا لغوايات النص الآخر، ففي نهاية المطاف لا يمكن الاستحواذ التاريخي على نص الآخر. فالنص كالذكورة والأنوثة لا يمكن أن تُسرق، بل يمكن أن تشوَّه وتمسخ فحسب!

في موازاة هذا النوع ثمة سرقات أخرى يصفها محمد مظلوم «بأنها سرقات محترفين، كأن يقوم أحدهم بسرقة جهدك اعتباريًّا وماديًّا، وتسويقه في عمل يدر عليه مردودًا ماديًّا، هذا النوع من السرقة تعرضت له كذلك، وهو لصوصية صريحة من دون أدنى مواربة نقدية، فهي لا تحتمل الكثير من مقولات التناص والتأثر والتخاطر والقصة المأثورة عن الحافرين!».

الشعر السوري بين داخل وخارج: قصيدة واحدة مكتوبة بقلم الحرب

الشعر السوري بين داخل وخارج: قصيدة واحدة مكتوبة بقلم الحرب

لا تزال الحرب تُنبئ بتداعياتٍ كثيرة على مستوى الكتابة الجديدة في سوريا، فمن «هجمة الستينيات» التسمية التي أطلقها الشاعر شوقي بغدادي على جيله في تصديره لأنطولوجيا الشعر السوري المعاصر، مرورًا بـ«منعطف السبعينيات» أكثر المراحل تمردًا على القوالب الشعرية الجاهزة كما أطلق عليها الشاعر منذر مصري، الذي أصدر في الحرب كتابه اللافت «لمن العالم» (دار نينوى- 2016م)، وصولًا إلى شعراء الحرب في عامها السادس، والانقسام الذي أصاب النخب الأدبية بين داخل وخارج، نلحظ ثيمات جديدة لنصوص مفخخة حملت لعنة الاقتتال الدائر، مثلما حملت وزر أحلامها المنكوبة.

جمال-شحيد

جمال شحيد

فالشعر السوري المعاصر وجد انحسارًا في السنوات الأخيرة، في رأي الناقد جمال شحيّد الذي يقول: إن «الرواية أخذت حيزًا كبيرًا ومهمًّا في الثقافة العربية؛ إذ إن الانحسار الذي تم للشعر عوضت عنه الرواية ولو كان جزئيًّا؛ لكن موت الشعر في بعض البلدان الأوربية والمجتمع الاستهلاكي لا يعني موته في بلداننا، فالشعر في سوريا ما زال إلى حد ما بخير رغم النكسة التي حصلت لهذا الفن الأدبي العظيم، علمًا بأن شعوب العالم الثالث بشكل عام تهتم بالشعر، فكل شاب في مرحلة حياته وبخاصة مرحلة المراهقة يكتب شعرًا كون القصيدة في النهاية هي تعبير عن الحياة والإنسان، وبحاجة لأن يعبّر عن مشاعره وأحاسيسه فيبدأ بالشعر ويتركه عندما ينضج إذا أراد». ويضيف الناقد شحيّد أنه شخصيًّا بات متأكدًا من أن الحرب التي تمر بها سوريا أنتجت شعرًا جميلًا، «فالشعر يصبح نشيطًا في الأزمات».

لم ينج الشعر السوري بطبيعة الحال مما ألمّ بالوطن برمته من كوارث. وكما انقسم الوطن إلى شظايا انقسم الشعر وشعراؤه إلى شظايا، يقول الشاعر تمام تلاوي المقيم حاليًّا في السعودية ويضيف: «ثمة شعراء وقفوا إلى جانب النظام، وآخرون وقفوا إلى جانب الحراك، وآخرون اختاروا الحياد، وثمة من آثر الصمت. وتبعًا لهذه المواقف جاءت أشعارهم، على أن هنالك من صمت عن قول الشعر ليس لأنه لا موقف له مما يحدث، وإنما لأن الكارثة ألجمت لسانه. ولا ملام عليه، فمن يستطيع النطق أمام كارثة كهذه، سوى أشخاص لديهم قدرات استثنائية على الكلام، فكلما اتسعت الكارثة ضاقت العبارة».

