العلمانية في مقابل غياب خطاب نقد الاستبداد

العلمانية في مقابل غياب خطاب نقد الاستبداد

سؤال الدين والعلمانية يعكس أزمة بناء الدولة وتطور المجتمع في منطقتنا من أواخر الأربعينيات، وبداية الخمسينيات والستينيات حتى اليوم، ويتعلق بأزمة الفكر (الأيديولوجية) وأزمة النظام/ الدولة، والعلاقة فيما بينهما دالة على وحدتهما، وتكاملهما في سياق الممارسة الواقعية، كل منهما يشير إلى الآخر ويقود إليه، ويكمل تعريفه. العلمانية في الممارسة السياسية نجد لها بذورًا أولية مادية، حاضرة وقائمة في العديد من تجارب الدول السياسية التاريخية الدينية (اليهودية والمسيحية والإسلام) أي العلمانية كمجال للنشاط الاقتصادي والإنتاجي، والعلمي، والتنظيمي والإداري والمالي، قبل أن تتخذ العلمانية تجلياتها المفهومية الاصطلاحية السائدة اليوم، وهو ما يمكننا تسميته اتفاقًا مع الدكتور عبدالوهاب المسيري بالعلمانية الجزئية.

كانت الثورة الفرنسية عام 1789م هي النموذج السياسي الصارخ والعنيف في تعبير العلمانية السياسية عن نفسها كثورة عنيفة في مواجهة سلطة الكنيسة التي اشتبكت مع الثورة، حين دخلت طرفًا فاعلًا وقويًّا في الصراع لمواجهة قوى الثورة الفرنسية وضدها، وهو ما وسم التحول السياسي والاجتماعي للثورة بطابع، الصراع الدموي والعنيف بعضهما ضد بعض… ومن هنا الدعوة الصريحة والحادة لفصل السياسة عن الدين، ارتد ممارسة سلبية ليس فحسب ضد الكنيسة، بل ضد الدين نفسه، وهو ما ارتسم في المخيال الأيديولوجي والسياسي بأنه عداء العلمانية (الدين الجديد) ضد الأديان، وجرى تعميمه على كل المسار السياسي للتجربة السياسية العلمانية في بناء الدولة، والعلاقة بالدين، مع أن هناك تجارب سياسية للعلمانية في سياق بناء الدولة البرجوازية (الرأسمالية) التي اعتمدت أشكالًا سلمية للعلاقة بين الدولة والدين وفي صدارتها التجربة البريطانية التي تقف المؤسسة الملكية (الملك) على رأس الكنيسة، ورمزًا لها، ولم يتجسد فيها البعد الصراعي العنيف في العلاقة بين المشروع السياسي لبناء الدولة والدين، بل إن مجلس اللوردات فيه مجموعة من القساوسة، كما هناك التجربة السياسية الأميركية التي تحمل عملتها الدولار عبارة (نحن نثق بالإله) كرمز للحضور الديني في أدق تفاصيل وجود الدولة، وفي أهم أشكال رمزيتها تعبيرًا عن القوة والسيادة والسلطة (المال)، وفي التجربة الألمانية نشهد أحزابًا دينية مسيحية تمارس حضورها الشرعي والتشريعي والسياسي، حتى وصولها إلى قمة السلطة، على قاعدة اعترافها بالدستور والمساواة، والقيم والمبادئ العليا للدولة.

الحمولة السلبية للعلمانية

وفي تقديرنا لم تظهر الحمولة الأيديولوجية والسياسية السلبية في منطقتنا تجاه العلمانية إلا مع سقوط دولة الخلافة العثمانية، وتحديات الدولة التركية العلمانية القومية العسكرية لإرث الدولة العثمانية في بعدها الديني بصورة اجتثاثية (تصفوية) وفي موقفها العدائي ضد العروبة (لغة/ وقومية) وكان لنشأة وحضور الخطاب السياسي الإسلامي على يد محمد رشيد رضا، ومن بعده حسن البنا (الإخوان المسلمون) كحركة سياسية عام 1928م، دور مركزي في الاشتغال على هذا البعد والمعنى، وبخاصة بعد إسقاط محاولة تولية الملك فؤاد خليفة للمسلمين، وبعد الحرب العالمية الثانية وصعود الصراع الأيديولوجي كعنوان للحرب الباردة، تمظهر البعد السياسي للعلمانية بوصفها شيوعية/ وماركسية، معادية للدين، حيث جرى تهريب مصطلح العلمانية من حقله الدلالي المعرفي والواقعي ليدخل طرفًا في معادلة الصراع السياسي بين الرأسمالية والاشتراكية، وساعدت خطايا التجربة الاشتراكية (الستالينية) في موقفها العدائي من الدين في الترويج لتعميم هذا المعنى والمفهوم السياسي الاستنكاري والسلبي للعلمانية.

