رحلة إلى العالم الآخر.. رثاء جديد لراي برادبيري

رحلة إلى العالم الآخر.. رثاء جديد لراي برادبيري

في نهاية فبراير من عام 2012م، كنت جالسة في حانة بفندق هيلتون شيكاغو أتناقش في راي برادبيري. كنت مقيمة في هيلتون، وفي لحظة من الغرائب البرادبيرية خصَّصوا لي الجناح الذي شاهد فيه الرئيس أوباما على شاشة التلفزيون يفوز للتوِّ بالانتخابات الرئاسية. في ذلك الحدث، لا بد أن الجناح الهائل كثير الغرفات كان يغصُّ بالناس من العائلة، ورجال الأمن، والمعاونين السياسيين ـ أما أنا فكنت وحدي، وفي مكان ليس الأفضل حينما تكون منهمكًا في التفكير في الشؤون البرادبيرية. كان سهلًا جدًّا أن يخطر لي أن في الغرفة المجاورة شخصًا ما. والأسوأ من ذلك، أنه قد يكون قريني الشرير، أو يكون أنا نفسي لكن في عمر آخر، أو أن هذه الغرفة قد تكون محتوية على مرآة أنظر فيها فلا أرى لي صورة منعكسة. فاقتضى الأمر درجة من السيطرة على النفس لكي لا أذهب إلى الغرفة وأتفقّدها بنفسي.

غير أن هيلتون شيكاغو في فبراير لم يكن يحفل بالعملاء السريين الذين يتكلمون في أكمامهم، بل كان فيه أربعة آلاف كاتب، وكاتب مبتدئ، ودارس للأدب، وأستاذ للكتابة، وكلهم يشاركون في مؤتمر اتحاد الكتاب وبرامج تدريس للكتابة الذي ألقيت فيه الكلمة الافتتاحية، فكان كل فرد من أولئك المشاركين يعلم من هو راي برادبيري. كان معي في حانة الهيلتون كاتب سيرة برادبيري، وهو سام ويلر. وكانت تلك هي أول مقابلة لي معه، شخصيًّا على الأقل، ومع ذلك بدا لي كأنني أعرفه من قبل. كان قد اتصل بي من خلال تويتر -فهذه على أي حال قصة من القرن الحادي والعشرين- ليرى إن كنت أحب المشاركة في كتاب احتفائي، يحرِّره هو شخصيًّا ومعه كاتب أدب الرعب المخضرم «مورت كاسل». الموجز: كتابة قصة قصيرة، على الطريقة البرادبيرية، مهما تكن تلك الطريقة، فقد كتب برادبيري في أنماط كثيرة وأمزجة متباينة. وافقت بحماس أن أجرّب يدي، وكذلك فعل خمسة وعشرون كاتبًا، من بينهم نيل جايمان وأليس هوفمان وهارلان إليسن، وديف إيغرز، وجو هيل، وأودري نيفينغر، وتشارلز يو. وكلنا استجبنا للعرض؛ لأننا جميعًا تأثرنا براي برادبيري بهذه الطريقة أو تلك.

وما كنت أتناقش فيه أنا وسام هو إطلاق الكتاب المتفق على صدوره عن هاربر كولينز بعنوان: «استعراض الظل Shadow Show» وهو عنوان مأخوذ من رواية لبرادبيري صدرت سنة 1962م بعنوان: «شرٌّ ما يأتي من هذا الطريق». راي نفسه كتب مقدمة، وكان يرجى حضوره الاحتفال الكبير في كوميكن -وهو تجمع كبير لفناني الغرافيك، وكتاب الكوميكس، وجماهيرهم، فضلًا عمن يتصل بالمجال من فنانين في مجالات وأنواع كتابية أخرى- وكان من المخطط أن يقام في سان دييغو في منتصف يوليو. ومن ضمن فعالياته ندوة عن برادبيري يشارك فيها خمسة منا: سام، ومورت كاسل، وجو هيل، وأنا، وراي نفسه.

