محنة الكتّاب الروس مع قادة الكرملين..  من لينين إلى بوتين

محنة الكتّاب الروس مع قادة الكرملين.. من لينين إلى بوتين

كان البلاشفة قبل استيلائهم على السلطة في روسيا ينادون بحرية الرأي والتعبير، وينددون بالرقابة المفروضة على المطبوعات، واضطهاد الكتاب والشعراء والمفكرين. ولكنهم بعد وصولهم إلى السلطة تناسوا شعاراتهم الديماغوجية، ومارسوا أعتى أنواع الرقابة على المطبوعات، واضطهدوا كل مفكر ومبدع لا يخضع لمقاييس الحزب الحاكم الأيديولوجية. واتخذ العلماء والأدباء الروس المعروفون مواقف متباينة من النظام الجديد. هاجر عدد كبير منهم إلى البلدان الأوربية، أما معظم الباقين فقد اتخذ موقف التوجس والانتظار. ولم يؤيد الثورة البلشفية إلا عدد قليل من المفكرين والأدباء.

في عام 1922م قامت السلطة السوفييتية بترحيل نخبة من خيرة المفكرين والفلاسفة والأدباء الروس الرافضين للحكم الجديد إلى الخارج، في باخرة سميت فيما بعد بـ«باخرة الفلاسفة» تضم 160 شخصًا، وأعقبتها بواخر أخرى مماثلة. وقد برّر تروتسكي -وكان لا يزال أحد القادة الكبار في النظام البلشفي- هذا الترحيل الجماعي قائلًا: «إننا نرحل هؤلاء الناس؛ لأنه ليس ثمة مبرر لإعدامهم، ولكننا لا نحتمل بقاءهم».

آلة القتل الستالينية

بعد وفاة لينين في أوائل عام 1924م استطاع جوزيف ستالين، الذي كان أحد قادة السلطة الجديدة، تشديد قبضته على الحكم تدريجيًّا بالقضاء على منافسيه وتصفيتهم، الواحد بعد الآخر. كان النظام الشمولي يرى في كل زاوية عدوًّا، وفي كل كلمة حق مؤامرة إمبريالية. وكان مصير كل كاتب أو شاعر ينتقد النظام هو الإعدام أو الاعتقال والنفي إلى أقاصي سيبيريا. في 15 أغسطس 1934م أرسل ستالين تعليمات سرية إلى لازار كاغانوفيج أحد أقطاب النظام السوفييتي حول كيفية التعامل مع الأدباء يقول فيها: «ينبغي التوضيح لكل الأدباء، أن اللجنة المركزية للحزب وحدها هي صاحبة الأمر والنهي في الأدب، كما في المجالات الأخرى، وينبغي عليهم الخضوع لها من دون مناقشة». لكن ستالين كان في حاجة إلى واجهة ثقافية أمام العالم، ولم يجد خيرًا من غوركي –الذي كان قد غادر روسيا عام 1921م، بعد خلافه مع لينين- للقيام بهذا الدور، واستطاع إقناعه بالعودة إلى روسيا. لم تكن صحة غوركي في سنواته الأخيرة على ما يرام، وتوفي عام 1936م؛ مما شكل صدمة كبيرة للكتاب والشعراء المستقلين، لأن غوركي -بشخصيته الكاريزمية ونفوذه المعنوي وعلاقته بستالين- كان حاميًا لهم من الاضطهاد. وحدث ما كان يخشاه الكتاب المستقلون؛ إذ طحنت آلة القتل الستالينية في السنوات التالية خبرة الكتاب والشعراء والفنانين. وحظرت السلطة نتاجاتهم وأزالت أسماءهم أينما وردت.

فترة ذوبان الجليد

نيكيتا خروتشوف

نيكيتا خروتشوف

ليون-تروتسكي

ليون تروتسكي

بعد وفاة ستالين ببضع سنين حلت فترة «ذوبان الجليد»، وهي الاسم غير الرسمي للسنوات العشر (1954-1964م) التي تولى فيها نيكيتا خروتشوف (1894- 1971م) الحكم في البلاد. وكانت فترة قصيرة شهدت انعقاد (المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي) عام 1956م، وخطاب خروتشوف الشهير الذي كشف فيه النقاب عن جرائم ستالين.

