“دنكرك”.. ﻓيلم ﻳﻨﺠﺢ ﻓﻲ دﻓﻊ اﻟﻤﺘﻔﺮج إﻟﻰ “اﻟﺘﻮﺣﺪ اﻷوﻟﻲ” (زياد عبدالله)

“دنكرك”.. ﻓيلم ﻳﻨﺠﺢ ﻓﻲ دﻓﻊ اﻟﻤﺘﻔﺮج إﻟﻰ “اﻟﺘﻮﺣﺪ اﻷوﻟﻲ” (زياد عبدالله)

نولان يوجه الممثلين أثناء التصوير

لا حاجة لكريستوفر نولان في جديده «دنكرك»، الذي بدأ عرضه في الصالات الأميركية من شهر تقريبًا، إلى أجهزة معقدة تجعل الحلم موازيًا للواقع ومسرحًا للصراعات كما في «استهلال» Inception 2010م، ولا إلى خيال علمي وثقب أسود ليتسرب منه أحد خارج الزمان والمكان كما فعل في «بين النجوم» Interstellar 2014م، فما حدث في «دنكرك Dunkirk» حدث بحق إبان الحرب العالمية الثانية وتحديدًا في شهر مايو 1940م حين أُجلِيَ ما يزيد عن 300 ألف جندي معظمهم من البريطانيين، كانوا محاصرين من جانب القوات الألمانية في ميناء «دنكرك» الذي تفصله أميال قليلة عن الشواطئ البريطانية. ينقضّ نولان على هذه القصة الملحمية ويلتقط منها كابوسيتها، فنشاهدها كما لو أننا حيال منام مهلك، سواء حمل صفة تاريخية أم لم يحمل!

وتبدو المعجزة التي وقعت بحق أكثر إعجازًا في السينما جراء ضغط الزمن واختزال أسبوع الآمال والآلام الذي استغرقته عملية الإجلاء إلى ما لا يزيد على مئة دقيقة، وليبتعد فعل مشاهدة «دنكرك» من «التلصص» بوصف السينما «وسيطًا للتلصص بطبيعتها» ليكون أقرب إلى المنام وعلى شيء من استدعاء كل ما يحقق أعلى درجات «التماهي»، وهكذا فإنه لن يكون هناك من محيد عن مقاربته بالاستعانة بنظرية الفلم وهي تعاين الصلة الوثيقة بين الأفلام والأحلام التي «تتسم بتلاحم الحس والعاطفة، أي الطريقة التي ينساب فيها المضمون العاطفي من خلال تجسيدات بصرية. وهي أيضًا -مثل الأحلام- تتسم بالانقطاعات المكانية والتثبيت الزماني: إن المتفرج السينمائي –مثل الشخص الحالم– مثبت في تتابع من الصور وهي تتكشف في الزمن. والأفلام –مثل الأحلام– تعتمد على الانتباه والحضور في التجربة، إنك لا تحلم حلمًا لا تكون موجودًا فيه، أو غير منتبه له. وكذلك الأفلام تميل إلى أن تتحكم بانتباهك». (بيزلي لفينغستون وكارل بلاتينيا، ترجمة: أحمد يوسف. دليل روتليدج للسينما والفلسفة. القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2013م) يصلح هذا الاقتباس لأن يشكّل آلية التلقي التي سيعايشها المشاهد مع «دنكرك» أو ما عايشته أنا على الأقل، وللتدليل على ذلك فإن الفلم يبدأ مع جندي بعينه ربما اسمه طوني، ولست متأكدًا ما إذا كان الممثل فيون وايتهيد من يجسد شخصيته، فقد كان رفقة حفنة من الجنود يتجولون في «دنكرك» وهم يبحثون عما يأكلونه أو يدخنونه، ثم فجأة يلعلع الرصاص، ويُقتل كل من كانوا معه، إلا أنه ينجو، وبعد أن يجتاز استحكامات الجنود الفرنسيين ينفتح أمامه البحر، حيث ستكون هناك أرتال مترامية لجنود على شاطئ رملي لا وجود لشجرة أو شيء يستظلون به أو يقفون تحته ليوهمهم بأن هناك ما يفصل بينهم وبين الحمم التي تمطرهم بها الطائرات الألمانية، كل شيء عارٍ وما من كساء إلا الموت. البحر من أمامهم والعدو من خلفهم، لا بل العدو في السماء والغمام وليس أمامهم إلا الهرب، الذي سيكون متعذرًا، يحتاج معجزات وليس معجزة واحدة.