ولكن راي شعر بشيء من الإرهاق حسبما قال سام، فصار يحتمل ألا يتمكن من الحضور. وفي تلك الحالة تقرَّر أن تقام الندوة بالأربعة الآخرين، على أن أتوجه أنا وسام لزيارة راي في بيته، ونطلق لقاءنا عبر الإنترنت فيراه العالم، ونصل بين الكاتب وجمهوره، ونطلب منه توقيع بعض نسخ الكتاب لهم من خلال موقع Fanado.com الذي شاركت في تأسيسه. قال سام: إن راي متحمس لذلك، برغم ارتيابه من الإنترنت. فحماسه للمتفانين من قرائه وزملائه الكتاب لم يخبُ قط، ولو أن استعمال الإنترنت المرتاب فيه هو الملاذ الأخير، فإنه سيفعل ذلك.

كنت في شوق عظيم إلى ملاقاة كاتب مثَّل جزءًا كبيرًا من قراءتي الأولى، ولا سيما القراءة السرية اللذيذة النهمة البديلة لعمل الواجبات المدرسية، أو القراءة القسرية الليلية على نور الكشاف في الوقت الذي كان يفترض أن يخصّص للنوم. القصص التي تقرأ بمثل ذلك الحماس في مثل تلك السن المبكرة هي قصص لا تقرأ بل تلتهم. وتغوص قاطعة الطريق الطويل إلى الأعماق، وثمة تبقى بصحبتك.

ثم إن راي برادبيري مات. كان في الحادية والتسعين، ومع ذلك، شأن كل شخص كان في حياتك ثم لم يعد فيها، بدا موته محالًا. والناس لا تموت مثل هذه الميتة في أعماله، أو لا يموتون هذه الميتة العادية. بل يذوبون في بعض الأحيان، فالمريخي في القصة التي تحمل هذا العنوان يذوب، مثل ساحر الغرب الشرير في ساحر أوز الرائع، وهي من قصص برادبيري المؤثرة. وأحيانًا يموتون بسبب الفضائيين كما في قصة «الحملة الثالثة» من «حوليات مريخية». وأحيانًا تصطادهم كلاب صيد ميكانيكية لاقترافهم جريمة قراءة الكتب كما في «فهرنهايت 451». وأحيانًا لا يموت الناس في المطلق، وما مصاصو الدماء والعائدون من الموت بغرباء على عالم برادبيري. الناس عند برادبيري نادرًا ما تنتهي صلاحيتهم.

علاقة معقدة مع الفناء

كل من يمعن من الكتَّاب في كتابة «الرعب» بمثل ما فعل برادبيري يكون على علاقة معقدة مع الفناء، فليس غريبًا أن نعرف أن راي برادبيري في طفولته كان يخشى أن يموت في أي لحظة مثلما ينبئنا في مقالته التي نشرت في يونيو من عام 2012م ضمن عدد نيويوركر عن الخيال العلمي بعنوان: «أرجعوني إلى البيت». يقول في المقالة، ومن المفارقات أن قدِّر لها أن تكون آخر مقالاته: «حينما أرجع النظر، أدرك أي ابتلاء كنته على أصدقائي وأقاربي. باهتياج إثر حماس إثر هستريا إثر أخرى. كنت شخصًا دائم الصراخ، دائم الهرب إلى مكان ما؛ لأنني كنت أخشى دائمًا أن الحياة سوف تنتهي في عصر ذلك اليوم».

ولكن الوجه الآخر لعملة الفناء هو الخلود، وذلك أيضًا كان يثير اهتمامه. في الثانية عشرة من العمر -مثلما قال لنا من خلال موقعه الإلكتروني- كان له لقاء حاسم مع ساحر من سحرة المسارح يدعى مستر إلكتريكو. حدث ذلك في زمان عروض السيرك المتنقلة وأمثالها، وكان لمستر إلكتريكو عرض فريد: إذ يجلس على كرسي مكهرب، ويكهرِب بدوره سيفًا يحمله، وبه يكهرب الجمهور، فيجعل الشعر ينتصب في رؤوسهم والشرر يتصاعد من آذانهم. بهذه الطريقة كهرب الساحر برادبيري في صغره قائلًا: «عش إلى الأبد». وكان على الصبي أن يحضر جنازة في اليوم اللاحق، فكان ذلك لقاءً قريبًا مع الموت جعله يسعى إلى مقابلة مستر إلكتريكو مرة أخرى ليعرف كيف يمكن تحقيق هذا الـ«عش إلى الأبد». عرض عليه الساحر ما كان يطلق عليه العرض الجنوني، برجل موشوم الجسد هو الذي سيستعمل لاحقًا في رواية «Illustrated Man»، ثم أخبره أنه -أي راي- يحتوي روح أعز أصدقاء مستر إلكتريكو الذي مات في الحرب العالمية الأولى. يمكنكم الآن أن تروا أي أثر أحدثه ذلك كله. فبعد هذا العماد الكهربائي على يدي مستر إلكتريكو، بدأ برادبيري الكتابة فلم يتوقف حتى وافاه أجله.

