الدبلوماسية الشعبية: الصحافة ليست كلَّ شيء

الدبلوماسية الشعبية: الصحافة ليست كلَّ شيء

 في تعليق له مع القناة البريطانية الرابعة حول صورة المملكة في أوساط البريطانيين، كشف وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بأنه على الرغم من عدالة قضايا المملكة، إلا أن المملكة لم تقم حتى الآن بالدور اللازم في التواصل مع دوائر التأثير داخل المجتمع البريطاني. الجديد الذي يمكن ملاحظته في تعليق الوزير أنه لم يقتصر في شرح تصوره لصناعة التأثير وصياغة الوعي بحصره على المؤسسات الإعلامية، بل تجاوزها ليركز أكثر على التواصل مع مراكز البحث، والمؤسسات الأكاديمية والثقافية، وذكر تحديدًا أهمية التواصل مع المجتمع البريطاني.

بشكل ضمني، أراد الوزير أن يلخص الإشكالات المتعلقة بصورة السعودية خارجيًّا في غياب التأثير الفاعل لمفهوم «الدبلوماسية الشعبية/ Public Diplomacy» للمملكة، وهو المفهوم الذي يقدم رؤية أوسع نحو مصادر صناعة التأثير؛ وتحديدًا من يصنع هذا التأثير، ومن أين يبدأ، وكيف يبدأ، وما المواقع التي ينتقل من خلالها، وما الآليات التي تكرسه وتروج لوجوده؟

ما زال معظم المهتمين بتشخيص صورة المملكة خارجيًّا يحصرونها على التأثير الصحافي والإعلامي، وتحديدًا ما يكتب وينشر عن السعودية في وسائل الإعلام المرئي، والمقروء، والمسموع. ويقرر هؤلاء المهتمون من خلال ما تتناوله وسائل الإعلام عن المملكة أن الصورة الذهنية والانطباعات والمواقف المتشكلة عن المملكة نشأت بفعل افتقاد السعودية لصوتها في الصحافة الغربية، وأن هذه الصحافة طالما عمدت إلى عرض القصص والمواد الصحافية غير الدقيقة عن المملكة، وإلى تشويه مواقفها الحقيقية في أوساط المجتمع الغربي والمؤسسات الدولية.

ويتعاظم الشعور بأن المملكة مستهدفة بتشويه صورتها والإساءة لمواقفها بعد أن قررت المملكة أن تخوض دورًا أكبر في كبح صراعات المنطقة، وهو الأمر الذي يمليه المنطق السياسي بحكم حجم تأثيرها السياسي ودورها الديني والاقتصادي، والتزامها العروبي تجاه أحداث المنطقة، لا سيما أن الأحداث السياسية التي تعصف بالمنطقة على أكثر من صعيد منذ خمسة أعوام قد أفرزت حركات تطرف متوحشة ترفع شعارات دينية إسلامية، وتقاتل في أكثر من بلد عربي. وعلى الرغم من أن السعودية تعد من أكثر دول العالم التي تم استهداف أمنها ومنشآتها من هذه المجموعات، وعلى الرغم كذلك من موقفها الواضح في دعم أي جهد دولي لمحاربة هذه الحركات، إلا أن هناك مؤسسات غربية إعلامية وسياسية اجتهدت دومًا في محاولة تفسير جذور تطرف هذه الحركات من خلال عرض قراءات لأصول هذه الظاهرة بربطها بدول معينة في المنطقة، ومنها المملكة.

تفعيل الأنشطة الاتصالية

ومع هذا الواقع تتضاعف حاجة دولة بحجم المملكة إلى تفعيل أنشطتها الاتصالية بمفهومها الشامل تحت مظلة الدبلوماسية الشعبية كما لخصها الوزير، بما يضمن تبيان مواقفها في سياقاتها الصحيحة، ويحصن صورتها في الأوساط المؤثرة من أي محاولات لتشويهها والإساءة إليها. وعلى الرغم من أن الإعلام هو إحدى أدوات التأثير فيما يتعلق ببناء الصور الذهنية، إلا أنه في مفهوم الدبلوماسية الشعبية هو محطة نهائية لظهور هذا التأثير وليس صناعته، إذ إن هناك محطات في صناعة التأثير تسبق ما يتم تعاطيه في وسائل الإعلام، وهي الميدان الأصيل الذي يتم فيه بناء الأفكار والصور الذهنية، قبل أن تجد طريقها، أو يتم ترحيلها معلبة وجاهزة إلى الوسائل الإعلامية.