الفلم – الكابوس

ماثيو ماكونهي في «بين النجوم»

فيما تقدّم مفتتح الفلم – الكابوس، وكل عنصر من عناصر ما نراه مهم ومؤثر، وهي عناصر كثيرة ومتداخلة تخص جموعًا غفيرة من البشر، والشخصيات بالكاد نعرف أسماءها كأن نميز توماس هاردي بصعوبة وهو يرتدي ثياب طيار مُقنِّعًا وجهه، في حين ينطق كينيث براناه بضع عبارات وهو قائد البحرية الذي يشرف على عملية الإجلاء ويبقى في نهاية الفلم ليتولى عملية إجلاء الفرنسيين كما يقول.

ينقسم «دنكرك» إلى ثلاثة خطوط درامية، منفصلة ومن ثم متصلة، لكل منها زمنه الافتراضي وهي: «المرسى» وهنا سنكون حيال المعضلة الكبرى التي يتأسس عليها الفلم، أي: الجنود الإنجليز العالقون على شاطئ البحر بانتظار السفن والبوارج التي عليها أن تعود بهم إلى الوطن، والزمن الافتراضي لهذا الخط هو أسبوع، في حين يكون الخط الثاني في البحر أو ما يطلق عليه في الفلم «المرساة» الذي يتأسس بتلبية السيد داوسون (مارك ريلانس) وابنه وفتى يصرّ على مرافقتهم نداء الحكومة البريطانية لمواطنيها بالمساعدة في إجلاء الجنود البريطانيين بقواربهم غير الحربية سواء كانت قوارب صيد أو يخوتًا أو أي نوع من القوارب، والزمن الافتراضي لهذا الخط هو يوم واحد، في حين يكون الخط الثالث في الأجواء عبر سرب طائرات «سبيتفيلد» الذي سعى لحماية الجنود ومجابهة الطائرات الألمانية وهي تُغرق البوارج وتفني المشاة على الشاطئ، وزمن هذا الخط هو ساعة واحدة.

ذلك هو الهيكل العام لبنية الفلم، الذي تهيمن عليه فكرة «النجاة» بوصفها كلمة مفتاحية لكل ما سنشاهده في الفلم، ولعل خلفيته التاريخية تقول ذلك أيضًا، والسؤال الذي يجيب عنه الفلم كامن بالكيفية التي سينجو بها هؤلاء الجنود والسفن الحربية لا تستطيع الرسوّ قريبًا من الشاطئ، ومعادل ذلك سينمائيًّا سيكون في تعقب مصير طوني وجندي آخر يقع عليه يقوم بدفن جندي آخر، كذلك الأمر بالنسبة للطيارين وهم يحاولون توفير نجاة من هم على الأرض في اشتباكهم مع الطائرات الألمانية، إلا أنهم يسعون لتحقيق نجاتهم أيضًا، وصولًا إلى السيد داوسون الذي يضع نصب عينيه المساهمة في نجاة أكبر عدد ممكن من الجنود.

التشويق آلية الفلم السردية

إن هذا الاقتباس طبعًا يشير إلى أهم ما حصل في «دنكرك» ألا وهو قيام البشر العاديين في النهاية بإنقاذ الجنود وهم يتوجهون بقواربهم لنجدتهم، إلا أنه يضيء على شيء رئيس للمشاهد أن يلحظه في الفلم ألا وهو غياب البطولة عن الفلم بمعنى الشخصيات الرئيسة، وفي الوقت نفسه خلو الشخصيات من العمق أو الخلفية، فهي تتحرك فقط في سياق الحدث الرئيس أي في الحاضر من دون ماضٍ أو دوافع عدا دافع النجاة، لا بل إنها تتلفظ ببعض العبارات هنا أو هناك، وهذا انعكاس لما قاله نولان عن «البطولة المجتمعية» ومسعى مجاميع كبيرة من البشر إلى النجاة.