لقد انعكست سلبًا تجربة العلمانية في الممارسة السياسية على تعريف وتأطير مفهوم العلمانية بوصفها عقيدة وضد الدين/ الأديان؛ مما أوجد حالة وعي مشوشة ومضطربة في العقل السياسي الإسلامي –أو لدى قطاع واسع منهم– بعد اختزالها واختصارها في تعريفات سياسية سالبة لا صلة حقيقية لها بجوهر مفهوم العلمانية. تحول مصطلح العلمانية في خطاب حركات الإسلام السياسي وحتى الرسمي العربي إلى تهمة تعادل الكفر، والإلحاد، والإباحية، والتحريض على الخروج من الأديان، علمًا أن التجربة الواقعية (المعاصرة) لنا كعرب أظهرت حالة من التداخل والتماهي فوق العادة بين الدين والدولة وبين السياسة والسلطة والدين، وهو ما يعني أن العلمانية كممارسة وتجربة سياسية اقتصادية اجتماعية وحياتية هي (تنظيم سياسي للإدارة والمجتمع والدولة) حاضرة بأشكال مختلفة في جميع التجارب السياسية لبناء الدولة، والتجربة العملية في منطقتنا العربية (مَلَكية أو جمهورية) تقول بتعايش العلمانية والدين من دون تعارض، فقط الشأن السياسي هو من أنتج ذلك التعارض الحدي فيما بينهما.

إن حركات الإسلام السياسي في نشأتها النظرية والسياسية العملية التاريخية إنما وجدت كحالة رد فعل لتفكك وسقوط الدولة العثمانية (دولة الخلافة)، وجذر نشأتها مناقضًا لفكرة وقضية الدولة الوطنية العربية المعاصرة ولفكرة الجماعة الوطنية (الشعب) حيث دولة الجماعة ووطنهم هو الامتداد الجغرافي، والديمغرافي في حدوده (المكانية) الإسلامية كلها، دولة خلافة عالمية جديدة في إطار تنظيمي سياسي «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» دولة مصغرة استمرار لدولة الخلافة، ولذلك فإن فكرة دولة الخلافة هي عنوان تنظيمي أيديولوجي سياسي محوري في أدبيات جميع تنظيمات وحركات وجماعات الإسلام السياسي بمختلف عناوينها، وتسمياتها (سنة/ شيعة) (خليفة/ إمام معصوم/ الولي الفقيه) حيث الشعب هو كتلة/ جماعة افتراضية مفتوحة موحدة لا تنتظمها حدود جغرافية وطنية (قومية) ولا يجمعها انتماء وطني (عرقي/ قومي(إثني)، الانتماء والولاء هما حصر لفكرة وقضية الجماعة الدينية الإسلامية، وهي أقوى وأعمق من جميع الروابط الوطنية الداخلية، أممية عالمية دينية مقابلة لجماعات التطرف اليساري الماركسي (الأممية الاشتراكية)، وهنا تكمن الأزمة السياسية التاريخية اليوم في علاقة العديد من حركات الإسلام السياسي بالدولة، والوطن والشعب، ولم يتحرر من هذا الوعي والخطاب فيما هو كتابة وبيانٌ منشور سوى ما أعلنه حزب النهضة في تونس وبعض الكتابات المحدودة لبعض هنا أو هناك.

