الأساطير المؤسسة لـ«الإسلام السياسي».. عبادة الماضي وتكفير المجتمع والبحث عن الإمبراطورية المفقودة

الأساطير المؤسسة لـ«الإسلام السياسي».. عبادة الماضي وتكفير المجتمع والبحث عن الإمبراطورية المفقودة

تتقدم جماعات الإسلام السياسي الأحزاب والتنظيمات السياسية، في استدراج جموع غفيرة من الناس واستقطابهم، ولم يعد تجاهل تأثيرها البالغ في الأوساط السياسية العربية والإسلامية خافيًا على أحد. هذا الأمر يدفع إلى تفكيك خطاب هذه الجماعات وطرح عدد من الأسئلة الشائكة حول مقولات هذا الخطاب ومداميكه الأساسية. وبحسب بعض الباحثين فإن جماعات الإسلام السياسي تنطلق في عملها من مجموعة مقولات، لا يمكن تحققها في الواقع، ويصفها بعضهم بالأساطير، بداية في الحث على قتال المخالفين تحت عناوين «الفريضة الغائبة – والميتة الجاهلية» وصولا إلى أن المجتمع كافر وفي حالة جاهلية كما كان المجتمع المكي في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا بد من هجرته كما هاجر الرسول من مكة، إلى حين إعداد العدة والعودة لفتحه كما فتحه الرسول صلى الله عليه وسلم قديمًا.

هذه المقولات والتمثلات التاريخية، في رأي مهتمين بفكر هذه الجماعات، جعلت فكرهم أشبه بالأفكار الرومانسية الساذجة، وطبعت كل أفعالهم بنوع من السطحية سواء في قراءة النصوص أو تأويلها، ومن ثم الاستنتاجات المترتبة على ذلك، وهكذا في نهاية المطاف يقف الدارس أمام خطابات زائفة ومعادية للواقع وداعية في جملتها للانتحار الإنساني، إلا أنها من ناحية أخرى، جعلت من اختراق المجتمع والتلاعب بعواطفه ووجدانه هدفًا سهلًا لهذه الجماعات. يرى الراحل الدكتور محمد حافظ دياب في كتابه «سيد قطب.. الخطاب والأيديولوجيا» أن الخطاب لدى الجماعات الإسلامية يمارس قطيعته في صوغ أفكار ومفاهيم وفرضيات لا تقبل الجدال، فرضيات يكرسها ابتعاده كخطاب عن المنظومات المعرفية كافة، ورفضه الاعتراف بحجية أو شرعية مبادئها. ومن اللافت بقاء المعنى في فضائه الرمزي غير قابل للتجزئة أو الاقتحام أو التعيين (المنهج هو الإسلام، الأمة دار تحكمها العقيدة، الحاكمية لله، المجتمعات المعاصرة كلها جاهلية، البعث لن يتم إلا عن طريق عصبة مؤمنة).

تطرح «الفيصل» أسئلة حول هذه الأساطير أو المقولات التي يتأسس عليها ما يسمى جماعات الإسلام السياسي، وإلى أي حد هذه المقولات بعيدة من الواقع؟ وكيف يتم التسليم بها من شرائح واسعة في المجتمع؟ وإلامَ تسعى هذه الجماعات من خلالها؟ في محاولة لفهم هذه القضية، بوصفها شاغلًا رئيسًا لعدد من البلدان العربية.

عبدالمنعم الأعسم: الفشل والاستحالة

عبدالمنعم الأعسم

تنطلق جماعات الإسلام السياسي من اختزال التاريخ إلى مقولات انتقائية عن «التفويض» بحيث تعطي لنفسها الحق المطلق في تقرير مصاير الإسلام والمسلمين، كما تحتكر الفتوى فيما يتعلق بهوية الدولة التي تتطلع إلى إقامتها على أساس ديني، وتنأى عن كل مجادلة مع غيرها من التيارات المجتمعية. علينا دائمًا الأخذ في الاعتبار الفشل الذي واجهه قادة الحركة الإسلامية الباكستانية بعد الاستقلال عن الهند وإصرارهم على إقامة نظام ديني، وقد اعتقلت السلطاتُ أربعةً من كبار أولئك القادة، وفي المحكمة وجَّه قاضي المحكمة لهم سؤالًا عن شكل النظام الديني الذي يعتقدون أنه ملائم لباكستان، فكانوا مختلفين فيما بينهم في الإجابات اختلافًا هائلًا.

وإذ تجد جماعات الإسلام السياسي نفسها في استحالة إخضاع الواقع إلى الوصفة التي يسعون إلى فرضها على دولهم؛ فإنهم يلجؤون إلى اللاعقل في حساب تناسب التصورات مع احتياجات التنمية، ووضع الثروات قيد خطط واقعية، إنهم يجهلون دور القوى الذاتية في التنمية، وكيفية التعامل مع تلك القوى بما يجعلها ضامنة للمواكبة، وبناء اقتصاديات التنافس، ومواجهة شروط سباق السوق المحموم نحو الربح. بل إنهم يؤمنون بمعادلات غامضة ومضطربة لعملية تحقيق الأرباح وفق منظر الإسلام المسيّس. فمن جهة يناهضون منطق الربح كآلية اقتصادية رأسمالية، ومن جهة ثانية يضعون كل ثقلهم في عمليات تؤدي إلى الربح لكن عبر سلسلة من الإجراءات الشكلية التي تعطيها طابعًا دينيًّا تقليديًّا.

أما في السياسة فقد ارتكبت جماعات الإسلام السياسي شنائع في التنظير والممارسة والتطبيق لإنتاج قواعد للتطرف، عبر القفز فوق الحقائق الجديدة للعصر، وأهمها بطلان الحاجة إلى استخدام القوة والعنف في مواجهة المشكلات بين الدول، وأحلت مفهومًا غريبًا لـ«الجهاد» لا يعترف بحدود وسيادات الدول، ولا بحق الشعوب في اختيار الحكم الذي يناسبها، وبلغ الأمر بها أنْ كفّرت أُممًا وشعوبًا وحكومات، وفرضت عليها توصيفات من خارج قواعد المعاهدات والمواثيق الدولية.

كاتب وباحث عراقي

عمار علي حسن: رومانسية الرؤية والخيال

هناك العديد من الأفكار الفاسدة التي قامت عليها الجماعات الإسلامية، وذلك نظرًا لقراءتهم للتاريخ والأحداث بشكل خاطئ، فضلًا عن معاكستهم لمنطق الحياة، فبدلًا من السير إلى الأمام، يسيرون إلى الخلف، ومنطلقاتهم أسطورية بالفعل؛ إذ إنها تتمتع بمنطق رومانسي في الرؤية والخيال، فضلًا عن استحالة استحضار الماضي، فما بالنا بأن هذا الماضي لم يكن موجودًا، بل إنه لا يزيد على كونه نوعًا من الخيال في التدوين التاريخي، وذلك لأنه يخالف الطبيعة البشرية، أو يفوق قدرتها على الاحتمال، ولا ينطبق عليه مبدأ ابن خلدون في نقد التدوين التاريخي، هذا المبدأ القائل بقياس الشاهد على الغائب، أي أننا نقيس الأمور على قدر وطاقة الإنسان الحالي، فإن كان يحتمله فما قيل في الماضي محتمل، وإن كان بمقدور الإنسان أن يفعله، فبمقدور أهل الماضي أن يفعلوه، أما إن استحال ذلك فهو ضرب من الخيال، ومن ثم فالعديد من أفكار ومنطلقات الجماعات الإسلامية هي من قبيل الأساطير والأوهام.

عمار علي حسن

الأفكار والمنطلقات الفاسدة لدى الجماعات الإسلامية؛ أولها الشكل الإمبراطوري لتاريخ المسلمين، والتعامل مع الخلافة بوصفها فريضة غائبة ويجب إعادتها، وثاني هذه الأفكار هو تقسيم العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب، أما المقولة الثالثة فهي اعتقاد كل جماعة منهم أنها تشكل صحيح الإسلام، ورابع أفكارهم الفاسدة هو الإسلام المخترع، أو ما يعرف بتاريخ المجتمعات الإسلامية، والاعتقاد بأن هذا التاريخ هو صحيح الدين، وخامسها هو الاعتقاد بأن المسلمين أفضل من غيرهم، وهو أسطورة يشترك فيها أصحاب الديانات الثلاث. فاليهود يقولون: إنهم شعب الله المختار، والمسيحيون يقولون: إنهم ملح الأرض ونور العالم، والمسلمون يقولون: إنهم خير أمة أُخرجت للناس، وهذا الاشتراك يدلنا على مدى أسطورية ورومانسية الفكرة، فكل أصحاب أي دين يسعون لتفضيل أنفسهم على الآخرين، جاعلين منهجهم هو الأصوب والأهم والأفضل، وما انسحب على فكرة اعتقاد كل جماعة داخلية أنها الوحيدة التي على صحيح الدين، ومثلما كفر كل أصحاب دين غيرهم، فقد كفرت كل فرقة غيرها، انطلاقًا من أن كل الفرق في النار وأن ثمة فرقةً واحدة هي الناجية.

الإيمان بالحتمية التاريخية إحدى الأفكار الأسطورية الفاسدة التي اخترعها الإسلام السياسي، وهم لا يختلفون فيها عن الشيوعيين الذين قالوا بحتمية ثورة البروليتاريا وقيام الدولة الشيوعية العظمى، وكذلك قال الليبراليون بنهاية التاريخ، وأن ما وصلت إليه الحضارة الغربية الآن هو نهاية التطور البشري، وكذلك قالت الجماعات الإسلامية بأن النصر حليفهم في النهاية، وأنهم سيعيدون إقامة المجتمع الإسلامي من جديد، فهو كفرَ وضلَّ وأَصبح بحاجة إلى إعادة فتحٍ مثلما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة. ومن ثم فقد عاشوا في الماضي، وتصوروا أن خطى التاريخ تسير نحو الانتصار الحتمي للخلف وليس للأمام، حيث يمكن استعادة التاريخ القديم، ومن ثم استعادة العالم الإسلامي، انطلاقًا من أن الحضارة العربية لم تقم إلا لأن السلف كانوا متمسكين بدينهم، وإذا تمسكنا بالدين وتمثلنا بمقولاتهم فإننا سوف ننهض ونقيم أمجاد الأمة وحضارتها من جديد.

باحث في شؤون الإسلام السياسي

قاسم الخطيب: مصطلح مسيء للإسلام

قاسم الخطيب

مصطلح «الإسلام السياسي» في حد ذاته كلمة مسيئة للإسلام، وقد خرجت في سوريا المظاهرات الشعبية العارمة من المساجد والجوامع والجامعات هاتفة بشعار «الحرية والمواطنة والمدنية ودولة القانون»، هؤلاء هم الثوار الباحثون عن التغيير السلمي والوصول إلى دولة عصرية جديدة لا مكان فيها للطائفيين والحاقدين والعنصريين. من أوجد داعش السنية هو نفسه من أوجد داعش الشيعية. وفي المحصلة اعتُقل طلاب الحرية وأُودعوا سجون الظلم والظلامية. ونحن دومًا نعوّل على توجهات أهل الثورة المدنيين الديمقراطيين التعدديين وهم الأغلبية بالمناسبة. ونتحدث بلسان حالهم، بل نمثلهم إذا تطلب الأمر؛ لأننا طلاب سلامٍ واستقرار وخلاص، ولسنا دعاة جهادٍ، وحق الدفاع عن النفس مشروع، وأقرَّته المواثيق الدولية، ناهيك عن الديانات السماوية كلها.

عضو الأمانة العامة لتيار الغد السوري

محمود إسماعيل: الحاكمية ورومانسية إحياء الماضي

أصحاب اليوتوبيات ينطلقون دائمًا من الواقع إلى رحاب اليوتوبيا، وهكذا فعلت جماعات الإسلام السياسي ومفكروها وتابعوها، ومن ثم فهم يعيشون في عالم غير الذي نعيش فيه، فهم ماضويون سلفيون، يريدون إحياء الماضي لإلباسه ثياب المستقبل، والأمر الأكثر شناعة هو أن الماضي الذي ينطلقون إليه ليعيشوا فيه لا يعرفونه، ولا يعرفون صحيح الدعوة من الأساس. الحاكمية مبدأ أكثر رومانسية من كل المبادئ، ففيه يذهبون إلى أنه لا حكم إلا لله، وعلينا أن نسأل أنفسنا عن النصوص الواضحة التي وردت فيها أحكام الله، وماذا عمّا لم يرد فيه نص واضح وصحيح؛ هل تتوقف الحياة أم نجتهد؟ وحين نجتهد فنحن نعمل بحاكمية الله أم أننا خرجنا عليها؟ وإذا كنا نعمل بها، فلِمَ نعطِّلها في أمور ونسيِّرها في أخرى؟ وكان الأشاعرة هم الذين ينطلقون من هذا المبدأ، ومن ثم كان ابن رشد يسميهم السفسطائيون.