adel-al-jubeir

وزير الخارجية السعودي عادل الجبير

يجب أن يتم تجاوز قناعة أن تحقيق مصالح الدول السياسية يمكن الاكتفاء بإنجازه عن طريق الاتصال على مستوى المسؤولين الرسميين بين الدولتين فقط، والتقليل من أهمية التواصل مع الناس والمؤسسات العامة والخاصة في تلك الدول،  إذ لا يجب أن يفوتنا ملاحظة أن هناك دولًا تتأثر تحركات مسؤوليها وتوجهاتها السياسية برأي دوائر كثيرة في مجتمعاتها،  وهذه مهمة تنجزها الدبلوماسية الشعبية التي لم يعد تفعيلها مجرد ترفٍ، أو شيئًا يمكن التخلي عنه، أو التقليل من أهميته، بل باتت اليوم مكونًا رئيسًا لدعم أداء وزارات الخارجية في كثير من الدول لا سيما الكبرى، ويقع في صلب التوجهات الإستراتيجية للسياسة الخارجية لهذه الدول، تحاسب عليه ولا تتهاون فيه.

وقد استدعى الكنيست الإسرائيلي مؤخرًا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أمام لجنة الرقابة في الكنيست، وخصص جلسة استثنائية لمساءلة حكومة نتنياهو حول أداء وزارة خارجيته فيما وصفوه بإخفاقات الدبلوماسية الشعبية ضد حركة (BDS) التي تنشط عالميًّا للدعوة إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها.

لكن اللافت في معرض دفاع نتنياهو الطويل عن أداء الدبلوماسية الشعبية في وزارته، أنه ركز على «صورة إسرائيل بين الشعوب» في إشارة للهدف الرئيس للدبلوماسية الشعبية وهي التأثير في الشعوب وليس الحكومات فقط،  لافتًا في هذا السياق إلى أن هناك من يدعي أن علاقة إسرائيل مع الولايات المتحدة آخذة في التدهور، ومضيفًا أنه على الرغم من اختلاف إسرائيل مع الإدارة الأميركية الحالية حول موضوع إيران، إلا أن الأهم هو أن الشعب الأميركي ما زال يؤيد حقوق إسرائيل ، مشيرًا إلى استطلاع نشره مركز الأبحاث الأميركي المعروف PEW الذي استطلع آراء الأميركيين حول من يؤيدون بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فكانت نسبة من يدعمون إسرائيل كبيرة جدًّا.

ولأن الدبلوماسية الشعبية في أبسط تعريفاتها تمثل نشاطًا لأي دولة بهدف التأثير في شعوب الدول الأخرى بما يحقق مصالح سياسية أو منافع اقتصادية، وبما يحافظ على صورة إيجابية تمثل هذه الدولة، فإن إنجاز هذا التأثير يجب أن يمر بسلسلة متنوعة من الأنشطة الاتصالية.

وفي حالة صورة المملكة خارجيًا، فإن عددًا كبيرًا من الأنشطة الاتصالية التي تبتدئ منها صناعة التأثير، لم تحظ بعناية كبيرة من النشاط، فكان إهمالها سببًا رئيسًا في صناعة الصور الذهنية السلبية عن المملكة. ومن الأرجح أن مرد هذا الإهمال هو اللبس في تقييم دور الصحافة في معادلة صناعة التأثير، والمبالغة في تعظيم دورها، من خلال النظر إليها إمَّا كأهم نشاط يستحق التركيز عليه كأولوية بين الأنشطة الأخرى في صناعة التأثير، وهذا يأتي على حساب إهمال النشاطات الاتصالية الأخرى، أو ربما بالنظر إليها كنشاط وحيد، وفي هذا افتراض خاطئ يقدم الصحافة كصانعة للتأثير، لا محطةً نهائية لظهور هذا التأثير الذي صنع خارج دائرتها.

