أثر الفراشة الذي يُرى

أثر الفراشة الذي يُرى

عنونت إحدى الصحف الأميركية في تغطيتها مذبحة لاس فيغاس الأخيرة: «الوسيلة هي الرسالة» أي أن الستيني الذي أطلق النار على المحتفلين إنما يضمّن جريمته معنى متعلقًا بسهولة حيازة الأسلحة النارية، وهذا العنوان هو اقتباس لمقولة كان اقترحها مارشال ماكلوهان الفيلسوف الكندي وأبرز منظري الاتصال والإعلام في الستينيات، وهو بدأ نشاطه أستاذًا في الأدب ومؤرخًا، ثم شغلته دراسة وسائل الإعلام والتحولات التي صنعتها اجتماعيًّا، وقد عاد اسم ماكلوهان إلى التداول مرة أخرى في مقالات وتقارير تتناول الأثر الاجتماعي والنفسي لعصر تكنولوجيا المعلومات في البشر.

وتعد عبارته الشهيرة «الوسيلة هي الرسالة» واحدة من أشهر مقولاته التي ربما سمع القارئ بها؛ إذ يرى أن الوسيط التكنولوجي أهم وأقوى تأثيرًا من مضمون الرسالة التي قد تكون فردية ومحدودة، فيما يرى كتّاب يراجعون نظرياته بعد أكثر من خمسين عامًا على نشاطه الفكري؛ أن مقولته هذه يجب تطويرها والبناء عليها، فالوسيلة التي كان ماكلوهان يعالجها في زمنه كانت الراديو والتلفزيون والهاتف، وفي ظني أن ماكلوهان كان رائد زمنه، لكنه لم يكن فصيحًا بما يكفي ليعيد صياغة عبارته، بحيث يصبح مفهومها أقل تعقيدًا وأكثر صدقًا وهي أن «الوسيلة تؤثر في الرسالة» ولعل هذا ما أراده بشكل أو بآخر من خلال تحذيره من برامج تلفزيونية ومسلسلات كـ(حرب النجوم) ورياضات عنيفة تنمّي لدى البشر نزعة العنف، وهو الأمر الذي يعزز نظريته في أن ممارسة الإنسان العنف هي شكل من أشكال التعبير عن الهوية.

ماكلوهان كان رؤيويًّا حقًّا، فهو استبق كثيرًا مما جرى في الثورة التكنولوجية اليوم، وقدّم عبر كتبه ومحاضراته نظريات لافتة، ينسب إليه مثلًا أنه أول من تحدث عن «شبكة باتساع العالم» ومنها اشتق المختصر الإلكتروني الشهير (www) لمواقع الإنترنت، والأهم منها تنبؤه بتحوّل العالم إلى «قرية كونية» وهو ما صرنا نردده منذ عقدين بأن العالم صار قرية صغيرة.

هل العالم قرية صغيرة اليوم؟ أم أنه آخذ في التباعد؟ لقد هجم زمن الفضاء الإلكتروني بسرعة، وخلال عقدين انكمش العالم إلى القرية الموصوفة، لكن مؤشرات انفجاره من الداخل بعد ضغطه إلكترونيًّا في نقرة زر صارت تتضح شيئًا فشيئًا؛ إذ يرى عدد متزايد من الباحثين أن هذه الوسائل التقنية تعطي وتأخذ؛ فهي منحت البشرية الإمكانية وقتلت فيها المبادرة، زودتها بالمعرفة ومنعت عنها الخبرة، وهكذا كل تقريب وتيسير يقابله ابتعاد وانعزال أو ثمن ثقافي أو اجتماعي ما.

فالعالم الذي راقب كيف توحّدت أوربا، يراقبها الآن وهي تتفكك من الداخل بخروج بريطانيا، وصعود النزعات القومية واليمينية، وإعادة النظر في القيم الأوربية التي تأسست عليها قوانين الاتحاد، تجاه الهجرة وأنظمة التجنس والإقامة والزيارة، بل إن كثيرًا من زوار أوربا المزمنين من العرب والمقيمين فيها لاحظوا التغيير بأنفسهم، فقد ازدادت الوقائع العنصرية، وعادت نظرات الكراهية تجاه الغريب، وهذا الغريب ليس بالضرورة هو الشرق أوسطي المسلم، بل يمكن أن يكون العامل البولندي الأوربي المسيحي، الذي تذهب كثير من التحليلات إلى أنه أحد أسباب تخلي البريطانيين عن الوحدة الأوربية، وأوربا هي مجرد مثل مناسب؛ لأن ما يصيبها عادة يتلقفه العالم بعد عقود، على أن النزعات الانفصالية وتنامي المشاعر القومية المعادية لفكرة (العالم قرية صغيرة) تتبدى في كل أطراف الكون؛ من أحداث ميانمار التي تطرد جزءها المسلم، مرورًا بكردستان الحالمة بدولة قومية، وصولًا إلى رغبة أسكتلندا وكتالونيا بالاستقلال عن هيمنة الدولة المركزية.

لا ريب أن ما أحدثته الثورات التكنولوجية المتعددة؛ له أثر هائل ممتد ويصعب توصيفه في كلمات موجزة، سواء تلك التي صاحبت الثورة الصناعية في القرن الماضي، أو تلك التي نعيشها اليوم ولا نعرف حدود ما ستصل إليه، فالتغيير الاجتماعي والثقافي الذي يصحب كل جديد إلكتروني يمر كسحابة خفيفة، لا نرى منه إلا جوانبه الخدمية والترفيهية، وتشغلك الوسيلة فعلًا عن الرسالة، لتنسى أن الوسيلة محمّلة بشروطها الثقافية الإلزامية.

يرى ماكلوهان أن (الحتمية التكنولوجية) التي دُمغ بها عصرنا لها أثر خفقة جناح الفراشة التي ستهزّ أطراف العالم، ذلك الأثر الذي صار يُرى وفق مؤشرات عدة، صحيح أن نسبة كل مشكلات العالم المعقدة في حاضرنا إلى التقدم الإلكتروني فيها ما فيها من الإجحاف والجحود لفضائل هذه المستحدثات التي وفرت الجهد والوقت وألغتهما أحيانًا، لكن تبرئة التكنولوجيا من مشكلاتنا والاستهانة بآثارها الكبرى هي مغامرة لها تكاليفها بل هي ما يحتاج إلى دفع التهمة.