محمود إسماعيل

توجد ضرورة لتجديد الفكر الديني وليس الخطاب الديني فقط؛ لأنه لا قيمة لخطاب لا تنطبق لغته على مضمونه ومغزاه. وإذا ما جرى تجديد الفكر يتجدد الخطاب تلقائيًّا، ثمة التباس في مفهوم مصطلحي «التجديد» و«الإصلاح»، فالتجديد لا يمس ثوابت العقيدة، بقدر ما يعني تجديد الشريعة، وذلك عبر تجديد علم أصول الفقه. لقد أسهم علماء أصول الفقه القدامى بجهد كبير في وضع أصول هذا العلم وقواعده، تلك القواعد هي التي يلتزم بها المشرِّع في استنباط الأحكام، ومن ثم فمن الضرورة تجديد تلك القواعد من خلال معطيات الواقع المتغير دومًا، وذلك عن طريق المراجعة والحذف والإضافة؛ كي يتسق مع الواقع الذي يتعامل معه. وهو ما جعل التجديد ضرورة عملية نصّ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة مَن يجدِّد لها دينها».
أما «الإصلاح» فيعني أن أمرًا ما قد اعوجّ، ومن ثم تدعو الحاجة إلى تقويمه بإعادته إلى سابق وجوده. هذا من حيث اللغة، أما من حيث المعنى «التاريخي» فالأمر أكبر من تقويم المعوجّ؛ ذلك أن حركة الإصلاح الديني في أوربا استهدفت إلغاء الأفكار والمفاسد التى عجت بها تفاسير اللاهوتيين برمتها لأمور العقيدة والشريعة في آنٍ. فالحركة البروتستانتية لم تكن مجرد إصلاح بقدر ما كانت ثورة على اللاهوت برمّته، وذلك بالعودة مباشرة إلى الكتاب المقدس، وهدم الفكر الكنسي برمته.

باحث مصري

سعادة أبو عراق: مصر أصل الشجرة

سعادة أبو عراق

أولًا- بعد أن أرسى رفاعة الطهطاوي أفكارًا حديثة في معنى الدولة والمجتمع، وراحت مصر تتجه نحو الدولة الحديثة في التصنيع والتقدم، وأصبحت جاذبة لكل المتنورين من العرب والمسلمين مثل: جورجي زيدان، والأفغاني، والكواكبي، ومحمد رشيد رضا وغيرهم، قبيل استعمارها عام 1882م، لم يكن الأزهريون قد تنبهوا إلى هذا التقدم في المجتمع، في المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية والدينية، هنا شعر الأزهريون أن البساط قد سحب من تحت أرجلهم.

ثانيًا- لم يستطع الأزهريون أن يتفهموا المرحلة، فبدلًا من أن يسيروا معها ويطوروا مناهجهم الفكرية، راحوا يقاومون هذه التغريب الفكري، لا من خلال فكر مضاد، بل رفض مطلق لما جاء به الغرب، على أنه تشبه بالكفار.

ثالثًا- أنشئت جماعة الإخوان المسلمين التي كان دورها هو مقاومة التحديث، من خلال شتم وتسخيف كل من أسهم في تحديث مصر من أدباء وعلماء وسياسيين وفنانين وغيرهم، انظر كتاب الدكتور محمد محمد حسين «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر». ولكنه لم يذكر عملًا جديرًا قام به الإسلاميون.

رابعًا- حينما اجتذب حسن البنا أعدادًا كبيرة من الإخوان، أصبح لهم قوة يجب استعمالها فاغتالوا النقراشي، وهنا تحولت الجماعة إلى حزب سياسي.

خامسًا- لكنهم كانوا يفتقدون إلى شخصية كاريزمية سياسية تجمع الناس وتقيم دولة، وهذا أبقاهم خارج الفعل السياسي؛ لذلك راحوا ينادون بدولة إسلامية يقيمونها بأنفسهم.

سادسًا- يعتقدون أن دولة الخلافة الإسلامية بنيت على الإسلام، لذلك يجب إعادة التاريخ وبناء دولة على الإسلام، ولم يعلموا أن الدول مرتبطة بالزمان والمكان وليس بالتاريخ.

سابعًا- لم يقنعنا سيد قطب بضرورة بناء دولة إسلامية، فهل الإسلام مزيف في مصر؟ لذلك راح يقول بجاهلية القرن العشرين، وهو كلام من السهل تفنيده.

ثامنًا- يتمسكون بارتباط الدين بالسياسة طمعًا في أن يكون الحاكم من الإسلاميين، فإن اعتقدوا بفصل الدين عن الدولة فمعنى ذلك أن يزاحمهم على السلطة آخرون، ومن هنا كانت معاداتهم للعلمانية.

تاسعًا- أساليب تفكيرهم القديمة تعتمد على النقل، لذلك لم يكن خطابهم يرتقي للطبقة المتعلمة الواعية؛ لأنهم لا يملكون مفكرين، بل شيوخ جوامع يتوجهون إلى طبقة العامة.

عاشرًا: استثمروا حب الناس وتوقيرهم الموروث لرجال الدين، ليَحتَموا به من الانتقادات التي توجه إليهم على أنها انتقاد للدين ذاته.

حادي عشر: استثمروا كره الشعوب العربية للحكام الانقلابيين، ليطرحوا أنفسهم بديلًا لهؤلاء، ويقولوا: جربونا فقد جربتم كل الأطياف.

هذه الأفكار الساذجة غير المدروسة جعلت من السهل إنشاء حركات إسلامية ممولة من الخارج؛ لتدمير الدول العربية مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا باسم الإسلام.

باحث عراقي في شؤون جماعات الإسلام السياسي

شريف يونس: الإمبراطورية المفقودة

شريف يونس

كل مقولات وأفكار الإسلام السياسي تنطلق من أسطورة واحدة، وهي فكرة الإمبراطورية الموعودة من قبل الله لهم، والأمر يتوقف لديهم على السعي لإقامة هذه الإمبراطورية من خلال تنفيذ الأجندة نفسها التي قام بها السلف الصالح، فتحققت لديهم إمبراطوريتهم القديمة التي تمثلت في الخلافات سواء الرشيدة أو الأموية أو العباسية أو حتى العثمانية، فإذا التزموا بهذه الأجندة فسوف تستعاد تلك الإمبراطورية المفقودة منذ زمن العباسيين.

الرومانسية التي يتمتع بها الإسلاميون تهيئ لهم الأمر على أن العرب هم العالم، في حين أن تعداد المنطقة العربية كلها يُراوِح ما بين 300 مليون إلى 350 مليونًا، بينما تعداد الصين وحدها 1.4 مليار نسمة، والهند 1.1 مليار نسمة، وأميركا 350 مليونًا، ودخل المنطقة العربية كلها بما فيها من بترول وثروات أخرى لا يزيد على دخل بلد كفرنسا. الموضوع بالفعل رومانسي كثيرًا، ولا ينظر بواقعية إلى موازين القوى التي بيننا وبين المراكز الأخرى من العالم. مشكلة الإسلاميين أنهم اعتبروا الدين هو واعد بالإمبراطورية، ومن ثم فتدينهم وخطابهم وكل ما لديهم من أساطير ومنطلقات إنما جاءت لخدمة هذا الغرض.

باحث مصري في علم الاجتماع السياسي

رفعت السعيد: أساطير البنا

رفعت السعيد

المشكلة الحقيقية هي أن جماعات التأسلم السياسي تحاول أن تعطي أفعالها وآراءها نوعًا من الأسطورية التي تجعل التابعين لها مؤمنين بها ومصدقين بكل ما يقوله رؤساؤها، فحسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين أحاط نفسه من اليوم الأول بهالة لا تصلح إلا للأنبياء، فقد ذكر أن والده قال له: (فلينجينك الله يا ولدي، إذ تركتك أمك وعادت لتجد أفعى كبيرة تنام على صدرك لتحميك، وعندما سقطتَ من الدور الثالث سقطتَ في بركة من الطمي اللين كي ينجيك الله). هكذا أحاط البنا نفسه بهالة وقداسة ونوعٍ من النذر الإلهي على نحو ما يحدث في الأساطير الإغريقية، وذلك ليقنع أتباعه أنه مشمول بالرضا الإلهي والإيمان الرباني، ومن ثم فقد قارنوا الأفغاني بالبنا قائلين: إن الأفغاني كان مؤذنًا، في حين أن البنا كان منبهًا عن حقيقة الإسلام. وظلوا يؤكدون على أن البنا شيء كبير حباه الله ما لم يعطه الآخرين. البنا حينما كان يريد أن يخدع المحيطين به فإنه كان يخدعهم بأكاذيب ترتدي ثيابًا دينية، فهو عمل لحساب هتلر وتلقى دعمًا منه ثلاث مرات، وكان في كل مرة يتقاضى خمسمئة جنيه، وهذا مثبت في وثائق وزارة الخارجية البريطانية الموضوعة في المتحف البريطاني، وحين سأله أتباعه عن ذلك قال لهم: لقد علمت أن ألمانيا وإيطاليا واليابان قررت أن تتجه إلى الإسلام، وأصبحت تدرس اللغة العربية كلغة رسمية، ومن ثم كتب إلى رؤساء هذه البلدان لتفهمهم طبيعة الإسلام. ومن أجل هذا سرت شائعة بأن هتلر أَسلمَ وأصبح اسمه محمد هتلر، وحين نجا من محاولة اغتيال قيل: إن الله قد نجاه لأنه آمن به وبكتبه.

والذي يؤكد هذه المقولة هو أن الله ناصر عباده، ومن ثم فإن الله سينصرهم قطعًا، ولك أن تتخيل أن صالح سرية في السبعينيات شكَّل تنظيمًا من 16 طالبًا (تخيل 16 طالبًا) وقرر أن يقوم بانقلاب أو ثورة على نظام السادات، وذلك انطلاقًا من أنه كم من فئة قليلة هزمت فئة كثيرة بإذن الله، وبالتالي جلس فكتب البيان الذي سيذيعه بعد أن يستولي على السلطة. وشكري مصطفى مؤسس التكفير والهجرة وقف أمام القاضي قائلًا: إنه سيقتله برصاصة في عينه اليسرى؛ لأن العين اليمنى مسلمة ولا يجوز إهانتها، وكان يرى أن المطبعة كفر؛ لأنها من عمل الكفار، ومن ثم كان يصرّ على كتابة كتبه ومقالاته بخط اليد، ويجعل الآيات بالزعفران والحبر الأحمر، بينما كلامه هو بالحبر الأسود، ولكن حين قرر اغتيال الشيخ الذهبي قتله بمسدس من صنع الكفرة وأدوات الكفرة، انطلاقًا من «وأعدُّوا لهم ما استطعتم». وحين قُبض عليه ودخل غرفة الإعدام جاءه شيخ ليُلقِّنه الشهادة حسب ما هو معتاد ومعمول به، فقال له الشيخ: اطلب من الله المغفرة، فرد عليه: اطلب منه أنت أيها الشيخ الكافر، أما أنا فعاصفة ربي ستأتي لتنجيني.

صالح سرية وشكري مصطفى هما الامتداد الحقيقي لسيد قطب، وحين تقرأ التحقيقات في اغتيال السادات تجد نفسك أمام أناس تتعامل بسذاجة نادرة، فحين قرر خالد الإسلامبولي قتل السادات أرسل طالبًا الإذن من عبود الزمر، فرفض الأخير قائلًا: إنهم لو قُبض عليهم سوف يجرون الجميع إلى الهاوية، لكن محمد عبدالسلام فرج قال له: إن الأمن سواء نجح الأمر أو فشل سوف يقتلونهم، ومن ثم سوف تختفي كل الخيوط المؤدية إلينا معهم، فوافقه الزمر، لكن رغم نجاح العملية ومقتل السادات لم يقتلهم الأمن، وقُبض عليهم، واعترفوا بكل شيء.

الرئيس السابق لحزب التجمع المصري

(أدلى بهذا الحديث لـ«الفيصل» قبيل رحيله)

أحمد زايد: الأساطير الخمس

أحمد زايد

الإسلام السياسي في شكل عام لديه خمس أساطير أساسية، أولها: تقديس الماضي، فمن المعروف أن التاريخ هو الخلفية التي يتربع عليها الحاضر الذي نعيش فيه، وينبني عليها المستقبل، ومن المعروف أيضًا أن أهم خصائص الحداثة هي الانعكاسية أو نقد المجتمع من أجل التوجه نحو المستقبل، لكن الإسلاميين قاموا بتقديم انعكاسية ماضوية، فأداروا ظهورهم للمستقبل وتوجهوا للسلف، وقد قمت بتحليل لمجموعة من الخطب فوجدت أن 85% منها يتحدث عن الآخرة، و15% عن الحياة الدنيا: 10% منها لا تتناول الدنيا بشكل مباشر، بل على النقيض أحيانًا يكون ساخرًا.

