مدن متمردة..  من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر

مدن متمردة.. من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر

أليس من حق المواطن أن يسهم برأيه في تصميم وتهيئة المدينة التي يقطن فيها؟ لماذا يُمنَع المواطن ممارسة هذا الحق؟ لمصلحة من يشتغل المهندسون والمخططون العمرانيون؟ ألمصلحة المواطنين العامة؟ أم لمصالح جهات أخرى؟ حق من الذي يجب أن يراعيه المخططون العمرانيون؟ مصالح من التي يتعين تحقيقها؟ على هوى من يجب أن تخطط المدن وتتوسع؟ «المصلحة العامة»، «تجميل المدينة»، «الارتقاء بشكلها الحضاري»، «التحسين المدني»، «الإحياء البيئي»، «التجديد الحضري»… عبارات وأخرى لا تنفك أبواق الرأسمالية ترددها، كذريعة لسلب ملكيات المواطنين الأكثر فقرًا، وتلبية حاجات المواطنين الأكثر غنًى، حيث تسخّر الرأسمالية كل وسائلها وأدواتها المالية والاقتصادية والعمرانية والسياسية الماحقة والوحشية، من نزع للملكية وتهجير قسري وسلب للأراضي والمساكن، وتمزيق الأحياء القديمة، ومن ثَمَّ تغيير شكل المدينة بما لا يرضي ولا يوافق هوى سكان المدينة الأصليين.

ويقدم لنا ديفيد هارفي في كتابه الشائق: «مدن متمردة: من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر»، الصادر حديثًا عن منشورات الشبكة العربية للدراسات والأبحاث 2017م، ترجمة لبنى صبري، كثيرًا من الأمثلة في هذا الباب، من كومونة باريس عام 1871م وصولًا إلى ثورة 25 يناير المصرية واحتلال ميدان التحرير، وحركة احتلال وول ستريت، واحتجاجات لندن في عام 2011م. ولعل أقوى مثال يمكننا أن نستحضره في هذا المستوى من النقاش، هو سياسة جورج أوجين هوسمان، المعروف باسم البارون هوسمان، مخطِّط مدينة باريس، حيث قام هذا الأخير، بتخطيط مدينة باريس ليس على هوى قلوب الأغنياء فقط، إنما وفق مواصفات تمكن السلطة القائمة من منع كل محاولة سعت إلى تمكين العامة من احتلال مراكز الجذب داخل المدينة. ومن ثم يمكننا أن نخلص مع هارفي إلى أن الطبقات المهيمَن عليها من فقراء ومحتاجين ومهمشين من السلطة السياسية هم المتضرر الرئيس من سياسة تصريف فوائض الربح الرأسمالي داخل المدن… هذه المأساة التي باتت المدينة تعاني مخلفاتها المدمرة، القائمة على التمييز والحيف واللامساواة، هي ما دفع الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي، هنري لوفيفر لكتابة «دراسته المؤثرة عن الحق في المدينة، الحق الذي أكد على أنه صرخة غضب ونداء في الوقت نفسه، الصرخة كانت ردًّا على الألم الوجودي من أزمة مدمرة تجتاح الحياة اليومية للمدينة، والنداء كان في الحقيقة أمرًا بالنظر بوضوح لهذه الأزمة ومواجهتها، وخلق حياة حضرية بديلة تكون أقل اغترابية وأكثر بهجة وذات معنى أعمق، ولكنها -كما هي الحال دائمًا مع لوفيفر- تنازعية وجدلية، منفتحة على الملائم، وعلى المصادفات، (سواء المخيفة أو الممتعة)، وعلى السعي الدائم لحداثة غير معروفة».

