خمس سنوات على رحيل فيسوافا شيمبورسكا.. الشعر يتيم!

خمس سنوات على رحيل فيسوافا شيمبورسكا.. الشعر يتيم!

ولدت الشاعرة فيسوافا شيمبورسكا عام 1932م، وماتت في الأول من فبراير 2012م بسرطان الرئة؛ هي التي ظلت لآخر يوم من عمرها تدخن السجائر بشراهة طفلة تأكل الحلوى. قالت عائلتها: إنها أسلمت الروح بهدوء تام في أثناء نومها. أوصت بحرق جثتها، وإقامة جنازة من دون بهرجة ولا طقوس دينية، وشددت على المعزّين بتوفير ثمن الأزهار لمساعدة المحتاجين، ودفنت في نفس قبر أبيها (وينسنتي 1870- 1936م) وأمها (أنّا 1890- 1960م).

تكتب «شيمبورسكا» قصائدها على حافة الرهافة والصرامة، والرعب والسخرية. التقطيع الحاد لسيولة السرد، والبساطة العميقة، والشيفرات الفلسفية الماكرة، هي أهم آليات عمل هذه البولندية الباذخة المدوّخة، التي لم تكن تكتب، بقدر ما تعطي دروسًا إبداعية للشعراء (الشاعرات خاصة)، في معنى الصبر والحفر.

هي مثال آخر بعد قسطنطين كفافيس، يثبت أن الشعراء يمكن أن يزدادوا براعة مع الزمن. كانت كلما تشيخ، تنضج وتتوهج، إذ لا تقل قصائدها التي كتبتها في الثمانينيات من عمرها، عن أعمالها السابقة التي صدرت في عزّ تألقها روحيًّا وصحيًّا.

في كلمتها في حفل استلام جائزة نوبل، ربما نجد أحد مفاتيح عالمها المليء بالأسرار. تقول: «لا أعرف.. كلمتان لهما جناحان. لو أن نيوتن لم يقل لنفسه لا أعرف، كان في أحسن الأحوال سيلتقط التفاحة ويأكلها».

لكن إذا كان الشعراء لا يعرفون، فمن الذي يعرف؟

تجيب «شيمبورسكا» في نص الكلمة ذاتها: «وحدهم الجلادون والدكتاتوريون والمأفونون ومتملقو الجماهير يعرفون، لكنهم يعرفون مرة واحدة إلى الأبد». الدهشة ضد الخبرة إذًا، هي ما أتاح لها أن تمسك براءة الطفولة بيد، وحكمة الشيخوخة في يد، وألّا تخذلها ربّة الشعر حتى آخر نفَس في حياتها.

يطلقون عليها في بولندا «موزارت الشعر»، وتحظى بقراءة واسعة في كل العالم، نخبوية وشعبية على السواء. لم تكن معروفة على نطاق واسع قبل حصولها على نوبل عام 1996م، ولاقى فوزها استهجانًا ودهشة لدى مبدعين وأكاديميين. لها أكثر من عشرين مجموعة شعرية ما بين إصدارات ومختارات؛ منها: « لهذا نحيا- 1952م»، و«الملح– 1962م»، و«مئة سلوى– 1967م»، و«الرقم الكبير- 1976م»، و«النهاية والبداية- 1993م».

في مناسبة ذكرى رحيلها الخامسة، ترجمت حوارًا مع سكرتيرها الخاص ومدير مؤسستها مايكل ريسينيك. وكذلك قمت باختيار إحدى قصائدها وترجمتها لتنشر رفقة الحوار.

مايكل ريسينيك مترجم، وكاتب، ومحاضر في جامعة جاجيلونيان، ويعمل حاليًّا رئيس مؤسسة الشاعرة فيسوافا شيمبورسكا. كان السكرتير الشخصي للشاعرة مدة 15 عامًا بعد أن حصلت على جائزة نوبل في عام 1996م. هذا الحوار الذي أجراه غريغور زاورا مع «ريسينيك» في ذكرى رحيلها الثانية عام 2014م، يلقى الضوء على جوانب مجهولة من حياة الشاعرة في سنواتها الأخيرة.

