التسامح في النزاع.. فضيلة تدعو إليها الأخلاق أم موقف متعجرف؟

التسامح في النزاع.. فضيلة تدعو إليها الأخلاق أم موقف متعجرف؟

يملك عنوان كتاب: «التسامح في النزاع» معنى رباعيًّا. أولًا: إن مفهوم التسامح يرتبط صميميًّا بالنزاع؛ لأنه سلوك أو ممارسة، لا يصبح ضروريًّا إلا عند اندلاع نزاع ما. لكن ما تجدر الإشارة إليه خصوصًا في هذا السياق، هو أن التسامح الذي يستوجبه النزاع، لا يحل هذا النزاع، بل يعمل فقط على تسييجه والتخفيف من حدته، أما تناقض القناعات والمصالح والممارسات فيظل قائمًا، لكنه يفقد، نزولًا عند اعتبارات معينة، طاقته التدميرية. ويعني «التسامح في النزاع» أن الفرقاء في نزاع ما، ينتهون إلى اتخاذ موقف متسامح؛ لأنهم يرون أن أسباب الرفض المتبادل تقف حيالها أسباب أخرى للقبول المتبادل، حتى إن كانت أسباب القبول المتبادل لا تسمح بتجاوز أسباب الرفض، لكنها تتحدث لصالح التسامح، بل تطالب به. إن وعد التسامح يقول بإمكانية التعايش في ظل الاختلاف.

وانطلاقًا من هذه الخلفية تطرح سلسلة من الأسئلة نفسها، يجب الإجابة عنها في هذا البحث: ما طبيعة النزاعات التي تستوجب التسامح أو تسمح به؟ ما  موضوعات التسامح؟ ما طبيعة أسباب رفض المتسامح معهم، وكيف يمكن أن نفهم أسباب القبول بهم التي تقف ضدها؟ وأين تقع الحدود الخاصة بالتسامح؟

كان الانشغال بمفهوم التسامح ولا يزال أمرًا ضروريًّا بالنسبة لفلسفة تطمح إلى فهم الواقع الاجتماعي، فالنزاعات، التي تبدو مستعصية على الحل، تنتمي، لا غرو، إلى الحياة البشرية، شأنها في ذلك شأن الرغبة في عدم وجودها. حتى هناك، حيث لم يكن مفهوم التسامح قد أخذ شكله المعاصر، الذي تشكل بعد الإصلاح الديني، كانت الإشكالية معروفة، ولنتذكر في هذا السياق هيرودوت ووصفه لتعدد الثقافات. فالتسامح موضوع عرفته الإنسانية جمعاء، ولا يمكن اختزاله في حقبة معينة أو ثقافة محددة. فمنذ ظهور الدين مثلًا ومشكلة أتباع الأديان الأخرى وأهل البدع وغير المؤمنين قائمة. وعمومًا، فحيثما تكونت لدى البشر قناعات قيمية، تأتي المواجهة مع الآخرين لتمثل تحدِّيًا لها. تحدٍّ لا يمكن الإجابة عنه انطلاقا من تلك القيم المشكوك فيها. لكن، حتى يؤدي هذا التحدي إلى تشكل موقف متسامح، يشترط القيام بعمل معقد على القناعات الشخصية. إذن، منذ زمن والكفاح قائم ضد ما يصطلح عليه انطلاقًا من مرحلة زمنية محددة بـ«اللاتسامح». هذا اللاتسامح الذي يبدو الظاهرة الأصلية، التي تتطلب رد فعل مُرضٍ ومتوازن وأخلاقي.