وفي الحقيقة لم يكن ماكلوهان فريدًا في دعوته إلى الالتفات لما تحدثه التقنية ووسائل الإعلام من تغيير في الحضارة الإنسانية، فقبله بعقود كان كونستانتان جورجيو أصدر روايته الملحمية العظيمة (الساعة الخامسة والعشرون) التي يرى فيها أن البشر سيصبحون عبيدًا للآلات لا شغل لهم إلا العناية بها وتنظيفها، وغني عن القول كم نحن مرتبطون اليوم بهذه الآلات، وخير تعبير عن هذه المخاوف ما تجسده هوليوود منذ السبعينيات في صورة أفلام تسيطر فيها الآلات على البشر أو تثور فيها الحواسيب على مبرمجيها، واستمرار هذه المرويات في التوالد والتجدد يؤكد أنها ليست خيالًا سينمائيًّا مترفًا، إنما هي تعبير عن مشاعر خوف حقيقية لكن دفينة ولاواعية؛ ذلك أن من يعبر عنها قد يتهم بكراهية التكنولوجيا وفوبيا التقنية، وفضلًا عن انعدام البديل أو هكذا نتصور؛ فالدلائل على هذا الخوف غير محسوسة بشكل مباشر، وكثيرًا ما تكون معقّدة وذات أثر طويل المدى يثور حوله غبش يخالط البصر والبصيرة.

وفي الأمثلة القريبة ما يساعد على فهم التغيير النوعي الذي أحدثته الفضاءات الإلكترونية الجديدة، فالاقتصاد مثلًا منذ بدء الخليقة يقوم على أشياء محسوسة، ومنها دورة إنتاج الأطعمة والملبوسات وما يحتاجه الإنسان في يومه وسكنه وصحته، أما اقتصاد اليوم فتسيطر عليه شركات لا تقدم أيًّا من هذه الخدمات التي يقدمها الاقتصاد التقليدي، إنها تبيع الاتصال والمعلومات لا شيء أكثر، كبريات شركات العالم اليوم مثل (غوغل) التي تقدر قيمتها السوقية بأكثر من نصف تريليون دولار، ما هي إلا معادلة رياضية إلكترونية، وكلما جاء بديل إلكتروني جديد، وانهارت إحدى شركات وادي السيلكون؛ تذكر الاقتصاديون كم أن هذا الاقتصاد الافتراضي خطير على كل ما عرفه الإنسان منذ كان يتبادل السلع البدائية، إلى أن صارت الناقلات الضخمة تجوب المحيطات بمستطيلات حديدية تحرّك تجارة العالم.

ويتصدر مبيعات الكتب الأميركية هذا الشهر كتاب (ما حدث) لهيلاري كلينتون، وفيه تتناول حكاية خسارتها الانتخابات، ورأيها في سياسة بلادها الداخلية وتجاه مشكلات العالم، وما يعنينا من الكتاب ما شرحته عن التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية الأخيرة لإسقاطها، ترى كلينتون أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قرر الانتقام منها بسبب تشكيكها في نزاهة الانتخابات الروسية، وأن التدخل الروسي الإلكتروني كان له الأثر في دعم منافسها ترمب وخسارتها المنصب، كما تعترف بانتصار روسيا في أوربا، واستطاعة فِرَق حاسوبية روسية عبر تنمية المشاعر القومية وبث الأخبار الكاذبة أن تغيّر نتائج الانتخابات والاستفتاءات الأوربية، فضلًا عن أعمال عسكرية واستخباراتية أخرى أضعفت الناتو وفككت الجبهة الغربية.

بإيجاز إذن، صار بإمكان فِرقة من مهووسي التقنية الذين يستضعفهم الناس، ومن قبو مبنى صغير في سان بطرسبيرغ، أن يفككوا المعسكر الغربي، إنه فايروس تافه الحجم لا ترصده معامل الطب ولا مختبرات التقنية يطيح بالاقتصاد ويشلُّ السياسة بل يغيّر الآراء ويلوّث القناعات، وعليه صار مبررًا فعلًا تسمية الفايروس بالجندي الإلكتروني والعاملين عليه بالجيوش والكتائب الإلكترونية.

إن محاولات ضبط التقنية كثيرة، ومن أبرزها وأفشلها معًا دعوة شهيرة لتربويين أميركيين قبل عقود إلى إزالة جهاز التلفزيون من المنزل أو تقنين استخدامه وفق جدول صارم، وذلك بعد أن رصدوا آثاره في الأطفال، فهل يحتاج أحد اليوم إلى دليل على ما استطاعته التكنولوجيا من تغيير اجتماعي وثقافي؟ إذا لم يكن مشغولًا بمتابعة حرب بسوس إلكترونية؛ فما عليه إلا إطفاء جهاز استقبال الإنترنت والانتظار، أو لنختر تعبير مارشال ماكلوهان نفسه: إن ما لا تشاهده على التلفزيون لم يحدث.

أثر الفراشة الذي يُرى

السياسة بين الخاصة والعامة

ينسب إلى الإيرلندي الساخر برنارد شو قوله: «أي رجل لا يكون شيوعيًّا في العشرين فهو أحمق، فإن استمر شيوعيًّا بعد الثلاثين فهو أكثر حمقًا» وتعود هذه المقولة الشهيرة إلى النصف الأول من القرن العشرين حين سرت الأفكار الشيوعية في أوربا مسرى الهشيم، وهي أيضًا لا تبتعد من انشغالات شو نفسه أيام شبابه، وهو الذي عاش عمرًا مديدًا حتى تجاوز التسعين، ما أتاح له فرصة التأمل في الأفكار وطبائع البشر والعقائد السياسية ومآلاتها، إنها فرصة لا تتاح لكثير من المفكرين والفلاسفة، فحين تقرأ في سِيَر عظماء التاريخ تفاجأ بأن بعضهم لم يعمّر أكثر من أربعين عامًا، ولك أن تتأمل ماذا كان سيقول لو امتدّ به العمر عقدين أو ثلاثة؟

وماذا لو أننا مرّرنا هذه المقولة على أيامنا هذه لنفحص الأفكار السياسية السائدة في عالمنا العربي والإسلامي؟ سنجد أن عقائد الإسلام السياسي بصيغها المختلفة من المغرب العربي إلى أفغانستان هي الأكثر رواجًا وشعبية، وليس أدلّ على ذلك من مآلات ما عرفناه بالربيع العربي، سواء عبر صناديق الانتخاب أو عبر صراع الجماعات المتناحرة والخطاب الديني السائد في النزاعات العربية. هكذا نكتشف لو قُدّر لنا أن نراجع المشهد بعد عقود أن أفكارًا محددة أتيح لها لظروف تاريخية ما أن تتسيّد المشهد، وتبدو كأنها الخيار الناجز الوحيد أمام الجماهير وعامة الناس، وأن الخروج عليها والتفكير خارجها يبدو خيانة وانتحارًا صريحًا. وعليه، فلك أن تتساءل مجددًا: ترى ما الأفكار التي هي في طريقها للاضمحلال، وتلك التي ستنتعش في العقد القادم والعقود القريبة التي تتليه؟ وما الضريبة التي دُفعت في الماضي وستدفع في المستقبل بسبب الاحتراب على أفكار سياسية آلت للسقوط والتلاشي؟ إن المتأمل في سِيَر جيل كامل من المثقفين العرب الذين ناضلوا من أجل الشيوعية في الخمسينيات وما بعدها حتى أنهكت السجون أعمارهم، وبدّدتهم المنافي في أطراف الأرض، ثم أعلنوا تحوّلاتهم الجذرية؛ سيجد فيها درسًا يستحق التعلم.