ديفيد هارفي

الحق في المدينة إذًا هو مطلب أو صرخة تطلقها الشوارع والأحياء والفاعلون داخلها من مقموعين في أزمنة اليأس. هنا بالذات يطرح دور المثقف في نجدة هؤلاء المقموعين وإغاثتهم، والاستجابة لصرخاتهم ومطالبهم، ومن ثم تظهر حاجتنا الماسة اليوم لمثقف من عيار هنري لوفيفر. يرفض ديفيد هارفي كما سبق أن رفض هنري لوفيفر، اختزال الثورة الحضرية في عمال المصانع، بيد أن الطبقة العاملة بما هي أداة للتغيير الثوري، تتكون أساسًا من سكان الحضر، بمن فيهم عمال المصانع. وهو اعتراض زادت قوته ونجاعته اليوم أكثر من أي وقت مضى، بعد أن تراجعت أفكار اليسار التقليدي، خصوصًا بعد ما شهدته المصانع وأجزاء كبرى من العالم الرأسمالي المتقدم من تراجع وتقلص، إلى أن اختفت معه الطبقة العاملة الصناعية الكلاسيكية، «فالعمل المهم والآخذ في التوسع باستمرار لصنع حياة الحضر والإبقاء عليها يقوم به بشكل متزايد عمال غير آمنين، وغالبًا ما يعملون لبعض الوقت، وغير منظمين، ويتقاضون أجورًا زهيدة، فما يطلق عليها «البريوكاريا» حلّت محلّ «البروليتاريا» التقليدية. فإذا كان مقدَّر لحركات ثورية أن تظهر في زمننا على الأقل في هذا الجزء من عالمنا (في مقابل الصين السائرة على درب التصنيع)، فإن البريوكاريا الإشكالية وغير المنظمة يجب أن تأخذ في الاعتبار» والمشكلة السياسية الكبيرة هنا هي كيف يمكن لمثل هذه المجموعات البائسة المشتتة أن تنظم نفسها في شكل قوة ثورية؟

تعرف مدننا اليوم تحولات عظمى نتيجة النمو الحضري المطرد، استجابة لضغوطات التطور الرأسمالي العالمي، وهو ما يدفعنا للتساؤل: أين هذه المدينة التي نطالب بالحق في المشاركة في تهيئتها وتصميمها؟ لقد سقطت المدينة التقليدية ضحية التطور الرأسمالي السائد، بل قُتلت نتيجة الحاجة المستمرة للتخلص من رأس المال المتراكم؛ مما يقود إلى نمو حضري لا نهاية له، بغض النظر عن عواقبه الاجتماعية والبيئية والسياسية. إن مهمتنا السياسية، كما يقترح لوفيفر، هي أن نتصور ونعيد تشكيل نوع مختلف تمامًا من المدن خارج فوضى العولمة المدوية، ورأس المال الموجه لتوسعة الحضر بوصفه هدفها… كما أدرك لوفيفر جليًّا من تاريخ كومونة باريس، فإن الاشتراكية أو الشيوعية، أو هذه المسألة الأناركية في مدينة واحدة، اقتراح مستحيل، فمن السهل جدًّا على القوى البورجوازية الرد بمحاصرة المدينة وقطع خطوط إمدادها وتجويعها، إن لم يكن غزوها وقتل كل من يقاوم (حدث ذلك في باريس عام 1871م) لكن ذلك لا يعني أن ندير ظهورنا للمدن بوصفها حاضرة للأفكار والمثل والحركات الثورية.