فلم يكاد يكون صامتًا

يولد «دنكرك» شعورًا استثنائيًّا بالتماهي مع ما نشاهده بما يدفع للقول بأننا «نتوحد» معه، وهو ناجح جدًّا بدفع المتفرج إلى ما يعرف في أدبيات مقاربة التحليل النفسي للسينما بـ«التوحد الأولي» المرتبط لديه بالإحساس الوهمي لدى المشاهد بأن يتوحد مع مكان الكاميرا وهو بذلك «يمتلك المجال البصري للفلم»، وليكون «التوحد الثانوي» الذي يحدث مع الشخصية شبه معدوم إن صح الوصف، فنحن بوصفنا مشاهدين غير معنيين بها، ولم نمنح الأدوات التي تؤسس لعلاقة معها، ربما ما يهمنا هو مصيرها: هل ستتمكن من الهرب؟ هل ستنجو؟ و«تِـمبو» الفلم ونقلاته المونتاجية والمواقف الصعبة والمدهشة التي تعيشها كفيلة بذلك.

ولعل الخوض في أمور تقنية مثل كاميرا 65 ميلمتر آي ماكس التي استخدمها نولان في تصوير الفلم (مدير تصوير الفلم هويتي فان هويتيما مصوِّر معظم أفلام نولان) وطباعته في صيغة الـ 70 ميلمتر – كما يورد في لقاء «سايت آن ساوند» سابق الذكر – يشير إلى جمالية خاصة تظهر على الشاشة ونحن نتكلم عن عملية معالجة استثنائية للمادة المصوّرة لإحداث هذا «التوحد» سابق الذكر، ومواصلة نولان نأيه عن التصوير الرقمي، ولتأتي الموسيقا التصويرية (تأليف هانس زيمر سبق أن صنع موسيقا كثير من أفلام نولان)، التي لعبت دورًا دراميًّا أساسيًّا في الحفز والترقب والجو القيامي للفلم، ونحن نتكلم عن فلم يكاد يكون صامتًا.

حين أمسكت السينما الزمن في قطــار من ظـلال ……… (زياد عبدالله)

حين أمسكت السينما الزمن في قطــار من ظـلال ……… (زياد عبدالله)

يمضي القطار على سكته، وما من نية للّحاق به ولا النظر من نوافذه ولا حتى تتبعه بكاميرا، بل إحالته إلى ارتباطه الوطيد بعنصرين أساسين في السينما ألا وهما الحركة والزمن، وتثبيت اللحظة التي ظهرت فيها السينما رفقة قطار الأخوين لوميير والدرب الذي مضى فيه الفن السابع متنقلًا من محطة إلى أخرى، وما القطار –كما كل وسائط النقل- إلا انتقال في المكان محكوم بالزمن، وما السينما –حسب جيل دولوز- «إلا إعادة إنتاج وهم ثابت، عن طريق العرض؛ لأن السينما، كمنظومة، تعيد تأليف الحركة من خلال ردها إلى أية لحظة زمنية، تأتي قدرتها من التقلص أو التمدد، الإبطاء أو التسارع. ويتشكل في زمن المكان: الماضي، كما يتشكل في زمن الحركة: الحاضر؛ لأن الحركة في المكان انتقال، وحينما يحدث الانتقال في أجزاء في المكان، يحدث أيضًا تغيّر نوعي في حالة الكل»(1).

يتبدّى تاريخ السينما كما لو أنه لحظة «وصول القطار إلى المحطة» ثاني أفلام الأخوين لوميير العشرة التي عرضت في 25 ديسمبر عام 1895م، في «غراند كافيه- الصالون الهندي» في باريس، وقد أصيب حينها الجمهور بالذهول وهو يشاهد البشر يتحركون على الشاشة ويرى حركة الأمواج في مشهد «قارب يغادر الميناء» وتطاير الغبار في مشهد «هدم جدار». مع القطار امتزج الذهول بالخوف وهو يتوجه مباشرة نحو الجمهور، وأصيب من في القاعة بالهلع، ومنهم من ارتمى تحت الكراسي، وقد بدا أنه سيحول «القاعة التي نجلس فيها إلى ركام- مع أنه مجرد قطار من ظلال» كما يورد مكسيم غوركي في مقال له بعنوان «سينماتوغراف لوميير» نشره عام 1896م. وليصف تاركوفسكي لحظة «وصول القطار إلى المحطة»، بأنها «ليست اللحظة التي أعلنت ظهور تقنية جديدة، ولا اللحظة التي أسست لإعادة إنتاج الحياة. إنما كانت اللحظة التي وجد الإنسان فيها وسيلة للإمساك بالزمن وطباعته، ليصبح أساس السينما وقاعدتها»(2).