والفرق الذي لا تخطئه العين بين تلك الأزمان وما نعيشه اليوم، هو في توسّع الاشتغال بالسياسة وشؤونها ليضاهي فيها بسطاء الناس خاصتهم، والانتشار المذهل للعقائد السياسية بين جميع طبقات المجتمع العربي. فبعد أن كان الهوى السياسي والتحزّب مقتصرًا على رجال السلطة والمثقفين والمتعلمين؛ صار اليوم لكل فرد مهما تواضعت معرفته رأيه السياسي وجماعته المفضلة، وصار لدى الجميع الاستعداد للقتال والموت من أجل فكرة قد لا يعي معتنقها بالضرورة خلفياتها وعواقبها.

وبفضل من الثورة الاتصالية لا شك صار لدينا مجتمعات مسيّسة بالكامل، وعبر وسائل الإعلام التقليدية والجديدة أصبح لكل فرد منصته التي يعبر فيها عن رأيه بلغته وإمكاناته المعرفية، وهو ما أنتج مستوى غير مسبوق من الشقاق والتناحر والكراهية والأحقاد الدينية والطائفية والسياسية والاجتماعية، وإذا أضفت لدور التقنيات الجديدة عوامل أخرى تعانيها المنطقة مثل: الغزو، والاحتلال، والاضطهاد، والحروب الأهلية الصغيرة والكبيرة، والإرهاب، والانهيار الاقتصادي، وتفكك الدولة؛ أضحى لكل فرد حقه الطبيعي في التعبير عن يومياته وانشغالاته، ورواية الأحداث وفق شهادته.

وتعتمل كل هذه العناصر سيكولوجيًّا لتنتج غليانًا مستمرًّا قابلًا للتمدّد والانفجار في أي لحظة، سواء كان باعث الانفجار حدثًا ما، أو مجرد حوار إعلامي أو خاص، ويعيش الواحد منا أبرز مظاهر هذا التسييس الشامل في مجتمعه القريب، سيراها عبر خلافات في المستوى العائلي، وجدالات في محيط الأصدقاء، ونزاعات في بيئة العمل، وسيراها بوضوح في وسائل الإعلام المموّلة وعبر التدوينات الإلكترونية المختلفة. صحيح أن الأيديولوجيا السياسية كانت دومًا مبعث تباين وخلاف، لكنها لم تكن أكثر انتشارًا والتزامًا منها اليوم لدى شرائح لم تكن مهجوسة بما وراء مصدر الرزق وسبل المعاش اليومي.

إن هذه الهواجس حول التسيُّس الشامل تحيلنا إلى مبحث فلسفي قديم قِدم التاريخ، يتعلق بمعنى الخاصة والعامة، ومن يحق له الاشتغال بالسياسة أو الامتناع عنها، وغنيّ عن القول أن الديمقراطية الغربية السائدة اليوم أعطت جوابها مبكرًا، ومنحت كل فرد حقه في التعبير والتصويت والترشح والاشتغال بكل ما هو عام وخاص، وأن هذه الديمقراطية المباشرة تُرجمت بشكل مثير للذهول عبر ثورة الاتصال، وأنها استخلصت العِبر من انهيار الأنظمة الشمولية والدكتاتورية التي قمعت الأفراد وحقوقهم بما فيها حق التعبير وحق العمل السياسي؛ غير أن المشكلة الفلسفية القديمة حول اشتغال «العامة» بشأن «الخاصة» لا تلبث أن تظهر بين حين وآخر في خطابات السياسيين والمثقفين على حد سواء، وبرزت غربيًّا كردّ فعل على صعود الشعبوية، ووصول متطرفين يمينيين إلى الفوز بالانتخابات على قاعدةٍ ممن يراهم الخاصةُ عامةً، وهي برزت عربيًّا في دعوات سياسية لتقنين من يحق لهم الانتخاب في بعض الدول العربية خشية صعود الدعاة والشيوخ وزعماء الحركات الإسلامية.

ويعثر الباحث على بدايات هذا التمييز النوعي بين الخاصة والعامة في المدينة اليونانية القديمة لدى أرسطو، ثم تتجدد بمكيافيلي في كتابه (الأمير) وصولًا إلى غوستاف لوبون في (سيكولوجية الجماهير)، ومن المفروغ منه أن أوصاف العامة تباينت من تسمية طبقات العبيد والرعاع وغير النبلاء والدهماء والجموع والجمهور والشعب.. وكلها تؤدي إلى معنى قريب من فكرة «العامة» المعروف عربيًّا وغايته الدلالية التي كثيرًا ما تعلقت بالتحقير والازدراء.

ومن الجدير بالانتباه أن مفهوم «العامة» و«الجماهير» يكاد يكون نادرًا في النصوص العربية الإسلامية المبكرة، حيث يؤكد الدكتور معجب العدواني في دراسته الثمينة (مفهوم العامة في الحضارة العربية الإسلامية) أن هاتين المفردتين طارئتان على الثقافة العربية، على أنك تجد في عصور إسلامية لاحقة على يدي الجاحظ وسواه من أدباء ومؤرخين استخدامًا واسعًا لمفردة العامة في معرض التجهيل والذمّ والتهميش، ولا يبتعد ابن خلدون في مقدمته من هذا التوجه حين يخصّ الحكم والأمر والسياسة بمن أسماهم ذوي العصبية.

ومهما يكن الأمر؛ فإننا أمام حقيقة جديدة يختلط فيها الثقافي والاجتماعي بالسياسي، ويتساوى فيها الجاهل مع المتعلم، فلكل منهما صوت ولكل منهما حق ولكل منهما رأي، ولم يعد خيارًا متاحًا أمام النخب أن تنفرد بتحديد توجّهات الناس عامتهم وخاصتهم، وصار من المنبوذ ثقافيًّا أن تعيّن طبقات نبلاء لها دم أزرق، وطبقات سُفلى من العامة المهمشين، ولا يجيء هذا الامتناع والنبذ تحفظًا ونفاقًا، ولا بسبب ثورة المهمشين على الإقطاعيين؛ بل لأن التجارب أكدت أن البشر سواسية، وأن تمايزهم مرتبط بمهاراتهم الفردية، فأستاذ جامعي تعطيه صوتك سيخيّب ظنك، وبائع خضار ازدريته قد يغير كل قناعاتك عن النخبة، ولا يبقى أمام المنشغل بأمر العامة والخاصة إلا الرهان على ما قرّره مفكرو السياسة الحديثة من أن الديمقراطية متجددة، وأن الحرية سرعان ما تصلح أخطاءها وتنبعث في فجر جديد.