تميزت هذه الفترة في الحياة الثقافية بإعادة الاعتبار إلى معظم ضحايا العهد الشمولي ومن ضمنهم الشعراء والكتاب، وإطلاق سراح المعتقلين منهم، وتخفيف الرقابة على المطبوعات والمسرح والسينما والفنون الأخرى؛ إذ أصبح ممكنًا تسليط بعض الضوء على الجوانب السلبية للواقع السوفييتي.

وأصبحت مجلة «العالم الجديد» الأدبية المنبر الرئيس للكتاب الأحرار؛ حيث نشرت المجلة العديد من الأعمال الأدبية المتميزة؛ منها: رواية «ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان» لفلاديمير دودنتسوف، ورواية ألكسندر سولجينتسين «يوم واحد في حياة إيفان دينيسوفيتش» اللتان ترجمتا إلى العديد من لغات العالم. وفي عام 1957م نشرت في ميلانو رواية بوريس باسترناك «دكتور جيفاغو» الذي نال عنها في العام التالي جائزة نوبل للآداب. كان بعض المتزمتين في القسم الأيديولوجي للحزب الشيوعي يحرّض خروتشوف ضد الأدباء الأحرار، وينتهز كل هفوة لهم للنيل منهم، وجاءت الفرصة الذهبية لهؤلاء حين اتخذوا من نشر الرواية في الخارج ذريعة لشن حملة شعواء ضد باسترناك، وإرغامه على رفض الجائزة. ولكن التيار الليبرالي في الآداب والفنون كان يكسب مواقع جديدة كل يوم؛ إذ برزت في بداية الستينيات نخبة موهوبة من الكتاب والشعراء الشباب الذين شكلوا ظاهرة أدبية جذبت الأنظار. وقد أطلق عليهم النقاد اسم «جيل الستينيات» وأصبحوا منابر إبداعية للتعبير عن آمال الشباب السوفييتي وتطلعاتهم، رغم اختلاف مشارب هؤلاء الأدباء وأساليبهم الأدبية. وقد أسعدني الحظ أن أحضر العديد من اللقاءات الأدبية الجماهيرية في القاعات والمسارح والملاعب الرياضية التي كانت تغصّ بآلاف الشباب الذين جاؤوا من كل حدب وصوب للاستماع إلى قصائد هذه النخبة المبدعة من الشعراء الشباب (يفغيني يفتوشينكو، وروبرت روجديستفنسكي، وأندريه فوزنيسينسكي، وبيلا أحمدولينا) وقصص فلاديمير تيندرياكوف، وفاسيلي أكسيونوف، وفيكتور أستافيف.

ولم تخل هذه الفترة من تدخل الكرملين في الشؤون الثقافية، فقد جمع خروتشوف الأدباء الشباب بحضور جمع كبير من أبرز الأدباء السوفييت في إحدى قاعات الكرملين عام 1963م؛ لتهديدهم إن لم يلتزموا بمدرسة الواقعية الاشتراكية. وقد اعترف خروتشوف لاحقًا في مذكراته التي نشرت في أوائل السبعينيات في الخارج، بأن المسؤول الأيديولوجي في الحزب قد حرَّضه ضد الأدباء الشباب، وأنه يأسف لذلك. ظلت الرقابة الحزبية والحكومية على الأعمال الفكرية والإبداعية مستمرة وإن كانت على نحو أخفّ. فعلى سبيل المثال حذفت الرقابة فقرات كثيرة من مذكرات إيليا إهرنبورغ: «الناس والأعوام والحياة» ومن كل الأعمال التي تعبر بصدق عن الواقع السوفييتي المرير.

ركود وأدب سري

ليونيد بريجينيف

ليونيد بريجينيف

ميخائيل غورباتشوف

ميخائيل غورباتشوف

في أكتوبر 1964م، عُزل خروتشوف عن السلطة وتولى ليونيد بريجينيف (1906-1982م) مقاليد الأمور. دشن بريجينيف عهده بالتضييق على حرية التعبير. وجرت بين خريف 1965م وشباط 1966م محاكمة الكاتبين سينيافسكي ودانيل؛ إذ حكم على الأول بالسجن سبع سنوات وعلى الثاني خمس سنوات بدعوى تهريب بعض أعمالهم الأدبية المحظورة، ونشرها خارج البلاد. شهدت هذه الفترة نوعين من الأدب: أولهما – الأدب العلني الملتزم بقواعد الواقعية الاشتراكية. وثانيهما: الأدب السري المتداول في الخفاء والمطبوع أو المستنسخ بوسائل بدائية، حيث لم تكن أجهزة الاستنساخ الحديثة والكمبيوتر قد شاعت بعد. ومن أشهر المطبوعات السرية في تلك الفترة مجلة «ميتروبول» التي صدر أول عدد منها عام 1970م وكانت مجلة فكرية وأدبية غير دورية.. وقد أثارت المجلة سخط السلطة، فلجأت إلى طرد بعض المشرفين أو المساهمين فيها إلى الخارج، وزجّ بعض آخر في المصحّات العقلية والنفسية.