مشهد من فلم «وصول القطار إلى المحطة»

مشهد من فلم «وصول القطار إلى المحطة»

محطة مفصلية

سيواصل قطار لوميير رحلته، سيصل محطة جورج ميليه المفصلية في تاريخ السينما، ويخرج ذاك القطار عن سكة الوثائقي والتسجيلي، ويوضع في أفلام ميليه على سكة الروائي، مازجًا الفلم بالسحر، فاتحًا الباب على مصراعيه أمام المخيِّلة، مولِّدًا خدعًا بصرية تشد من أزر مخيلته العبقرية التي يبدو فيها القمر وجه إنسان تحيط به الأخاديد أو التجاعيد كما تلك التي تظهر على وجه القمر، ولتنغرز فيه كبسولة فضائية تطلق بواسطة مدفع وذلك في فلمه الشهير «رحلة إلى القمر» 1902م، وليؤسس كل ذلك في بنية مسرحية حيث اللقطة/ المشهد تجري أمام كاميرا ثابتة، والممثلون يدخلون الكادر يؤدون أدوارهم ثم ننتقل إلى مشهد/ لقطة ثانية في موقع ثانٍ، ولم يكتفِ ميليه «خيميائي السينما» -كما لقبه شارلي شابلن– بذلك بل أضاف إضافة أخرى إلى الفلم الصامت تتمثل في اللوحات المكتوبة التي لعبت دورًا مهمًّا في سرد الحكاية، وليست صدفة أن تدور أحداث فلم مارتن سكورسيزي «هوغو» 2011م في محطة قطارات باريس حيث يدير ميليه (بن كينغسلي) متجرًا صغيرًا يبيع فيه ما يصنعه من دُمى ميكانيكية، وذلك بعد تخليه عن السينما وخراب الأستديو الذي أنشأه (أول أستديو في أوربا) ومعه أفلامه عند اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ هو الذي صنع أكثر من 500 فلم قصير لم يصلنا منها إلا النذر اليسير، وليكون ميليه فنان الفلم الروائي الأول مثلما كان الأخوان لوميير أول فناني الفلم الوثائقي.

مشهد من فلم «سرقة القطار الكبرى»

مشهد من فلم «سرقة القطار الكبرى»

يظهر القطار مجددًا لكن هذه المرة في الولايات المتحدة، وينعطف بالسينما انعطافة جديدة عبر حضور المونتاج للمرة الأولى في فلم أدوين بورتر «سرقة القطار الكبرى» 1903م، بما يدفع للقول: إن كانت أفلام ميليه تتابعية، فإن «السرد في فلم بورتر سيجري وفق الترتيب الزمني للأحداث كما لو أنه اكتشف المونتاج المتوازي في شكله الأولي، كما ستظهر في هذا الفلم للمرة الأولى اللقطة الكبيرة؛ إذ يظهر «الكاوبوي» في نهاية الفلم موجهًا مسدسه نحو الجمهور»(3) الذي يصاب كما لدى عرض «القطار يصل المحطة» بحالة هلع معتقِدًا أنه سيطلق النار عليه، وعدا ذلك فإن الفلم يحافظ على الأسلوب المسرحي كما أفلام ميليه باستخدامه كاميرا ثابتة تصور كل ما يجري من زاوية واحدة لا تتغير، الأمر الذي سيعتمده بورتر كليًّا في فلمه التالي «كوخ العم توم» من دون لقطات كبيرة ولا مونتاج متوازٍ كما لو أنه صنع ذلك في «سرقة القطار الكبرى» عن طريق الصدفة، وسيكون على السينما أن تنظر غريفث وفلمه «مولد أمة» 1915م لكي يحرر السينما من البنية المسرحية، ويعلنها فنًّا يمتلك أدواته التعبيرية والسردية الخاصة معلنًا السينما فنًّا مستقلًّا قائمًا بذاته.