أثر الفراشة الذي يُرى

عن «التاريخ الفكري لليبرالية»

قبل سنوات وفي أقصى جنوب البرتغال قابلت زوجين من السويد يقضيان إجازتهما بعيدًا عن صقيع الشمال الأوربي، تحدثنا طويلًا، ولمست منهما تعاطفًا هائلًا مع القضية الفلسطينية، وما لفتني أكثر هو تأكيدهما غير مرة أنهما أميَل إلى اليسار وليسا ليبراليين، وهكذا في كل موقف يعلنانه من أي أمر تأكيد على أنهما ضد الليبرالية.. رغم أن الحديث عن الليبرالية لم يكن موضوعنا من قريب أو بعيد، وقبل أيام دفع المرشح الجمهوري عن ولاية مونتانا الأميركية غريغ جيانفورتي صحافيًّا من الغارديان، وأسقطه أرضًا، وزجره واصفًا إياه «بممثل الإعلام الليبرالي».. هذان مشهدان عفويان أُورِدهما لتناول الصورة الذهنية لليبرالية في الغرب، وكيف أن كل تيار يميني أو يساري يراها بطريقته الخاصة، وهكذا كل فلسفة سياسية تخضع لتأويلات من خارجها ومن داخلها قد لا تتطابق بالضرورة مع نظريتها الأولى، فحرص السويدييْنِ على نفي الليبرالية عن مبادئهما المتعاطفة مع حق الشعب الفلسطيني لا يدعمه واقع أن البرلمانات الأوربية التي اعترفت بدولة فلسطين والحركات الجامعية والأكاديمية التي تُقاطِع إسرائيل هي في معظمها محاضن ليبرالية، على أن هذا لا ينفي دور اليسار الأوربي المتحمس لحقوق الشعوب والمهاجرين لكن هذا موضوع آخر. أما وصف المرشح اليميني للصحافي بالليبرالي فلعله محقّ؛ فالإعلام الليبرالي في الولايات المتحدة الأميركية يشكل اليوم جبهة ضد ترمب وضد اليمين خلفه.

ويدور عربيًّا جدال واسع النطاق بين أنصار الليبرالية وخصومهم من التيارات الأخرى -الإسلامية منها بوجه خاص- تستعمل فيه كل الأسلحة البلاغية الممكنة، وما يعنيني هنا منها هو سلاح المفاهيم وانصراف بعض أطراف المعارك من التيارات كلها للتصدي لتاريخ الليبرالية ومفهومها وتعريفها، ويتحول كثير من هذا الخلاف الفكري، وفي الساحة السعودية منه أعاجيب كثيرة؛ إلى مبارزة تجد فيها سلاح الطرفين مثلومًا، مؤيدًا ومعارضًا، فيما تؤكد تجارب الدول أن تمثُّل المذاهب السياسية على الأرض أهم كثيرًا من فلسفة النظرية وتاريخها، فلا يذهب الظن أن ميركل وماكرون وماي في اجتماعات الاتحاد الأوربي ينشغلون بتعريف الليبرالية وفروقاته بين جون لوك وجان جاك روسو، غير أنهم جميعًا منهمكون بالتزام نتائج هذه الفلسفة وتطبيقها تأكيدًا لحق الفرد في الملكية والحرية.

المذاهب الكبرى كالليبرالية تكوّنت على مدى قرون من الزمن، كلٌّ يضع فيها من روحه شيئًا، فلا يضر إن اختلفت تعريفاتها طالما كان الهدف الأسمى منها وهو تحرير الفرد متحققًا، فإن قلت: هي فلسفة الحرية، أو هي حق الفرد في الملكية، أو هي الفصل بين السلطات، أو هي المساواة؛ فأنت في الاتجاه الصحيح. وهكذا الفلسفات الكبرى لكل مفكر في العصور الأوربية فيها ضربة إزميل وزاوية نظر. وأن يحتدم السجال حول مفهوم الليبرالية في مجتمعات لم تخلقها ولم تستنبتها ولا تتوافر فيها مقوماتها؛ هو أمر مخالف للطبيعة وللعقل، إن معارك الليبراليين في المجتمعات الغربية اليوم تجاوزت الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية وحقوق الأقليات ومشاركة المرأة في المواقع السياسية والعسكرية؛ إلى قلب مؤسسة الزواج رأسًا على عقب، وحق الإجهاض، وفتح الباب أمام المهاجرين وحقوقهم، وبمقارنتها مع مادة الجدل الليبرالي في عالمنا تتضح المفارقة.

والحال أن معظم المذاهب الفكرية والفلسفات السياسية التي نشأت في أوربا وتطورت خلال قرون، وألّف فيها مفكرون وفلاسفة من القرن الثالث عشر إلى منتصف القرن العشرين؛ هي أفكار انبعثت وتكوّنت لخدمة مجتمعات محلية، فمشكلاتها كانت أوربية وعلاجها كان أوربيًّا. كارل ماركس كان يسعى للانتصار لطبقة العمال، وتوماس هوبز كان يحارب سيطرة الكنيسة واللاهوت. وهي قضايا لم تكن من أولويات الشعوب غير الأوربية، وكان أن انتصر بعض هذه النظريات وصار عالميًّا، ومنها الليبرالية، وصارت تطبيقاتها صالحة للاستيراد إذا ما جرى توطينها، فمثلًا شيوعية الصين غيرها في كوريا الشمالية غيرها في كوبا، حتى الليبرالية الغربية وطّنت النظرية بما يناسبها وطعّمتها بما سمَّته اشتراكية ديمقراطية، فأنظمة الحكومات الأوربية في المجال الصحي والتعليمي اشتراكية لا علاقة لها بالليبرالية والسوق الحرة، على أنها تتيح انسجامًا مع ليبراليتها حرية الأفراد في الاستثمار في هذين القطاعين، وتبقى الولايات المتحدة وحدها ليبرالية جدًّا أو نيو ليبرالية في هذين القطاعين؛ بسبب حساسية مؤسساتها التشريعية من أي ملمح شيوعي مرعب.