برهن ديفيد هارفي على امتداد صفحات هذا الكتاب، على أن الحق في صنع مدننا بل أنفسنا وإعادة صنعها بكل حرية، هو حق من أعظم الحقوق وأغلاها الذي قوبل بتجاهل من المنظومات الحقوقية القانونية الكونية… وهنا يستحضر هارفي عالم الاجتماع الأميركي روبِرت بارك، الذي أوضح أن المدينة هي «أكثر محاولات الإنسان اتساقًا وبشكل أعمّ أكثرها نجاحًا لإعادة تشكيل العالم الذي يعيش فيه بما يتفق بدرجات أكبر مع رغبات قلبه، لكن إذا كانت المدينة هي العالم الذي خلقه الإنسان، فهي بالتالي العالم الذي يتعين عليه العيش فيه. فالإنسان بشكل غير مباشر، ودون إدراك واضح لطبيعة مهمته، قد أعاد أثناء خلقه للمدينة تشكيل نفسه»، وهو ما ساعد هارفي على الوصول إلى استنتاج ما يأتي: «إذا كان بارك على حق فإن السؤال عن نوع المدينة التي نريدها لا يمكن أن ينفصل عن السؤال عن أي نوع من الناس نريد أن نكون، وإلى أي نوع من العلاقات الاجتماعية نسعى، وأي نوع من العلاقات مع الطبيعة هو ما نعتز به، وأي أسلوب حياة هو ما نتمناه، وما القيم الجمالية التي نتبناها لذلك، فإن الحق في المدينة أكبر من مجرد حق فرد أو مجموعة في الوصول إلى الموارد الموجودة في المدينة: إنه الحق في تغييرها وإعادة اختراعها لتلائم أهواء قلوبنا بدرجة أكبر، وهو علاوة على ذلك، حق جمعي أكثر منه حق فردي، بما أن إعادة اختراع المدينة تعتمد حتمًا على ممارسة قوة جماعية من خلال عملية التطوير العمراني (الحضرنة)».

التحول في مفهوم الفرجة وقصدية القطع مع صيغ الحكي التقليدية

التحول في مفهوم الفرجة وقصدية القطع مع صيغ الحكي التقليدية

من أعمال وجدي معوض

تتأسس العلاقة بين السرد والمسرح على مسافة تحمي دومًا تحولها؛ ذلك أن هذه العلاقة ملتبسة بحكم سيرورة التحققات المسرحية، وبحكم تجدد القراءة وتبدُّلِها، بغية ضمان حيوية السرد في العروض المسرحية. فمن دون هذه الحيوية، يصبح المنعطف السردي في المسرح المعاصر، بما يفتحه من أفق متحول ومستمر، منذورًا لاستسهال تداخل الأنواع أو تجاور الإمكانات الدرامية وغير الدرامية المفتوحة.

وإن هذا الاستسهال لا يمكن دفعه إلا بمداخل نظرية، أهمها:

أولًا- يعد الدرامي أصل بناء الحكي Le recit. والحكي لا يشير إلى الخطاب، بل إلى المؤدَّى السردي، بخلاف السرد الذي يضطلع بتعيين محفل الأداء والتلفظ ويدل على فعل السرد الذي له طبيعة تداولية تستند إلى تحققات نصية وغير نصية مفتوحة، وتجعل الحكي المسرحي يتحقق بوسائل أخرى غيرِ اللغة مثل الأداء المسرحي والصورة والوثيقة. ويبدو من الصعب في الفرجات المعاصرة عرضُ فعل من دون أن نحكي شيئًا، ولا يُهم أن يكون الأثر السردي حكايةً مبنية أو مجردَ مُسَوَّدة حكاية. في كل تجربة درامية أو ما بعد درامية نكتشف بداية محكي أو إمكانية حكاية يُقدم المتفرج على إكمالهما أو تخيلهما. إننا دائمًا نحكي شيئًا.

ثانيًا- نفترض نظريًّا السردَ Narration خاصيةً قد ترد في نصوص تخييلية مختلفة غيرِ حكائية (الشعر والمسرح والسينما)، أو غيرِ تخييلية (الإشهار، والتاريخ، والوثيقة، ومحضر حول واقعة أو اعتراف، وقصاصات صِحافية وتحقيقات…). ولا يمكن بموجب هذا الحد عدُّ السرد عنصرًا حاسمًا في تحديد هوية النوع المسرحي، إنما يمكن أن يتساوى مع مكونات أخرى في هذا التحديد، ويرسمَ طريقة تجريبية ملموسة في التمثيل، تتسع فيه دوائر التخييل واللاتخييل وتتنوع أشكالها.