ويعني «التسامح في النزاع» ثانيًا، أن مطلب التسامح لا يمكن أن يتحقق فيما وراء الصراعات التي يعرفها مجتمع ما، بل يُولَد في رحمها، بشكل يجعل الشكل الواقعي للتسامح مرتبطًا بالظروف التي تحيط به. إن التسامح يوجد داخل النزاع، إنه تحزب، حتى لو وجب أن تقوم بنية التسامح، وفقًا لأسسها المعيارية، ضد كل شكل من أشكال التحزب لأجل أن يتحقق تسامح متبادل. ورغم أن التسامح يطلب تحقيق التوازن، لكنه لا يعني «الحياد». بل هو دعوة عملية إلى أطراف الصراع، بشكل مختلف جدًّا، مرة إلى النأي بأنفسهم عن التحيز، ومرة كمحاولة للحفاظ على علاقات القوى القائمة عبر ضمان للحرية. وهكذا فإن تاريخ التسامح وحاضره، كما سيظهر لنا ذلك، هو دائمًا تاريخ الصراعات الاجتماعية وحاضرها. إن مفهوم التسامح متجذر في هذا التاريخ، وكي نفهمه في كل تعقيده، يجب علينا استعادة هذا التاريخ. وبذلك يرتبط المعنى الثالث لعنوان الكتاب.

التسامح إهانة

إن التسامح ليس مطلوبًا فقط في ظل صراعات محددة، ولا يمثل فقط في النزاعات الاجتماعية دعوة خاصة إلى أطراف الصراع، بل إنه في حد ذاته موضوع لتلك النزاعات. وفي تاريخ المفهوم كما في حاضره، لا يظل معنى التسامح ضبابيًّا فقط، بل موضع خلاف بشكل عميق. إذ قد يُنظَر مثلًا إلى السياسة نفسها أو السلوك من جانب معين كتعبير عن التسامح، ومن جانب آخر كفعل غير متسامح. بل الأفدح من هذا وذاك، يتمثل في النزاع حول ما إذا كان التسامح عمومًا أمرًا خيّرًا. ففي الوقت الذي يعدّ بعض التسامح فضيلة يدعو إليها الرب أو الأخلاق أو العقل أو على الأقل الفطنة، يرى آخرون أن التسامح موقف متعجرف وأبوي وقمعي بالقوة. ويرى بعض آخر أن التسامح تعبير عن اليقين الذاتي وقوة الشخصية، ولبعض آخر موقف، مصدره عدم الشعور بالأمان، وهو الإذعان والضعف، ويمثِّل لبعض تعبيرًا عن احترامهم للآخرين أو تقديرهم للأجنبي، في حين يُعَدّ التسامح لآخرين موقفًا ينمّ عن اللامبالاة والجهل والانغلاق على الذات. ولا نعدم أمثلة عن مثل هذه الآراء المتناقضة، فلنتذكر فولتير أو ليسينغ ومديحهما للتسامح كرمز للإنسانية الحقّة والثقافة السامية، في حين تحدث كانط عن «الاسم المتعجرف للتسامح» في حين نصادف عند غوته في النهاية الجملة الأكثر شهرة في سياق النقد الموجه للتسامح: «يجب على التسامح أن يكون موقفًا مؤقتًا فقط: عليه أن يقود إلى الاعتراف. فالتسامح إهانة».
ويقول المعنى الرابع أخيرًا إن الاختلافات المتعلقة باستعمال وتقييم مفهوم التسامح، تعود إلى التصورات المختلفة التي نشأت عبر التاريخ، وفي صراع بعضها مع بعض، حول هذا المفهوم. وهكذا يوجد داخل مفهوم التسامح صراع، سوف أستعرضه تحت المفاهيم العامة «للسلطة» و«الأخلاق»، بل أكثر من ذلك، ليس هناك فقط تصورات مختلفة عن التسامح، بل أيضًا سلسلة غنية من الأسس المختلفة للتسامح؛ دينية، وسياسية ـ براغماتية، ومعرفية، وأخلاقية، حتى تلك المتعلقة بعلم الواجبات. وهذه الأسس، ولِمَ لا، تقف هي الأخرى في صراع بعضها مع بعض. وفيما يلي عرض نسقي لهذه التصورات والأسس وللسؤال عن الأقرب منها إلى الصواب. تشكل هذه المعاني الأربعة لعنوان كتاب «التسامح في الصراع» منطلق التحليل الفلسفي الذي سأقوم به لهذا المفهوم. إن حاضرنا مطبوع وإلى حد كبير بالصراعات، ويبدو أن التسامح وحده قمين بتحقيق مخرج منها. وليس فقط داخل المجتمعات التي تتميز بتعدد الأديان وأشكال الحياة الثقافية والجماعات المختلفة، يطرح مشكل التسامح، وبشكل متنوع، نفسه. والحروب الأهلية، التي يعرف أطراف النزاع أنفسهم فيها بشكل إثني أو ديني تؤكد هذا الأمر بشكل كبير، لكن حتى داخل المجتمعات المنظمة بشكل ديمقراطي نقف على نزاعات عميقة حول قضية أين يجب أن يبدأ التسامح وأين ينتهي. وعلى المستوى الدولي نشهد دعوة إلى التسامح؛ بسبب الصراعات المتعددة وإكراهات الفعل المشتركة، ضد سيناريو صراع الحضارات. وبالنظر إلى هذه الوضعية تعالت الدعوة إلى التسامح سواء من جانب أحادي أو من جوانب متعددة، وأضحت عملية توضيح هذا المفهوم أمرًا ملحًّا، سواء فيما يتعلق بمعنى هذا المفهوم أو بطريقة تقييمه.