ويعد كتاب أستاذ الفلسفة السياسية الفرنسي بيير مانيه (التاريخ الفكري لليبرالية) من الكتب التأسيسية في تاريخ هذه النظرية، وقد نقله إلى العربية الدكتور هاشم صالح، ويصدر عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، والكتاب يمثل إطلالة موجزة على التاريخ الأوربي عبر سياحة فكرية في عقول ثمانية فلاسفة أوربيين ينسب إليهم مانيه تأسيس الفكرة الليبرالية، وهو يرى أن مبعثها الأول كان في أطروحات مكيافيلي في كتابه (الأمير) في القرن السادس عشر، ويختتمها بعالِم الاجتماع الفرنسي توكفيل المتوفى في منتصف القرن التاسع عشر، أي أنها دورة فكرية استغرقت ثلاثة قرون، وإن كان يعود بالقارئ أيضًا إلى أرسطو والمدينة الرومانية القديمة. لقد كان هاجس مانيه العودة إلى أيام سيطرة الكنيسة المطلقة وصولًا إلى نشوء الحركة المضادة لتدخل الكنيسة الأخروية في شؤون الدنيا وانبعاث أول المبادئ العلمانية.

ومما يميز المؤلِّف فضلًا عن عباراته الموجزة وأفكاره المكثفة وميله إلى التكرار لشرح القضايا المعقدة؛ أنه يأخذ موقفًا حياديًّا ونقديًّا في أحيان كثيرة، فتوصيفه للمجتمع الذي تحكمه الليبرالية شديد الدقة، هو يرى علاقة الأفراد داخل المجتمع الليبرالي أشبه ما تكون بالكونفدرالية، وذلك عكس ما تشاهده في مجتمع له رأي واحد شديد التجانس في الأنظمة الشمولية، سواء كان ذلك طوعًا أم كرهًا.

ويلحظ مانيه الأصول الإنجيلية في قيم الحرية والمساواة داخل الليبرالية رغم حربها الأولى على المسيحية، جازمًا بأن الليبرالية لن تصبح ماضيًا؛ لأنها قابلة للتعديل والتجديد، ولأنها تحمل بذور نقدها ونقضها في داخلها، فكل ما تجزم به الليبرالية قابل للشك؛ لأن النظرية الأولى هي آراء بشرية خاصة، والأساس فيها عدم يقينية الآراء، وهو ما يجعلها مستعدة دائمًا لنقض نفسها إذا دعت الحاجة.

لافت كيف أن الليبرالية وهي أساس الحضارة الغربية المحسودة اليوم من قوانين ومساواة وحريات وفصل بين السلطات؛ إنما هي صناعة نقادها وخصومها قبل بُناتها وفلاسفتها. وعلى حد توصيف مانيه نفسه فإن جان جاك روسو هو أحد خصوم الليبرالية وأكبر فلاسفتها في آنٍ واحد، وهو ما يجعلها تبدو اليوم خيارًا مفضَّلًا لإدارة الدول، فالنظام العالمي المعاصر ينبني على هذه السلطات الثلاث التي اخترعتها الليبرالية ونظّمت العلاقة بينها، ثم وضعت حكم القانون ونظام الانتخابات ليحرك الدولة بدينامية مستمرة.

واللافت أكثر أن الدول التي كانت تعادي المعسكر الليبرالي الغربي طبَّقت هذه المبادئ صوريًّا وأفرغتها من مضمونها: سلطات ثلاث لا قيمة حقيقية لها، وانتخابات معروفة النتائج لا تسهم إلا في ترسيخ الواقع، وقانون يبقى في مكانه الملائم من المكتبة.

هذا ما قدمته الليبرالية للعالم بوصفها خلاصة ما توصلت له الحضارة الغربية اليوم، وعلى بقية المجتمعات أن تقدم حلولها، وأن تنتج ما يليق بها من أنظمة. وهناك في منطقتنا أفكار يمكن البناء عليها، وتأمل عواقبها: ولاية الفقيه، البعث وحدة حرية اشتراكية، وطبعًا كل ما ورد في النظرية العالمية الثالثة والكتاب الأخضر.

أثر الفراشة الذي يُرى

الإنسان الرقمي وحقيقة (التواصل الاجتماعي)

تذهب بعض الدراسات إلى أن انطلاقة مواقع الإعلام الاجتماعي قد بدأت في منتصف التسعينيات الميلادية مع الانطلاقة الحقيقية للإنترنت نفسها، لكن الأهم هو تاريخ ظهور مواقعها الكبرى على مستوى العالم، ويمكن تقريبه إلى عام 2005م حيث انطلق ماي سبيس وفيسبوك وتبعهما عشرات المواقع الأخرى، أي أن قرابة عقد مضى على الانطلاقة الحقيقية لهذه الوسيلة الإعلامية التي غيرت مفاهيم الإعلام والاتصال، وأثّرت بشكل مباشر في حياة البشر، غير أن ثورتها الحقيقية يمكن تأريخها بدخول تطبيقاتها في الهواتف الذكية، لتغدو شريكة الإنسان في جيبه ووقته وقلبه.

وكما يردد خبراء الإعلام التقليدي في مسعاهم لتحجيم أثرها الهائل؛ فإن هذه  تظل مدة زمنية قصيرة نسبيًّا لتقييم أثر مواقع التواصل الاجتماعي، وما أحدثته من ثورة في المفاهيم الاتصالية، وما يتجاوز أبعاد الاتصال بمفاهيمه المدرسية، ومع ذلك يستطيع القارئ اليوم مطالعة عشرات الدراسات التي تحذر من أثر الإدمان على هذه المواقع صحيًّا، وسيجد توصيفًا دقيقًا لأثرها في العمود الفقري وعلى الرقبة وعلى أوتار اليد والرسغ والأصابع، هناك أيضًا تحذيرات اجتماعية ونفسية من ميل مدمني الإنترنت إلى الانعزال والاكتئاب وانعدام السلوك الاجتماعي الواقعي، وإذا ما تجاوزت هذه الآثار الفردية؛ فهناك دراسات أمنية تتناول دور وسائل التواصل الاجتماعي في إحداث القلاقل والاضطرابات السياسية عبر تيسيرها تنظيم الحشود وتوجيه الدعوات للتظاهر، كما لا يخفى دورها المهم في الثورات الشعبية وخذ تجارب أوكرانيا وتونس ومصر وسواها من أحداث.

غير أن الدراسات لا تلبث أن تتناقض، وفيما يطمئن معهد ألماني إلى أن مستخدمي هذه الوسائل الإعلامية الجديدة قادرون على فرز الصحيح من المكذوب؛  تنشغل الولايات المتحدة وأوربا هذه الأيام بما يسمى الأخبار المزيفة التي أحدث شيوعها تأثيرًا بالغًا في نتائج الانتخابات، وتبحث فيسبوك في وسائل تنقية الأخبار وتنبيه المستخدمين إلى مدى موثوقيتها، وذلك تجنبًا للدخول في دوامات من المحاكمات والقضايا القانونية بسبب تضرر الأفراد والشركات من الأخبار المضللة، ويجري تحقيق غربي جاد حول توظيف الاستخبارات الروسية لعبة الإشاعات والأخبار الكاذبة، ونشرها على نطاق واسع في توقيت حاسم للتأثير في الانتخابات والاستفتاءات كما في خسارة هيلاري كلينتون، وانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوربي.