مشهد من فلم «غريبان في القطار»

مشهد من فلم «غريبان في القطار»

موقع تصوير استثنائي

لن أمضي كثيرًا في سياقات نظرية الفلم وتاريخ السينما، وللقطار طالما أنه الكلمة المفتاحية لما جرى التقديم له، أن يكون مجالًا حيويًّا لأفلام لا عدَّ ولا حصر لها، اتخذت من القطار موقع تصوير استثنائي ومساحة للدراما والرومانسية والجريمة والإثارة والجاسوسية، كما في فلم ألفريد هيتشكوك «غريبان في القطار» 1950م، وفلمه الآخر «شمالًا إلى الشمال الغربي» 1959م حيث تتشابك خيوط الأحداث وتتصاعد درامية الأحداث على متن القطار، وكيف لمن شاهد هذا الفلم أن ينسى الحوار الساحر الذي يدور بين غاري غرانت وإيفا سنت في مقصورة المطعم؛ إذ تقول إيفا: «لقد أعطيت النادل خمس دولارات ليجلسك أمامي إذا أتيت. غاري: هل هذا تصريح بالحب؟ إيفا: لا أحب الحديث عن الحب ومعدتي خاوية. غاري: لكنك انتهيت من طعامك للتو. إيفا: لكنك لم تأكل».

يَرِد في كتاب المخرج الأميركي سيدني لوميت «صناعة الأفلام» مقطع مدهش يروي فيه تفصيليًّا كيفية تصويره لقطة القطار في فلمه «جريمة في قطار الشرق السريع» 1974م، ولهذا المقطع أن يرينا كم كانت الأمور شاقة وصعبة في خمسينيات القرن الماضي، وكم من الجهد والتفاني بُذِلا في إنجاح لقطة: «نحن في حظيرة كبيرة في باحة محطة القطار خارج باريس. تحت الحظيرة يقف قطار لاهث ناخر مؤلف من ست عربات. قطار كامل. قطاري أنا. ليس قطارًا دمية، بل قطار حقيقي! وقد جرى تجميعه جزئيًّا من بروكسل حيث تحتفظ شركة «واغون ليتز» بعرباتها القديمة، ومن «بونتالرليه» في جبال الألب الفرنسية حيث تحتفظ شركة «سكك الحديد الفرنسية» بقاطراتها القديمة. لقد بنينا ديكورًا لمحطة قطارات إسطنبول في لندن، ونقلناه إلى باريس، وركّبناه تحت الحظيرة بحيث أصبحت هذه محطة إسطنبول لقطار الشرق السريع. هناك ثلاث مئة كومبارس يتجمعون فوق رصيف محطة القطار وفي قاعة الانتظار. كانت اللقطة كما يلي: الكاميرا فوق جهاز «نايكي» وهو عبارة عن رافعة للكاميرا بارتفاع خمسة أمتار وتعمل بمحرك. هي في الوضع المنخفض. حين يندفع القطار نحونا، تتحرك الكاميرا إلى الأمام لتقابله وترتفع في الوقت نفسه إلى قرابة منتصف ارتفاع القطار، أي نحو المترين. يسرع القطار وهو يتجه نحونا بينما نسرع نحن باتجاه القطار. وما أن يصل منتصف المقطورة الرابعة حتى تكون لدينا لقطة مقربة «كلوز أب» لشعار Wagon – Lit. المشهد جميل جدًّا، ذهبي على خلفية زرقاء. وهذا يملأ الشاشة. ومع مرور القطار بتنا نحرك الكاميرا لتتابع الشعار المضاء حتى نكون قد استدرنا بزاوية 180 درجة ونصبح بالاتجاه المقابل. لقد ارتفعنا الآن إلى أقصى ارتفاع الرافعة أي خمسة أمتار، ونحن نصور القطار وهو يبتعد منا، فيصغر تدريجيًّا وهو يبتعد. وأخيرًا نرى الضوءين الأحمرين لآخر مقطورة بينما يختفي القطار في عتمة الليل»(4).

مشهد من فلم «حياة أو موت»

مشهد من فلم «حياة أو موت»

وإن كان القطار محوريًّا في هذا الفلم، فإن له أن يكون كذلك في نمط سينمائي كامل ألا وهو «أفلام الويسترن» وما أن تتوارد هذه الأفلام بالذهن حتى تتلامح مشاهد لا حصر لها من القطارات التي يجري السطو عليها وتحويل مسارها وغير ذلك من صراعات ومصاير ارتبطت بالقطار وما يحمله، وليتعاظم هذا الحضور في أفلام «السباغيتي ويسترن» وصولًا إلى الإنتاجات القليلة لأفلام «الويسترن» في العقدين الماضيين وفلم أندريه دومينك «اغتيال جيسي جيمس على يد الجبان روبرت فورد» 2007م يحضر كمثال لفلم استثنائي، والحدث المفصلي في أحداثه يتمثل في السطو على البريد الذي يحمله القطار.