الدولة الوطنية العربية المعاصرة

إن مشكلتنا في المنطقة العربية مع مشروع بناء الدولة في إطارها العلماني العام هو تدثيرها للعلمانية بالروح والصيغة الاستبدادية في بداية صعودها، ثم بالفساد المعمم في المسار السياسي اللاحق للتجربة، وهو ما تبدى في معظم تجليات ممارسة بناء الدولة على أسس وقواعد مدنية علمانية عسكرية ولا ديمقراطية، والأمر ذاته –بدرجات متفاوتة– ينطبق على أشكال الحكم العربية (جمهورية، مَلَكية) في رؤيتها وموقفها من العلمانية، فقد ناصبت أشكال الحكم الملكية الفكرة العلمانية العداء في الخطاب في واقع الصراع الأيديولوجي العالمي الدائر في قلب الحرب الباردة مع حضور تجليات العلمانية: كقوة مادية، وإنتاجية وتقنية وصناعية وعلمية وقانونية، وتنظيمية إدارية ومالية (البورصة) في جميع صور وأشكال تعاملها، مع مكونات بناء الدولة والنظام السياسي، في تكويناته المختلفة (البنية التحتية الرأسمالية والبنية الفوقية بدرجة أقل)، لقد دمغت ووصمت دولة الاستقلال والدولة الوطنية القُطرية العربية الحديثة، السياسة والمجتمع والثقافة ونظام الحكم بالاستبدادين: السياسي والعسكري، حيث الحزب الواحد الثوري، (صانع الاستقلال) والجيش (مجلس قيادة الثورة) هما رمزا السلطة والسيادة.

فالحزب هو قائد الدولة والمجتمع (جنوب اليمن/ سوريا، العراق والجزائر) وجميعها من دون استثناء نماذج ناصبت السياسة الديمقراطية العداء وواجهت الديمقراطية السياسية في أحسن الأحوال بمنجزات الديمقراطية الاجتماعية، التي امتصها الفساد وقضى عليها تدريجيًّا الاستبداد، وفي هذا المسار الصعب والمناخ الطارد للسياسة المدنية، تحولت العلمانية في صورة عقيدة الحزب (أيديولوجيته) إلى طوطم، وسوط وكتاب مقدس استحالت معه العلمانية كشكل للتنظيم الاقتصادي والإداري والمالي والثقافي إلى استبداد وفساد.

تحويل العلمانية إلى احتكار للسياسي

إن جذر الأزمة في عجز وفشل الفكرة العلمانية سواء على صعيد الأحزاب والأفكار أو على مستوى بناء الدول هو غياب خطاب نقد الاستبداد وتعميم حالة الفساد، وعدم الاعتراف بالآخر والقبول بحقه في أن يكون ما يريد لا ما نحن نريده له، وتحول الفكرة والممارسة العلمانية (المدنية) في تجربة الأحزاب الواحدية (الشمولية) والمعارضة أو الواقعة في قمة هرم صحن الحكم (قومية اشتراكية ليبرالية) إلى أحادية محتكرة للسياسة، وللحقيقة في ذاتها (توليتارية) بعد تحويلها العلمانية إلى استبداد. لقد علّقت أنظمة الحكم الوطنية الاستقلالية (العلمانية) في صيغها الأيديولوجية القومية واليسارية الاشتراكية والليبرالية حلَّ المسألة الديمقراطية على مشجب حل المسألة الاجتماعية، تحت شعار وغطاء «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» و«لا صوت يعلو فوق صوت الحزب الواحد» والنتيجة السياسية والعملية التي تفقأ العين أننا لا أنجزنا حل المسألة الديمقراطية، ولا خلقنا قواعد راسخة متينة للتنمية على طريق إذابة أو إزالة الفوارق بين الطبقات، كما رفعتها أدبيات وبيانات هذه الأحزاب والأنظمة/ الدول ولا في المقابل دخلنا المعركة وانتصرنا، بل إننا حولنا بعض انتصاراتنا الجزئية العسكرية إلى هزائم وخسائر سياسية.