وتظهر هذه الأفكار الأولية أن تحليلًا شاملًا لهذا المفهوم يستدعي أخذ ثلاثة عناصر جوهرية بعين الاعتبار. يجب على هذا التحليل أولًا أن يتأكد من تاريخ المفهوم من أجل معرفة أوجه الصراع حوله ومضامينه في السياق التاريخي الذي ظهرت فيه. إذ الوعي بالتعقيد الذي يطبع تاريخ التسامح كفيل وحده بأن يعمق الوعي بالتعقيد الذي يطبع حاضره. وفي هذا السياق ليس من الممكن فقط، بل من الضروري مراجعة القراءات الأحادية البعد لهذا التاريخ والأحكام والأحكام المُسبَقة حول التسامح، مثلًا حول التسامح لدى المسيحيين أو الحركة الإنسانوية أو لدى المذهب الشكي، وفي ظل الدول الحرة والليبرالية والأنوار. وسيظهر للعيان غنى الحجج التي قام عليها التسامح، وفي أي سياقات نشأت هذه الحجج وأية قوة نسقية، متجاوزة للسياق الذي نشأت فيه، تتمتع بها. وأخيرًا يجب أن تكون هذه النظرة إلى التاريخ نظرة جينالوجية، تظهر كيف أنه في «تاريخ الحاضر» كان ولا يزال للتسامح علاقة ملتبسة مع السلطة.

ويجب على هذا البحث النظر ثانيًا في الأبعاد الحاسمة التي تميز المفهوم وبخاصة المعيارية منها والإبستمولوجية. والهدف من ذلك بناء نظرية للتسامح انطلاقًا مما يمكن العثور عليه في التعددية من مسوغات له، من أجل تجنّب مآزق المحاولات البديلة. وبناءً عليه ثالثًا، أن يضع المفهوم، وقد أُوضِح بهذه الطريقة، في سياق نزاعات الحاضر السياسية وفحص مضمونه بشكل ملموس، مما يتطلب ألّا نسأل فقط عما يجعل الشخص متسامحًا، بل أيضا عما يصنع المجتمع المتسامح. إنها المهمة التي يحملها هذا البحث على عاتقه، وهذا يتطلب إبداء ملاحظة محددة، وهي أنه لا يمكن في هذا السياق إنجاز بحث «شامل» حقًّا، بمقدوره استعادة، وضمن المنظور التاريخي أيضًا، طاقات التسامح الكامنة في جميع الأديان. ولأن فكرة نهائية العقل البشري تلعب دورًا مهمًّا في استدلالي، فإنه من المرغوب فيه أن يكون المرء على وعي بها في هذا المكان أيضًا.