إننا نحتاج زمنًا حتى نستوعب هول الصدمة، نحتاج زمنًا حتى نستطيع أن ننظر بعين شاعرية إلى هذا الخراب العميم وهذا الموت المجاني وهذا التشرد المليوني عبر الحدود والبحار- يستطرد الشاعر تلاوي الحائز على جائزة الشعراء الشباب في دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008م: «على المستوى الشخصي كان موقفي واضحًا منذ البداية مع التغيير السلمي ولاحقًا ضد السلاح وضد الأسلمة؛ لأنني أعتقد أن الموقف الأخلاقي والثقافي والوطني يجب ألا يكون منحازًا إلا لما يخدم مصلحة الوطن والتغيير نحو الأفضل بالوسائل الوطنية والسلمية التي لا تؤدي إلى مزيد من القتل والخراب، فكتبتُ قصائد عدة تتناول في الأساس البعد الإنساني لما آلت إليه حال الإنسان السوري منذ آذار 2011م، كما كتبتُ عن الموت وعن الهدم وعن التشرد وعن الشرخ الإنساني الذي جاء نتيجة للشرخ على المستوى الوطني».

ثمة شعراء كثر تهجّروا في المنافي، وكانوا في معظمهم مؤيدين للحراك، وكتبوا له وغنوا لشهدائه. ومنهم من التحق بالعمل الإعلامي أو الميداني، وهم شعراء مبدعون ومعروفون على نطاق واسع، بينما ظل معظم الشعراء المحايدين أو المؤيدين داخل سوريا- يضيف صاحب ديوان «تفسير جسمكِ في المعاجم»: ثمة شعراء استشهدوا بالقصف كالشاعر محمد وليد المصري، أو استشهدوا بسكين داعش كالشاعر بشير العاني، وشعراء آخرون اعتقلوا كالشاعر وائل سعد الدين الذي أفرج عنه النظام مؤخرًا، وثمة شعراء تهجّروا من بيوتهم ومدنهم أو هربوا، وهؤلاء أسماؤهم لا حصر لها. الشعر السوري في رأيي الشخصي حاليًّا يشبه مصاير هؤلاء الشعراء، فهو إما شاعرٌ مقتول أو أسير أو مهجّر أو هارب».

الشِّعر يقود المرحلة

زيد-قطريب

زيد قطريب

الشاعر زيد قطريب الذي أدار وأشرف في سنوات الحرب على ملتقى «ثلاثاء شعر» في العاصمة السورية منتجًا عنها أنطولوجيا بعنوان «شعراء تحت القصف» باللغتين العربية والألمانية له رأي أقل تشاؤمًا في هذا السياق؛ إذ يقول: «نحن أمام انعطافة كبيرة على صعيد النص الشعري، سوف تتبلور لاحقًا لكن متى؟ لا أحد يعرف بالضبط! هذا الأمر تؤكده كثير من النصوص المكتوبة من أجيال شعرية مختلفة، فالمسألة لا تتعلق بالشعراء الشباب كما يتخيل البعض. هذه الانعطافة لا يُقصد بها حضور ألفاظ الحرب وأسماء السلاح ومفردات الانفجارات وأصوات الرصاص؛ لأن حضور هذا المعجم أمر طبيعي، ولا يمكن أن يعد انعطافة أو تجديدًا. إنما هناك انعطافة كبيرة على صعيد المعنى والشكل في آن واحد، فهذه الحرب كانت مناسبة لاستيقاظ كل الأسئلة الفكرية والفلسفية المؤجلة منذ أمد بعيد، وهو ما أدى عمليًّا إلى استيقاظ أسئلة الشكل المتعلقة بأسلوب الكتابة الشعرية، ولنقل: إن هناك علاقة جدلية بين الطرفين؛ بحيث لا خلاف على أسبقية المضمون على الشكل أو بالعكس، فكل واحد منهما يتسبب في إيقاظ الآخر . قريبًا، ستودّع كثير من الكتابات الشعرية معجمها المعروف والمستخدم حاليًّا وأقصد به اللغة العربية بشكلها الحالي، في إشارة إلى تشكّل معجم جديد يفكُّ عقد التحالف الذي نشأ تاريخيًّا بين النص الغيبي الديني والنص السياسي الاستبدادي، وكل ذلك بفضل الحرب التي أعادت أسئلة الانتماء والهوية والثقافة والذائقة الجمالية إلى الواجهة».