الأسطورة الثانية: الانتقائية التاريخية؛ إذ إنهم يصورون التاريخ على أنه مجموعة من الأبطال والانتصارات، أي أنه لا يوجد به هزائم ولا انكسارات، ويصورون مجتمع المدينة على أنه حالة من الوئام والمحبة والمثالية الزائدة والدائمة، وهذا منافٍ للطبيعة البشرية القائمة على الصراع، ورغم أن القرآن تمتع بالشفافية؛ إذ جاءت فيه إشارات إلى العديد من المواقف والصراعات، فإنهم لا يرون ذلك ويعتّمون عليه.

أما الأسطورة الثالثة: فهي استدعاء الكاريزما الفردية، مثل: عمر بن الخطاب، وعمر بن عبدالعزيز وغيرهما، وهذا الأمر على هذا النحو منافٍ لطبيعة الكاريزما في العصر الحديث حيث التجاور والتعدد والبطولة الجماعية، إلا أنهم لا يعترفون بذلك.

أما الأسطورة الرابعة: فإنهم يتجاوزون الوطن ومفهوم الدولة الوطنية إلى ما فوق الدولة الوطنية، حيث الدولة الإسلامية أو الخلافة أو غير ذلك، رغم أنه من المعروف أن المجتمعات المعاصرة تقوم على مفهوم الدولة الوطنية، وأن مفهوم الإمبراطوريات ذهب بغير رجعة، وأن النظام القائم هو الاتحادات المكونة من مجموعة دول وطنية تجمعها مصالح معينة. وقد دعا أبو الأعلى المودودي إلى فكرة الجامعة الإسلامية، تلك التي تسربت إلى كتابات سيد قطب وتلامذته أو تابعيه في صورة مفاهيم مشابهة.

أما الأسطورة الخامسة: فهي الآخر، هذا الذي ازداد وتعدد وتوسع مفهومه، لينتقل من الآخر البعيد مكانيًّا وزمانيًّا، إلى الآخر القريب المختلف فكريًّا أو أيديولوجيا، هكذا وجدنا الآخرين صاروا كُثرًا، وصارت نظرية المؤامرة هي العامل الحاسم، وبالتالي سيادة التقسيم والتمييز بين معسكر الإسلام ومعسكر الكفر الذي يشمل كل من ليس معهم.

باحث مصري وأستاذ في علم الاجتماع

ليست منظمة دينية ولا سياسية ولهذا خسرت في الحقلين

سليمان الضحيان – كاتب سعودي

سليمان الضحيان

أوضح الكاتب السعودي الدكتور سليمان الضحيان أنه لا يمكن فهم «جماعة الإخوان المسلمين»: «من دون إعادة قراءة تاريخ نشأتها، ففي بداية القرن العشرين كانت السلطة العثمانية تطرح نفسها خلافة إسلامية جامعة، وحامية للدين ومُـحكِّمة له، لكنها ما لبثت أن سقطت في نهاية الربع الأول من القرن العشرين ثم ألغيت الخلافة العثمانية، وقامت على أنقاضها دول قطرية تحت مظلة الاستعمار الغربي مع استبعاد الدين في تنظيم الدولة، وهنا شعرت النخب المتدينة بفراغ هائل، فلأول مرة في التاريخ الإسلامي يخلو الفضاء الإسلامي من أمرين؛ الأمر الأول: وجود سلطة سياسية جامعة ينضوي تحتها المسلمون، والأمر الثاني: غياب المشروعية الدينية للحكومات الناشئة، ومحصل هذين الأمرين غيابُ «الخلافة الجامعة»، و«غيابُ حاكمية الدين»، ومن هنا برزت محاولات إعادة هذين الأمرين، ومن تلك المحاولات قيام حسن البنا بتأسيس «جماعة الإخوان المسلمين»؛ وملخص مشروع جماعة الإخوان هدفه إعادة ذَيْنِكَ الأمرين: «الخلافة الإسلامية» و«حاكمية الدين»، ولا يمكن فهم حركة الإخوان والحركات الإسلامية التي خرجت من عباءتها بمعزل عن هذين الهدفين».

ويقول الضحيان: «ولأنها نشأت في بدايات صعود التنظيمات اليسارية فقد تأثرت بها في شكلها التنظيمي الهرمي المكون من خلايا حزبية متسلسلة، والالتزام الحزبي الصارم، والطاعة العمياء الشبيهة بالانضباط العسكري، والرؤية الأُممية لمشروعها الذي يجب أن يشمل العالم كله، والرؤية الشمولية في مشروعها الفكري والسياسي؛ إذ طرحت نفسها حركة شمولية تسعى لإصلاح (الدين وفهمه، والتربية والتعليم، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع)، ومحصل ذلك كله أن «جماعة الإخوان» محكومة بتلك الرؤية والأهداف منذ نشأتها إلى اليوم؛ هدف إعادة الخلافة، وهدف إعادة حاكمية الدين، والرؤية الشمولية في رؤيتها للإصلاح، ولقد ساهم هدفها إلى إعادة الخلافة الإسلامية في تكوين نظرتها ونظرة منتسبيها إلى السلطات والنخب السياسية المخالفة لها في كل العالم الإسلامي على أنها سلطات ونخب طارئة، وغريبة على الأمة، وغير معبرة عن إرادتها، وأن الواقع السياسي برمته من صنع الجاهلية، ولا إصلاح إلا بالبديل الجذري لكل الواقع السياسي». ويشير إلى أنها لهذا السبب «فهي تطرح نفسها على أنها بديل حضاري جذري يسعى لكنس الواقع السياسي بكل ما فيه من حكومات، وتيارات، ورموز، ومؤسسات لا تتفق معها، وهذا ما يفسر اتساع الجبهة المناوئة لجماعة الإخوان؛ إذ لا يعقل أن يقف خصومها في المجال السياسي موقف المتفرج، وهم يرونها تسعى لإلغائهم الجذري من الواقع السياسي».

ويرى الضحيان أن هذه الجماعة «تنتهج البراغماتية السياسية بكل ما فيها من انتهازية وتخلٍّ عن المبادئ الدينية ما دامت في صالح الجماعة»، في سبيل تحقيق مشروعها السياسي «إقامة الحاكمية»: «ولهذا فهي في سبيل مصلحتها السياسية تغض الطرف عن علاقات حلفائها مثل قطر وتركيا مع إسرائيل، ووجود قاعدة أميركية في قطر فيها 11 ألف أميركي ما بين عسكري وموظف مدني، ومنها انطلقت الطائرات الأميركية لقصف الجيش العراقي في بدء احتلال أميركا للعراق، وقصف حركة طالبان في أفغانستان، ومنها تنطلق الطائرات بدون طيار التي تلاحق أعضاء القاعدة في أفغانستان واليمن، وقد قتلت أكثر من 9 آلاف مدني مسلم، منهم الأطفال والنساء في أفغانستان واليمن في إصابات خاطئة أثارت ردود فعل كبيرة في الداخل الأميركي».

ويقول: «في مشروعها الديني «إعادة حاكمية الدين» طرحت نفسها على أنها ممثلة للدين، وكل خصومة معها هي خصومة للدين، وفرض عليها ذلك التعامل بالأدوات الدينية في الحقل السياسي، واستعارة قاموس «التضليل»، و«التكفير» للفرقاء السياسيين، ورفعت شعاراتها ورموزها السياسيين إلى مستوى التزكية الدينية، وجعلتهم فوق مستوى النقد، وفسرت إخفاقاتها السياسية بتفسيرات دينية كالابتلاء الرباني، والتمحيص الإلهي للصفوف، وهذا ما حصَّن زعماءها من أي مساءلة من المنتسبين للحركة نفسها في حالة الإخفاق. وهكذا فالجماعة في سبيل تحقيق هدفها بإقامة الخلافة وإعادة حاكمية الدين خلطت بين العمل الديني والعمل السياسي، فهي تتحصن بالدين من أي نقد يوجه إليها في ممارساتها السياسية؛ إذ تفسره ماكينتها الإعلامية على أنه هجوم على الدين ومعاداة للدعوة الإسلامية كما حدث في قضية عزل الرئيس المصري مرسي المنتمي إليها، إذ صَوَّرتْ ماكينتها الإعلامية أحداث عزله على أنها معركة بين الحق الباطل. وفي الوقت نفسه تتحصن بالرؤية السياسية، وأن المصلحة السياسية تملي عليها اتخاذ بعض المواقف حين يوجه إليها نقد ديني من خصومها السلفيين بسبب بعض مواقفها الدينية.
ومحصل هذا كله أنها ليست منظمة دينية خالصة تتعامل بأدوات الحقل الديني، وتلتزم بأدبيات الدين في مواقفها ورؤاها، وليست بمنظمة سياسية خالصة تتعامل بأدوات الحقل السياسي التي تفرضها البراغماتية السياسية في تكوين علاقاتها بالأوساط المحلية والإقليمية العالمية، وبهذا خسرت دينيًّا لدى جمهرة عريضة من المتدينين، وخسرت سياسيًّا لدى العاملين في الحقل السياسي من أحزاب ومنظمات المجتمع المدني في مصر وكثير من البلدان العربية.

نصير شمة: طرائق الأداء تمكننا  أن نستشف أسلوبية  كل مُلحن أو عازف

نصير شمة: طرائق الأداء تمكننا أن نستشف أسلوبية كل مُلحن أو عازف

نال الموسيقي العراقي نصير شمة مؤخرًا درجة الماجستير عن دراسة بعنوان: «الأسلوبية موسيقيًّا»، وما دفعه إلى هذه الدراسة عدم وجود أسلوبية في الموسيقا كما هي في الأدب. ويقول شمة في حوار مع «الفيصل»: إن هناك أدوات وطرائق أداء يمكننا من خلالها أن نستشف أسلوبية كل ملحن أو عازف. وأوضح أنه خلال البحث والدراسة استطاع الوصول إلى عالم جديد، يمكنه من تفسير كثير من الأمور في عالم الموسيقا. ويعد نصير شمة العود الآلة الأولى والأهم في تاريخ حضارتي العراق ووادي النيل، من هنا كان لا بد أن يقيم من أجله كيانًا يهتمّ به وبعازفيه، مشيرًا إلى أنه في زمن هارون الرشيد كان المعهد به 40 طالبًا، «فهل من المعقول بعد ألف سنة لا نستطيع أن نصنع شيئًا يوازي هذه التجربة؟»، إلى نص الحوار:

لكل فنان أو كاتب أسلوبه، لكننا في الكتابة يمكننا أن نرصد من طرائق تركيب المفردات والجمل أسلوب كل كاتب أو شاعر، فكيف يجري ذلك في عالم الموسيقا؟

■ يحدث ذلك لكل ملحن أو عازف أو مؤلف موسيقي، وقد شرحت الأمر بتفصيل واضح داخل البحث، فهناك أدوات وطرائق أداء يمكننا من خلالها أن نستشف أسلوبية كل ملحن أو عازف، ففي الشعر لدى كل شاعر معجمه الشعري، وهناك شاعر معرفته موسوعية أكثر من آخر، وفي الأسلوبية الأدبية نقيس مفردات الكاتب وموسوعيته واستخداماته لحروف وكلمات أكثر من غيرها، ومدى استخدامه للمواربة والتصريح والتخييل، في الموسيقا أيضًا نقيس اختلاف الهارموني وشدته ومدى التلوين بالأداء في نبرات الأصوات لدى العازف، أو ضربات أنامله للبيانو، أو طريقة استخدامه للأيدي في التآلفات الجديدة.

لدينا في الموسيقا مجموعة من السلالم الموسيقية، كل سلم يجري التعامل معه بطريقة مختلفة، ومن ثم فإننا نتأمل كيف تعامل معه ملحن كبير مثل: رياض السنباطي أو محمد عبدالوهاب أو ناظم الغزالي، وندرس كيف تعامل كل منهم مع نفس المقام، ونستشف أسلوبيته من خلال تلك الفروقات البسيطة بين كل ملحن وآخر، يمكننا أيضًا أن نتعرف من خلال اللحن وطريقة أدائه على ثقافة وقدرة الملحن أو العازف من خلال توافق الأصوات، حيث إنه يسبغ على لحنه دون أن يدري ثقافته وألوانه الجديدة، في البحث وضعنا مجموعة من المقاييس، من خلالها يتضح لنا قدرة كل مؤلف على التمايز عن غيره، في مقدمة هذه المجموعة الثقافة التي ستنعكس على العمل الموسيقي، فمثلما تسُر الموسيقا كل سامع لها، فإنها تعكس مدى سعة اطلاع مؤلفها، هذا الذي يمكنه أن يأتي من شيء صغير بعمل كبير وفريد، كضربات القدر لبيتهوفن، تلك التي استوحاها من مجيء الشحاذين ليقرعوا باب بيته، فاختار إيقاعيتها من طريقة طرقهم الأبواب، هذه السيمفونية التي تعددت الروايات فيمن استوحى بيتهوفن موسيقاها منه، قال البعض: من شعوره بتزايد ضعف سمعه يومًا عن الآخر، وقال البعض الآخر: من حلم راوده، لكنني أميل إلى رواية الطرق على الأبواب.