وبينما تنبه دراسة أميركية إلى أن السلطة قد تستفيد من الإعلام الاجتماعي أكثر من الشعوب، تذهب بعض الحكومات إلى تصنيف هذه المواقع ضمن محاولة غربية أميركية للسيطرة على العالم، وتعميم ثقافة واحدة تخدم مصالحها، كما تستخدمها في التجسس ومعرفة الخبايا والأسرار، وتنفيذ الخطط والمشاريع المناهضة للحكومات المعادية، ويأتي شاهد التجربة الصينية في مقاومة هذه المواقع وحجبها داخل الحدود ليمثل محاولة يائسة للوقوف في وجه سيل العولمة الاجتماعية الجارف ما أجبر الصين على تحييد خطرها باختراع نسخ محلية من هذه المؤسسات الأميركية، فأوجدت (بايدو) بديلًا لغوغل و(ويبو) بديلًا لتويتر، وبنسبة نجاح أفضل في التجارة الافتراضية أنشأت (علي بابا) لتقاوم إيباي وأمازون.

ومن المحسوم أن التنافس الدولي في هذه التقنيات الجديدة يكاد ينحصر في الدول المتقدمة تكنولوجيًّا، وبالتالي تتمكن وحدها من فرض ثقافتها ومصالحها، وتطور قدرتها في استخلاص المعلومات وتحليلها، وهذه المعلومات كما يبدو هي رغيف اليوم، فمن يمتلكها لا يمتلك القرار الاقتصادي فحسب إنما يمتلك المستقبل الإستراتيجي، وهي لعبة خرجت منها اليابان المتقدمة مثلًا، ولا تزال كوريا الجنوبية توجد فيها موطئ قدم عبر ذراعها الضخم سامسونغ الذي يعاند أبل الأميركية وينافسها في بيتها في سان فرانسيسكو.

  أما محاولات الأمم الأخرى فتبدو محدودة وخجولة لا تتجاوز تجربة تعريب التطبيقات والنطاقات؛ ولا يبدو واقعها مثيرًا للخيال، وصار على مستخدم هذه الوسائل الاختيار بين تطبيق «واتس آب» لتكون بياناته في عهدة مارك زوكربيرغ وبالتالي (CIA) الأميركية، أو يلجأ إلى تطبيق تيليغرام في عهدة بافل دوروف وبالتالي (FSB) الروسية، وهكذا يكتشف الإنسان الرقمي أن معلوماته الشخصية هي مجرد أرقام هامشية في مستوعبات ضخمة من البيانات التي يمكن استخدامها تجاريًّا أو سياسيًّا، لمصالح قد تعنيه أو لا تعنيه بشكل مباشر.

وأغلب الظن أن دور هذه الوسائل في نقل الأخبار وترويجها هو ما يهم كثيرين، ومن هنا دخلت وسائل الإعلام التقليدي بقوة لهذه الوسائط، فوجدنا المؤسسات الإخبارية الكبرى تراهن على حساباتها الاجتماعية أكثر من رهانها التقليدي الذي اطمأنت له عقودًا، ولعل دخول وسائل الإعلام التقليدية في هذه الوسائل المستحدثة منحها عمرًا جديدًا وشكلًا رشيقًا بحيث استعادت عبر حساباتها جمهورًا بدأت تفقده، ونافست الوسائل الافتراضية الجديدة، وهي تجربة لا تزال أيضًا في مهدها، وقد يصعب الحكم عليها الآن.

وعودًا على بدء تبدو الدراسات المهتمة بالإعلام الاجتماعي واقعة تحت تأثير الصدمة الكبيرة لانتشارها المذهل وآثارها المستجدة والمتعددة، ومنها ما يخصّ تأثير الكم الضخم من المعلومات والأخبار في الصحة النفسية، فالطبيب النفسي غراهام ديفي المختص في دراسة القلق مشغول بأثر الأخبار السيئة في حياة الأفراد، وتؤكد أبحاثه أن ردود الأفعال على الأخبار السلبية تنتقل من مجرد كونها انفعالًا مؤقتًا إلى عامل مؤثر في قرارات الفرد الشخصية وحياته الخاصة.

وإذا ما تأكد أن طبيعة الأخبار التي تتلقاها صباحًا تؤثر في مزاجك سائر يومك؛ صار لزامًا أن يفحص إنسان التكنولوجيا الرقمية طبيعة خياراته وما يتشربه يوميًّا من أخبار ومعلومات وميديا ضخمة صباح مساء، بوعي أو بغير وعي.
فالغائب الحاضر في كل ما اطلعت عليه من دراسات إعلامية وصحية ونفسية حول الإعلام الاجتماعي والهواتف الذكية؛ هو مدى قدرة الإنسان على استيعاب هذا الكم من المعلومات والبيانات التي تهيلها عليه التطبيقات المتنوعة والوسائط الرقمية المتعددة، قدرته البيولوجية من حيث طبيعة ما يستوعبه الدماغ البشري كمًّا ونوعًا، وقدرته السيكولوجية من حيث فرز هذه البيانات والتعامل معها، ثم مراقبة تداعياتها على صحته العقلية والنفسية معًا، وبالتالي أثرها في اتخاذه القرارات اليومية صغيرها وكبيرها، وتعامله مع محيطه، وهو ما يوفر مئات الأسئلة والاحتمالات الاجتماعية والتربوية والنفسية والثقافية وسوى ذلك.
لا تجود الشركات الرقمية عليك بدليل نفسي للتعامل مع (سناب شات) أو كيف تنظم وقتك وأنت تتابع (فيسبوك)، وليست (تويتر) بدورها مسؤولة عن اختياراتك ومواقفك مما تقرأ وانعكاساته على ثقافتك ومعلوماتك، وجميع الأدلة والدورات التدريبية والتعليمات داخل الأجهزة والبرامج تركز بشكل مباشر على التقنيات، فهي ليست معنية بالآليات النفسية للتعاطي مع الإعلام الاجتماعي الذي يفترض أنه وُجد للتواصل والتفاعل.

