“دنكرك”.. ﻓيلم ﻳﻨﺠﺢ ﻓﻲ دﻓﻊ اﻟﻤﺘﻔﺮج إﻟﻰ “اﻟﺘﻮﺣﺪ اﻷوﻟﻲ” (زياد عبدالله)

“دنكرك”.. ﻓيلم ﻳﻨﺠﺢ ﻓﻲ دﻓﻊ اﻟﻤﺘﻔﺮج إﻟﻰ “اﻟﺘﻮﺣﺪ اﻷوﻟﻲ” (زياد عبدالله)

نولان يوجه الممثلين أثناء التصوير

لا حاجة لكريستوفر نولان في جديده «دنكرك»، الذي بدأ عرضه في الصالات الأميركية من شهر تقريبًا، إلى أجهزة معقدة تجعل الحلم موازيًا للواقع ومسرحًا للصراعات كما في «استهلال» Inception 2010م، ولا إلى خيال علمي وثقب أسود ليتسرب منه أحد خارج الزمان والمكان كما فعل في «بين النجوم» Interstellar 2014م، فما حدث في «دنكرك Dunkirk» حدث بحق إبان الحرب العالمية الثانية وتحديدًا في شهر مايو 1940م حين أُجلِيَ ما يزيد عن 300 ألف جندي معظمهم من البريطانيين، كانوا محاصرين من جانب القوات الألمانية في ميناء «دنكرك» الذي تفصله أميال قليلة عن الشواطئ البريطانية. ينقضّ نولان على هذه القصة الملحمية ويلتقط منها كابوسيتها، فنشاهدها كما لو أننا حيال منام مهلك، سواء حمل صفة تاريخية أم لم يحمل!

وتبدو المعجزة التي وقعت بحق أكثر إعجازًا في السينما جراء ضغط الزمن واختزال أسبوع الآمال والآلام الذي استغرقته عملية الإجلاء إلى ما لا يزيد على مئة دقيقة، وليبتعد فعل مشاهدة «دنكرك» من «التلصص» بوصف السينما «وسيطًا للتلصص بطبيعتها» ليكون أقرب إلى المنام وعلى شيء من استدعاء كل ما يحقق أعلى درجات «التماهي»، وهكذا فإنه لن يكون هناك من محيد عن مقاربته بالاستعانة بنظرية الفلم وهي تعاين الصلة الوثيقة بين الأفلام والأحلام التي «تتسم بتلاحم الحس والعاطفة، أي الطريقة التي ينساب فيها المضمون العاطفي من خلال تجسيدات بصرية. وهي أيضًا -مثل الأحلام- تتسم بالانقطاعات المكانية والتثبيت الزماني: إن المتفرج السينمائي –مثل الشخص الحالم– مثبت في تتابع من الصور وهي تتكشف في الزمن. والأفلام –مثل الأحلام– تعتمد على الانتباه والحضور في التجربة، إنك لا تحلم حلمًا لا تكون موجودًا فيه، أو غير منتبه له. وكذلك الأفلام تميل إلى أن تتحكم بانتباهك». (بيزلي لفينغستون وكارل بلاتينيا، ترجمة: أحمد يوسف. دليل روتليدج للسينما والفلسفة. القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2013م) يصلح هذا الاقتباس لأن يشكّل آلية التلقي التي سيعايشها المشاهد مع «دنكرك» أو ما عايشته أنا على الأقل، وللتدليل على ذلك فإن الفلم يبدأ مع جندي بعينه ربما اسمه طوني، ولست متأكدًا ما إذا كان الممثل فيون وايتهيد من يجسد شخصيته، فقد كان رفقة حفنة من الجنود يتجولون في «دنكرك» وهم يبحثون عما يأكلونه أو يدخنونه، ثم فجأة يلعلع الرصاص، ويُقتل كل من كانوا معه، إلا أنه ينجو، وبعد أن يجتاز استحكامات الجنود الفرنسيين ينفتح أمامه البحر، حيث ستكون هناك أرتال مترامية لجنود على شاطئ رملي لا وجود لشجرة أو شيء يستظلون به أو يقفون تحته ليوهمهم بأن هناك ما يفصل بينهم وبين الحمم التي تمطرهم بها الطائرات الألمانية، كل شيء عارٍ وما من كساء إلا الموت. البحر من أمامهم والعدو من خلفهم، لا بل العدو في السماء والغمام وليس أمامهم إلا الهرب، الذي سيكون متعذرًا، يحتاج معجزات وليس معجزة واحدة.

الفلم – الكابوس

ماثيو ماكونهي في «بين النجوم»

فيما تقدّم مفتتح الفلم – الكابوس، وكل عنصر من عناصر ما نراه مهم ومؤثر، وهي عناصر كثيرة ومتداخلة تخص جموعًا غفيرة من البشر، والشخصيات بالكاد نعرف أسماءها كأن نميز توماس هاردي بصعوبة وهو يرتدي ثياب طيار مُقنِّعًا وجهه، في حين ينطق كينيث براناه بضع عبارات وهو قائد البحرية الذي يشرف على عملية الإجلاء ويبقى في نهاية الفلم ليتولى عملية إجلاء الفرنسيين كما يقول.