 ولم يقتصر الاضطهاد على جماعة «ميتروبول»، ففي عام 1972م حكم على الشاعر جوزيف برودسكي (1940 – 1996م) بالنفي إلى قرية نائية في أقصى الشمال الروسي. وبعد انتهاء مدة نفيه نُزعت الجنسية السوفييتية منه وطُرد من البلاد. كانت السلطة تحاول محو الآثار السلبية الناجمة عن النشر السري بعقد ندوات جماهيرية (تثقيفية) في المصانع ومؤسسات الدولة للتنديد بالكتاب المتمردين، والتشهير بهم. والطريف في الأمر أن هذه الندوات شكلت دعاية مجانية للأدباء المتمردين. وكان كل من لم يقرأ أعمالهم يحاول الحصول عليها بأي ثمن.

البريسترويكا ونشر المحظور

كان ميخائيل غورباتشوف الذي تولى السلطة عام 1984م، يدرك أن حظر نشر نتاجات أي كاتب أو شاعر يؤدي إلى تعظيم دوره وزيادة تأثيره في مجتمع يعشق قراءة الأعمال الأدبية مثل المجتمع الروسي، ولهذا خُفِّفت الرقابة الحكومية على المطبوعات ثم أُلغيت. خلال فترة البريسترويكا نُشرت أهم الأعمال الأدبية المحظورة في الحقبة السوفييتية السابقة للكتاب والشعراء الذين قتلهم ستالين أو قضوا أجمل سنوات أعمارهم في معتقلاته. كما عاد إلى القارئ الروسي، كل النتاجات الإبداعية لأدباء المهجر الذين كانت السلطة في الفترات السابقة تستخف بهم، وتمنع تداول كتبهم داخل البلاد.

أراد بوريس يلتسين بعد وصوله إلى قمة السلطة عام 1991م أن يستنسخ التجربة الغربية في الانتقال إلى الليبرالية واقتصاد السوق من دون توافر المقدمات الضرورية لذلك، فدبَّت الفوضى في مفاصل المجتمع والدولة. وشملت الفوضى الحياة الثقافية أيضًا، ولم يعرف عن يلتسين اهتمامه بالآداب والفنون. وكان الأدب الأميركي الجماهيري أو الشعبي في مقدمة اهتمامات دور النشر الروسية، التي كانت ترفض نشر الأعمال الروسية الجادة بدعوى أنها لا تجد إقبالًا في السوق. وأصبح الطريق سالكًا أمام كل من يعرف اختلاق القصص الهابطة فنيًّا ونظم الشعر الرديء. وجرى إلغاء الدعم الحكومي للاتحادات الأدبية والفنية. وكانت فترة انتقالية صعبة يتذكرها الروس بمرارة.

بوتين يضيق الخناق على الكتاب

منذ تولي فلاديمير بوتين زمام السلطة تراجعت حرية التعبير وأخذت تضيق شيئًا فشيئًا. وأصبحت كل وسائل الإعلام اليوم خاضعة للتوجيهات الرسمية. ولم تبقَ أي قناة تلفزة خاصة أو مستقلة في البلاد، وباتت كلها حكومية، وتُفرَض على برامجها رقابة سياسية صارمة. وتمارس هذه القنوات تضليلًا إعلاميًّا واسع النطاق للرأي العام، وتدغدغ مشاعر البسطاء عن طريق التغني بالدولة العظمى والمجد الإمبراطوري للأجداد، والقسم الأكبر من برامجها ترفيهيّ، وإن كانت تقدم بين حين وآخر لقاءات مع كتاب موالين للسلطة، أو تنقل الاحتفالات الخاصة بمنحهم جوائز الدولة التقديرية. 

الجيل الجديد الذي ترعرع بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، لم يعد يهتم كثيرًا بالكتب الجادة، بل يتابع بشغف البرامج التلفزيونية المعادية للغرب، والمسلسلات، والمنافسات الرياضية، ومواقع التواصل الاجتماعي، والوسائط المتعددة. وتراجع دور الكاتب أو الشاعر في المجتمع.