كيف تعيش إلى الأبد؟ عبر آخرين فيما يبدو، عبر أولئك الذين تنتهي أرواحهم في أجسامنا، وعبر أصوات أخرى، أصوات تتكلم من خلالنا. وعبر كلماتنا المكتوبة، وهي شيفرة هذه الأصوات. في نهاية «فهرنهايت 451» يعثر البطل -في عالم الكتب المحطمة- على جماعة من الناس تحولت إلى الكتب المختفية بأن حفظتها: في تجسيد أمثل للألغاز التي قدَّمها مستر إلكتريكو لراي الصغير. في منتصف كتابة رثائي له، وهو رثاء له، كان عليَّ أن أتوقف لحضور فعالية شعرية. وفي الحفلة التي أعقبتها، قلت لكاتب صديق: إن برادبيري مات. قال: «كان أول كاتب قرأته كاملًا، وأنا في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة. قرأت كل كتاب له، بحثت عنها جميعًا، وقرأتها من الغلاف إلى الغلاف». قلت: إنني أعتقد أن هذا على الأرجح حال كثير من الكتاب، وكثير من القراء. وإنهم كتاب وقراء شديدو التنوع، ومن جميع المستويات، عاليها وسافلها.

ما سر هذ المدى الذي يصل إليه برادبيري؟ ما سر هذا التأثير؟ والسؤال المروع أيضًا، السؤال الذي يملّ من طرحه النقاد والمحاورون: أين تضع برادبيري على خريطة الأدب؟ في رأيي الخاص أن برادبيري -في أفضل أعماله- يغوص حتى أعمق وأعتم جوهر أميركا القوطي. وليس من قبيل المصادفة أنه من نسل ماري برادبيري التي أدينت بممارسة السحر سنة 1692م خلال محاكمات سالم الشهيرة للساحرات لقيامها من بين أشياء كثيرة بالتشكل على هيئة خنزير بري أزرق. (لم يشنقوها؛ إذ تأجَّل تنفيذ الإعدام إلى حين انتهاء حالة الاهتياج). ومحاكمات سالم تلك بمنزلة نواة في التاريخ الأميركي، تكرَّرت مرارًا بتنويعات مختلفة -أدبية وسياسية- على مدار السنين. وفي القلب من تلك المحاكمات دائمًا فكرة ازدواجية الحياة: أي أنك لست ما تبدو إياه، بل لديك قرين سري، ولعله قرين شرير، وأهم من ذلك أن جيرانك ليسوا ما يبدون إياه. فلعلهم -في القرن السابع عشر- سحرة أو أناس يمكن أن يفتروا عليك فيتهموك بالسحر، أو هم -في القرن الثامن عشر- خونة في زمان الثورة، أو -في القرن العشرين- شيوعيون أو أناس يمكن أن يرجموك حتى الموت في «اليانصيب» لشيرلي جاكسون، أو إرهابيون في القرن الحادي والعشرين. في القرن التاسع عشر، ارتبط ناثانيال هاوثورن نفسه بمحاكمات سالم من خلال سلفه، قاضي الإعدامات، فكتب «يانغ براون اللعين» تعبيرًا مثاليًّا عن الثيمة (يكتشف براون الطهراني -أو لعله يحلم- أن جيرانه المتدينين جميعًا أعضاء في مجمع شيطاني). وهنري جيمس أيضًا لديه نسخته، ففي قصة «The Jolly Corner» يلتقي أميركي متأوْرِب بشبحه الذي كان ليصير إليه لو كان بقي في أميركا، وحشًا ثريًّا.