ينقسم «دنكرك» إلى ثلاثة خطوط درامية، منفصلة ومن ثم متصلة، لكل منها زمنه الافتراضي وهي: «المرسى» وهنا سنكون حيال المعضلة الكبرى التي يتأسس عليها الفلم، أي: الجنود الإنجليز العالقون على شاطئ البحر بانتظار السفن والبوارج التي عليها أن تعود بهم إلى الوطن، والزمن الافتراضي لهذا الخط هو أسبوع، في حين يكون الخط الثاني في البحر أو ما يطلق عليه في الفلم «المرساة» الذي يتأسس بتلبية السيد داوسون (مارك ريلانس) وابنه وفتى يصرّ على مرافقتهم نداء الحكومة البريطانية لمواطنيها بالمساعدة في إجلاء الجنود البريطانيين بقواربهم غير الحربية سواء كانت قوارب صيد أو يخوتًا أو أي نوع من القوارب، والزمن الافتراضي لهذا الخط هو يوم واحد، في حين يكون الخط الثالث في الأجواء عبر سرب طائرات «سبيتفيلد» الذي سعى لحماية الجنود ومجابهة الطائرات الألمانية وهي تُغرق البوارج وتفني المشاة على الشاطئ، وزمن هذا الخط هو ساعة واحدة.

ذلك هو الهيكل العام لبنية الفلم، الذي تهيمن عليه فكرة «النجاة» بوصفها كلمة مفتاحية لكل ما سنشاهده في الفلم، ولعل خلفيته التاريخية تقول ذلك أيضًا، والسؤال الذي يجيب عنه الفلم كامن بالكيفية التي سينجو بها هؤلاء الجنود والسفن الحربية لا تستطيع الرسوّ قريبًا من الشاطئ، ومعادل ذلك سينمائيًّا سيكون في تعقب مصير طوني وجندي آخر يقع عليه يقوم بدفن جندي آخر، كذلك الأمر بالنسبة للطيارين وهم يحاولون توفير نجاة من هم على الأرض في اشتباكهم مع الطائرات الألمانية، إلا أنهم يسعون لتحقيق نجاتهم أيضًا، وصولًا إلى السيد داوسون الذي يضع نصب عينيه المساهمة في نجاة أكبر عدد ممكن من الجنود.

التشويق آلية الفلم السردية

إن هذا الاقتباس طبعًا يشير إلى أهم ما حصل في «دنكرك» ألا وهو قيام البشر العاديين في النهاية بإنقاذ الجنود وهم يتوجهون بقواربهم لنجدتهم، إلا أنه يضيء على شيء رئيس للمشاهد أن يلحظه في الفلم ألا وهو غياب البطولة عن الفلم بمعنى الشخصيات الرئيسة، وفي الوقت نفسه خلو الشخصيات من العمق أو الخلفية، فهي تتحرك فقط في سياق الحدث الرئيس أي في الحاضر من دون ماضٍ أو دوافع عدا دافع النجاة، لا بل إنها تتلفظ ببعض العبارات هنا أو هناك، وهذا انعكاس لما قاله نولان عن «البطولة المجتمعية» ومسعى مجاميع كبيرة من البشر إلى النجاة.

فلم يكاد يكون صامتًا

يولد «دنكرك» شعورًا استثنائيًّا بالتماهي مع ما نشاهده بما يدفع للقول بأننا «نتوحد» معه، وهو ناجح جدًّا بدفع المتفرج إلى ما يعرف في أدبيات مقاربة التحليل النفسي للسينما بـ«التوحد الأولي» المرتبط لديه بالإحساس الوهمي لدى المشاهد بأن يتوحد مع مكان الكاميرا وهو بذلك «يمتلك المجال البصري للفلم»، وليكون «التوحد الثانوي» الذي يحدث مع الشخصية شبه معدوم إن صح الوصف، فنحن بوصفنا مشاهدين غير معنيين بها، ولم نمنح الأدوات التي تؤسس لعلاقة معها، ربما ما يهمنا هو مصيرها: هل ستتمكن من الهرب؟ هل ستنجو؟ و«تِـمبو» الفلم ونقلاته المونتاجية والمواقف الصعبة والمدهشة التي تعيشها كفيلة بذلك.

ولعل الخوض في أمور تقنية مثل كاميرا 65 ميلمتر آي ماكس التي استخدمها نولان في تصوير الفلم (مدير تصوير الفلم هويتي فان هويتيما مصوِّر معظم أفلام نولان) وطباعته في صيغة الـ 70 ميلمتر – كما يورد في لقاء «سايت آن ساوند» سابق الذكر – يشير إلى جمالية خاصة تظهر على الشاشة ونحن نتكلم عن عملية معالجة استثنائية للمادة المصوّرة لإحداث هذا «التوحد» سابق الذكر، ومواصلة نولان نأيه عن التصوير الرقمي، ولتأتي الموسيقا التصويرية (تأليف هانس زيمر سبق أن صنع موسيقا كثير من أفلام نولان)، التي لعبت دورًا دراميًّا أساسيًّا في الحفز والترقب والجو القيامي للفلم، ونحن نتكلم عن فلم يكاد يكون صامتًا.