وهكذا يكون الإنسان الرقمي في عصر ديمقراطية آلية مباشرة، مسؤولية الفرد فيها عما يتلقاه تتعاظم كل يوم، وفي عالم منفتح على آفاق أوسع مما تربَّى عليه وعايشه واختبره في حياته السابقة، ما عاد هناك رقباء ولا مؤسسات تملي عليك ما يجب أن تعرف، أو تحجب عنك معلومة، أو تمنعك من نشر رأي أو خبر. وهو أمر بقدر منافعه المذهلة ينطوي على احتمالات لا نهاية لها من الصدمات والأضرار.
إن لعبة التسمية في مصطلح «التواصل الاجتماعي» شديدة المخاتلة، فهو تواصل قتل كل الفروق الزمنية والمكانية، ومنح البشرية خيارات تجاوز ضعفها وقلة حيلتها وارتباط الجسد البشري بشروطه الحسية الضعيفة ومحدودية حركته، ونقله إلى عالم افتراضي أوسع يجد فيه الآخرين أرقامًا وصورًا وأسماء ولوحة مفاتيح، غير أنه بقي تواصلًا مفترضًا، لا أثر فيه لكامل الحواس والخصائص البشرية التي تختبرها مع اللقاء الحقيقي، وهو أيضًا اجتماعي غير أنه فردي جدًّا، محفوظ بأرقام سرية ومحاط بعلب مربعة شديدة الخصوصية،  فرقاب الناس في الأماكن العامة منحنية، وظهورهم محدودبة على وسائطهم، فأي عزلة أكثر من عزلة الإنسان الرقمي؟ يعيش عقله في علبته الرقمية حتى لو كان في أكبر وسط اجتماعي.

أما عن كمّ المعلومات والميديا التي تنبجس في هذا العصر عبر هذه التقنيات، فيكفي مراقبة الحاجة الملحّة لتوسيع الذاكرة الإلكترونية للأجهزة، فكلما حصلت على غيغابايت طلبت المزيد، وهكذا تتضخم البيانات حتى يلجأ الإنسان الرقمي لحذفها أو تضخيم الذواكر في أجهزته، لكنه ينسى ذاكرة ما زالت متشبعة وممتلئة وليس بوسعه مسحها أو اختيار ما يبقى فيها وما يحذف، والإنسان الرقمي وحده مسؤول عن هذه الذاكرة وما قد تستتبعه من شروط لتنظيفها حتى لا تتعرض للامتلاء والالتياث.
هجاء هذه الوسائط الرقمية أو تركها والبعد منها أصبح انتحارًا اجتماعيًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا، يريد الإنسان الرقمي أن يكون شاهدًا على عصره، يحب أن يراقب التاريخ وهو يصنع، والأحداث وهي تمرّ، وأن يحكم عليها بنفسه بدون وسيط ولا رقابة، إنه يصنع روايته الخاصة لحياته وحياة الآخرين، وعنده من الدلائل العلمية والوثائق الرقمية ما يثبت صحة روايته ودقة تحليله، إنها غريزته في حب المعرفة وحقه البشري في تكوين رأيه الخاص ونقل الأخبار والتعليق عليها.

لم يعد ترديد منافع الإعلام الاجتماعي بحاجة إلى إقناع أحد، قلة من البشر تحاول مقاومتها بالكتابة ضدها، وإصدار القوانين «الوطنية» والأنظمة الرقابية، لكن الإنسان الرقمي لا يجد وقتًا حتى للرد عليها؛ لأنه مشغول طوال يومه بالتفاعل مع بياناته الخاصة في تطبيقه المفضل، ولعله يتعامل مع هذه الآراء والقرارات كما يتعامل مستخدمو وسائل الإعلام الاجتماعي مع أخبار كيم جونغ أون في باب الطرائف والغرائب.

أثر الفراشة الذي يُرى

عصر الغضب ومستقبل العالم

«إن شيئًا مخيفًا على وشك الوقوع».. هكذا يختصر الباحث الهندي بانكاج ميشرا خلاصة كتابه الصادر حديثًا «عصر الغضب» وهو لا يفاجئ قراءه بهذه النتيجة إذ يأخذهم في رحلة طويلة فيما سمّاه «تاريخ الحاضر»، ويعود بجذور الغضب والعنف والكراهية التي تسود العالم الآن إلى القرنين الماضيين، ويتكئ على مروياته المتعددة من أقوال وأطروحات مفكري التنوير والحضارة الغربية ليصل إلى النتائج السياسية والثقافية اليوم، وفي كتابه سيجد القارئ تفسيرًا مختلفًا لحوادث بات تفسيرها الشائع مبتذلًا، فمن صعود اليمين المتشدد في أوربا إلى البرغزت (Brexit) ومن الترَمْبيّة إلى الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، وظهور دولة داعش، والأزمات المالية والاقتصادية، والكراهية الصاعدة ضد المهاجرين والأقليات والمسلمين، وصولًا إلى موجات التعبير عن الغضب والحقد في وسائل الإعلام الجديد والقديم معًا.

أحدث كتاب ميشرا هزة في الأوساط الفكرية الغربية، وهو رغم رفضه السردية الغربية السائدة قُوبل باهتمام ونقاش مستفيض إن في وسائل الإعلام أو في مراكز الأبحاث والمطبوعات الثقافية المتخصصة، ويمثل «عصر الغضب» ما يشبه الثورة الفكرية على التفسيرات الجاهزة لانفجار الشعبوية في وجه الغرب، فالقول بأنها ردة فعل على وحشية داعش مثلًا، أو ازدياد المهاجرين المسلمين هو تفسير سطحي، وهو يعيد ذلك كله إلى ما يصفه بجذور الغضب والخوف الكامنة في النفس البشرية، ويربطها بمساراتها النفسية وأحداثها التاريخية معززًا ذلك بالشواهد.. فلقد ظلت الشعبوية كامنة في أسفل المجتمعات الغربية بانتظار أن يقطف ثمراتها الديماغوجيون في الأعلى، وهو ما حدث مع انتصار ترمب في الانتخابات الأميركية الذي سبقه تفشي الحوادث والخطابات العنصرية، وفي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي الذي سبقه مقتل النائبة العمالية جو كوكس بالرصاص والسكين معًا، لكنها علامات لم يكن أحد يضعها في سياقها الصحيح وفق تفسيره.

يقول بانكاج ميشرا :«هناك مسار قديم من الوحشية والألم والمعاناة أوصل التجربة الأوربية لواقعها المستقر اليوم» أي أن أوربا الحاضرة صنعتها كل هذه التجارب واللحظات التاريخية المؤلمة في الحربين العالميتين وما قبلهما، وهو يرى أن المليارات من البشر جرى اقتلاعها من تقاليدها ومنظومتها القيمية والفكرية -أيًّا يكن مستواها- وألقيت في العراء، فلا هي بالتي استطاعت استيعاب الحداثة الغربية ولم تبقَ في مكانها التقليدي المريح، فصارت منبتّة ومحبطة وخطيرة على نفسها وعلى غيرها، فوعود الحرية والرخاء لم تتحقق، وتحولت الثورة التقنية ومعدلات الناتج المحلي والمصالح الاقتصادية إلى دين جديد وعقيدة هيمنت لا على السياسة فحسب بل على الفكر والثقافة، ما جعل المجتمعات تدخل في تنافس محموم لتحصيل هذه المكاسب التي هي كالسراب، والنتيجة عند ميشرا وصول هذه الشعوب إلى البؤس واليأس، ومن ثم الرغبة الملحّة في الثورة على هذا النظام في شكل عنيف وعدمي.