 ثمة عدد كبير من دور النشر والصحف والمجلات ومن ضمنها المجلات الأدبية (السميكة) التي تدعي الاستقلالية، ولكنها تتجنب نشر ما يغضب السلطة، فثمة عشرات السبل لخنق دار النشر أو الصحيفة أو المجلة، أو تهميش الكاتب، وأهمها قانون المطبوعات بموادّه المطاطية التي يمكن تفسيرها على هوى الحكومة، وهناك الجوائز الأدبية التي لا تمنح إلا مَن كان ظلًّا للحاكم ومتملّقًا له. وهذا لا يعني أن ثمة قيودًا مباشرة على الكاتب. فأي كاتب يمكن أن يكتب ما يشاء، ولكن عمله قد لا يرى النور، أو يطبع في أضيق الحدود، ولا يصل إلى معظم أنحاء البلاد.

بوريس يلتسين

بوريس يلتسين

يعقد بوتين، بين حين وآخر لقاءات -ينظمها مكتبه الإعلامي– مع عدد مختار من الكتاب المعروفين لمناقشة بعض القضايا الأدبية، من قبيل كيفية الحفاظ على نقاوة اللغة الروسية من التشويه والابتذال، أو تطوير المقررات الخاصة بالأدب في المدارس، أو مشاكل اتحاد الأدباء -الذي انشطر إلى اتحادات عدة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي- والعقبات التي تحول دون نشر الأعمال الأدبية. وفي العادة توجه الدعوات لحضور مثل هذه اللقاءات إلى الكتاب الموالين للسلطة، وإلى بعض الكتاب المعارضين؛ لإضفاء جوّ من الحيوية على اللقاء، لأن عدم وجود أي صوت معارض يحوّل أي لقاء من هذا النوع إلى حوار السلطة مع نفسها. ويرفض معظم الكتاب الأحرار الدعوة الموجهة إليهم للقاء رئيس الدولة، خشية توجيه الاتهام لهم بالتعاون مع السلطة. ويرى بعض الكتّاب المعارضين (بوريس أكونين، وإدوارد ليمونوف) ضرورة انتهاز مثل هذه الفرص النادرة لطرح القضايا الملحّة التي تهم الرأي العام؛ مثل: الرقابة السياسية المفروضة على التلفزيون، وانتهاك حقوق الإنسان، ومحاكمة بعض الكتّاب، منهم (يوري بيتوخوف، وتريوخليبوف، وميرونوف) وسحب كتبهم من السوق ومصادرتها لاحتوائها على آراء قومية أو دينية متطرفة.

إجابات بوتين عن أسئلة الكتّاب تكون في العادة شافية وتتسم بالهدوء، وأحيانًا مراوغة، ونادرًا ما تكون قاطعة، لكن ينبغي أن يقال: إنه لا ينزعج من أي سؤال، ولا يرفض الإجابة عنه. بعض الكتاب المعارضين يعتقد أن الغرض من عقد هذه اللقاءات، قبيل كل دورة انتخابية، ليس الاهتمام بالأدب والأدباء، بل لأغراض دعائية لكسب الناخبين. ونصح كاتب جريء بوتين بالتقاط الصور ليس فقط على خلفية صاروخ (توبول) ولكن أيضًا على خلفية أرفف الكتب أو ما له علاقة بالأدب.

معظم الجيل الجديد من الكتاب الروس يلهث وراء التقليعات الشائعة في الآداب الغربية الحديثة. وليس في روسيا اليوم سوى عدد محدود جدًّا من الكتاب المجيدين. ويتساءل النقاد في الغرب: «هل مات الأدب الروسي؟» ولماذا لم يعد في روسيا اليوم كتّاب عمالقة بمستوى تولستوي ودوستويفسكي؟ ويذهب هؤلاء النقاد في تفسير ذلك مذاهب شتى. لكننا نرى أن السبب الرئيس لتخلف الأدب الروسي المعاصر، لا يرجع فقط إلى ظهور وسائل جديدة لنشر المحتوى الأدبي، أو أن السوق أخذت تفرض نوعًا معينًا من النتاجات الخفيفة، التي تشبه الـ«فاست فود» يلتهمها الإنسان بسرعة وينساها بسرعة أكبر، بل يكمن أساسًا في تضييق نظام بوتين الخناق على حرية الرأي والتعبير. ولا يوجد أدب حقيقي وعظيم من دون حرية الكلمة.