● ما هي الظروف التي أدت إلى التعاون بينك وبين فيسوافا شيمبورسكا؟

– كل شيء بدأ بعد حصول السيدة شيمبورسكا على جائزة نوبل في أكتوبر 1996م. أرادت توفير مزيد من الوقت لنفسها عبر سكرتير أدبي؛ لأنها كانت مشغولة بكمية ضخمة من الالتزامات المختلفة. لقد كان عليها الرد على المراسلات، وذلك من الصعب جدًّا بالنسبة لها. بحثت عن مساعد، وسألت صديقاتها عن سكرتير، وأنا ظهرت في الأفق. رشحتني الأستاذة تيريزا والاس، صديقة السيدة فيسوافا، وكنت قد تخرجت في ذلك الوقت من الجامعة.

● كيف استطاع ذلك الشاب بناء علاقة وثيقة وطويلة الأمد مع الشاعرة؟

مايكل-ريسينيك-وشيمبورسكا

مايكل ريسينيك وشيمبورسكا

– لا أعرف، ولست متأكدًا مما إذا كان للسن أي معنى. كانت في حاجة لشخص للرد على مراسلاتها باللغة الإنجليزية، وإرسال رسائل البريد الإلكتروني والفاكسات (كانت لا تزال تقنية شعبية في ذلك الوقت)، ويعرف قليلًا عن كيفية استخدام جهاز كمبيوتر، وتوفرت فيّ جميع الشروط اللازمة. أنا كنت مستشارًا لها، لكن أصبحنا أيضًا صديقين، وقد أعربت عن ثقتها بي. كان من المخطط أن أعمل لديها مدة ثلاثة أشهر فقط بعد حصولها على جائزة نوبل، وبقيت مدة خمسة عشر عامًا.

● هل كان هناك حدود عند نقطة معينة بينك وبين السيدة شيمبورسكا، أم أن العلاقة كانت طبيعية؟

– بالطبع. كان هناك دائمًا بعض المسافة في علاقاتها مع الآخرين. كانت متحفظة على مناداتها بكلمة «صديق»، وتقصرها فــــقـــــــــط عـــــلـــــى أصــدقــــــائـــــــهـــــــــــا الـقــدامـــــــــــــــــى والأشخاص من جيلها. ومع ذلك،

كانت مرحة جدًّا مع الناس وتطلب منهم مباشرة أن ينادوها باسمها الأول، بمن في ذلك زوجتي وأطفالي لكن ليس أنا. لقد حافظنا دائمًا على علاقة العمل. لم يكن مهمًّا جدًّا بالنسبة لي، حتى أنا وجدت أنه لطيف.

● متى قررت السيدة شيمبورسكا الإعلان عن فكرة المؤسسة؟

– ظهرت الفكرة قبل بداية عملي معها، وذلك خلال محادثة مع تيريزا والاس في عام 1996م.

● لماذا دخلت الفكرة حيز التنفيذ بعد وفاتها؟

– لأنها لا تحب صنع ضجة حول نفسها، التي ستكون ضرورية في حالة تشغيل المؤسسة. كان إنشاء مؤسسة، أو حتى كلمة «مؤسسة» أمرًا غريبًا لها. وقالت: إنها تفضل أن يحدث كل شيء من دون مشاركتها.

● هل ترى أي نتائج ملموسة بعد مرور عام على إنشاء المؤسسة؟

– أعتقد أنه ما زال من الصعب الحديث عن أي نتائج مادية. نحن في المقام الأول، نحاول بناء «العلامة التجارية» للمؤسسة وتعريفها على نطاق واسع. بطبيعة الحال، هو أسهل الخطوات؛ لأن اسم السيدة شيمبورسكا معروف. ومع ذلك، فإنه لا يزال من السابق لأوانه الحديث عن أي نتائج ملموسة. نحن نقوم بتنفيذ وصيتها ببطء. أنهينا بالفعل صيغة منح الجائزة. سنكون قادرين على الحديث عن الآثار بعد ذلك. لكن هذا هو جزء واحد فقط من النشاط.