قال فلاديمير نابوكوف في «بينين» إن سلفادور دالي «في حقيقته هو شقيق نورمان روكويل [وهو رسام أميركي واسع الانتشار] التوأم الذي اختطفه الغجر في طفولته». لكن برادبيري أيضًا كان توأم روكويل، واختطفته في طفولته قوة أبشع، لعل اسمها إدغار آلان بو، فلقد قرأه بشغف وهو في الثامنة من العمر. يعارض إدغار آلان بو في قصة «وليم ويلسن» بين عبدين توأمين، ويمكن القول: إن برادبيري لعب الدورين معًا: الذات المشرقة، حيث الشمس الساطعة والشرفات الأمامية والليمونادة، والذات المعتمة التي لا يصعب أن تتخيل طفلين يستدرجان أبويهما إلى الموت في «The Veldt». في «الحوليات المريخية» قصتان تمزجان بين الذاتين خلطًا مثيرًا للإعجاب. ففي «المريخي» تنتقل أسرة أميركية إلى المريخ محاولة أن تقيم حياة جديدة بعد موت ابن لها. ثم يظهر الابن الميت، كما كان من قبل تمامًا، وإذا بالأب والأم والابن يستقرون في واقع روكويلي معتاد. الابن من أبناء المريخ فعليًّا، وهو شخص متغير الشكل تنعكس عليه رغبات الآخرين، فتدور القصة حتى تهوي إلى مأساة في نهايتها ما يوازي إعدامًا همجيًّا بغير محاكمة.

في «الحملة الثالثة» ـ وعنوانها في الأصل: «مريخ الجنة» ـ يجد رواد فضاء من الأرض بلدتهم الحبيبة التي عاشوا فيها طفولتهم قبل الحرب وقد صارت موجودة أمام أعينهم على المريخ، مكتملة بأصدقائهم القدماء وأقاربهم، من دون استثناء للموتى. ويا له من لقاء جميل لهم جميعًا، إلى أن يتبيَّن أن ذلك كله سراب اصطنعه المريخيون ليصطادوا به الغزاة -الذين عدّهم المريخيون مؤذين- بهدف إبادتهم. فيمن تثق؟ اللعنة! لا أحد. أو اللعنة! أولئك الذين يزعمون السواء مما يظهر في رسومات روكويل، فيتبين أنه محض واجهة.

ولكن الحنين إلى السواء الروكويلي صادق جدًّا في أعمال برادبيري؛ إذ تستعاد تفاصيله في محبة. ولد برادبيري في عام 1920م في واوكيغان بولاية إلينوي، وهذه البلدة وهذا الزمن -أي العشرينيات والثلاثينيات من شبابه- يظهران المرة تلو المرة في أعماله، على الأرض في بعض الأحيان، وعلى المريخ في بعض آخر. قال توماس وولف، وهو أحد كتاب الحنين الأميركيين أيضًا: إنه ليس بوسع أحد الرجوع إلى البيت، لكن بالإمكان استعادة الماضي عبر كتابته، ربما على غرار ما فعل برادبيري ومثلما فعل وولف. غير أن السحر لا يدوم إلا إلى منتصف الليل، ومع دقَّات الساعة يتهاوى كل شيء. لا ينزاح مطلقًا ظل الساعة المسربلة بالأسود في «قناع الموت الأحمر» لإدغار آلان بو عن عالم برادبيري حتى في أكثر أحواله إشراقًا: الزمن هو العدو.

العصر الذهبي للخيال العلمي

نشأ برادبيري، ككاتب، في العصر الذهبي للخيال العلمي الذي عادة ما يشار إليه بالثلاثينيات، وأسّس مسيرته المهنية في أول الأمر على منصة كانت قائمة آنذاك، ثم تواصلت مسيرته لعقود عدة بعد ذلك في سوق المجلات الشعبية الكثيرة المخصصة للقصص القصيرة. وبرغم أنه انتهى إلى النشر في مجلة ذي نيويوركر المرموقة، فقد بدأ النشر هاويًا سنة 1938م في مجلات صغيرة، ثم في مجلته الخاصة: «Futuria Fantasia»، ثم نشر في الإصدارات الشعبية مثل: « Super Science Stories [القصص العلمية الفائقة]»، و« Weird Tales [حكايات غريبة]». كان بوسع المرء أن يكسب عيشه آنذاك إذا كتب كثيرًا، وذلك ما كان يفعله برادبيري. كان يكتب كل يوم، وتعهد في وقت بكتابة قصة أسبوعية، وحقق تلك المأثرة. وكان له عون كبير من دخله من تحويل قصصه إلى كوميكس، ثم من تحويلها لاحقًا إلى السينما والتلفزيون. وظل يعمل حتى شق طريقه إلى المجلات المصقولة مثل بلاي بوي وإسكواير. كانت الكتابة مهنته وموهبته وغريزته وصنعته، فعاش منها وعاشت منها عائلته، وكان فخورًا بذلك.