ويبلغ الفشل ذروته في الممارسة الاجتماعية والثقافية والتعليمية (تعليم ماضوي)؛ إذ نشهد اليوم انبعاثًا للهويات القاتلة -حسب تعبير الروائي أمين معلوف– الهويات ما قبل الوطنية، وما قبل الدولة: المذهبية والطائفية والقبلية والمناطقية، ومحاولات حرف الصراع السياسي من جانب بعض (ميليشيات/ودول إقليمية) إلى عنوان لصراع مذهبي/ طائفي (ديني) (سني/ شيعي) وحضور الخارج الإقليمي والدولي في داخلنا؛ بسبب ما تركناه من فراغ في السياسة وفي حالة الأمن القومي العربي، الأمر الذي جعل الفضاء والمدى الجيو/ سياسي القومي لنا منتهكًا، حضر بعض أطراف الخارج الإقليمي ليملأه عوضًا عنا (إيران/ تركيا/ إسرائيل) وهو قمة تعبير الفشل عن نفسه، فشلنا كأحزاب ومشاريع وأفكار ودول وهنا تكمن الأزمة. والمشكلة متى نبدأ الفعل باتجاه رحلة الألف ميل نحو الإصلاح والاستنارة؟ ذلكم هو السؤال.

بين كتابة المفكرات (Autograph) والصورة:  من تحفيز الذاكرة  إلى تفعيل التواصل الإنساني

بين كتابة المفكرات (Autograph) والصورة: من تحفيز الذاكرة إلى تفعيل التواصل الإنساني

تعدّ الكتابة في «المفكرات الشخصية» (Autograph) أو ما يُعرف بالتوقيع، من الممارسات الحديثة التي تنهض الكتابة فيها بوظيفة التحفيز، ويتداول هذا النوع من الكتابة بالدرجة الأولى في المعاهد والجامعات بين زملاء الدراسة، وبين هؤلاء وأساتذتهم، كما يتداول بدرجة أقل في الوسط الثقافي. وغالبًا ما تكون العلاقة المتولدة بين طرفي الكتابة ناتجة عن لقاء وصحبةٍ قصيرة، قد تقتصر على مدة محدودة، وقد تمتد لأشهر وربما لسنوات، فهي صحبة مؤقتة تلوح نهايتها لحظة ابتدائها، ومن هنا يكون اللجوء إلى الكتابة ضروريًّا لديمومة تلك الصحبة، عبر تأسيس حافزٍ خارجي يسند الذاكرة الإنسانية، ويحفزها إلى مواجهة

كرّ السنين، ومغالبة آفة النسيان.

وبما أن الوظيفة السائدة للكتابة منذ قرون طويلة هي نقل الأفكار والمعارف وتسهيل التواصل بين البشر، فإن الكتابة في المفكرات قد تمثل انزياحًا عن هذه الوظيفة؛ وذلك لأنها لا تعنى بنقل المعرفة والأفكار بقدر ما تعنى بتحفيز التواصل. وحتى هذا الأخير الذي تعنى بتحفيزه قد يبدو للمتأمل تواصلًا من نوع آخر؛ فالتواصل يكون عادة بين ذاتٍ وأخرى، أما ما يقع في حالة «المفكرات الشخصية» فبين الذات المتذكِّرة وماضيها فحسب، فالتواصل الناتج عن قراءة المفكرات إنما هو تواصل ينوس بين ماضي الذات بوقائعه وعلاقاته، وبين حاضرها بملابساته وتداعياته الموصولة بالماضي، ويتمُّ هذا التواصل عبر القراءة التي تنسج خيوطه.

وما يلفت النظر تجاه هذا النوع من الكتابة، هو ما يحظى به من حضور نسبي في عصرٍ شهد اختراع كثير من الأدوات التي يمكن عدّها بديلًا أو معادلًا للكتابة، كالصورة بنوعيها الفوتوغرافي والمتحرك مثلًا. فالصور المتحركة من أبرز الوسائل فاعلية في الحفظ والتذكُّر، وتتميز بقدرتها العالية على تجسيد الملامح الفيزيقية للأشخاص الذين نقدِّرهم ونود تذكرهم على الدوام. وبرغم وعي كثيرين بما تنطوي عليه الصورة من قدرة وفاعلية في التسجيل والحفظ، فإن التوسل بالكتابة لا يزال يحظى باهتمام ملحوظ يتجاوز أحيانًا كثافة حضور الصورة، وهذا ما يدفع بدوره إلى التساؤل عن العوامل التي تعزّز من حضور الكتابة، فلماذا يلجأ بعض –مع احتفاظه بالصور– إلى دعوة الآخرين للتوقيع في مفكراتهم الخاصة؟ وهل ثمة ما يميز الكلمة «الكتابة» ويمنحها مثل هذه المكانة؟