● يبدو أن السيدة شيمبورسكا تثق بك كثيرًا بحيث أنها أعطت لك مطلق الحرية فيما يتعلق بنشاط المؤسسة؟

– باستثناء الجائزة، حُدِّدت النقاط بشكل دقيق. قالت صراحة: إنها لم يكن لديها أي فكرة ملموسة عن كيفية فعل ذلك. تركت لنا اتخاذ القرار، وبالتالي كان علينا أن نضع أكبر جهد في الجائزة. هناك أيضًا الصندوق الذي أنشأناه لمساعدة المؤلفين الذين يواجهون ظروفًا مالية صعبة. كانت السيدة فيسوافا ترغب في مساعدة هؤلاء الناس، وأرادت المؤسسة مواصلة هذا العمل. كما كان علينا إضفاء الطابع الرسمي على ذلك لكي لا تكون أنشطتنا وهمية، وذلك الأمر يتطلب أيضًا كثيرًا من العمل.

● قد يكون السؤال عامًّا، لكن كيف تمكّن شعر السيدة شيمبورسكا من الوصول إلى الناس في جميع أنحاء العالم؟

– هذا هو اللغز. من الصعب الإجابة عن هذا السؤال. وأعتقد أن هناك العديد من العناصر التي ساهمت في ذلك. باستثناء الجوانب الفنية، فإن أسلوبها بسيط في الظاهر لكنه يخفي العديد من الزخارف الفلسفية. الطريقة التي تعبر بها تجعل أشعارها في متناول الجميع وليس فقط القراء في بولندا. إنه لأمر مدهش أنها لا تزال تلقى ذلك الإقبال في الخارج، على سبيل المثال في إيطاليا وهولندا وأميركا.

● بوصفك مترجمًا، ما هي برأيك أهم العناصر الصعبة أو المثيرة للاهتمام في شعر السيدة شيمبورسكا؟

– مما لا شك فيه، أنه من الممكن ترجمة أشعارها؛ لأنها ليست عميقة الجذور في الثقافة البولندية والتقاليد. كان ذلك واضحًا في مختلف ترجمات أعمالها التي تتطلب قليلًا من الحواشي. إنها تقدم حالات غنائية عالمية تتيح استقبالًا واسعًا. وأذكر العديد من القصائد؛ منها على سبيل المثال «عيد ميلاد» المتجذرة عميقًا في اللغة ذاتها، وتتطلب ترجمتها خلق قصيدة جديدة. وهذا هو ما فعله المترجم في الترجمة الإنجليزية. أما مترجم أعمالها إلى اللغة الفرنسية فقال: إن ترجمتها مستحيلة.

● هل سبق لك أن حاولت ترجمة شعرها إلى لغة أخرى؟

– لا، لكن في بعض الأحيان أعطي النصائح بشأن ترجمة قصائد السيدة فيسوافا إلى الإنجليزية.

● أنت أيضًا كاتب، هل يمكن القول: إن السيدة شيمبورسكا كانت نموذجًا بالنسبة لك في الأعمال الأدبية الخاصة بك؟

فيسوافا-شيمبورسكا-٢– بالتأكيد، أصابتني منها عدوى الحساسية والانتباه إلى اللغة. قالت: إنها تلعب مع اللغة وتتعامل معها على أنها شيء مهم. لم تطلب مني قصائدي للتعليق عليها. رغم ذلك، أتذكر تلك المحادثات التي دارت بيننا كثيرًا بشكل عارض عن اللغة. لم تقدم تعليقات على أعمال الآخرين، لكن عندما أحضرت لها بعض قصائدي الساخرة، قدمت لي ملاحظات ثاقبة بشأن الجوانب التقنية، وهو أمر نادر جدًّا اليوم. كان هذا النهج التزامًا في جيلها، كان هناك مفهوم وظيفة أدبية.

● ماذا كان موقف السيدة شيمبورسكا تجاه الشهرة؟

– أوه! كانت خائفة. كرهت حالها عندما كان عليها أن تتلقى أي نوع من المديح أو الحب. كان ذلك بعيدًا تمامًا من شخصيتها وما أنقذها، أعتقد، كان حس النكتة، والعزلة، والسخرية والمفارقة.