ما الذي ألهمك فكرة تقديم دراسة أسلوبية في الموسيقا؟

■ من سنوات بعيدة أهداني الناقد الدكتور صلاح فضل كتابه عن الأسلوبية، وما إن شرعت في قراءته حتى شعرت أن الأسلوبية في الأدب عمل محكم وواضح، وتساءلت لماذا لا يجري ذلك لدينا في الموسيقا، فنحن نتحدث عن ملحن أو مؤلف ما بأنه شاطر أو ناجح من دون أن نعرف لماذا، حين بدأت في تأمل الأمر تأكد لي أنه لا بد من دراسة الأسلوبية موسيقيًّا، فبدأت أستنبط لماذا السنباطي عظيم في هذا وهذا، ولماذا عبدالوهاب كبير وعبقري في هذا، وبدأت أطوّر الأمر لمعرفة كيف أتى عبدالوهاب بهذه الجملة، ولماذا فعل السنباطي هذا ولم يفعل هذا، هكذا بدأ البحث.

هل الدرجة العلمية التي حصلت عليها نهاية المطاف أم إنه بداية طريق أكاديمي جديد؟

■ من خلال البحث والدراسة استطعت الوصول إلى عالم جديد، يمكنني أن أفسر من خلاله كثيرًا من الأمور في عالم الموسيقا، قبل منحي الدرجة الأكاديمية كنت أتحدث في أمور نظرية، وبعد أن أقر الرسالة أساتذة كبار مشهود لهم بالعلم والأستاذية في مجالات الفن والأدب والأسلوبية وتاريخ الموسيقا، صار الأمر الآن يستهويني لأن أكمل، وأن أبحر في مزيد من أعماقه، فالرسالة ستطبع في كتاب بالمجلس الأعلى للثقافة في مصر، وكنت حريصًا على أن تكون بلا زيادات، فحذفت منها أكثر من أربعين صفحة قبل المناقشة، فما لا يعود منها بالإضافة إلى النظرية الأسلوبية فلا أهمية لوجوده بها، وقد قال عنها الدكتور صلاح فضل: «أنا وزملائي نعمل في الأسلوبية منذ أربعين عامًا ولم نضف جديدًا، ولكن أنت بضربة ريشة أضفت الجديد والكثير». بالتأكيد سأكمل دراساتي في هذا الموضوع، علمًا بأن الشهادة لم تكن هدفًا لي، ولن أقدمها إلى أي مكان، ولن أحتاجها في شيء، لكنها كانت الفكرة.

في المناقشة اختلفت معك الدكتورة إيناس عبدالدايم حول مصطلح موسيقا الميكروباص الذي استخدمته للتدليل على أسلوبية الموسيقا الشعبية الراهنة، فكيف ترى واقع الموسيقا الآن في العالم العربي؟

نصير شمه يشهد حفل أوركسترا بيت العود العربي

جوابي للدكتورة إيناس كان أن علماء الاجتماع يدرسون هذه الظواهر، ولماذا وصلت إلى هذا المنحدر، ففي السبعينيات حين ظهر مطربون شعبيون حدثت ضجة عظيمة، لكننا الآن صرنا نرى ما قدمه هؤلاء المطربون في السبعينيات أعمالًا فنية مهمة إلى جانب ما يحدث الآن، ومصطلح الميكروباص لست صاحبه، لكن هكذا يستخدمه الناس.

ما رأيك في أغاني المهرجانات وما وصلت إليه؟

هناك مهرجانات قدمت فنًّا حقيقيًّا، هذه المهرجانات أحدثت حالة من التوازن، فعلى الأقل أصحاب الذوق الموسيقي يجدون من خلالها مساحة يستمتعون فيها بالموسيقا الراقية، وأعتقد أن مهرجان الموسيقا العربية الذي كانت تشرف عليه الدكتورة رتيبة الحفني قدم كثيرًا من التقاليد المهمة لتلك المهرجانات، ومن الصعب تغيير هذه التقاليد.

اختلفت مع الدكتور صلاح فضل رئيس لجنة المناقشة حول مصطلح التناص، فهل كنت مدفوعًا بتجريم أي محاولة لتضمين جمل موسيقية بطرائق غير مشروعه؟

■ هناك قانون لحقوق الملكية الفكرية لا يسمح باقتباس أكثر من أربعة موازير، أكثر من ذلك يصبح سرقة، ومن ثم أردت أن أفرق بين التناص والاقتباس وبين السرقات الفنية.

كنت أول من أقام بيتًا لآلة موسيقية وهي العود، فلماذا العود تحديدًا؟ ولِمَ سعيت إلى نقله إلى عدد من الأقطار العربية؟

لأنه الآلة الأولى والأهم في تاريخ حضارتي العراق ووادي النيل، وكان لا بد أن يقام من أجله كيان يهتم به وبعازفيه، ففي زمن هارون الرشيد كان المعهد به 40 طالبًا، فهل من المعقول بعد ألف سنة لا نستطيع أن نصنع شيئًا يوازي هذه التجربة.

قدمت في العود إضافة مهمة عبر تطويره بوصفه آلة موسيقية، فما القدرات الصوتية التي أتاحها ذلك التطوير للعود؟

■ التطوير جعل للعود صوتًا موازيًا للآلات العالمية المعروفة، حيث إن صناعة هذه الأدوات عالميًّا يجري على أسس علمية ومعروفة، وأخشابها تختار بطريقة علمية، وتعالج بطريقة علمية، وكان لا بد أن يجري هذا الأمر مع العود، بما يجعله آلة نابضة وحية وذات صوت لا يقل في جودته عن الأصوات العالمية الأخرى.

هناك تطوير على مستوى الأوتار؟

■ نعم العود المثمن، وقد كانت فكرته ورسمه في إحدى مخطوطات الفارابي، لكن الفارابيين يقفون ضد أي شيء يخص الفارابي، وكان من الممكن أن أنسبه لنفسي، وقد قدمته لأكثر من دولة في العالم، ولاقى نجاحًا رائعًا، ويأتينا طلاب من مختلف البلدان لدراسته والعزف عليه.

كيف تنظر الآن لما يجري في العراق؟

■ العراق الآن ملعب كبير لدول وأجهزة كثيرة نتيجة الغباء الأميركي في سياسته مع العراق، فقد ترك العراق لقمة سائغة لدول الجوار، هذا أحدث ذعرًا في مفاصل الدولة العراقية وكيانها، وجعلهم يعاملون العراق كمطبخ خلفي لمشكلاتهم، تعرف أن «داعش» ما جاءت من فراغ، وكل دولة لها داعش خاص بها، لكن الآن استطاع العراق أن يقضي عليها، إلا أن العراق الآن مليء بالقتلى والجرحى والثكلى واليتامى، ولا بد من البحث عن السلام، وإرساء مبدأ نبذ العنف.

المسرح العربي في مأزق فن البسطاء لم يعد قادرًا على التعبير عن همومهم أو مخاوفهم

المسرح العربي في مأزق فن البسطاء لم يعد قادرًا على التعبير عن همومهم أو مخاوفهم

لم يكن المسرح العربي يعرف في زمن ما معنى «أزمة» مثلما يعرفها الآن، على الرغم من كثرة ترديد المسرحيين لهذه الكلمة. فعلى مدار تاريخه منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى وقتنا الراهن والمشتغلون في مجال المسرح يتحدثون عن وجود أزمة في المسرح، ربما تمثلت في قلة النفقات، وربما في ندرة خشبات العرض، أو حتى تفتت الفرق الكبرى ورحيل النجوم والمؤسسين. لكن طيلة الوقت كان ثمة ورق جديد لكتاب جدد، وجمهور كبير يقبل على هذا الفن الذي يمكنه أن يستوعب مختلف الفنون الأخرى، بدءًا من الغناء والموسيقا والرقص إلى الإلقاء والتأليف والوعظ والإلهاء والتثوير، حتى إنه في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي كان هو الفن الجماهيري الأول. واستطاع منافسة السينما والتلفزيون لسنوات طويلة، حتى إن مسرحية «الزعيم» لعادل إمام ظلت تعرض لأكثر من عشر سنوات على المسرح، وما زالت أعمال سعد الله ونوس ومحمد الماغوط ومحمود دياب وعلي سالم والرحبانية وغيرهم قادرة على إمتاع الناس حتى الآن، لكن السنوات الأخيرة كشفت أن المسرح العربي خرج من المنافسة، ولم يعد قادرًا على إمتاع الجماهير أو جذبهم، وأن تجارب مثل مسرح مصر أو غيرها لم تقدم إلا مزيدًا من التسطيح، وأن فن البسطاء لم يعد قادرًا على التعبير عن همومهم أو ثوراتهم أو مخاوفهم، فهل يعيش المسرح العربي الآن في أزمة، وما أسبابها؟ وكيف يمكن الخروج منها؟

زياد عيتاني: الإعلام يتعامل مع المسرح بطريقة خاطئة

الصعوبات التي تواجه العاملين بالمسرح أولها الإعلام الذي غيّب عن الناس الثقافة العامة، ونعني بالثقافة العامة أن نقدم مسرحًا قائمًا على الروايات الكلاسيكية الشهيرة، أو الأعمال التي يقال عنها: إنها نخبوية، وهي في حقيقة الأمر غير ذلك، فما معنى أن يعطي الإعلام انطباعًا عن المسرح أنه أمر ثقافي كبير وخاص بالمثقفين أو نخبة معينة من الناس، ألم يكن ما قدمه محمد الماغوط مع دريد لحام ثقافة شعبية؟!، ألم يلامسا كثيرًا من الأمور المهمة في عالمنا العربي؟ الشيء نفسه فعله لينين الراملي مع محمد صبحي. فلماذا الترويج للمسرح كأن إيقاعه بطيء ونخبوي، ولا يمكنه أن يجاري ما هو سائد بالسوق؟ هل ما هو سائد بالسوق هو كل ما نملك؟ لا أظن. من المؤسف أن الإعلام تعامل مع المسرح بطريقة خاطئة، فالمسرح أبو الفنون، ولا بد أن يمنح الحيز الأول، فلماذا تغيبت الأعمال الروائية عن الدراما التلفزيونية، ما زلنا نتذكر التلفزيون المصري وهو يقدم أعمالًا لتشيخوف، من بينها سهرة تلفزيونية مدتها ساعة بعنون: «الرهان»، قام ببطولتها يحيى الفخراني، هل كانت نخبوية؟ لا لم تكن نخبوية، فقد كتبت بأسلوب عصري سريع يناسب الشباب، وهكذا يمكننا أن نمثل كثيرًا من الأعمال العالمية المهمة، لكن الإعلام لا يساعد.

الأمر الثاني هو الإنتاج الذي يسعى للربح السريع دائمًا، فيطالب المسرحيين بشيء أقرب إلى ما يسمى بـ«اللايت»، على أساس أنك لا تستطيع أن تقدم للعالم غير اللايت، بالطبع لا، فأنا قدمت ثلاث مسرحيات، إحداهن بلبنان، لبنان الذي تعداده أربعة ملايين نسمة، استمرت لمدة ثلاث سنوات، حضرها 45 ألفًا، وهي نسبة كبيرة، كانت المسرحية بعنوان: «طريق جديد» وهي مقاربة تاريخية كوميدية لعدة نقاط في عالمنا العربي، فماذا كان دور المنتج، المنتجون يفضلون دائمًا الربح السريع، يفضلون ما يعرف بـ«الكوميدي لايتس»، وهو ما أثر في مفهوم المسرح الشعبي.