تصور مركب ومعياري

وبالنظر إلى ذلك، سيتمحور الأمر فيما يلي حول فهم نسقين ومناقشتهما، ينطلقان من السياق المعين للأدلة، التي طورها الخطاب الأوربي لصالح التسامح منذ الرواقيين، وصولًا إلى صياغة اقتراح نسقي خاص، يستند إلى هذه الخلفية، يجب أن يتمكن من إثبات صلاحيته في سياقات أخرى. تعكس الأدبيات المتنوعة والواسعة حول هذه المسألةِ ذلك الغموضَ، الذي يعود إلى الصراع التحليلي والمعياري، الذي سبق ذكره، ويميز مفهوم التسامح؛ لذلك ثمة أسباب جيدة لعدِّه «مفهومًا من الصعب الإمساك به فلسفيًّا». وإنني لأتحدث عن مفهوم «مختلف عليه»، لكنني أعتقد أيضًا أن أسباب هذا الشجار يمكن تفسيرها تاريخيًّا ونسقيًّا. ففيما وراء الاختيار بين دفاع أحادي البعد عن فهم معين للتسامح، يتعامى عن الصور التكوينية الأخرى والمجردة لهذه المعاني جميعها، يبقى الطريق مفتوحًا إلى تصور مركب ومعياري للتسامح. ومع ذلك، لا يسد بحث من هذا النمط وبهذا المعنى وحده ثغرة قائمة في أدبيات التسامح، بل هو حاجة منهجية أيضًا، ما دامت معالجة التسامح تنقسم عادة إلى مجالات خاصة بما هو تاريخي، معياري (غالبًا دون الإبستمولوجيا والبعد النفسي)، أو «الإثيقا التطبيقية» (أو السياسية التطبيقية والنظرية الحقوقية). وقد حاولت التأليف بين هذه المنظورات.

قد يكون أمرًا مفيدًا أن أعرج باختصار في هذا الموضع على الأفكار الأساسية الواردة في جزأي الكتاب. لكنني، وبالنظر إلى وفرة طرائق فهم التسامح وتقويمه في التاريخ والحاضر، سأبدأ بمعارضة الشبهة التي تفرض نفسها، وهي أننا لن ننشغل بمفهوم واحد للتسامح، بل بعدد كبير من مفاهيمه. في رأيي، وكما سبق لي القول، من الضروري الانطلاق من مفهوم (أو تصور) واحد للتسامح، وكذلك من تنوع رؤاه (أو تصوراته) – التي أميز بين أربع منها. وترتبط هذه التصورات بمسوغات مختلفة للتسامح، علما بأنه ليس لكل تصور مسوغ واحد وحسب. إن تطوير نسق خاص بمسوغات التسامح هو هدف الجزء الأول من هذا البحث.

إن بنية مفهوم التسامح، المعروضة في الفصل الأول والمفارقة من وجوه متنوعة، تعطينا هدف البحث بصورة سابقة، والمتمثل في تفكيك هذه المفارقات. أما أطروحته المركزية، فتبدو بدورها في كون تصور التسامح وتقويمه الذي أقترحه، متفوقًا في هذا المنظور على ما عداه من تصورات. وإلى جانب ذلك، سيظهر في القسم الأول أن خطاب التسامح يتسم، إذا ما ألقينا عليه نظرة تاريخية، بمنظورين يتموقع أحدهما فوق الآخر: منظور تاريخي للدولة بالأساس، يمكن عدّه منظورًا «عموديًّا» أيضًا، ومنظور «أفقي» بيذاتي. في المنظور الأول، يفهم التسامح أساسًا بصفته ممارسة سياسية، شكلًا من أشكال سياسة الدولة، شغله الشاغل صيانة السلام والنظام العام والاستقرار والقانون أو الدستور – ومع هذا كله أيضًا: الحفاظ على السلطة. أما في المنظور الثاني، فيفهم التسامح كسلوك، أي كخلق يتحلى به أشخاص في سلوكياتهم، وفي تصرفاتهم إزاء النزاعات التي تنشب بينهم بسبب قناعاتهم المختلفة، يبدو التسامح مسلكًا مناسبًا وصحيحًا بالنسبة لهم. هذان المنظوران لا يمكن الفصل دومًا بينهما بوضوح، وهما يفعلان فعلهما في وقت واحد لدى بعض المؤلفين، مع أن التفريق بينهما يوضح بدرجة رفيعة خطاب التسامح المعقد.