● هل كانت سعيدة بوصولها للعالمية، أم كانت تفضل بيئة أكثر حميمية؟

– قالت: إنها تفضل العلاقة الحميمية؛ لأنها تحب قضاء الوقت مع صديقاتها، أو الخلوة عمومًا. لقد عاشت حياة اجتماعية مشابهة لصالونات القرن 19. كانت تحضر حفلات الاستقبال، لكن شخصيتها العالمية لا تعني أنها كانت تقيم في أغلى الفنادق أو السفر إلى جميع أنحاء العالم. لا شيء من هذا القبيل. كان أكثر الأشخاص الذين يتعرفون إليها في الشارع، على سبيل المثال، في إيطاليا، قالوا لها: إنهم يعرفونها ويحبونها. كان أهم شيء أن شعرها له جمهور واسع جدًّا.

● هل تشعر أنها تكون طبيعية عندما تواجه القراء؟

– لا فعلًا، هي بالأحرى تتجنب مثل هذه الحالات. من ناحية أخرى، تلقت العديد من الرسائل مما يسمى الناس العاديين (ليسوا على دراية جيدة بالشعر). ذات مرة قالت: إنها تلقت رسالة من رجل قدم نفسه على أنه رجل إطفاء متقاعد من ولاية تكساس. كتب لها أنه كان يجد القليل من القواسم المشتركة مع الشعر في حياته، إلا أنه تمكن من قراءة شعرها، واكتشف أنها كتبت ما كان يشعر به، ولم يتمكن من التعبير عنه ووضعه في كلمات. كانت الرسالة مؤثرة بالنسبة لها؛ لأن القدرة على التعبير عن مشاعر الآخرين أعظم حلم للشاعر. هذا هو ما جعلها تصل إلى الجمهور في أماكن بعيدة مثل ولاية تكساس.

● فيما يتعلق بعلاقة السيدة شيمبورسكا مع السلطات الشيوعية، هل ينتبه أحد في الخارج لذلك، أم أنها تثار داخل بولندا فقط؟

– في الواقع، هذه مسألة بولندية. كان هناك مقال في إيطاليا حول هذا الموضوع، لكنه كان منحازًا بشكل رهيب. وقد سخّر القصة على الفور كما لو كان يحفر في سر أخفته السيدة شيمبورسكا، مع أنها كانت تحتفظ فقط بمسافة فيما يتعلق بهذه الحقيقة، ولا تنكرها في كثير من الأحيان. في بولندا، مثل هذه الأشياء تظهر لأن الناس غالبًا يريدون إثارة ضجة حول شيء لتعزيز أسمائهم. في مثل هذه الحالات، أتلقى مكالمات هاتفية من أصدقائي في الخارج الذين يبدون دهشتهم قائلين: إن مثل هذه الأشياء تحدث فقط في بولندا.

فيسوافا شيمبورسكا

شاهد قبر

هنا ترقد مؤلفةُ دَقّة قديمة

لحفنة أشعار

تكرّمت الأرض ومنحتها راحةً أبدية

مع أنها جثّة

لا تنتمي لأي جماعة أدبية

على أية حال لا يوجد أفضل من هذا القبر

سوى بضعة أبيات شعرية

ونبتة أرقطيون

وبومة

أيها العابر

أخرِج مخًّا إلكترونيًّا من حقيبتك

وفكّر لحظة في مصير شيمبورسكا.

……………………………………….

هوامش:

– هذه القصيدة ليست منقوشة على شاهد قبر «شيمبورسكا» كما ذكر بعض مترجمي أشعارها إلى العربية.

– آثرتُ استخدام تعبير «دقّة قديمة» بدلًا من الترجمة الحرفية «طراز قديم» أو «أنتيكا»؛ لأنها تتناسب مع حس السخرية الذي يميز أسلوب «شيمبورسكا» الشعري. – «الأرقطيون» نبات من فصيلة الشوكيّات، وله نتائج ناجعة في علاج أمراض الشيخوخة.