يمكن للنهوض أن يحدث من خلال ثلاثة محاور أساسية: أولها هو الإعلام، وثانيها هو السلطة أو الدولة التي لا بد أن تضع المسرح ضمن مناهج التلاميذ في المدارس والطلاب في الجامعات، وتشركهم أكثر في الثقافة المسرحية المفقودة، فيجب أن ندعم كل البرامج الثقافية، فالثقافة ليست ذلك المفهوم النخبوي، لكنها كل شيء في حياتنا، تاريخنا، حضارتنا، كل شيء، نحن يمكننا أن نتناول أي شيء في حدود 120 كلمة على تويتر، فهل نستطيع عمل ذلك من خلال المسرح؟ بالطبع يمكننا أن نصنع كثيرًا، فقط أعطوا المسرح المجال المناسب، وليس بطريقة البحث عن نجم كبير كي نصنع له عملًا مسرحيًّا، هذا النهوض لا بد أن يتعاون فيه كل من الإعلام والسلطة والمسرحيين أنفسهم، أما أن يُترك المسرحيون وحدهم فذلك أمر صعب، والمسرحيون كما يقال يعيشون من اللحم الحي، لكن هذا طريق صعب ولا بد أن نسلكه حتى يستمر هذا الفن، فهذا الفن بناه مسرحيون كبار بداية من جورج أبيض إلى نجيب الريحاني إلى فؤاد المهندس، ودريد لحام، ومحمد الماغوط بالشام، وجابر مهموش بالإمارات واجباعي بتونس والرحبانية بلبنان؛ لذلك لا بد أن يستمر لأنه جزء مهم وأساس في حضارتنا العربية.

كاتب وممثل مسرحي لبناني

ناصر ونوس: الحكومات رفعت الدعم عن المسرح

منذ ولادة المسرح العربي أواخر القرن التاسع عشر وهو يمر بمراحل متأزمة، يزدهر سنوات تطول أحيانًا وتقصر أحيانًا أخرى، ثم تأتي مرحلة الهبوط، تطول أيضًا أو تقصر. وآخر مراحل ازدهار المسرح العربي كانت في أواخر عقد الثمانينيات، ثم بدأ نجمه يأفل من جديد. إلى أن وصلنا إلى الوضع الحالي، حيث يمر بأسوأ مراحله –باعتقادي- منذ تأسيسه. وأسباب أزمة المسرح العربي كثيرة، أولها عزوف الحكومات العربية عن دعم المسرح، طالما أن هذا المسرح يتناول قضايا تعدّها هذه الحكومات خطيرة عليها. وهنا نأتي إلى النقطة المهمة وهي أن المسرح لا يمكن أن ينتعش إلا في ظل الحالة الديمقراطية وتوافر المناخ لحرية التعبير.

ومن يراجع تاريخ المسرح العالمي والعربي والحقب التي ازدهر فيها يدرك ذلك. ففي الستينيات والسبعينيات ازدهر المسرح قياسًا بالوقت الحالي؛ لأن القبضة الأمنية للأنظمة الحاكمة لم تكن بعد قد أحكمت سيطرتها على قطاعات المجتمع كافة، ومنها القطاعان الفني والثقافي، كما هو حاصل الآن. ما زال هناك فسحة للتعبير عن الرأي، وطرح القضايا الكبيرة منها والصغيرة، من دون هذا التدخل الفج في تفاصيل العملية الإبداعية. كان ثمة هامش لحرية التحرك بمعزل عن الرقابة المشددة على كل كلمة تقال كما هو الوضع الحالي. ومع إدراك هذه الأنظمة أن المسرح قد يهدد وجودها، ولو بشكل غير مباشر، بدأت برفع الدعم عنه، مثلما امتنعت عن إقامة المعاهد المسرحية التي ترفد الحركة المسرحية بأجيال جديدة. كما امتنعت عن تشكيل الفرق المسرحية الجديدة التي تلبي حاجات المجتمع الثقافية والفنية المتنامية، وحولت المهرجانات المسرحية إلى استعراضات إعلامية تهدف إلى تحسين سمعة الدولة أو النظام القائم.

ومع امتناع الدولة عن تقديم الدعم للمسرح، وصلنا إلى مرحلة نعاني فيها شحّ الكوادر المسرحية، من كُتاب ومخرجين وفنيين، بل ممثلين يعملون في المسرح. ومن ثم فإن الخروج من هذه الأزمة يجري بتأهيل كوادر جديدة، وتكوين فرق مسرحية جديدة في جميع المدن والبلدات حتى القرى، وإقامة المهرجانات على المستوى المحلي والعربي، وهو ما يعزز روح المنافسة ومن ثم التطوير المستمر. يجب علينا ألّا ننتظر الحكومات حتى تقدم الدعم للمسرح من تلقاء ذاتها، إنما علينا السعي الحثيث لتحقيق طموحاتنا المسرحية من خلال مطالبتها بالدعم المطلوب. وينبغي لنا ألّا نكتفي بالمصادر الحكومية لمثل هذا الدعم، بل يجب البحث عن مصادر التمويل الخاص، من خلال إقامة شركات إنتاج محلية، تنتج العروض الم

سرحية مثلما تقوم شركات الإنتاج السينمائي بإنتاج الأفلام.

كاتب ومترجم وناقد مسرحي سوري

سعيد حجاج: ليس هناك أزمة في المسرح

من تاريخ قراءتي للمسرح وأنا أسمع أن هناك أزمة في المسرح، على مر العقود والأزمان ثمة أصوات تتحدث عن وجود أزمة في المسرح سواء المصري أو العربي، وعن نفسي لا أرى هذه الأزمة، لكني أرى الدنيا تطور، وكل مسرح يشبه عصره، لكن أزمتنا نحن أن الدنيا تتطور ونحن نرى المسرح بعيون الستينيات، نتعامل معه طيلة العقود التي تلت الستينيات من منظور هذه الحقبة، والحقيقة أن الستينيات كان بها إستراتيجية وتوجه، لكن بعد رحيل الرئيس عبد الناصر لم تعد هناك إستراتيجية ولا توجه، من ثم ظهرت فكرة أزمة المسرح. الواقع يقول: إن الأزمة الحقيقية تكمن في علاقة الناس الآن بالمسرح، فالميديا أخذت اهتمام الناس إليها، وتركت المسرح يعاني ضعف الاقبال وقلة الجمهور، وهو ما يشعر الناس بأن ثمة أزمة، متناسين الفارق الزمني والتقني والإعلامي بين الستينيات والآن. كانت السينما في الستينيات هي المنافس الوحيد، أما الآن فهناك السينما والدراما التلفزيونية وبرامج التوك شو وغيرها، وكل هذا خصم من رصيد المسرح في اهتمام الناس.

كاتب مسرحي مصري

وليد داغستاني: الأولوية لمسرح المدرسة

يشكو المسرح العربي اليوم من معضلات شتى تعيق الفنان وتحدّ من قدراته الإبداعية في ظل غياب تصور واضح لدور المسرح في المجتمع. وقد يعود ذلك إلى جهل أغلبية الحكومات العربية بقيمة المسرح، ومن ثم فإن ما يُرصد له من ميزانيات محتشمة تفرضه ضرورة دبلوماسية للظهور أمام الدول المتقدمة بمظهر التحضر، ولهذا فقد آن الأوان للتفكير جديًّا في تأهيل المسرحيين للاضطلاع بدورهم الحساس، من خلال التكوين والدعم، وإعطاء أولوية مطلقة لمسرح المدرسة والجامعة، وإشعار الناس بقيمة هذا الفن. ويظل أيضًا القطاع الخاص مسؤولًا بشكل مباشر عن نوعية ما يقدمه من أعمال مسرحية عادة ما تكون ذات طابع تجاري. ولذلك فإن الفنانين عليهم حث الدولة على سن قوانين تحمي مهن الفنون الدرامية، وتشجع النقابات على الوقوف إلى جانب حقوق المسرحي في العيش الكريم وتكافؤ الفرص.

مخرج وممثل مسرحي تونسي

محمد أبو العلا السلاموني: سوء الإدارة وراء أزمة المسرح

المسرح بشكل عام في حالة أزمة كغيره من مؤسسات المجتمع العربي الراهن، نظرًا لما تمر به البلدان العربية جميعًا من ظروف عاصفة في أعقاب الربيع العربي، هذه الظروف التي أضعفت كل شيء بما في ذلك المسرح العربي، فقد شملت الفوضى كل شيء، وعمّ الدمار في كثير من بلدان المنطقة، وارتعد الجميع من تلك الموجة الشريرة للجماعات المتشددة في مختلف بلدان العالم العربي. والمسرح من المفترض أنه إحدى الأذرع المهمة التي ينبغي لها مواجهة قوى الإرهاب، هذا إذا فكر المسؤولون عن المسرح بشكل إيجابي في كيفية مواجهة الإرهاب، فهي قضية ثقافية بامتياز، والمسرح في قلب العملية الثقافية، فالفكر لا يواجَه إلا بالفكر، أما اعتماد مواجهة العنف بالعنف، فذلك سيؤدي إلى دمار شامل، يمكننا معالجة القضية من جذورها بتغيير الفكر الحافز على الإرهاب، لكن المشكلة تكمن في سوء الإدارة، وفي ظني أنها هي أساس أزمة المسرح الراهنة. فالعشوائية والشللية سيطرتا على هذا القطاع بشكل واضح، وليس هناك مسؤول لديه رؤية أو إستراتيجية واضحة للتعامل مع الإرهاب من خلال المسرح، ولا حتى للمسرح بشكل عام في هذه المرحلة، ففي الستينيات كان مدير المسرح لديه خطة وبرنامج وأفكار واضحة، وحين يتوقف عمل لظرف ما كان يسرع بالاتصال بالكتاب كي يقدموا له عملًا يسد الفراغ الذي تركه العمل الذي توقف، الآن الأمور كلها تسير بالمصادفة والهوى، ومن ثم فلا أحد يعرف ما الذي ينبغي عمله ولا ما الضرورة، مشكلة المسرح بالدرجة الأولى هي مشكلة سوء إدارة، وانعدام خيال، وهيمنة شللية، وانعدام الرؤية الإستراتيجية لما ينبغي عمله.

كاتب مسرح ودراما تلفزيونية مصري

محمد المنجي بن إبراهيم: بين أحكام المتغيّرات وفضاءات الحرية

العلاقات ضمن الحياة المسرحية في تونس، وكذلك حسب اطلاعي، في كامل الوطن العربي يشوبها التأرجح والمدّ والجزر بين مجموعات تنادي بالحداثة والتجديد على الأصعدة الفكرية والفنّية وكيفيات الإنتاج والتقديم، وشؤون التوزيع والترويج، ومجموعات أخرى متشبّثة بنمطية مسرحية تدرّ الربحَ الوفير من دون عناء أو شقاء التفكير. وهناك شقّ آخر يمسك بوسط العصا، ويسعى إلى أن يكون لمسرحه وجود ولو متواضع، فيُقْدِمُ على أنماط مسرحية ذات طابع تقليدي من حيث الاختيار ومجهود إنجاز العرض سواء فيما يتعلّق بالكتابة المسرحية أو الأطر الفنية للإعداد والتقديم.

وفي هذا الشأن يكمن فسيفساء المسرح العربي، وقطاعاته المحترفة، والهواة، والمسارح الجامعية والمدرسية، وذلك ضمن علاقات مضطربة وفي أجواء لا تخلو من مطبّات هوائية غير مريحة. خلاصة هذا المعنى أن المضايقات السلطوية لحرّيات التعبير هي أجهزة قمعية تحدّ من انتشار المقترحات الفنّية الجريئة، وأنّ التسيّب والفوضى والتعاطي الاعتباطي للنشاط المسرحي يُدخل المسرح في متاهات متداخلة كخيوط العنكبوت يصعب الخروج منها، وأنّ أشكال التطرّف السياسية أو الدينية أو الاجتماعية تجذب كلّ المحاولات التقدمية إلى الخلف وإلى الأسفل، وأن الحرّيات المزعومة بمفهوم :«اصنع ما شئت» و«العالم صغير» و«لا حاجة لهوية»… وغيرها هي عوامل لا تضمن استقرار الذات، وتُهمل التعريف بالشخصية، ولا تُعير اهتمامًا باحترام الهوية، بل هي عوامل تُؤدّي إلى التيه والغربة، وإلى ضروب العدمية بانعدام الكيان، ومن ثم فعلى كل فنان مسرحي اختار عن طواعية واقتناع أن يجعل من حياته المهنية والمجتمعية خدمة للتعبير المسرحي بمكوّنات وأدوات تسمح له لا أن يضاهي كبار القوم المتقدّم فقط إنّما بالتنافس المشروع معهم، وذلك بأن يعتمد على هويته وبَصماته المحلية، وثراء ثقافته ومراجعه التراثية والتاريخية، وبُعد النظر الحداثي والمعاصر، ولا يكون في التفرقة والتشتّت والضغينة والأحقاد، ولا في الصراعات الداخلية والخارجية ورمي الآخرين بالحجارة ونعتهم بالتخلّف واللا-اعتبار، فالكبير يبقى صغيرًا أمام شسوع المعرفة، والفنان يبقى متواضعًا أمام عظمة الإبداع.

