وداعًا غويتيسولو.. ضمير إسبانيا وصوت العرب في أوربا

وداعًا غويتيسولو.. ضمير إسبانيا وصوت العرب في أوربا

في الرابع من يونيو الماضي، في الساعة الثالثة عصرًا وفي مدينة مراكش المغربية، ودّع العالَم واحدًا من أكثر الكُتّاب تورطًا في الشأن السياسي، ومن أكثر الأصوات انتقادًا للسلطة الإسبانية اليمينية وأكثرها دفاعًا عن الثقافة العربية الإسلامية وقضايا المهاجرين: خوان غويتيسولو، الذي يعده بعض النقاد أهم كاتب إسباني في القرن العشرين، ويراه بعض آخر أهم المجددين في السردية الإسبانية منذ سيرفانتس، بحسب ما ذكرت جريدة «الباييس» الإسبانية الواسعة الانتشار.

ولد خوان غويتيسولو في برشلونة عام 1931م، وعاش في طفولته أجواء الحرب الأهلية الإسبانية التي امتدت من 1936م إلى 1939م، وماتت أمه بسببها جراء قذيفة من قوات الجنرال فرانكو. يقول غويتيسولو: «لذلك لا أحب الحروب، وأدافع عن سلام الإنسان في أي أرض». ومبكرًا جدًّا سيبدأ الطفل خوان في كتابة انطباعاته وتأملاته، وفي الرابعة والعشرين سيقرر الرحيل من إسبانيا إلى فرنسا؛ إذ لم يكن في وسعه تحمّل الرقابة الفرانكوية وتكميم أفواه المثقفين ومطاردتهم، وفي باريس يبدأ مرحلة جديدة من حياته، مرحلة نال فيها حريته وبدأ في انتقاد الأوضاع في بلاده، وطالب في مقالات نشرت في جرائد فرنسية بحُرية الفكر والتعبير والعودة للديمقراطية الأوربية.

غويتيسولو والثقافة العربية

في باريس، يلتقي خوان غويتيسولو «سارتر» و«ألبير كامو»، كما سيلتقي كُتاب أميركا اللاتينية المنفيين مثل: فارغاس يوسا، وخوليو كورتاثر، وكابريرا إنفانتي، وستشغله السياسة، وبخاصة الثورة الكوبية ومآلاتها، كما يقول يوسا الذي كان صديقه في هذه الحقبة، وسيعيشان معًا أجواء الثورة وخيبة الأمل. لكن اهتمامات غويتيسولو ستسير في اتجاه آخر؛ صوب العالم العربي. أول ما يلفت انتباهه لعالمنا هو قضية تحرير الجزائر، التي سيسافر إليها في مهمة صحفية، ثم سينضم للكُتّاب الذين يطالبون بتحريرها. هذا الاهتمام بجنوب المتوسط، بحسب غويتيسولو في حوار له، سيفتح له الباب على ثقافة شديدة الثراء لم يكن قد انتبه إليها من قبل. في بداية ثلاثينياته، سيُفتح أمامه باب مسحور سيترك أثره الكبير في كتابته وفي تفكيره؛ إذ سيؤسس غويتيسولو افتراضية تقول: إن «ابن الفارض» سبق في حداثيته الشعرية الحداثة الشعرية الأوربية، وسيؤثر التصوف العربي في أعماله وبخاصة «الأربعينية» التي استحضر فيها ابن عربي، في لعبة سردية مزج فيها التصوف الإسلامي بالتصوف المسيحي.

هذا الانتماء للثقافة العربية الإسلامية لن يتوقف عند الأثر في الكتابة؛ إذ سيرتحل غويتيسولو عبر التاريخ ليعيد قراءة التاريخ الإسباني ومن داخله التاريخ الأندلسي، ويتبنى ويدعم وجهة نظر تنتصر للثقافة الإسلامية وأهميتها في انتقال إسبانيا من الجهل إلى العلم، في مواجهة أصوات يمينية تسعى لمحو الذاكرة بإخفاء كل ما هو عربي بإسبانيا. وفي الاحتفال بذكرى مرور 500 سنة على «استرداد غرناطة»، سيوجه غويتيسولو سهامه صوب السلطة التي تحتفي بتنصير المسلمين وتطبيق محاكم التفتيش عليهم ثم تهجيرهم، وهي اللقطة التي لم يلتقطها أحد حينها. وإذا كان المستعرِب الإسباني أميركو كاسترو أحد مؤسسي مدرسة الدفاع عن التاريخ العربي الأندلسي، فالمؤكد أن غويتيسولو كان أنجب تلاميذه، بل إنه لشهرته وقوة حجته غدا أكثر تأثيرًا من أستاذه، وهو ما دفع في طريق إعادة قراءة دور العرب والثقافة الإسلامية في الثقافة الإسبانية والأخذ بيدها لدخول عصر الأنوار.