يساعد هذا التمييز على إثبات وجود تطور موازٍ وغني بالصراع، في آنٍ واحد، ضمن هذا الخطاب، يتخذ شكل عقلنة للسلطة السياسية من جانب، وعقلنة للأخلاق من جانب آخر، علمًا بأن الأولى تعني أنه تكون على مر الزمن استقلالًا متعاظمًا لسلطة الدولة عن سلطان الكنيسة، وجرى (تدريجيًّا) التحرر من الشرعية الدينية، بحيث يقود منظور نظرية الدولة من جهة إلى تسويغ سياسي أولي للتسامح بما هو تدبير خاص بدولة ذات سيادة، التي تعترضها من جهة أخرى أسئلة نقدية تضع شرعيتها موضع سؤال ومطالب بالحرية من جانب المواطن. إن القول، في سياق عقلنة السلطة: إن سياسة التسامح هي دومًا سياسة سلطوية أيضًا، لا يعني فقط أن المطالبة بالتسامح هي شكل من أشكال نقد السلطة غير المتسامحة وحسب (وهو تاليًا شكل من أشكال السلطة)، إنما يعني أن السلطة السياسية السائدة تطمح هي نفسها للإفادة من التسامح، وترى في السياسة المتسامحة استمرارًا أكثر عقلانية لحكمها بوسائل أخرى. علمًا بأن طابعها يبدل خلال ذلك من سلطة « قمعية » إلى سلطة «رعائية حاكمة ومنتجة»، حسب قول ميشيل فوكو – سلطة تقرر محددات تتصل بما هو «معياري» و«منحرف عن المعايير»، ويمكن أن نميز فيها ما يمكن وما لا يمكن التسامح معه. هذه السلطة لا تحكم من خلال تقييد مباشر للحرية، بل عبر ضمانها بصورة قصدية ومحدودة، وليس عبر عمليات الإقصاء، بل من خلال احتواء يستهدف الضبط والتحكم وفي الوقت نفسه التحرير.

ترتبط عقلنة الحجج المعيارية المؤيدة للتسامح ارتباطًا وثيقًا بعقلنة هذه السلطة، مع أنها تتعارض معها من منظور معياري. هنا، يتبلور تسويغ أخلاقي متعاظم وقائم بذاته لمطلب التسامح باسم العدالة، وطبعًا، من ناحية سجالية ضد التعصب الديني، والدولوي والمدني، لكن أيضًا ضد ممارسات التسامح الأحادية الجانب والتراتبية. وثمة، في المنظور الأخلاقي الفلسفي، نزوع إلى إضفاء طابع مستقل على الحجج الأخلاقية، ليس فقط اتجاه المسوغات الدينية، إنما أيضًا اتجاه تعليلات التسامح، التي تقوم على تصورات معينة، كتلك المتعلقة بـ«الحياة الخيّرة». ولا يواكب الوعي بتنوع تصورات الخير تطور فكرة التسامح فقط، بل يلازم أيضًا شرعية هذه التعددية. وبذلك يصير الحديث عن «خطاب التسامح» انعكاسيًّا، ويصف –استنادًا إلى مفهوم الخطاب عند يورغن هابرماس- خطاب شرعنة التسامح، الذي يجب على الحجج المعيارية دعمه، بما أن لها، بذلك، نوعية معيارية تراتبية وملزمة، تبرز في مواجهة القناعات والسلوكات القيمية المنخرطة في النزاع. هكذا يكون تاريخ التسامح تاريخَ تبلورِ فهمٍ جديد للأخلاق، ونظرة جديدة إلى هوية الأشخاص الإثيقية والقانونية والسياسية والأخلاقية، وهو تاريخ مفعم بالصراع لمطالب معيارية وللنزاعات ولإعادة تعريف مستمرة لفهم الإنسان لذاته.