ناقد ومخرج مسرحي تونسي

سميحة أيوب: المسرح تحول اسكتشات هزلية فقيرة وأحيانًا مهينة

سميحة أيوب

الحالة العامة في جميع البلاد هي سبب اضطراب المسرح، ولا يمكننا أن نتحدث عن مسرح حقيقي ومزدهر في ظل ظروف غير مستقرة، فأغلب البلدان في العالم العربي تعاني عدم استقرار واضح، وأغلب البلدان غير مستقرة ماديًّا أو سياسيًّا، وهذا ترك تأثيره في المسرح في العالم العربي كله، ولا نملك الآن إلا المبدعين أنفسهم، سواء الكتاب أو الممثلون أو المخرجون أو العاملون في الإضاءة والملابس والديكور وغيرها، لا نملك سوى البشر، وهم العنصر الوحيد الذي يمكن الرهان عليه، فلا الأدوات والميزانيات ولا الإمكانيات متوافرة، وكي يتوافر ذلك كله لا بد من توافر حالة من التوازن. وفي ظل الأحوال السياسية التي تجوب العالم العربي الآن فمن الصعب الرهان على شيء، فالعالم العربي منذ سنوات وهو يعيش حالة من الاضطراب السياسي، والمسرح هو عمل ثقافي وسياسي أيضًا، واضطراب الحالة السياسية يقضي باضطراب أحوال المسرح بشكل واضح، ومن ثم فإننا لا نملك إلا مطالبة المبدعين أنفسهم بالتمسك بعملهم، وكل منهم يقدم عمله على أكمل وجه؛ كي لا يخسر الجميع، المسرحيون أنفسهم قبل الجمهور والمجتمع كله. ولا يمكن عد كل ما ينتج الآن عملًا مسرحيًّا حقيقيًّا، فالمسرح أمر حضاري جدًّا، لكن هناك تجارب تقدم الآن مسيئة إلى الذوق والفن، ألفاظ خارجة، واسكتشات بذيئة، ورغبة في إهانة الممثلين بعضهم بعضًا كي يضحك الجمهور. هذا ليس مسرحًا، ولا ثقافة ولا قيمًا، المسرح فعل حضاري يجب الحفاظ عليه، ولا يجب الاستسلام لموجات الانحطاط التي توالت على المسارح العربية في الأوقات الأخيرة، وهذا لا يعني أن المسرح العربي كله ضعيف، لكن الرغبة في إرضاء الجمهور وإضحاكه حولت المسرح إلى اسكتشات هزلية فقيرة وأحيانًا مهينة.

عبدالعزيز السماعيل: أزمة وجودية في الصراع بين قيم المدنية، والقيم المتطرفة

عبدالعزيز السماعيل

أعتقد أن المسرح بوصفه فنًّا وحدثًا اجتماعيًّا ثقافيًّا جادًّا حيًّا ومباشرًا، أو هذا ما يجب أن يكون عليه أصلًا، قادر على المساهمة بفاعلية في مواجهة كل أشكال الأزمات والقضايا التي تهم المجتمع العربي الآن، ومن ضمنها تعزيز قيم التسامح والمحبة والمواطنة والمشاركة والحوار… إلخ، من قيم حضارية وإنسانية عالية هي أصلًا من صميم فضائل الدين الإسلامي الحنيف، في مقابل كشف الزيف والتضليل الذي يدعيه دعاة الغلو والتطرف والانغلاق باسم الإسلام، إلا أن المسرح العربي ذاته واقع في أزمته الخاصة والمزمنة منذ سنوات طويلة؛ بسبب ضعف الدعم وغياب التخطيط الإستراتيجي للثقافة عمومًا ومن ضمنها المسرح، إضافة إلى العنصر الأهم وهو تشديد سلطة الرقيب التي تعوق دوره في تناول القضايا المهمة في المجتمع بشكل واضح وصريح، وقد ضاعف الآن الانفتاح الكامل على العولمة وقيم السوق والاستهلاك الرأسمالي من أزمة المسرح العربي ليس فقط في الوطن العربي بل في العالم أيضًا، ولأن ما يعنينا هو المسرح في واقعنا العربي تحديدًا، يمكن ملاحظة أحد مظاهر تلك الأزمة في انقسام المهتمين بالمسرح أنفسهم تيارين مختلفين.

فالذي لا يستطيع مجاراة عروض السوق الاستهلاكية للترفيه والتسلية انسحب إلى العزلة، أو إلى تغليب الشكل المسرحي وألوان السينوغرافيا بدعوى التجريب الغارق في الترميز والدلالات اللغوية المنفلت من أي موضوع أو مضمون جاد له قيمة فكرية مهمة في المجتمع، في حين بقي المسرحي الجاد المؤمن بدور المسرح وأهميته يصارع من أجل توفير احتياجاته المسرحية الملحّة، أملًا في أن يجد له مكانة اجتماعية مرموقة يتمناها منذ زمن بعيد ولا يستطيع الحصول عليها إلا مع النخبة المسرحية في عروض المسابقات والمهرجانات أحيانًا.

إن المجتمع الذي يدعم وهم الخصوصية والمحافظة على التقاليد، رغم انفتاحه المفرط على أنماط السوق وقيم الاستهلاك الرأسمالي المادي، لن يبحث عن قيمة حقيقية للفنون، ولا عن مسرح جاد وحقيقي يناقش قضاياه وهمومه الاجتماعية الحقيقية، ومن ضمنها قضايا التطرف والغلو والإرهاب، بل عن مسرح استهلاكي مُسلٍّ ساخر من مشاكل الناس والأشكال النمطية للشخصيات الشاذة فيه، مثل: الأسود والسمين والأعور والقصير والطويل… إلخ من موضوعات سطحية فجة تستجدي إضحاك المشاهدين وتسليتهم بأي شيء، ومن أي شيء غريب أو عجيب في سلوكه أو هيئته.

ومن ثم فإن القيم التي تسطح المسرح وتتعامل معه كعلبة غازية فارغة سوف ترمى بعد الانتهاء منها، سوف تنتج قيمًا لصالحها، سطحية وتافهة أيضًا، لكنها عميقة ومؤثرة في نفوس الناس وتسطيح تفكيرهم، ومن ضمنها تدمير قيمة المسرح، حين يتحول إلى منصة تهريج ليس إلا.

إن ازمة المسرح العربي كانت ولا تزال أزمة في العمق، أزمة وجودية في الصراع بين قيم الثقافة والتحضر والمدنية، والقيم الدينية المتطرفة والعادات والتقاليد المحافظة، على الرغم من مظاهر التمدن والمعاصرة الشكلية في المدن وحياة الناس.

مسرحي سعودي

منال الضويان.. القول بالحضور الواضح  للفنانة السعودية  «مُسَيَّس»

منال الضويان.. القول بالحضور الواضح للفنانة السعودية «مُسَيَّس»

ترى الفنانة السعودية منال الضويان الفن نوعًا من الحوار المتطور، وتؤكد في حوار لـ«الفيصل» أن القول بالحضور الواضح للفنانة السعودية «مُسَيَّس». وتشدد على الحاجة إلى نقد الذات سعيًا للتطور. الضويان في تجربتها المتنوعة تستعمل الرمز البسيط من أجل التعبير عن قضية كبيرة، بدأت مشوارها الفني من خلال التصوير الفوتوغرافي، ثم طوَّرت هذا الفن إلى ما يعرف بفن الـ installation وصممت أفكارًا فنية ثلاثية الأبعاد كبيرة الحجم تحتلّ مساحات تعبر عن الفكرة بأشكال متعددة. وقد شاركت الضويان في معارض دولية واقتنى عدد من المتاحف العالمية أعمالها مثل: المتحف البريطاني، ومتحف لا كونتي، والمتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة، وهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث وغيرها. وثَّقت منال الضويان مجموعات اجتماعية مثل: «رجال ونساء النفط في المملكة العربية السعودية» في مشروع فني حمل عنوانًا: «إذا نسيتك فلا تنساني»، وفي مشروعها «صدمة» تناولت تأثير وسائل الإعلام في ممارسة المحو المتعمد للهويات. إلى نص الحوار:

بدأتِ عملك مبرمجة نظم معلوماتية بناء على تخصصك في البكالوريوس بعلوم الحاسوب، ثم حصلت على درجة الماجستير في تحليل النظم وتصميمها، إذن، كيف تبلور اهتمامك بالفن والتصوير؟

– منذ الطفولة وأنا أرسم وكنت مهووسة بالتصوير، وقد عدت من الجامعة وأنا في سن صغيرة أحمل بمعيتي ثلاثة عشر صندوقًا مليئة بالصور. كانت رغبتي في دراسة الفن قديمة، لكن كانت دراسة الفن آنذاك في المنطقة غير متاحة، ولم تكن هناك أية حركة فنية على الرغم من وجود فنانين، ومع ذلك قررت دراسة الماجستير في تحليل النظم المعلوماتية نهارًا، أما في المساء فقد كنت أدرس فن الطباعة وأحصل على كورسات في جامعات فنية في لندن. عندما عدت من الدراسة التحقت بأرامكو. أول معرض لي أقيم في شمال إسبانيا، ثم صار الفن شغلي الشاغل، وبعد خمس سنوات من هذا التغيير في حياتي تركت عملي، وتفرغت للفن وتخصصت فيه.

وثَّقتِ مجموعات اجتماعية، مثل «رجال ونساء النفط في السعودية» في مشروعك الفني «إذا نسيتك فلا تنساني»، وتناولتِ تأثير وسائل الإعلام في نشر محو متعمد للهويات في مشروع «صدمة»؛ هل تعتقدين أن رسالة الإعلام العربي كانت سلبية تجاه قضايا مجتمعه وبخاصة المرأة؟

  بالنسبة لي أحاول الابتعاد من علاج المشكلة، وأعتقد أن دور الفن جعل المشاهد ينظر إلى مشهد أو قضية أو صورة بطريقة مختلفة، فإذا اعتادت عيناك على النظر إلى المشهد من اليمين فأنا أجعلك تنظر إليه من اليسار، وهذه الحالة في تغيير الرؤية من شأنها أن تنتشل المتلقي من الخمول وربما تجعله يغير من طريقة طرحه الأسئلة. وأما الإعلام العربي فلن أعلِّق على موقفه، لكن سأحيل إلى خطورة تكرار الصورة في الإعلام بما لها من قوة، فتكرارها في الصحافة خمسًا وعشرين عامًا في حوادث سيارات المعلِّمات مثلًا أعده خطرًا أو نوعًا من تثبيت قصة وإهمال القصص الأخرى، فنشر صور سيارات مدمرة من دون أي جثث أو توضيح أسماء النساء اللائي توفين في هذه الحوادث هو نمط من المحو للإنسان الذي ذهبت روحه. وأعلم أن النية هي الحفاظ على الخصوصية لكن التكرار بهذا الشكل محو لإنسانية النساء اللائي ذهبت أرواحهن سدى في تلك الحوادث من دون فجيعة من المجتمع الذي ينتمين إليه. فمسؤولية الإعلام تقحمه في مثلبة التكرار التي تدخل حس أفراده في نوع من الخمول والغفوة. وأحاول معالجة هذه القضية في مشروعي «حالة من الاختفاء». ولقد جمعت صورًا من تلك الحوادث عن النساء نُشرت خلال ثلاثة أعوام في جريدة واحدة، ووجدت أنهم لا يقومون بنشر صور جديدة عن تلك الحوادث بل يستعملون الصور ذاتها، ولقد استعملت في بضعة شهور، تقدر بأربعة أشهر، الصور ذاتها ثماني مرات، وهي صور تشمل عددًا وفيرًا من النسوة، ولا تنشر صورة امرأة بمفردها، مخفيات الشكل والوجه والتكوين، الأمر الذي يشعر معه المرء بأن المرأة ليس لها تكوين وليس لها شكل محدد. لذلك أحاول في أعمالي التأكيد على أن المجموعات الكبيرة تساعد على محو هوية الشخص وفردانيته، وهذا شكل من التجاهل لذات المرأة وهويتها.