ويشدد ميشرا على أهمية عامل الخوف عند البشر، الخوف من فقدان الشرف والكرامة والمكانة، وعدم ثقة الشعوب في التغيير وعواقبه، ويرى أن الغرب تجاهل عوامل الاستقرار المغرية وحميمية الألفة، ولم يعد فيما يسمى النظام العالمي الجديد مكان للدوافع البشرية الغريزية الأكثر تعقيدًا، فالرعب من الظهور بمظهر الضعيف، والغرور والحاجة لحفظ ماء الوجه، والهوس بالتقدم المادي.. كلها عوامل نفسية واجتماعية لم تؤخذ في الحسبان. العقلانيون تجاهلوا عوامل الاستياء من الشعور الدائم بالتخلف واللذة العنيدة للشعور بدور الضحية المزمنة، فعلى سبيل المثال يعيد ميشرا دوافع ألمانيا للتوسع أوائل القرن العشرين وكذلك عناد الصين وروسيا اليوم إلى الشعور بالمهانة أكثر من أي شيء مادي آخر.

ومن معتزله في ماشوبرا على مقربة من الهملايا الهندية راح ميشرا يرسل أبحاثه التي تراجع كثيرًا من المسلّمات الغربية والشرقية على حد سواء، ومضى يصعّب مهمة من يريد تصنيفه في اليمين أو اليسار، فهو ينتقد الماركسية والليبرالية معًا، ويهاجم بوذيي ميانمار وقوميي ألمانيا البيض، على أنه مشغول بنقد مبادئ التنوير والعقلانية في أوربا وما وصلت إليه من خلاصات اليوم، فهو يراها غير صالحة لتفسير العالم الذي نعيش. ومستندًا إلى ما كتبه دوستويفسكي يؤكد ميشرا أن دوافع البشر ليست عقلانية بالضرورة، ويعيد التذكير بما قاله سيغموند فرويد «الدوافع البدائية والوحشية والشر لم تختفِ مطلقًا إنما هي كامنة في كل فرد» ويرى أن كل ما أسس مبادئ العقلانية الغربية من دراسات نفسية واجتماعية وفلسفية قدمها أمثال نيتشه وفيبر جرى تجاهلها في العصر المادي اليوم.

ويمضي الباحث الهندي في تعداد الشواهد التي ترسم في رأيه مؤشرًا واضحًا على انهيار عالمي قريب، داعيًا للالتفات إلى العوامل الروحية والعاطفية لدى البشر في سعيهم وفهمهم المتناقض لمبادئ الحرية والمساواة والرخاء.

هذا الكتاب الذي يصفه أحد النقاد في الغارديان بأنه جرس إيقاظ مخيف، قد لا تتفق مع جميع نتائجه ومعالجاته، لكن يصعب أن تتجاهل فرادته في مجاله، وكونه تأريخًا للأفكار خلال القرنين الماضيين ونقدًا جريئًا ومغايرًا لما آل إليه «عقلُ العالم» ولكل المواضعات الفكرية التي تقارب أزمات العصر الحاضر، غير أن ميشرا لم يتناول بالتثمين ذلك الحرص الغربي المذهل على حكم القانون واحترام المحاكم والقضاة وسيادة النظام، وهو منجز غربي قد يجيب عن بعض الأسئلة التي يطرحها الكتاب، وحيث إن نظرة ميشرا إلى الدين بوصفه عاملًا روحيًّا فيها كثير من الإجلال؛ إذ يبرئ الأديان من أخطاء البشرية اليوم؛ يأخذ عليه كتاب علمانيون رهانه على الفاتيكان مثلًا وكيف يدعو البابا فرانسيس إلى القيام بدور أكبر في تجنيب العالم الهاوية التي يتوقعها.

وأيًّا يكن الاتفاق أو الاختلاف مع قراءة ميشرا لتاريخ الحاضر وتوقعاته بمستقبل خطير؛ فإن كتابه محفز على التفكير مرات في القناعات والمسلّمات التي فرضتها قواعد السيطرة الغربية على العالم، والحال أن كثيرًا من الدراسات والتقارير الدولية والمعطيات السياسية اليوم تعزز هذه النظرة غير المتفائلة إلى مستقبل العالم في المدى المنظور، ولعل من أهمها تقرير صدر مطلع عام 2017م عن مجلس الاستخبارات الوطنية الأميركية (NIC) وفيه يقرأ محللو وخبراء الاستخبارات الأميركية مؤشرات سياسية واقتصادية لحركة القوى والمجتمعات حول العالم، وهو من التقارير النادرة التي تنبأت باستعار الطائفية وباضطراب سيصيب الدول العربية قبل الثورات بأكثر من عقد.

ولعل من أبرز ما يلفت في هذا التقرير توقعه قرب انتهاء عصر الهيمنة الأميركية، وانكماش الاقتصاد العالمي، وصعود النزعات القومية والعداء بين الدول المتنافسة، وبروز اتجاه عالمي لمعاداة المؤسسة ما يؤدي لضعف الحكومات ونهاية الديمقراطية بمعناها التقليدي، بالإضافة إلى حروب إلكترونية متوقعة وإرهاب سايبراني.

ليست هذه التقارير والكتب ضربًا من التنجيم وقراءة الكف، فعلم المستقبليات صار راسخًا بحيث تأسست له إطاراته المرجعية ومناهجه التحليلية ونماذجه ومفرداته، وهو الأمر الذي يكفل الحصول على نتائج يمكن قياسها واختبار جودتها، غير أن لدى أناس كثر -حتى من الباحثين- كراهيةً معلنةً لهذا النوع من العلوم، وانحيازًا للأرقام المحددة والوقائع المرئية رأي العين.

أمران مستمران في التقدم الإيجابي لخير البشرية اليوم هما المنجزات التكنولوجية، والاكتشافات الطبية، وبين التفاؤل والتشاؤم، حاضر تقاسيه شعوب كثيرة لا تكترث نخبها بالتطلع للغد، فالمستقبل سيكون قضاءً وقدرًا مقدورًا، والغد الذي تفتش عن ملامحه اليوم سيدهمك بخيره وشره، وما عليك إلا الانتظار.