ثالثًا- إن فعالية السرد في مسرح ما بعد الدراما تتحقق في خبرة تتخذ من التخييل وسيلةً أساسًا لها. وتكتسب هذه الخبرة صبغة تمثيل Représentation وإدراكٍ معرفي وثقافي لا تتسع للحكايات الكبرى والأنساق المغلقة. وهذا أمر بالغ الدلالة في الفنون الأدائية، فالتمثيل السردي في المسرح ليس خلقًا لوهم المركزية أو إحالةً على عوالم يمكن أن تُنكرها «الحقائق الخاصة»، بل هو تخييل يقوم على الانتقاء والفصل وعزل عالم مصغر ووضعِه بين صيغتين (صيغتا الواقع والتخييل) ما يؤدي إلى خلق طبقات تخييلية فرجوية تحكمها «مرجعيات مفتوحة»، هي المرجعيات التي تستند إليها دراماتورجيا المتفرج وتسقط التخييل على الواقع. لذلك، فإن الأداء، من هذه الزاوية، وهو يسعى للتخلص من أسبقية المعايير الدرامية، لا يشكو من «انكفاء الفعل» ولا يحرص على مركزيته، فهو في كل مكان، لكنه (الأداء) يحتاج إلى «محكيات جزئية» يحولها إلى عالم فرجوي مكتفٍ بذاته ومنشغل بسؤال الكتابة وما يشترطه في العرض من حرية ومن إمكان الاستهداء إلى الذاكرة والاشتباه بين الواقع والتخييل.

الاحتفاء بانهيار المعنى

من أعمال وجدي معوض

وفي هذا السياق اتخذت مصاحبة عروضِ الفرجات البديلة منحيين:

(Anne Monfort. Après le postdramatique: narration et fiction entre écriture de plateau et théâtre néo-dramatique. Mondes en narration N.3 | 2009.)

يقوم المنحى الأول على رصد تصور هذه الفرجات للسرد كلغة وإمكانية قبل تحقق تتبعِها في المنجز المسرحي، أفضى هذا التتبع إلى استنتاج أساسه أن المسرح المابعد الدرامي يستند إلى السرد في تركيب انشطاري دالّ على قصدٍ في عدم الانشغال بتأمين الوشائج بين مِفصل السرد ومفاصل أخرى، بقدر ما هو حريص على استنبات التدمير الذاتي والاحتفاءِ بانهيار المعنى والأشكال المعهودة، بقطعها وإعادة بنائها بالمجاورة، وتمكينِ السرد من عرض التخييلي واللاتخييلي. أما المنحى الثاني فيتغيا تأمل فعلِ السرد في الفرجات البديلة من خارج سياقه النوعي (السرديات اللغوية) بما يتيح تحليل صورٍ لخصائصِ الفرجات البديلة التي لا تتحقق بين الكتابة والعرض، إنما تنبني سيرورتها المشهدية عبر الفرجة وفي أثنائها. هذان المنحيان يقودان إلى صلب الأسئلة المربكة، من قبيل: لماذا المسرح المابعد الدرامي مثلًا انعطف إلى السرد، على الرغم من حضوره في المسرح الدرامي؟

إن الفرجة المابعد الدرامية أكدت قصدية القطع مع كل صيغ الحكي التي تشير إلى الأشكال الدرامية التقليدية، ومفهوم السرد هنا غيرُ أشكال الحكي التي تصنعها مثلًا محكيات التراجيديا القديمة أو الحكي الداخلي في عمل درامي، بل سرد ينظر إليه من جهة حصيلته الأدائية، حيث إن الفرجة انحازت إلى سردية فرجوية تَحوَّل معها هذا الانحياز إلى إِشكال، سواء من منظور مشروعه الدراماتورجي كفعل فرجوي أو من منظور التلقي المسرحي.