تضمَّن بعض مشاريعك الفنية تساؤلًا عن: ماذا يحدث لذاكرة لا يوجد لها قصة؟ وربما اضطررتِ إلى استخدام أرشيف صورك الشخصية لإعادة نشر قصتك من خلال ذكريات شخص آخر لبناء اتصال متخيَّل. كيف استطعتِ تكوين هذا التصور القصصي والإنساني وتجميعه وتضمينه من خلال أرشيف من الصور؟ وما الذي دفعك إلى الاستعانة بأرشيفك الشخصي لهذه الغاية الفنية البحتة؟

– منذ مدة وأعمالي تعالج قضية الذاكرة وبخاصة أن والدي كان متأثرًا بسبب مرض الزهايمر أواخر سبع سنوات من عمره قبيل وفاته. وبصفتي شابة وجدتْ والدها لا يتذكر اسمها ولا وجهها ولا يتذكر ما حوله، كانت تجربة صعبة جدًّا، ولقد عالجت هذه التجربة من خلال عملي في الفن. فكثير من أعمالي تدور حول والدي وتجربته مع هذا المرض، ففي هذا المشروع الذي سميته «أنا هل أنسى؟». كنت في عمر اثني عشر عامًا أعطاني والدي صندوقًا فيه ثلاث مئة نيغاتيف، وكنت ألعب بها وأتسلى وأضع عليها تكوينات، وصنفتها في صور عن الماء، وأخرى عن الجبال، وصور في أوربا وأميركا وهكذا، لكنني حينما كبرت وبعد وفاة والدي نظرت إلى تلك الصور بنظرة مختلفة لأن جميع من فيها توفي والأماكن الموجودة في تلك الصور ليس لها قصة، فبدأت أطرح فكرة: ماذا يحدث للذاكرة أو للقصة حينما لا تكون لها ذاكرة؟ ولقد أخذت صوري إلى فلوريدا في مكان إقامة فنية في جزيرة كابتيفا التي تتبع الفنان روشان بيرغ فاونديشن، وهذا الفنان معروف في أميركا، ولقد كنت أول عربية تشارك في تلك الإقامة الفنية، وبدأت إنتاج أعمال وأفكر في أن تلك الصور إذا فقدت قصتها وذاكرتها فسوف أصنع لها ذاكرة وقصة وتاريخًا هي قصتي، وبتلك التجربة أكون قد بعثت فيها روحًا جديدة برؤية وفكر جديدين وأحييتها، وهذه تجربتي التي قمت فيها بإحياء الذاكرة بعد المحو.

استمددتِ إلهامك في مجموعة «أنا» من الخطاب الذي ألقاه الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز يوم تولّيه العرش، ودعا فيه يومها السعوديّين كلّهم ليتعاونوا على بناء وطننا. كما شدّد على أهمية مشاركة المرأة. وفي الصور الفوتوغرافية من مجموعة «أنا» نساء صورتهن وهن يرتدين تفاصيل توحي بوظائف عدة، ما الذي دفعك إلى إعداد هذه المجموعة؟

– كان للملك عبدالله -يرحمه الله- خلال حكمه خطابات عدة وأهمها عند توليه الحكم، والثاني لما عيّن المرأة في مجلس الشورى. وتحدث عن النساء البارزات وتأثير النساء في حياته، وتكلم عن أم سلمة وبعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم. ولكوني موظفة في أرامكو آنذاك كنت محاطة بنساء ناجحات في مجالات عملهن، وحين ألقى الملك عبدالله ذلك الخطاب وغيره جرى حوار شديد في المجتمع السعودي وعلى مستوى إعلامي كذلك، عن الوظائف التي يمكن للمرأة شغرها، وقيل يومها: إن المرأة ستعمل في الوظائف المناسبة لطبيعتها بصفتها امرأة، وكنت أتساءل بحيرة: ما الذي يناسب طبيعة المرأة من الوظائف؟ ومن سيحدد ما الذي يتناسب وطبيعتها؟ ومن خلال طرح هذين السؤالين على نفسي انطلقت بعمل هو من أوائل أعمالي في هذا المجال قبل ثلاثة عشر عامًا. فلقد طلبت من عدد من النساء اللائي يعملن أن يحضرن إلى الأستوديو الخاص بي لتصويرهن بزي المهن التي يعملن فيها: أنا معلمة، أنا مهندسة بترول، أنا كاتبة، أنا سفيرة في الأمم المتحدة، وما إلى ذلك. فكان لكل صورة نقاش وحوار لأنني عددتُ ذلك العمل عملًا تشاركيًّا.

تميز عملك «في الهوا سوا» ببساطته التعبيرية الفنية، فهو عبارة عن سرب من الحمام الأبيض بعدد 200 حمامة معلَّقة بحبال شفافة ملاصقة لسقف يحدّ من حريتها. وعبر بعمق عن رسالته المجتمعية الرافضة للحد من حرية حركة المرأة السعودية والقيود المفروضة عليها. ترى أين تكمن مسؤولية الفن في المجتمع؟ وكيف يمكن للفنان إنشاء حوار اجتماعيّ صحّيّ على الصعيدين المحلّيّ والعالميّ؟

  أعدّ الفن نوعًا من الحوار، وأعتقد أن النقد الذاتي مهمّ في كل المجتمعات، ولا بد أن ننتقد أنفسنا كمجتمع لنتطور بدل التقبل على مضض أو الابتعاد وترك المساحة للعابثين في الأرض فسادًا، فقضية الحمام تلامس قضية الولاية على المرأة وأنا بصفتي فنانة أستخدم رمزًا بسيطًا ليعبِّر عن قضية كبيرة، ففي عملي «الصدمة» وفلم «لم يكن لدي أجنحة» كان الطرح يناقش قضية السياقة ومسؤولية المجتمع في الحفاظ على سلامة المرأة، و«في الهوا سوا» تكلمت عن الولاية وخطورة ظلم المرأة على المجتمع برمته.

الملاحظ أنه على الرغم من الوضع الذي تعيشه المرأة السعودية في مجتمعها فإن الفنانات السعوديات حاضرات وبقوة في ساحة الفن السعودي المعاصر؛ في رأيك ما الذي يدفع الفنانة السعودية إلى تجاوز إحباط الداخل من خلال الفن الذي يحمل رسالة التغيير؟

  نعم هناك حضور واضح للفنانة السعودية لكنني أعتقد أن هذا الكلام مُسَيَّس من ناحية دفعنا إلى القول بأن المرأة بصفتها فنانة لم تظلم أو أخذت حقها من الانتشار والوجود. أنا أعتقد أن الحركة الفنية في السعودية فيها توازن بين الرجل والمرأة غير موجود في أي مجال آخر في التجربة الاجتماعية السعودية، ولذلك تبرز المرأة التي تكاد تكون أثرًا مختفيًا فيغير ذلك من المجالات الأخرى، فهما في حال مساواة تقريبًا؛ إذ إن مجال الفن خاص جدًّا يتكلم عن قصة الفنان الخاصة والحوار يحترم الرأي الآخر. أما الإحباط للفنانة والفنان فهو يأتي من عدم القدرة على إنتاج الفن أو عدم القدرة على التعبير.

عرضتِ بعض أعمالك بشكل دائم في مجموعات المتحف البريطاني، والمتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة، ومؤسسة عبداللطيف جميل، ومؤسسة دلفينا في لندن، وهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، ومؤسسة الناظور في ألمانيا ومؤسسة بارجيل في الشارقة؛ فهل لك أعمال معروضة في السعودية؟

– عرضت كثيرًا من أعمالي في السعودية منها صالة أثر وكان اسم المعرض «رحلة الانتماء». وشاركت في مهرجان جدة الفني قبل أربع سنوات. وفي كل عام يختار المنسقون لي عملًا للمشاركة به، ولقد شاركت هذا العام بعملي «الصدمة» في المتحف الوطني بالرياض، وفي معرض بالسفارة الفرنسية، وفي أرامكو أقمت معرضين. وفي البحرين كثير من السعوديين يحضرون هناك لتلقي أعمالي، بل إن أغلب من يقتني أعمالي سعوديون، وكثير منها في البيوت السعودية. ومن المتاحف التي أتواصل معها في المنطقة متحف الدوحة، والمتاحف الموجودة في أبو ظبي، ومتحف البرجيل في الشارقة، وكذلك متحف بالأردن.

الاستشراق الجديد..  جنون هوياتي أم تكريس لكراهية العرب؟

الاستشراق الجديد.. جنون هوياتي أم تكريس لكراهية العرب؟

كشف الغزو الأميركي للعراق عام 2001م عن الدور البارز الذي لعبه الاستشراق الجديد في تشكيل مخيلة الغرب نحو المنطقة العربية، فعبر عدد من مراكز الأبحاث وأقسام الجامعات ووسائل الإعلام صدَّق العالم أن العراق مقبل على إبادة البشرية. يومها وقف وزير الخارجية الأميركي كولن باول يستعرض أمام مجلس الأمن علبة صفيح قديمة بوصفها دليلًا على مدى تطور البرنامج النووي العراقي، مطالبًا بتشكيل تحالف دولي لانتزاع قوى الشر من مكمنها. هكذا صنعت أفكار برنارد لويس وصمويل هنتنغتون وجيوش من صحفيين وباحثين عاملين في مضمار ما يعرف بالاستشراق الجديد رأيًا عامًّا بارَكَ احتلال العراق، فضلًا عن إلقاء آلاف الأطنان من المتفجرات على رؤوس أطفاله وشيوخه.

سهَّلت القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي وأدوات الاتصال الحديثة للمستشرقين الجدد عملهم في إنتاج مزيد من التصورات الخاطئة عن الإسلام ومنطقة العالم العربي، بدءًا من أن انعدام الديمقراطية في الشرق هو الذي أدى إلى خروج الإسلاميين من بلدانهم لتهديد المجتمعات الغربية، مرورًا بأن الحل يكمن في إحلال الديمقراطية الأميركية ووصول الإسلام السياسي إلى سدة الحكم؛ كي لا تتكرر مأساة تفجير بُرجَيِ التجارة العالمي من جديد.. هذه الأفكار روَّجت لإعادة تقسيم المنطقة العربية على أسس طائفية وعرقية، وعجَّلت بخلق جماعات تؤكد وجهة نظر الغرب في الإسلام.

لكن السؤال: ما ملامح الاستشراق الجديد؟ ما الذي يختلف به عن الاستشراق الذي فنده المفكِّر الراحل إدوارد سعيد؟ ما غايات هذا الاستشراق وأهدافه التي أطلتْ برأسها مع احتلال العراق في مطلع الألفية الثالثة؟ أسئلة تطرحها «الفيصل» على عدد من الباحثين والكتاب.

يقول الباحث العراقي فاضل الربيعي في كتابه «ما بعد الاستشراق»: إن غزو العراق كشف عن الدور المتنامي لمراكز البحوث والجامعات ووسائل الإعلام الغربية والأميركية في صياغة وعي الجمهور العام وآرائه ومواقفه، كما كشف عن الدور المذهل الذي لعبه الاستشراق الجديد في تكريس صورة نمطية لا سابق لها، وهي جميعها، كما يذكر الربيعي، عناصر أساسية ساهمت في شيطنة مجتمعات بأكملها، من بينها العراق الذي كان قبل غزوه طوال سنوات الحصار الجائر موضوعًا أثيرًا لدى جيل جديد من المستشرقين. ويرى الربيعي أن على العرب الذين أصبحوا موضوعًا دراسيًّا للاستشراق الجديد أن يقدموا تعريفًا دقيقًا لذلك الكم الهائل من الكتب والمقالات والدراسات التي اهتمت بالعالم العربي السياسي والثقافي، ورؤية طبيعة صلتها بما أنتجه الاستشراق القديم الكلاسيكي من مواد شبيهة مماثلة.

محمد عمري: لماذا يكرهوننا؟

لا أعتقد أن الاستشراق الجديد موحّد أو أنه استطاع إنتاج معرفة جديدة حول المنطقة بعد 2011م. وإذا أخذنا الاستشراق الجديد بمعنى الخبرة الأكاديمية في خدمة القرار السياسي الغربي، فأغلب المجهود اتجه نحو كيفية المحافظة على المصالح في منطقة متقلبة. كما تواصل التركيز على ما يسمى بالحرب على الإرهاب ومحاولة إيجاد مواقع للتأثير في واقع متقلب، كسوريا مثلًا. وتدعمت فكرة البحث في سؤال: «لماذا يكرهوننا؟»، وبخاصة في الولايات المتحدة، بالإجابة عنها بعودة الشعبوية وتقديم المصلحة القومية أولًا، كما ظهر في الخطاب الذي أوصل دونالد ترمب للرئاسة. وإلى حد مهم دعم مصير الثورات العربية فكرة الاستثناء العربي وعدم قدرة المنطقة على استيعاب الديمقراطية لدى من كان يحملها قبل 2011م. ولذلك تواصلت الدعوات إلى الحلول الأمنية والتدخل العسكري ومساندة «الحكام الأقوياء» بدلًا من تدعيم الديمقراطية والمراهنة على القوى المعارضة. أما في الغرب فلعل صعود اليمين المتطرف والخطاب المعادي للهجرة، وبخاصة في البلدان الإسلامية، دليل على قوة الفكر الاستشراقي الجديد وفعله في صنع الرأي العام والقرار.

أكاديمي تونسي أستاذ الأدب المقارن بجامعة أكسفورد.