تنافر السلطة والأخلاق

يتابع عرض خطاب التسامح التاريخي في القسم الأول قصدًا ديالكتيكيًّا مزدوجًا. ينصب الأمر أولًا على موقعة خطاب التسامح في حقل التوتر الواقع بين السلطة والأخلاق، من أجل إبراز دينامية تطور التسامح المعيارية والمجتمعية، وإظهار أن تنافر مساري الأخلاق والسلطة يجعل مطلب التسامح مدفوعًا بالمساءلة المستمرة لشرعية علاقات التسامح القائمة. ويحرر تاريخ العقلنة المزدوجة منطق حيازة الحق في التسويغ، الذي مثل في الشكل التاريخي السائد، نقدًا محسوسًا للتعصب أو للتسامح الخاطئ، وقاعدة لمطالب الانعتاق، وفي الوقت نفسه، ومن منظور معياري، أرضية تعليل ما أعتقد أنه تصور التسامح النقدي ـ الانعكاسي الأكثر جذرية. هذه الأرضية هي بالتالي وبالقدر نفسه «حقيقة تاريخية»، مثلما هي

«حقيقة العقل».

ثانيًا- ينجم عن مسار القسم الأول نسق يتصل بتصورات وتعليلات التسامح التي عرفها التاريخ، وتشكل الأساس اللازم لمناقشة مزاياها ومثالبها، ولنظرية تتخطاها، تطويرها سيكون مهمة القسم الثاني. وهنا يظهر، ليس فقط بالنظر إلى تنوع التصورات الأخلاقية المتضاربة حول الخير، لكن أيضًا بسبب تنوع تعليلات التسامح الضيقة، التي، في سياق جدلي، تبرز خطورتها المتمثلة في الانحسار ضمن حدود ضيقة. هنا يظهر إذن أن مفهومًا معياريًّا ومستقلًّا للتسامح، ومتجاوزًا تلك المفاهيم الضيقة، أمر لا مناص منه، مفهومًا يقوم على القانون الأساس، الذي هو محرِّك خطاب التسامح التاريخي. هكذا تتوافر لنا إمكانية بناء نظرية عن التسامح ذات تسويغ انعكاسي – أخلاقي، لا أساس فيها للتسامح غير مبدأ التسويغ المتجاوز نفسه. أما النكهة النسقية للنظرية المقترحة فتكمن في ظهور مبدأ التسويغ، أو الحق فيه بوصفه جوهر مفهوم التسامح، سواء في المنظورين التاريخي أو النسقي، بما أن الأمر الجوهري في التسامح ينصب على الأسباب التي تسوغ حريات معينة أو تبرر تقييدها. أن نفسر لأنفسنا هذا انعكاسيًّا وتوليديًّا، يعني عندئذ أننا قمنا بخطوة حاسمة نحو تقديم جواب عن السؤال حول قاعدة التسامح.