انتهاك الصورة للخصوصيات

أصبح للصورة حضور طاغٍ، وهيمنة تسمح لها بصياغة كثير من التصورات والأفكار الخاصة بنمط الحياة وأنواع السلوك، وتعميمها على قطاعٍ واسعٍ من سكان العالم، فتنتهك الصورة الخصوصيات الثقافية والاجتماعية، وتصل في تأثيرها إلى أدق مفاصل الحياة المعاصرة. ويرتد حضور الصورة وهيمنتها إلى ما تمتلكه من قدرة وحرفية في النقل والتعبير، وإلى أثرها البالغ في عمليتي التوصيل والتأثير. والحق أن هذه الخصائص ليست حكرًا على الصورة فقط، فالكتابة تنطوي أيضًا على مثل هذه الخصائص، غير أن الصورة تفوق الكتابة من حيث الشمول والدقة في نسخ أدق التفصيلات المادية الخاصة بالموقف الذي تقوم برصده وتسجيله، كما تفوقها في طاقتها الاستيعابية للمعلومات، والقدرة على نقلها، بالإضافة إلى تأثيرها الطاغي في عقول المشاهدين/المتلقين. وهذا التوصيف لفاعلية الصورة وإن كان ينطبق – بشكل عام – على الصورة بنوعيها الفوتوغرافي والمتحرك، إلا أن ثمة ما يحمل على الاعتقاد أنه لا ينطبق على الصورة في حالة الصور الشخصية التي يجري الاحتفاظ بها للذكرى بشكلٍ خاص. إن خصائص الصورة المذكورة آنفًا قد لا تشكل عنصرًا إيجابيًّا دافعًا لعمليات التذكر في الصور الشخصية التي يكون القصد منها صون الذكريات، والرغبة في تعزيز حضورها في ذاكرة البشر.

يمكن ملاحظة اختلاف الصور الفوتوغرافية عن الكتابة من زاوية كونهما أداتين يحتفظ بهما للذكرى، فيما تنطوي عليه الصورة من طبيعة خاصة تتمثل في سعيها لمقاربة الأصل «ما تقع عليه عدسة الكاميرا من أمكنة وشخصيات وأشياء»، ومحاولة نسخه وتقييده للاحتفاظ به كجزء من تاريخ الذات. فالصورة تقدّم نفسها هنا بوصفها بديلًا عن الأصل، لكونها حَلّتْ محلّه عند نسخِه، فالأصل يتغير، وقد تتسرب ملامحه وتختفي بعد أن تقع عليه عدسة الكاميرا، وبذلك تغدو الصورة بديلًا عنه. وبرغم مخايلة الصورة وإيهامها بأنها تنوب عن الأصل، فإن نقاط التوافق بينهما لا تعني بالضرورة تماثلهما؛ وذلك لكون الأصل الذي حلت الصورة محلّه بنية زمنية تقوم على الامتداد والترابط بين مكوناتها ولحظاتها، فضلًا عن التغير الذي يطرأ على المكان ويلحق بالإنسان والأشياء. في حين أن الصورة أو اللقطات الفوتوغرافية الخاصة بمناسبةٍ بعينها أو موقفٍ ما، لا تعدو كونها نسخًا لمجموعة من اللحظات تتباعد زمنيًّا، وقد تفتقر إلى الترابط فيما بينها، حيث يصعب على المرء – حين يعود إليها فيما بعد – أن يملأ الفجوات الموجودة بين كل صورةٍ وأخرى، إذا ما أراد ترميم الموقف في ذهنه واستعادة تفصيلاته في إطار واحد. فالصورة منها لا تمثل في الواقع سوى لحظةٍ واحدة تتسم بالسكونية والجمود والآلية، يتمّ اجتزاؤها من تيار زمني سيّال يمور بالثراء والحركة المتواصلة، ولذلك فمهما خايلت الصورة الفوتوغرافية بكونها بديلًا عن الأصل أو كالأصل؛ فالمؤكد أنها تختلف عن هذا الأخير في امتداده وسيولته وثراء حركته.