منذ عشر سنوات تَشكَّل في الفرجات الأوربية توجهان يمكن أن يوصفا كتحقق للمسرح المابعد الدرامي:

الأول: الكتابة الرُّكحية « Lécriture de plateau » كما يحددها Bruno Tackels (Tackels, Bruno (2001) : Fragments d’un théâtre amoureux.Les Solitaires intempestifs).  التي حوَّلت مفهوم الكتابة السردية إلى مركز المشروع الدراماتورجي بمكوناته البصرية والكوريغرافية، فتؤدَّى الكتابة ُالسردية من خلال مجموعِ الوسائط المكونة للفرجة، ويتحكم في هذه الكتابة وضعٌ خاص على مستوى التلقي، مثلًا في السرد البصري يُصبح من اللازم إخراجُُ الصور من مستواها البصري إلى سياقها الفني المسرحي، ولا يمكن لهذه الخطوة أن تتحقق إلا بوجود متلقٍّ قادر على تحويل الصورة من خطها البصري كلغة إلى الحقل الذهني؛ لاستيعاب ممكنات ظهور المعنى لدى المشاهد، فنكون في هذا المستوى أمام فرجة تتحول العين معها من الإبصار إلى النظر.

الثاني: مفهوم مسرح الدراما الجديدة «Théâtre néo-dramatique» وهو تمسرح يقوم فيه نص الشخصيات والتخييل على أساس عمل مشهدي Travail scénique  حتى لو قُوِّض النصُ وحُطِّمت الشخصيات، وصار التخييل محلّ سؤال، وبخاصة أمام تدفق الموضوع الوثائقي وانتفاءِ التخييلي من السردي (مجدي معوض)، مثلما نرى في محكيات القول الصحافي. في ضوء هذا التصور ترى «آن مونفور Anne Monfort» في مقارنتها بين مفهومي الكتابة الركحية ومسرح الدراما الجديدة، أنهما معًا يتجهان إلى إعادة النظر في المقولات الكلاسيكية للمحاكاة والحكي بما أنهما يتأرجحان بين الافتراضية والواقعية، فيتكفل الحكي، بالمقابل، داخل التمثيل المسرحي المعاصر بضمان التحول من خلال مستجدات الأحداث، ويصبح الجمهور أمام عالم مستمر الدوران السردي الذي به يصل المتلقي إلى تشكيل صورته التخييلية الخاصة.

الوهم الواقعي

لكن في أشكالِ كثيرة للكتابة الركحية مثلما في الرقص المعاصر أو الفرجة يصبح التخييل الذاتي أو الجماعي إبدالًا سرديًّا، كأن يضع الكاتب ذاتَه في المشهد حين يمر مفهوم التخييل الذاتي من الكاتب إلى الممثل، أو أن يؤدي الممثلُ فيه محكياتِه الذاتية باسمه كسارد، فيتقلب دوره بين التمثيل والأداء، محدثًا بذلك كسرًا – فجوةً كامنة في العرض بين التخييل واللاتخييل، هذه الوضعية عكست لدى «ليمان» سؤالًا مؤسسًا للمسرح المابعد الدرامي تتحين فيه من خلال هذا الكسر الكامن، صورُ التعايش أو التجاورِ بين مستويات التخييل واللاتخييل. Lehmann. P.205) ) وهذا هو مصدر «الوهم الواقعي»؛ لأن العرض يحكي «الواقع» من خلال التخييل، ولا يمكنه أن يستند إلى التخييل إلا من خلال إسقاط الواقعي المرئي والمحسوس عبر اسم الكاتب أو الممثل وبعضِ إحالاتهما هنا وهناك. فلا يمكن لمحكيات «واقعية» أن توجَد إلا من خلال ممكنات التخييل ذاتِه للإيهام بحدث درامي. وهذا الوضع لا يخص حجم «الحقيقة»، بل يدل على صيغة في تصورها. إن الوهم هو ما يأتي من الواقع، أما الحقيقة فموجودة بين مكونات العرض المتعددة والمفتوحة.