وعبر تبني فكرة نظرية للتسامح، مستقلة عن المذاهب الأخلاقية المختلف عليها لكن التي من الممكن ربطها رغم ذلك معها، وهي بمعنى محدد نظرية «متسامحة» حول التسامح، أنضم إلى جون راولز في فكرة مركزية طورها في سياق نظريته عن العدالة. لكن هناك في الوقت نفسه، يكمن الفارق الأكبر أيضًا، الذي يفصلني عن راولز؛ لأن هذا لا يقودني إلى تصور «سياسي» حول التسامح، يمثل حصرًا نقطة تقاطع إجماع لمذاهب إثيقية، بل يأخذني إلى تصور للتسامح كانطي الوجهة، يمتلك أساسًا أخلاقيًّا مستقلًّا، يتأصل في نهاية الأمر في مفهوم محدد للعقل العملي – التبريري – والاستقلالية الأخلاقية.

سيجري عرض نواة التصور المقترح حول التسامح ضمن القسم الثاني، على أنه سيأخذ أول الأمر صورة نظرية للتبرير العملي، تعني أن المعايير في السياق، الذي تدعي فيه الصلاحية المتبادلة والعامة، يجب أن تكون معللة بصورة متبادلة وعامة – أو في لغة أدق: لا يجوز أن تكون قابلة للرفض بصورة عامة ومتبادلة. استنادًا إلى مبدأ العقل العملي، وبفضل معايير التبادلية والعمومية، تنشأ إمكانية التفريق بين معايير ملزمة أخلاقيًّا وبين القيم الإثيقية، التي يمكن للمرء، في استقلال عن الاعتبارات الأخلاقية، قبولها أو رفضها معياريًّا (أو ألّا يكترث بها). ينشأ، بناءً على هذه القاعدة، ذلك التمييز التكويني لمسألة التسامح بين 1. تصورات الخير الإثيقية الخاصة، التي يوافق عليها المرء بتمامها، 2. المعايير الأخلاقية ذات الصلاحية العامة، 3. تصورات الخير الأخرى، التي ينتقدها المرء أو يرفضها، لكنه يستطيع التسامح معها، و4. تلك الأفكار، التي لا يدينها المرء بالدرجة الأولى لأسباب إثيقية، بل لأسباب أخلاقية، لانتهاكها مبادئ التبادلية والعمومية. لكنه سيظهر على كل حال، أن التفريق، بخصوص صراعات تسامح محددة، بين معايير أخلاقية وقيم إثيقية، يصير هو نفسه موضوع صراع، وأنه يجب إعادة تعريفه، على ألّا يتم مبدئيًّا الشك في بنيته، وإلا كان التسامح، الذي يُبرَّر بصورة متبادلة، أمرًا مستحيلًا.

يتضح إذن إلى أي حد يمثل احترام آخرين، يعدّون أشخاصًا مستقلين أخلاقيًّا، قاعدة للتسامح، وإلى أي حد يعد التسامح فضيلة أخلاقية للعدالة – وفضيلة أساسية للعقل العملي. هذا التصور يجب أن يسمح بمقايسته في نهاية الأمر مع تصورات وتسويغات التسامح البديلة، الكلاسيكية والمعاصرة، التي يتنازع معها، وأن يظهر إلى أي حد هو متفوق عليها، أي إلى أي حد هو محق حين يدّعي أنه نظرية مستقلة ومتفوقة.

وفي خطوة تالية، سأعالج التضمينات الإبستمولوجية لمفهوم «التسامح القائم على الاحترام»، الذي أفضله على غيره. هنا، سيكون على مفهوم العقل العملي، الذي سبق استعماله، الإفصاح عن جانبه النظري، أعني: أي تصور «للحقيقة »الإثيقية –فيما يخص القناعات الخاصة وقناعات الآخرين– يتفق مع النظرية المعيارية؟ وهل هو تشككي أم نسبي، خاطئ، تعددي أم واحدي، إذا ما اكتفينا بذكر بعض هذه التصورات؟ وبالتلازم مع النقاش المعياري، سيجري هنا القيام بمحاولة لتبني رؤية إبستمولوجية أرقى تضفي طابعًا نسبيًّا ذاتيًّا على ادعاءات الحقيقة الإثيقية، دون أن تقود إلى النسبية، أو تستند إلى أي نظرية جزئية أخرى من نظريات الحقيقة. وبقدر ما يتعرف العقل إلى نهائيته الذاتية في مسائل الحقيقة الإثيقية، ينفتح مجال اختلافات أكثر عقلانية، لكنها عميقة الغور مع ذلك، يسمح لها بالتوافق على حدود التفاهم المتبادل. أما النزعة التكوينية المفترضة هنا، فهي من طبيعة عملية وليست من طبيعة ميتافيزيقية.