دليل على إعجاز الحياة

لا يمكن الحديث عن القطار في السينما من دون ذكر فلم البوسني أمير كوستاريكا «الحياة معجزة» 2004م؛ حيث تكون سكة القطار دليل كوستاريكا على إعجاز الحياة، وكل أحداث هذا الفلم تجري على السكة، ولتتعدد وسائط النقل التي تمضي عليها، وقد نزعت إطارات السيارات بأنواعها المختلفة لتتناسب السكة وصولًا إلى الدراجات الهوائية والعربات التي تمضي بالدفع اليدوي، وناظر المحطة يريد لقريته أن تُمسي قرية سياحية يصلها القطار بسلاسة بينما تدور رحى حرب أهلية طاحنة، ولعل إيراد فلم كوستاريكا سيقودنا إلى فلمه الأشهر «أندر غراوند» (سعفة كان الذهبية عام 1995م) الذي سيقودنا إلى «المترو» أو «قطار الأنفاق» لكن بعيدًا من الحرب العالمية الثانية وحقبة حكم تيتو ليوغسلافيا التي يصورها كوستاريكا في ذلك الفلم البديع، ليضعنا أمام حضور المترو في السينما الذي شهد في الأفلام ما شهد من مصاير ومآلات شخصيات، وليكون مساحة فلمية خاصة تتيح للمخرج أن يضع الشخصيات على مقربة بعضها من بعض، وللمصاير أن تتصل أو تنفصل، مساحة للّقاء والفراق، يحتشد بها البشر، تمتلك إمكانية أن تكون فضاء مفتوحًا أو سجنًا.

مشهد من فلم «باب الحديد»

مشهد من فلم «باب الحديد»

وفي تعقب ما تقدّم عربيًّا يحضر بقوة فلمان استثنائيان في تاريخ السينما العربية، نجد فيهما أن القطار يشارك الممثلين بطولة الفلم كما في فلم كمال الشيخ «حياة أو موت» 1955م؛ إذ لا يشكّل «التراموي» وسيلة نقل لحركة بطلة الفلم فقط، فكما هو معروف فإن الفلم متأسس على حدث مغلق، يتمثل في أن الطفلة التي تريد أن تحضر الدواء لوالدها تضطر للذهاب إلى صيدلية بعيدة لتحصل عليه، وليقوم الصيدلي بتركيب سم قاتل بدلًا من الدواء، وهكذا تترامى رحلتها وهي تبدّل التراموي في محطات كثيرة، وبالتالي يحول «التراموي» الفلم إلى «فلم طريق» قبل حضور هذا المصطلح في أدبيات النقد السينمائي، إضافة إلى تقديم الفلم بواسطة «التراموي» وثيقة بصرية مدهشة للقاهرة في الخمسينيات، وجلّ الفلم مصور خارجيًّا. أما الفلم الثاني فهو فلم يوسف شاهين «باب الحديد» 1958م، ومن منا لا يذكر بائع الصحف المهووس قناوي (يوسف شاهين) وحبه لهنُّومة (هند رستم) والقطارات شاهدة على كل شيء، وهي التي تحمل جثة من قتلها قناوي وهو يحسبها هنومة.

لا بد أن زمنًا مرّ والقطارات على دأبها نشطة متحركة من مكان إلى آخر، هناك من وصل إلى وجهته وآخر لم يصل بعد، هناك من يستقلّ «المترو» ويقرأ ما كتب ها هنا، ووسيلة النقل ليست بمعدنها وتقنياتها وميكانيكيتها بل بالإنسان الذي تقلّه، وهذا هو شاغل السينما الرئيس، والبشر مجتمعون في قاطرته لكلٍّ وجهته، ولكلٍّ قصته ومصيره.

1- جيل دولوز. الصورة – الحركة أو فلسفة الصورة/ ترجمة: حسن عودة. دمشق: منشورات وزارة الثقافة – المؤسسة العامة للسينما 1997م.

2- أندريه تاركوفسكي. النحت في الزمن/ ترجمة: أمين صالح. القاهرة: دار ميريت، 2006م.

3- قيس الزبيدي.  مونوغرافيات في الثقافة السينمائية. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة – آفاق سينمائية، 2013م.

4- Lumet, Sidney. Making Movies. New York: Vintage Books, 1996.