وفيما يتصل بما تتسم به الصورة من شمولية ودقة في الرصد والنقل لموضوعاتها، فإن هذه السمات لا تسري إلا على الأشياء المادية التي تنعكس على عدسة الكاميرا. صحيح أن الوجوه في الصورة الفوتوغرافية تحتفظ بملامحها وتعابيرها، وبما قد يكتنفها من مشاعر مختلفة كالحزن والفرح، لكن الصورة مع ذلك تفتقر إلى نقل كثير من الجوانب والروابط المصاحبة للموقف، ومن غير الممكن استعادتها أو تداعيها في لحظات التذكر؛ وهو ما يَسِم لحظات التذكر بالحَرْفية والآلية، ويقلل من حيوية لحظة الاستعادة وثرائها، فالصورة في نهاية الأمر لا تستطيع أن تمنح المتلقي أكثر مما نسخته عن الأصل.

التقليل من مقدرة المخيلة

المفكرات-الشخصية-٢وتأسيسًا على ما تقدّم، يمكن القول: إن الاعتماد على الصورة – كمُحَفِّزٍ للذاكرة وكأداةٍ للتذكر – يُقَلِّلُ من مقدرةِ المُخَيِّلة وفاعليتِها في استعادة الماضي وتأمله، وإعادةِ النظر في عوالمه ومواقف أشخاصه. لا شك أن الصورة ذات سطوة وتأثير عميق في عقول المشاهدين، ويكون هذا التأثير أبعد غورًا في الصورة المتحركة، فهي تعمل على إغواء المشاهِد ولا تترك له فرصة أو مساحة للتأمل فيما يُعرَض، والمقابلة بين ما تعرضه الشاشة وما تختزنه ذاكرته من أحداث ومواقف. فتتابع الصور المتحركة يحول دون ممارسة الخبرة الذاتية للمُشَاهِد في تأمل محتويات الشريط المصوَّر، وبخاصة حين يكون تسجيلًا لمناسباتنا الخاصة، فالمشاهد والصور التي يعرضها ليست غريبةً على وعينا المتدعِّم بالذاكرة، بل تشكل جزءًا من نسيج الذاكرة وتاريخها. ويوضح فالتر بنيامين ما يحدثه تتابع الصور من أثر في عقل المشاهد، وكيف يستبد التتابع بوعيه، ويعمل على إلغاء انطباعاته الخاصة: «فما إن تتوقف عينا المشاهد عند مشهد معين حتى يتغير إلى مشهدٍ تالٍ لا سبيل إلى اللحاق به (…) فعملية تداعي أفكار المُشاهد أمام هذه الصور يقطعها التغيير المفاجئ والمستمر على الشاشة». وبهذا تغدو عملية التلقي من جانب المُشاهد سلبية؛ لأن التغييرات المتلاحقة للمَشَاهد لا تمنحه فرصة ليفكر ويتأمل ما يشاهده، وحسب جورج ديهاميل، فالصورة تنوب وتحل محل أفكاره.

ولا يختلف الأمر كثيرًا في الصور الفوتوغرافية، فتأثيرها في المُخَيِّلة لا يجعل من عملية التذكر أمرًا صعبًا فحسب، بل إن وجود الصورة بحد ذاته قد يعطِّل عمل المخيلة؛ لأنّ الصورة لا تترك مجالًا للمخيلة في عمليات استعادتها ذكريات الماضي، وتواصلها معها. إن وجود صورة ما تحمل جميع ملامح الشخص المُتَذَكَّر وتفصيلات المكان، يقف حائلًا دون استحضار التفصيلات الصغيرة وما يرتبط بها من تداعيات، وغالبًا ما يحول دون إعادة تشكيلها من جانب المخيلة. ومن هنا، يبدو أن وجود الصورة ومخايلتها للأصل يقيد عملية التذكر، ويجهد الذاكرة، ويغدو حضور الماضي في الوعي باهتًا، فلا يشفي الاتصالُ بالماضي النفسَ، ولا يمنحها الراحةَ والحبور اللذين تشعر بهما مع الكتابة/ القراءة. وحين تَجْري عمليةُ التذكر بهذه الطريقة فلا تؤدي إلى إنعاشِ الذاكرة وتجدد محتوياتها، ولا تسهم في إثراء التجربة الشخصية.