عبد الله الوهيبي: من الاستشراق إلى التسطيح

«الاستشراق الجديد» -وهو مصطلح لا يخلو من غموض؛ لقلة تداوله ولضبابية حدوده- تحوَّل تدريجيًّا لحالة سيولةٍ وتذرٍّ وتفتُّتٍ. ففي الحقبة الاستشراقية التي امتدت قرابة القرنين حتى أواخر القرن المنصرم كان الإنتاج المعرفي الغربي تجاه المشرق يتمحور في الإنتاج في اللغويات والرحلات، ثم تطور لدراسات أنثروبولوجية وسسيولوجية واقتصاد سياسي وغيرها من المنهجيات، وكان ذلك في العموم يصدر عن الأكاديميات الغربية بالدرجة الأولى، ومن المراكز العلمية والبحثية السياسية والمستقلة في مرحلة تالية، ثم مع الانتشار الهائل لشبكات الاتصال الحديثة ابتداء من ذيوع القنوات، ثم الإنترنت، ثم الشبكات الاجتماعية، تحولت المعرفة الاستشراقية لأنواع جديدة تسطيحية وكليشيهات ساذجة يصرح بها «خبير» في الجماعات الإسلامية أو «معلّق» يعمل في مركز راند أو ما شابه، كما صار من السهل مشاركة العربي والمسلم في إنتاج هذه المعرفة، لظروف كثرة الباحثين من أصول عربية في الغرب عمومًا، ولظروف تزايد الهجرة و… إلخ. فالتحول الأحدث في المعرفة المنتجة عن الشرق العربي هي هذه السمة التسطيحية والتفتيتية، فلم تعد الأبحاث الجادة أو الأطروحات العميقة هي المؤثرة أو لها الأولوية في تكوين الصور والمواقف العمومية عن حوادث المشرق وتداعيات الأحداث في المنطقة العربية، بل الخبير/ المعلق/ الصحفي الذي يقدم معرفة للاستهلاك العاجل.

باحث سعودي أصدر كتاب

«حول الاستشراق الجديد – مقدمات أولية»

عمار علي حسن: الاستغراب في مواجهة الاستشراق

الاستشراق هو المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق، بإصدار تقارير حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها، ووصفه، وتدريسه، والاستقرار فيه، وحكمه، وهو أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه، وامتلاك السيادة عليه… وهو إنشاء استطاعتْ به الحضارة الغربية أن تتدبر الشرق – بل حتى تنتجه، سياسيًّا واجتماعيًّا وعسكريًّا وعقائديًّا وعلميًّا وتخيليًّا، حتى أصبح صعبًا على أي إنسان أن يكتب عن الشرق، أو يفكر فيه، أو يمارس فعلًا متعلقًا به، من دون أن يأخذ بعين الاعتبار الحدود المعوقة التي فرضها الاستشراق على الفكر والفعل، ولا يعني هذا أن الاستشراق، بمفرده، يقرر ويحتم ما يمكن أن يقال عن الشرق، بل إنه يشكل شبكة المصالح الكلية التي يستحضر تأثيرها بصورة لا مفر منها في كل مناسبة، يكون فيها الشرق موضعًا للنقاش.

أما «الاستغراب» فهو دعوة حالمة متفائلة لدراسة الغرب، وتفكيك ثقافته وتوجهاته، وفهمها وهضمها، لامتلاك آليات فاعلة للتعامل معها. لكن هذه الدعوة لم تنتج تيارًا عريضًا متدفقًا مثل الذي أنتجه الاستشراق، وهي ليست سوى جهود فردية متناثرة، تضرب يمينًا ويسارًا، بلا هدف محدد، ولا خطة ناظمة. لكنها في كل الأحوال لا تقوم على تشويه الغرب، اللهم إلا في بعض كتابات أتباع التيار الإسلامي، مثل ما كتبه سيد قطب ومحمد قطب، بل تنطوي في أغلبها على الإعجاب به، ومحاولة تمثله، والاقتداء بما أنجزه في المعارف التطبيقية والإنسانية والفنون، وفي العمران البشري، لا سيما في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويحتاج حوار الحضارات إلى تصحيح الصور النمطية المغلوطة، وإلا ظل مجرد ترف نخبوي، ورتوش مزيفة، وخطابات علاقات عامة، تظهر وقت الأزمات، وتُستَخدم مطية لأحوال السياسة وتقلباتها.

باحث مصري في علم الاجتماع السياسي.

عبدالكريم المقداد: في مقعد الجواسيس

لا أرى في الاستشراق الجديد إلا نسخة أحط وأبشع من الاستشراق القديم، الذي كرّس للشرق صورة نمطية لا تعكس سوى الجهل والهمجية وعبادة الشهوات. لطالما نظر إلينا المستشرقون بنظرة المتعالي، ووضعونا في خانة الأدنى. ولست أجافي الحقيقة إذ أقول: إن أغلبهم لم يبرح موقع الجاسوس في رصده للشرق، وتركيزه على مسارب الضعف التي تمكن الغرب من التسلل منها للاستحواذ على مواردنا وإرادتنا وقرارنا بصور خادعة زخرفها بمنمنمات فنية تحرف النظر عن خبث تلك الصور. لم تفلح كل المحاولات العربية والإسلامية من خلال التواصل والتعايش مع الغرب بعد ذلك في تغيير تلك الصورة، التي التصقت في وعي ولا وعي الغرب، وصارت مُسَلَّمة لا تُدحَض. كان الغرب يوارب ويلفّ ويدور لعدم الجهر علنًا بمفاهيمه عن الشرق، لكن ما أن تلقى صدمة الملك فيصل بن عبدالعزيز في وقفه تصدير النفط له في عام ١٩٧٣م حتى جهر بما كان يداري، فاكتظ إعلامه بصور وأوصاف للمسلمين والعرب أهون عناوينها الهمجية والتوحش والبداوة والجِمال والرّقّ! حاول المستشرقون بعد ذلك تغليف هذه النظرة بغِلالة جديدة، فكان الاستشراق الجديد، وظهر صموئيل هنتنغتون وبرنارد لويس وأضرابهما.

تمت «مكيجة» الوسيلة فقط، أما الهدف فلم يتغير: الاستحواذ على الشرق وثرواته وعدم تمكينه من أمره وقراراته، وإغراق مواطنيه في دوامة الركض خلف رغيف الخبز، والحرص على جعل الحرية والعدالة والكرامة مجرد كماليات لا يستطيع اقترافها حتى في الأحلام.  تماهى المستشرقون مع القادة فخلقوا (القاعدة)، وابتكروا بعدها فزاعة الإرهاب، ثم شرعوا بشيطنة الإسلام، وراحوا يؤدلجون المسلمين بتقسيمهم إلى معتدلين ومتطرفين، وبدأ اللعب على أوتار المذهبية والإثنية، وسهلوا لإيران أن تلعب دورًا رئيسًا في المسرحية، فغرق شرقنا العتيد بالدماء. فهل نرجو من هذا الغرب الذي بنى أيديولوجياته على أفكار المستشرقين الجدد الأخطبوطية أن يسمح بنجاح الربيع العربي، فنملك أمرنا وموقفنا ونصبح أحرارًا؟ التجارب ماثلة أمامنا، وما زالت تتفاعل في مصر والعراق وتونس واليمن وسوريا وليبيا، وما زال نهر الدم يتدفق بغزارة منذ سنوات، أما الغرب، الذي يثور إذا ما عثر كلب في أحد أزقته، فيواصل الاستمتاعَ بمشاهدة مسلسل الإبادة في الشرق.

ناقد وباحث سوري.

فخري‭ ‬صالح‭: ‬استشراق‭ ‬ذو‭ ‬أغراض‭ ‬وغايات‭ ‬أيديولوجية‭ ‬فاقعة

إذا نظرنا إلى ما قدمه الاستشراق خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، في دراسة تاريخ الشرق ولغاته وتراثه، فسنجد أن من الصعب تجاوز هذا الميراث الهائل من المعرفة الاستشراقية حول العالمين العربي والإسلامي. وبغض النظر عن نقد الاستشراق الذي مارسه مفكرون مثل أنور عبدالملك، وإدوارد سعيد، وطلال أسد، وضياء الدين ساردار وآخرين غيرهم، فإن الاستشراق الكلاسيكي قام بدور عظيم في دراسة الشعوب الشرقية وميراثها. أما ما سميته في كتابي الأخير «الاستشراق الجديد»، أو بالأحرى «الاستشراق الراهن»، ممثلًا في كتب برنارد لويس الدعويَّة الأخيرة، وتنظيرات صمويل هنتنغتون، وسياحة الكاتب الترينيدادي الأصل، والبريطاني الجنسية والثقافة: في. إس. نايبول في العالم الإسلامي، فهو يتسم بالسطحية، وتغلب عليه الصور النمطية، والتحليلات المستمدة من مصادر ثانوية.

إنه «استشراق» ذو أغراض وغايات أيديولوجية فاقعة ومفضوحة. فإذا كان الاستشراق الكلاسيكي واقعًا في شرك العلاقة المعقدة بين المعرفة والخطاب والسلطة فإنه سعى، في أعمال المستشرقين الكبار مثل المجري إغناتس غولدتسيهر أو الألماني كارل بروكلمان، إلى دراسة الميراث الإسلامي العظيم، وقراءة هذا الميراث في تاريخيته. أما النسل الجديد من المستشرقين الجدد لوزارة الخارجية الأميركية، وللسي آي إيه، ومراكز صنع القرار في أميركا والغرب، فوجدوا لتوفير معرفة نظرية يمكن من خلالها اتخاذ قرارات التدخل وشن الحروب على مناطق ذات أهمية حيوية بالنسبة للولايات المتحدة. لا شك أن بعض الاستشراق القديم كان في خدمة الإمبراطورية، لكنه لم يكن كذلك في معظمه، أما ما كتبه برنارد لويس وتلامذته، الأقل منه شأنًا ومعرفة دون أي شك، منذ ثمانينيات القرن الماضي، فلا قيمة معرفية له، بل هو دعاية تشبه الدعاية الغربية ضد الاتحاد السوفييتي أيام الحرب الباردة. إنها مجرد مواد إعلامية دعوية هدفها اصطناع عدو جديد للغرب وأميركا لغايات إستراتيجية، وكذلك هوياتيَّة في مواجهة الآخر: المسلم، الذي يعتقد هؤلاء أنه يهدد هوية الغرب المسيحي –العلماني– الديمقراطي. يمكننا أن نرى الآن هذا الجنون القومي –الهوياتي– المعادي للأجانب (وهم في الأغلب: المسلمون) الذي يجتاح أميركا وأوربا، لنفهم إلى أي حد أساء هؤلاء المستشرقون الجدد إلى أميركا والغرب قبل أن يسيؤوا إلى العرب والمسلمين. إننا مُقبِلون على كارثة بعد أن أصبحت كراهية الإسلام سياسة يعتنقها الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب ومساعدوه في البيت الأبيض. ولا شك أن ذلك ينسحب على أوربا التي ستعاني كثيرًا بسبب السياسة الأميركية الجديدة التي تتجه بسرعة صاروخية إلى التقوقع حول هويتها البيضاء البروتستانتية الديانة، الإنجليزية الثقافة، وهو ما نظَّر له صمويل هنتنغتون في آخر كتبه «من نحن؟» (2004م)، وهو الذي نبه من قبلُ إلى خطر المسلمين، ثم أضاف في كتابه الأخير المهاجرين من أميركا اللاتينية الذين رأى أنهم يهددون هوية أميركا في بدايات القرن الحادي والعشرين. هذه الرؤى النظرية، إذا اعتُنِقت، قد تقود إلى حروب أهلية ومواجهات كونية، وربما حروب عالمية. وها نحن نرى دونالد ترمب يوقع مراسيم سياسية بإقامة جدار بين المكسيك والولايات المتحدة، ويمنع دخول المسلمين إلى أميركا؛ لأنهم في نظره إرهابيون. ومع أنني لا أومن أن الأفكار وحدها يمكن أن تقود إلى صناعة السياسات، فثمة عوامل اقتصادية وسياسية وجيو-إستراتيجية وثقافية، فإن أفكار لويس وهنتنغتون والمحافظين الجدد، إضافة إلى صحفيين وكتاب رأي وباحثين في بيوت الخبرة الأميركية، قد صنعت رأيًا عامًّا في الأوساط اليمينية المتطرفة كانت نتيجته انتخاب رئيس أميركي شعبوي، جاهل، معادٍ للثقافة، معادٍ للتجربة الديمقراطية الأميركية، كاره للأجانب، محتقر للنساء، قد يجرُّ العالم إلى كارثة، وربما مواجهة نووية.

ناقد ومترجم فلسطيني مؤلف كتاب «كراهية الإسلام..

كيف يصور الاستشراق الجديد العرب والمسلمين»