كان ينفر من التصنيف، ويتفادى اللافتات النوعية بأقصى ما يستطيع، وفي حدود ما يعنيه لم يكن إلا حكاء، كاتب أدب، وفي حدود ما كان يعنيه لم تكن الحكايات والأدب بحاجة إلى لافتات أو أنواع.

كان مصطلح الخيال العلمي يثير توتره، فلم يكن يريد أن يحبس في علبة. وهو بدوره كان يثير توتر الطهرانيين من كتاب الخيال العلمي. فالمريخ بين يديه –على سبيل المثال- لم يكن مكانًا يوصف بدقة علمية، أو حتى وصفًا متسقًا مع نفسه، بل كان حالة ذهنية، فهو يعيد تدويره بما يتلاءم مع احتياجاته الآنية. وسفن الفضاء ليست معجزات تكنولوجية بل مركبات نفسية تحقق الغرض الذي يحققه بيت الأعاصير لدى دوروثي في «ساحر أوز الرائع» أو نشوة الساحر التراثي التي تمضي به إلى العالم الآخر.

كان راي برادبيري يرى كتابته طريقته إلى الحياة بعد الموت، ومن المؤكد أنها سوف تحقق هذا الغرض. ولكن هناك أيضًا برادبيري الشخص. ويشهد كل من عرف برادبيري على كرمه تجاه الآخرين. لقد كان لخياله جانبه المعتم، وكان يستعمل ذلك الخيال المقبض وذلك القرين الكابوسي في أعماله، لكنه كان يمنح عالم الصحو مزيجًا من ولد مليء بالحماس والدهشة، وخالٍ مليء بالطيبة، وكذلك كان في حقيقته. لقد كان عصامي التعلم، في زمن تدريس الكتابة الإبداعية، وفي عصر المحاكاة كان ذا صوت أصيل نابع مباشرة من القلب، وفي عصر الصور المصطنعة، لم يكن إلا طبيعيًّا.

أرجعوني‭ ‬إلى‭ ‬البيت

مارغريت آتوود

حينما كنت في السابعة أو الثامنة من العمر، بدأت أقرأ مجلات الخيال العلمي التي كان يأتي بها النزلاء إلى نزل جدَّيْ ببلدة واوكيغان بولاية إلينوي. تلك هي السنوات التي كان هوغو غرينسباك ينشر فيها «قصص مذهلة» بأغلفة عليها رسومات ناصعة جامحة الخيال، فكان فيها غذاء لخيالي النهم. وسرعان ما كبر بعد ذلك وحشي الإبداعي إثر ظهور باك روجرز Buck Rogers سنة 1928م وأحسب أنني تحولت في ذلك الخريف إلى مجنون. ولا وصف سوى هذا للحُمى التي اعترتني وأنا ألتهم تلك القصص. وتلك حُمّى لا يصاب بها المرء لاحقًا فيمتلئ نهاره كله بهذا الولع.

الآن حينما أرجع النظر، أدرك أي ابتلاء كنته على أصدقائي وأقاربي. باهتياج إثر حماس إثر هستريا إثر أخرى. كنت شخصًا دائم الصراخ، دائم الهرب إلى مكان ما؛ لأنني كنت أخشى دائمًا أن الحياة سوف تنتهي في عصر ذلك اليوم. حدث جنوني التالي في عام 1931م، حينما ظهرت أولى سلاسل هارولد فوستر الملونة المأخوذة عن طرزان لرايس بيرو وكانت تنشر أيام الأحد، واكتشفت بالتزامن معها، وبجوار بيت عمي بايون كتب «جون كارتر في المريخ»، وإنني على يقين أن «حوليات المريخ» ما كانت لتظهر لولا تأثير بيروز في حياتي وفي زمني.

حفظت «جون كارتر» و«طرزان» عن ظهر قلب، فكنت أجلس في حديقة بيت جديَّ الأمامية، وأحكي تلك القصص لكل من يرغب في الجلوس والاستماع. كنت أخرج إلى الحديقة في ليالي الصيف وأمدّ يدي إلى نور المريخ الأحمر قائلًا: «أرجعوني إلى البيت». كنت أتوق إلى أن أطير مبتعدًا فلا أحط إلا هناك في الغبار الغريب الذي يهب على قيعان البحور الميتة ويعصف بمدن عتيقة.