اليوم كما يخبرنا الشاعر قطريب: «سيتولى الشِّعر قيادة المرحلة الجمالية والثقافية القادمة ليعيد صياغة الذهنية والمخيلة السورية التي رزحت طويلًا تحت الاحتلال العربي، والآن نحن أمام حركة تحرر كبيرة يقودها النص الشعري، وهي تأتي تتمة لما فعله شعراء سوريون عظماء في التاريخ بدءًا من المتنبي والمعري وصولًا إلى السيّاب والملائكة والماغوط وأدونيس»!

جزيرة تنمو وسط المحيط

ويقول الشاعر باسم سليمان الذي أصدر خلال الحرب أكثر من كتاب شعري وروائي كان أهمها «تمامًا قبلة»: «الشعر ليس الهدف منه فنيًّا البتة بل سياسيًّا، فالربيع العربي الذي أراد القطع مع الخطاب الثقافي السائد والمتماهي مع السلطة المثار عليها، ذهب مغتربًا في وصف الجيل الشعري الذي نضج وأثمر خلال سنوات الصراع المستمرة، فوصفه بأنه جزيرة تنمو في وسط المحيط لها جملها واستعاراتها ومجازاتها الخاصة، وكأن اللغة ولدت الآن لكن المدقق والمتابع بشكل فني من دون التأثر بتجاذبات الجهويات السياسية المتبناة؛ يستطيع أن يرى التأثير الواضح للأسماء الكبيرة في الشعر السوري على هذا الجيل واستنساخ تجربته وتطويرها، وهذا ليس عيبًا فأمير الشعراء وقف وبكى كما فعل ابن حذام وبالتمعّن أكثر، يكتشف كيف تشتغل الآلة الثقافية السياسية في تعويم الأسماء وتوجيه الخطاب الشعري نحو سوق العرض للاستهلاك التطهيري وفق رؤية أرسطو»!؟

باسم-سليمان

باسم سليمان

ليس ما سبق هو التقليل من المنجز الشعري السوري في سنوات الموت، بل دفاعًا عن الجمال وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من التلوث الذي أصاب جوانب الحياة السورية كافة- يعقب الشاعر باسم سليمان مضيفًا: «إن كان من ثورة نقدية مضادة تعيد الشعر السوري إلى ريادته لا بد لها من أن تعترف بأن الشعرية السورية قبل الحرب وخلالها، سواء من ناحية الإيجابيات أو السلبيات- كررت إنتاج ذات المناحي السيئة والترويج لها على أنها الخير الوفير في الشعر السوري الآن، فالقطيعة التي أُمل منها أن تحرِّر الشعر من تجاذبات الجهويات السياسية؛ كي ينتصر لقيم الحق والجمال والخير، أكملت بنفس النسق الذي ثارت عليه».

أين الشعر؟ تتساءل الشاعرة السورية سوزان علي مردفةً: «عناوين كثيرة طُبِعت وتطبع منذ بداية المأساة السورية في الداخل والخارج، ومع إيماني العميق بأن الحرب بفوضاها وموتاها تجعلنا لا نرى، فإن النتاجات الشعرية فاقت أي إنتاج أدبي آخر، مع كل الغرق، مع كل الضبابية التي تحيط بالمشهد، هذا بلا شك ما تدل عليه أغلب النصوص الشعرية التي خلصت إليها السنوات الست الأخيرة في سوريا».