إضافة إلى قيمته الإنسانية والعلمية، احتل غويتيسولو، الذي أثار رفضه لجائزة القذافي جدلًا واسعًا في المشهد الثقافي العربي، مكانة بارزة بوصفه روائيًّا من الطراز الأول، يقول غويتيسولو في حوار له أجرته جريدة «لابانغوارديا» الإسبانية: «كتبت كتبي الأولى بوصفي مواطنًا لا كاتبًا»، وهو ما يعني أنه انتصر في البداية للواقعية الاجتماعية التي تميل لتوثيق الأحداث القاسية التي عاشتها بلادها، كان ذلك في إنتاجه الذي صدر في الخمسينيات. غير أنه وبداية من رواية «ألعاب يدوية» تغيرت قناعاته الفنية وتصوراته عن فن الرواية، وهو ما دفعه للبحث عن «التجديد» والإضافة لهذا الفن، ومن هنا بدأ طريقه بوصفه كاتبًا كبيرًا وطليعيًّا، وخطا خطوات راسخة نحو تأسيس سردية إسبانية تتجنب الوقوع في فخ الواقعية والمباشرة. هذه الروايات ذات الطابع التجريبي، التي امتزج فيها السؤال الفلسفي بالسؤال الوجودي بالعوالم الصوفية، أهَّلته للفوز بجائزة سيرفانتس للآداب عام 2014م، وهي نوبل الآداب الإسبانية. لقد تأخرت عليه الجائزة الكبرى كثيرًا نظرًا لمواقفه المعادية للسلطة، لكن السلطة نفسها شعرت بالعار حين لم تمنح كاتبها الأكبر جائزتها الكبرى. خطبة غويتيسولو عند تسلمه الجائزة تشير إلى استغرابه من الفوز بها، لكنها تركزت أكثر على الحياة في مراكش وعلى عائلته المراكشية التي قرر أن يمنحها ثمن الجائزة. ولعل بقاء خوان في مراكش منذ عام 1997م دليل إضافي على حبه وشغفه بالعالم العربي.

  خبر رحيل الكاتب الإسباني في مراكش أثار موجة من الحزن والحداد في العالم الإسباني، وكتب عن وقع هذا الخبر كثير من الكُتّاب الذين ارتبطوا بعلاقة صداقة مع غويتيسولو، كما كانوا من محبي كتابته. كتب البيروني ماريو فرغاس يوسا، الفائز بجائزة نوبل، مقالًا بعنوان «على طريقة سارتر»، قال فيه: «تعرفت إلى خوان في سنواتي بباريس، واقتسمت معه القلق السياسي، وبخاصة ما يتعلق بالثورة الكوبية. هذه الثورة التي أثارت حماستنا، وأعتقد أنها أصابتنا بخيبة الأمل في الوقت نفسه. أتذكر كثيرًا صعوبة المعركة التي خضناها خلال ما سمي بــــــــ«حالة بادييا» التي دافعنا فيها عن وجهات نظر متشابهة». وأضاف: «منذ رحل إلى المغرب لم ألتقه كثيرًا، لكن لقاءاتنا كانت شديدة الدفء رغم تباعدها».

فيما كتب الكاتب الشهير أندريس سانتشيث روباينا أن «غويتيسولو استطاع بوصفه روائيًّا تجنب الروافد الأدبية الإسبانية في عصره، واتبع طريقًا شقه بنفسه». ويرى روباينا أن غويتيسولو «كان ناقدًا ملتزمًا، وهي صفة تلازم قليلًا من الكتاب». وأشار الكاتب إلى إعادة إحياء غويتيسولو للكتاب الكلاسيكيين وإعادة قراءة التاريخ، وختم بأننا «مدينون لخوان غويتيسولو سواء لسرديته الفريدة أو شهادته ذات الطابع الالتزامي الأخلاقي».

وفي مقال لها بجريدة «الباييس» كتبت المستعرِبة الإسبانية الشهيرة لوث غوميث، الأكاديمية والمترجمة التي فازت بجائزة الدولة عن ترجمتها لمحمود درويش: «في الوقت الذي بات فيه الإسلام متهمًا والعالم العربي مرمى للشبهات، جاء خوان غويتيسولو ليعارض هذا التيار». وترى غوميث أن هذه المعارضة جاءت عبر طريقين: الأول دفاعه عن الثقافة الإسلامية، وثانيًا إقامته في بلد عربي، وهو المغرب. وكتب الروائي الشهير نوريا أمات: «جمعنى بـخوان غويتيسولو، إضافة إلى التمرد على أي وضع سلطوي، حبُّ الأدب، وحب الحرية والمساواة، بجانب شعور كل منا باليتم لفقد الأم مبكرًا وأمام أعيننا. لكن الفارق الجوهري بيننا أنه كان كريمًا دائمًا معي. كان يحب أن يكون قارئي الأول، وأول من يكتب عن كتبي. كان مايسترو، كان كاتبًا كبيرًا. كانت حياته في المدينة جديرة بالتعرف إليها؛ إذ كان الجميع يحبه ويقدر أعماله. كان سعيدًا هناك، يمكن أن أؤكد ذلك». يحكي «أمات» أنه قام مرة بدور الوسيط بين غويتيسولو ومجمع اللغة الإسباني؛ إذ أراد المجمع ضم خوان له. إجابة خوان كانت قاطعة: لا. وفي مرة أخرى أرادت مدينة برشلونة أن تمنحه جائزتها، فقابل العرض بالرفض.

جثمان خارج الوطن

على الرغم من خلافات غويتيسولو مع السلطة الإسبانية وانتقاده الدائم لها، فإن الملك أعرب عن حزنه الشديد لفقد إسبانيا واحدًا من أكبر كُتّابها، وسادت حالة من الحداد في البلد وفي جميع الدوائر الثقافية. المفاجأة أن غويتيسولو لن يعود إلى بلده ميتًا، كما تركها حيًّا؛ إذ ترك وصية مضمونها أن يدفن في مدينة العرائش المغربية. وسواء دفن في برشلونة، أرض مولده، أو في المغرب، الأرض التي اختار الحياة فيها والموت فيها، سيبقى غويتيسولو دائمًا في ذاكرة التاريخ كضمير للإنسانية ومُعارِض لكل شرور العالم.