النظر بأعين متسامحة إلى الذات والعالم

أخيرًا، سيكون علينا التساؤل عن طبيعة العلاقة الذاتية، وأي صفات وقدرات انفعالية تسم الشخص المتسامح. وسيظهر أن فضيلة التسامح لا تقول بوجود مثال شخصي أخلاقي معين، وإن كانت بعض القناعات «الثابتة» تستطيع أن تنتمي إليها، وقدرة معينة على التنصل من الذات، ليكون بالإمكان التسامح معها. سأقدم في الفصل الأخير من هذه الدراسة شرحًا سياسيًّا – عمليًّا للتصور المقترح، يبيِّن أنه ليس فقط من الضروري أن ينتمي إليه تصور حول الديمقراطية، يضفي ماهية سياسية على مبدأ التسويغ، بل إن ثمة، وفق أرضية المحاولة المقترحة، إمكانية لبلورة نظرية نقدية للتسامح، لا تستطيع تقديم تحليل نقدي لأشكال التسامح وحده، إنما بوسعها أيضًا نقد أشكال التسامح القمعية والضبطية. انطلاقًا من هذه الخلفية، سيُطرَح السؤال عن «المجتمع المتسامح»، وسيُناقَش بمعونة أمثلة، على أن تُختار صراعات من دول مختلفة، تتصل بمكانة أقليات دينية وثقافية ـ إثنية، وبمسائل التسامح مع علاقات داخل الجنس الواحد، والعلاقة مع مجموعات سياسية متطرفة. سيتضح بجلاء في هذه التحليلات أن مفهوم التسامح مختلف عليه في الحاضر، مثلما كان مختلفًا عليه من قبل، ذلك أن ما نوقش هنا لا يقتصر على حدود التسامح، إنما يشمل بصورة عامة فهمه وتسويغه أيضًا.

هذه مقالة في التسامح. لكن تعقيد مفهومه يجعلها شيئًا يتخطى ذلك أيضًا. إنها تعالج في آن واحد الدينامية المعقدة بين السلطة والأخلاق، والعلاقة بين الدين والإثيقا، وبين القدرة وحدود العقل العملي فيما يتصل بالصراعات الإثيقية العميقة الغور، وأخيرًا بين حتمية وضرورة وجود تصور للأخلاق متعالٍ على هذا الشجار، مستقلّ عن التقويمات المتنازع عليها (إن لم يكن منفصلًا عنها بصورة تامة). ربما تكون العبرة المركزية، التي يجب استخلاصها من الاشتغال بهذه القضية، هي التالية: إن النظر بأعين متسامحة إلى الذات والعالم يعني القدرة على التمييز بين ما يستطيع البشر طلبه أخلاقيًّا بعضهم من بعض، وما ربما يكون أكثر أهمية بكثير بالنسبة لهم، ألا وهو أفكارهم حول ما يجعل الحياة خيرة وتستحق أن تعاش. هذا يعني أن علينا رؤية الشجار الذي لا نهاية له، المتصل بالنقطة الأخيرة، ويجب ألّا يمس صلاحية الأخلاق أو حقيقة القناعات الخاصة أو اندماج المجتمع. هذه النظرة هي منجز العقل، الذي يمثلها مفهوم التسامح، وهي تعني، إذا ما تحدثنا بلغة فلسفية مجردة، فهم هوية البشر واختلافها بصورة صحيحة.