وتضيف سوزان علي: «للحظة تشعر فيها أن الشاعر يرقب ما يجري في الشارع، ثم يبدأ بتدوين أحداثه داخل ورقة في جيبه. تأخذ رحى الحرب مفردات الشعر وتطحنها، لتجرّدها من كل ما ألفناه من الشِّعر السوري».

الكارثة حدثت لنا في الموت، ولم يكن هناك من عمل يوازي هذا القتل- تشرح علي وتضيف: «لأننا في إثرهِ نمشي، نحن لم ننشف بعد، وإن نظرنا خلفنا لن نرى سوى ظلال تتكسر، وكما نضع كفًّا فوق جبهتنا أثناء ظهيرة حادة لنرى بصعوبة، الشعر اليوم يكاد لا يُرى؛ بالمقابل هناك عناوين تمسك خيط الألم من بدايته قبل حتى أن تفتح الكتاب لتقرأ».

كلا إن الشعر لا يلفظ أنفاسه الأخيرة، تقول سوزان علي وتضيف: «إنه يعطي الانطباع بأنه متعب حقًّا كما وصّف الشاعر المكسيكي (أوكتافيو باث) يومًا حال الشعر، فالبلاد متعبة أيضًا، حيث القبور مفتوحة سلفًا، والغبار غدًا سيكون سميكًا فوق الكتب، الوقت يترنح في ظلِّه، والشِّعر ينتظر طارقًا جديدًا يقوده إلى العماء الأول، صافيًا عذبًا كما كان».

شوقي بغدادي: شعراء يتشابهون كأنهم يحبون امرأة واحدة

شوقي-بغدادي

شوقي بغدادي

الشاعر شوقي بغدادي له رأي مختلف في شعراء اليوم؛ إذ يقول: «الشاعر الحقيقي هو الذي يموت إن لم يكتب، فالشِّعر نابع أولًا وآخرًا من المعاناة الشخصية للكاتب، وهذا ما لا أراه عمومًا عند شعراء اليوم الذين يتشابهون في كتاباتهم وكأنهم يحبون امرأة واحدة أو كأنهم يكتبون من دون أن يعيشوا ويعايشوا ما يؤلفونه من قصائد».

الشعر العربي قديمًا كان له مكان الصدارة لكنه اليوم للأسف يجلس في الصفوف الخلفية من المشهد الثقافي السوري -يضيف بغدادي- فكون الشعر نابعًا من إصغاء الشاعر لصوته الداخلي هذا لا يعني أن تخلص قصيدة اليوم إلى نوع من الهوامات، بل يجب تكوين المناخ النفسي والعاطفي على أساس الصدق في القول الشعري، لا من باب التزيين والاحتفاء بالأفكار الكبيرة؛ بل بالتعويل على أهمية الشكل الفني وضرورته في إبداع النص الشعري المتوازن والمؤسس لإشراقات جديدة في القصيدة العربية المعاصرة». الشعر إذًا هو لغة الروح لا لغة العقل، فليس مطلوبًا من الشاعر أن يكون واعظًا أو داعيًا أو خطابيًّا، بل المطلوب منه أن يكون صادقًا وجريئًا في طرح الشكل الفني وترسيخه في نصوصه، وهذا لا يعني كما يرى بغدادي أن «الشعر الحر هو الصيغة الوحيدة للتعبير؛ إنما هناك الشعر العمودي الذي يعد أيقونةَ الشِّعر العربي، لكن من يستطيع الكتابة اليوم كبدويّ الجبل أو سليمان العيسى، فهؤلاء قلائل جدًّا، ولا يتقنون التعبير بأدوات قصيدة العمود التي لم تندثر لكن شعراءها يعدون على أصابع اليد الواحدة».