تداعي الأفكار والذكريات

في مقابل ذلك، تنفرد الكتابة بعدد من الخصائص التي تُميّزُها من الصورة، وتأتي في مقدمتها مرونة الكتابة بمفهومها العام، وقدرة المكتوب على إثارة عمليات تداعي الأفكار والذكريات التي تشكّل جدلية الحضور والغياب عند تواصل الذات القارئة مع ماضيها. وتبرز جدلية الحضور والغياب في أثناء قراءة المكتوب، وتفعيل عملية التلقي، وتكون الحال عند ابتداء عملية القراءة حضور النص المكتوب وغياب صاحبه. ومع أن النص الكتابي يشكل دائمًا غيابًا لكاتبه أو لمنتجه، كما يرى جاك دريدا، غير أن الأمر قد يختلف في حالة الكتابة في المفكرات الشخصية، نظرًا للعلاقة الوثيقة التي تربط الكاتب بالقارئ؛ فالنص المكتوب يتمحور في الغالب حول هذه العلاقة أو يعبر عنها. وفي هذه الحالة، فالحديث عن القارئ ليس على إطلاقه، بل عن قارئ له وضعه الخاص، فهو يعرف صاحب النص ومحتواه جيدًا. وحين يشرعُ القارئ في قراءةِ النص فإن حضور النص الكتابي يتحول إلى غياب، وتُفارق الشخصيةُ المنتجة للنص منطقةَ الغياب، وتكتسب حضورًا في وعي الذات القارئة. ويَتَبدّى هذا الحضور في الحوارات الصامتة التي تنشأ وتتراسل بين الذات القارئة وشخصية منتج النص المتخيلة التي تُخلَق عبر انقسام الذات القارئة على نفسها، فالحوار يبرز على سطح النص بمجرد قراءةِ أولى كلماته، فيتتابع الحوار ويتفاعل بتواصل القراءة.

وهذا التواصل الذي ينشأ بين وعي الذات القارئة وماضيها المشتبك مع كاتب النص إنما يقوم على أساس ما تنطوي عليه الكتابة من إمكانيات في الكشف والتوصيل، فالكتابة تمنح المخيلة مساحة واسعة من الحرية والحركة، فتقوم المخيلة في أثناء القراءة بعدد من العمليات في إطار الاستعادة والتذكر. وهذا يعني أن الذات القارئة، وهي تتذكّر الماضي لا تستعيد تفصيلاته كما حدثت بشكلٍ حرفي، إنما تعيد صوغه عند كل قراءة، فتقوم بإعادة تشكيل ذكرياتها وعلاقتها بصاحب النص بما تنطوي عليه هذه العلاقة من شخصيات ومواقف وأحداث، وغالبًا ما تعمد المخيلة إلى إضفاء مسحة مثالية على تلك الذكريات، تتجاوز ما يحدث في الواقع في صلتنا بالأشخاص ومواقفنا معهم. ومن هنا، قد نشعر أحيانًا بالارتباك عندما نعاود الاتصال بالأشخاص عمليًّا بعد مدة غيابٍ أو انقطاع، ونتفاجأ كثيرًا حين نكتشف مدى إسراف المخيلة في عملياتها التشكيلية. لكن هذا الفعل الخلاق الذي تقوم به المخيلة في أثناء عمليات القراءة لا يعود إلى طبيعة المخيلة، بقدر ما يعود إلى قدرة المثير الهائلة والمتمثلة في الكتابة/القراءة، وما يمنحه النصُّ الكتابي مخيلةَ القارئ سوف يظل علامة فارقة تميز الكتابة مما سواها من أدوات التواصل، وكما يذكر الناقد صلاح فضل، فالجانب الأهم فيما يتصل بخصوصية النص الكتابي لا يتمثل فيما يتيحه للقارئ عبر نافذة الخيال من استدعاء ذكرياته وإعادة تشكيلها، إنما في أنه يُمَكِّنه من أن يعيد دومًا تشكيل وجدانه الإنساني وذكرياته على نحو يتجدد عند كل قراءة.