لذلك، فالمؤدي لا يفكر في «سيرته»، كصورة طبق الأصل، بل يريد صوغًا سرديًّا من صنع «ذاكرته»، لا من صنع الوقائع فقط. وذاك ما تدعو إليه الفرجة وتقوم بالتمثيل له من خلال كل محكياتها؛ فالكاتب – المخرج – الممثل ذاتُه ليس سوى نسخة، أما الأصل فموجود في مكان آخر، هو الشخصية، الصوت الخفي – الظاهر الذي يكتب أو يؤدي حكايات الممثلين بطريقته الخاصة. لكن هذا الأمر لا يعني تقابلًا بين «واقع» و«خيال»، بل نحن أمام تأرجح بين «أنا» اليقين الواقعي في حكايات الممثلين من جهة، وبين «أنا» الاشتباه التخييلي والتمثيلِ اللاحق الذي سيُحول الوقائعَ الحياتية إلى محكيات مسرحية، توهم بالقطعية، وهي، تبعًا لذلك، مدرجةٌ ضمن «ميثاق واقعي» يضمنه اسم المؤدِّي، من حيث توقّعُ دورِه في الكتابة وتقطعاتُ صور من حياته داخل حالات حكيِ واقعي، هو في الأصل جزء من انسيابية إيقاع مألوف، لكن التحويل المابعد الدرامي يقطع تحبيك هذا الإيقاع ويوقف سريانه بما أنه نسيج بنائي تقليدي رابط. إن الإيحاء بواقعية الحكاية هو الذي يسوغ تخييلية السرد التي يواجه الأداءُ المسرحي تعذرها تحت ضغط نفور مسرح ما بعد الدراما من مكونَيِ «الحدث» و«الحكاية» fable واستنادِه إلى سردية «موقف» أو حالة. وذاك هو مصدر «الصنعة» السردية في هذه الممارسة المسرحية وقيمةُ المضاف فيها أيضًا.

الجمهور والكوميدي وجهًا لوجه.. مفارقات المضحك لدى شارلي شابلن

الجمهور والكوميدي وجهًا لوجه.. مفارقات المضحك لدى شارلي شابلن

استعاد رائد السينما الصامتة، الفنان العالمي الكوميدي الإنجليزي الشهير شارلي شابلن (1889- 1977م)، في سيرته الذاتية «قصة حياتي» التي ترجمها كميل داغر عن الفرنسية، وصدرت عن المركز الثقافي العربي، لحظة استثنائية ضمن لحظات أخرى مثيرة وفارقة، أوردها في سياق حديثه عن عرضه التمهيدي لأحد أفلامه، الذي جرى احتضانه في صالة من صالات إحدى المدن الأوربية، حيث تم العرض بشكل خفي ومن دون إعلان؛ لأنه اعتقد أن عمله لم يكن طريفًا بالقدر الذي كان يُعِدّ له هو وزملاؤه في الكواليس قبل عرضه، في أثناء إقامتهم تجارب متكررة في مرحلة المونتاج، فانتهى إلى قناعة مفادها أن الفلم ليس ممتعًا ولا مثيرًا.

وفي ضوء هذا المسار، نلفي شابلن يقدم إشارة مباشرة يستعيد فيها لحظة جمعته بالجمهور، وتحمل تصوره الخاص –ككوميدي- للجمهور ونظرته إليه في إطار علاقته به، إذ يعبر في هذا الصدد عن الأزمة التي انتابت حالته النفسية، وهو يتوجس مفترضًا كيف سيزداد قلقه إذا ثبت أنه أخفق، ثم انتقل بعد ذلك إلى وصف نفسية جمهوره، وشرح ما له من مواقف وردود الفعل في أثناء عملية التلقي، يمكن أن تكون أحيانًا حاسمة ولها تأثيرها الخاص في الحكم على الفلم وفكرته، حكمًا قد يمسي إما إيجابيًّا أو سيئًا.