ولقد بدا واضحًا مما يتم تداوله عن المملكة في الأوساط الخارجية والغربية خصوصًا، غياب تفعيل الجزء الأهم في الدبلوماسية الشعبية للمملكة والمتمثل في جوانبها الثقافية والترفيهية والأكاديمية والبحثية وغيرها من الجوانب التي لا تقع ضمن دائرة النشاط السياسي. فتم إهمال التواصل مع الدوائر الثقافية والمؤسسات الأكاديمية والتجمعات الصغيرة المنضوية داخل منظومتها، ومراكز البحث، والجهات الفاعلة غير الحكومية والمنظمات غير الربحية، والتواصل الفعال مع الأفراد المؤثرين وقادة الرأي في مجتمعات تتأثر بهذا النوع من الاتصال.

وهذه الدوائر عامل أصيل ومهم في بداية تكوين الأفكار والمفاهيم، وتطويرها، وترويجها حتى تستوي قضيةً ذات قيمة صحافية تتلقفها المؤسسات الإعلامية كمحطة أخيرة، نرى من خلالها هذا التأثير.

وتتعاظم كلفة غياب تفعيل الجوانب الاتصالية الأخرى في الدبلوماسية الشعبية للمملكة في ظل الثورة التقنية والاتصالية المتمثلة حاليا بشبكات التواصل الاجتماعي، إذ تمكن الأفراد من منافذ الظهور، وبروز صحافة المواطن، ولم يعد الأمر حكرًا في صناعة التأثير واحتكار المعلومة على الكيانات؛ أيًّا كانت هذه الكيانات، سواء إعلامية أم غيرها كما هو الأمر في السابق، فبتنا نرى عددًا من الدول بعد أن أدركت طبيعة هذا التحول، تسارع وترصد الميزانيات الكبيرة في تفعيل ما بات يسمى بالدبلوماسية الرقمية.

الدبلوماسية الرقمية

key-dوتعد الولايات المتحدة أول دولة تدرك أهمية دور العالم الرقمي كميدان مهم لنشاطاتها في الدبلوماسية الشعبية من خلال أسبقيتها في تأسيس أول إدارة بمسمى «الدبلوماسية الرقمية» داخل وزارة الخارجية، وتبعها بعد ذلك عدد من الدول.

تدرك كثير من الدول أنها كلما أرادت الانخراط أكثر في لعب أدوار سياسية أو اقتصادية على المستوى الخارجي، فإن ذلك يحتم عليها أن تقوم بجهود متوازية مع هذه الأدوار على صعيد ضمان صورتها خارجيًا بين شعوب الدول الأخرى. في مطلع أغسطس من العام الجاري، وضعت كوريا الجنوبية أسسًا قانونية جديدة لدعم الأنشطة الهادفة إلى تعزيز صورة كوريا، ورفع مستوى الوعي بين شعوب الدول الأخرى حول سياساتها ومصالحها. وكانت صحيفة «كوريا هيرالد» الإنجليزية قد وصفت هذه الخطوة بالمهمة، لافتةً إلى أنها تأتي استجابةً للنفوذ السياسي والاقتصادي المتنامي الذي تريد كوريا أن تؤديه على المستوى الخارجي، وقد زادت ميزانية نشاطاتها في الدبلوماسية الشعبية بأكثر من ضعفي ما تم رصده لهذه النشاطات في السابق.

ويبقى أن المملكة تتمتع بموقع مثالي لتفعيل سلة كبيرة ومتنوعة من النشاطات الاتصالية التي من شأنها تعزيز صورتها الإيجابية في الأوساط الخارجية، إذ تملك الإمكانيات والموارد المتمثلة في تعدد مؤسساتها التعليمية والبحثية والثقافية والتراثية والإنسانية، وهي مؤسسات يمكن أن تساهم بدور محوري في تعزيز فاعليتها نشاطات الدبلوماسية الشعبية السعودية، على أن تبدأ الخطوة من خلال تبني الإدارات المعنية بالدبلوماسية الشعبية في وزارة الخارجية تنسيق الأدوار بين هذه المؤسسات، والاستفادة من نشاطاتها من خلال برنامج اتصالي شامل.