فهم نهايات الأشياء

وفيما بقيت مقيدًا إلى الأرض، كنت أسافر عبر الزمن، منصتًا إلى الكبار الذين كانوا يتجمعون في الليالي الدافئة في حدائق بيوتهم وسقائفهم ليتكلموا وتتداعى ذكرياتهم. وفي نهاية الرابع من يوليو [وهو عيد الاستقلال الأميركي]، بعد أن ينتهي الأعمام من سجائرهم ومناقشاتهم الفلسفية، وتنتهي الخالات والعمات وأبناؤهن من تناول أقماع الآيس كريم أو الليمونادة، وبعد أن نستنفد جميع المفرقعات، كان يحين وقت خاص، وقت حزين، وقت الجمال. كان وقت المناطيد النارية. حتى في ذلك العمر، كنت قد شرعت في فهم نهايات الأشياء، من قبيل تلك المصابيح الورقية الحبيبة. كنت قد فقدت جدي بالفعل، الذي رحل إلى الأبد وأنا في الخامسة. أتذكره جيدًا: أنا وهو في الحديقة الأمامية أسفل السقيفة ولنا جمهور من عشرين قريبًا، وبيننا المنطاد الورقي ينتظر اللحظة الأخيرة، ممتلئًا بأبخرة ساخنة، متأهبًا للانطلاق.

كنت أساعد جدي في حمل الصندوق الذي يستلقي بداخله –استلقاء الأرواح- شبح المنطاد الناري الورقي في انتظار أن يمتلئ بالهواء الساخن لينجرف إلى سماء الليل. جدي كان القس الجليل وكنت صبي المذبح. كنت أساعد في إخراج النسيج الأحمر الأبيض الأزرق من الصندوق، وأراقب جدي وهو يوقد تحته حفنة قش. ولا تكاد النار تشتعل حتى يبدأ المنطاد في اكتساب قوامه وبدانته إذ يتصاعد فيه الهواء الساخن. ولكنني لم أكن أقوى على إفلاته، فقد كان جماله عارمًا، تتراقص بداخله الظلال والنور. ولا يحدث قبل أن ينظر إليَّ جدي، ويومئ برأسه في رقة، أن أترك المنطاد ينجرف إلى حريته، صاعدًا فوق السقيفة، مضيئًا أوجه العائلة. كان يطفو فوق أشجار التفاح، فوق البلدة التي بدأت تخلد للنوم، عابرًا سماء الليل وسط النجوم. كنا نقف نشاهده لعشر دقائق على الأقل، إلى أن يغيب عن أبصارنا. وبحلول تلك اللحظة، تكون الدموع قد بللت خدي، ويكون جدي الغافل عني قد بدأ يتنحنح ويحك قدميه. ويبدأ الأقارب في دخول البيت أو المضي عبر الحديقة إلى بيوتهم، تاركين إياي أكفكف الدموع بأصابع لم تزل فيها رائحة المفرقعات. وفي وقت لاحق من تلك الليلة، كنت أحلم بأن المنطاد رجع ليطفو بجوار شباك غرفتي. بعد خمسة وعشرين عامًا، كتبت «مناطيد نارية»، وهي قصة عن عدد من القساوسة يطيرون إلى المريخ بحثًا عن كائنات طيبة القلب، احترامًا لتلك الليالي التي كان جدي لا يزال حيًّا فيها. كان أحد القساوسة مثل جدي، ذهبت به إلى المريخ ليرى المناطيد الحبيبة كلها مرة أخرى، لكنها في تلك المرة كانت مناطيد مريخية، كلها مضاءة وساطعة، وكلها تنساب فوق بحر ميت.

ترجمة: أ.ش.

  نشر مقال برادبيري في عدد 4-11 يونيو 2012م من مجلة ذي نيويوركر.

نشرت مقالة مارغريت آتوود في موقع باريس ريفيو الإلكتروني، وقد كتبت أصلًا كمقدمة لطبعة جديدة من كتاب سام ويلر الحواري مع برادبيري.

مارغريت‭ ‬آتوود‭   كاتبة‭ ‬وناقدة‭ ‬كندية