وعن ردة فعل الجمهور المحتملة، يستعيد شابلن ما اختمر في ذهنه من تصورات ورؤى بصدد جمهوره، قائلًا: «انقبضت معدتي فجأة. جلست يائسًا، بانتظار بداية الفلم. كان الجمهور يبدو عاجزًا عن التعاطف مع أي شيء يمكنني أن أقدمه له، وكنت قد بدأت أشك في الفكرة التي كنت أكونها عن أذواق الجمهور ورد فعله إزاء الكوميديا (…)، وتبادرت عندئذ إلى ذهني الفكرة المريعة، بأنه يمكن أن يخطئ كوميديٌّ أحيانًا خطأ ذريعًا في تصوراته للكوميديا. كم أستفظع عروض الافتتاح! كان يمكن للمرء أن يقرأ على الشاشة: «شارلي شابلن في فلمه الأخير (الغلام). وعلت في القاعة صيحات إعجاب، وتصفيقات مبعثرة. وقد أقلقني رد الفعل هذا، وذكرني بمفارقة غريبة: ربما كانوا ينتظرون الكثير، وسيصابون بالإحباط؟» كما يقول هو نفسه.

إحساس بالتوجس

شارلي-شابلن-٣وإذا تأملنا إحساس شابلن بالتوجس والقلق في ظل المحنة المريعة والشديدة التي تصور أنه سيواجهها في أثناء عرضه التجريبي لأحد أفلامه أمام الجمهور، فإنه لا يخرج في الغالب عن معنى كونه إحساسًا عامًّا ومشتركًا يتقاسمه كل الممثلين الفكاهيين، من مخرجين ومؤلفين وغيرهم من رواد الكوميديا، كما أنه لا يتعدى كذلك نطاق الدور الذي يجب أن تؤديه الفكاهة في حالة تأكيدها ميثاق التلقي، في إطار علاقة الممثل الكوميدي بالجمهور الذي لا يخلو حضوره من سلطة وجدلية، يضرب لهما الفنان الكوميدي ألف حساب، حيث يقض الارتباك والحيرة والتوجس مضجعه، ولا ينتهي شعوره بالقلق أو التخفيف منه إلا ساعة نهاية العرض، كزمن نهائي يستقر فيه رأي الجمهور وحكمه الإيجابي على العمل الذي يعبر عنه من خلال التصفيقات والصيحات والضحك، والتفاعل بمختلف أشكاله وأساليبه التي تفيد معنى التواصل الإيجابي، والمشاركة الفعالة مع العمل، وتقبله وفهمه وتذوقه والإعجاب به، ولا يرتاح بال المبدع الكوميدي إلا عندما يطلق «الضحك» كعلامة على إصابة الهدف كما ينبغي؛ لأنه العقد الذي يربطه بداية مع الجمهور حين يشركهم في إبداعه الحامل في عنوانه تسمية «الفكاهي» أو «الكوميدي» كصفتين للتصنيف الذي يبني عليه الجمهور توقعه وأفق انتظاره، بمثل ما يهتدي بواسطته الكوميدي لقياس درجة نجاح عمله من عدمه.

وإذا كان الإحساس بالقلق والتوتر شيئًا عامًّا ومشتركًا بين رواد الكوميديا في السينما والمسرح، لما للجمهور من خطورة بات يستمدها فيما له من سلطة غدا يمارسها في حضوره خلال العرض الكوميدي، بشقيه المسرحي والسينمائي؛ فإن شابلن نراه حالة خاصة إلى حد ما من بين هؤلاء، ذلك أن التوتر والقلق يظلان ملازمين له في كل عرض تمهيدي أو افتتاحي جديدين لأحد أفلامه، إذ يحدثنا في هذا المجرى عما يحسه من قلق، وما ينتابه من سخط وغضب على الناس والعالم من حوله، في أثناء وجوده في إحدى هذه اللحظات الحرجة التي يمقتها، من ناحية كونها تشكل له تحديًا شاقًّا يبدو فيه كَمَنْ يجتاز امتحانًا عسيرًا.

أما المفارقة التي اندهش لها شابلن، وأزالت ما استبد به من قلق وخيم عليه من وجوم، فقد حدثت خلال لحظة جمعته بالجمهور في صالة أقيم فيها عرض الافتتاح لفلمه «الغلام» الذي أنتجه سنة (1920م)، حيث شتتوا ذهنه بتصفيقاتهم المبعثرة في بداية متابعتهم ومشاهدتهم للفلم، وهو ما أزعجه في أوان تقديمه، معتقدًا أنه سيخيب ظنهم؛ لكنهم في لحظة معينة أبدوا ردة فعل إيجابية تجاه العرض كسرت أفق انتظاره وتوقعه السلبي من جمهور غامض، لا يخلو حضوره من تأثير أصابه بارتعاب شديد بثّ في نفسه اضطرابًا، وهذا دفعه لكي يبدي شكًّا ضمنيًّا، عما تخيله سابقًا من رؤى وتصورات تخص أذواق الجمهور وانطباعاته، وعمّا كونه الجمهور بالمقابل أيضًا من مواقفه بصدد الكوميديا.

هكذا إذن، أزيل شعور شابلن بالقلق، وتحول فجأة إلى إحساس بنوع من الرضا والارتياح، خلال تفاجئه بردة الفعل الإيجابية التي انعكست على العرض، عندما أثار مشهد لافت اهتمام الحاضرين، وأدركوا معناه المفارق بفهمهم، فانفرجت له أساريرهم، ثم تفجرت ضحكاتهم، وتعالت صيحاتهم مع كل لقطة من لقطات المشهد، وهكذا استمر الضحك في المشاهد اللاحقة إلى حدود نهاية الفلم.

«الغلام» أنموذجًا لتجليات المُضحِك

شارلي-شابلن--٥إن من بين ما يثيرنا بدورنا في استرجاع حديثنا عن هذا المشهد، هو الجانب المضحك ضمنه، الذي تعد الأشياء أبرز موضوعاته الرئيسة؛ لأنها اتخذت في الفلم وضعًا غريبًا، حين استعملت عكس الدور الذي صنعت لأجله، وفي سياقات مفارقة، وهو ما أضفى على المشهد طرافة، في الوقت الذي تحوّلت فيه الأشياء إلى مثار للضحك. وفي هذا الإطار يقدم لنا شابلن صورة للأشياء التي أدت دورها بالمعكوس في مشهد وصفه قائلًا:

«تتخلى أم عن طفلها، تاركة إياه في سيارة ليموزين. ثم يأتي من يسرق السيارة ويترك الطفل في الأخير قرب مزبلة. وعندئذ أظهر في شخص شارلي. فتنفجر الضحكات، وتزداد شيئًا فشيئًا. كان المشاهدون قد فهموا المزحة! مذاك، لم يعد للأمور إلا أن تسير سيرًا حسنًا. لقد اكتشفت الطفل وتبنيته. وقد ضحك الناس حين رأوني أخترع أرجوحة نوم مكونة من قماش كيس قديم، وكانوا يصيحون ويزمجرون وهم يرونني أطعم الطفل بواسطة إبريق شاي على فمه حلمة. وانفجروا وهم يشاهدونني أحدث ثقبًا في تقشيش كرسي قديم وأضعه فوق وعاء للتبرز. وفي الواقع، لم يتوقفوا عن الضحك طيلة الفلم» (قصة حياتي).

المضحك في المشهد نابع من الطابع الخيالي الذي تم إضفاؤه على الأشياء التي جرى قلبها على عكس صورتها، ثم استعمالها في غير محلها كما هو معهود، وهو ما جعلها تتخذ وضعًا غريبًا، شوش علاقتنا بها كما شوّه صورتها الأصلية، بحكم فقدانها وظيفتها الأساسية المألوفة التي تمارسها في الواقع. وهكذا صار المشاهد ينظر إلى الكرسي وقد أحدث في وسطه ثقب، ثم أحيل في صورته إلى مرحاض، حين فقد مهمته الأصلية كشيء مخصص للجلوس والاستراحة؛ وقماش الكيس القديم تحوّل بدوره، فأصبح مكان الغطاء النقي أو المهد المريح، بوصفهما أشياء طبيعية معدة للطفل سلفًا لكي يخلد فيهما إلى الراحة والنوم الهنيء؛ أما الحَلمة فقد تغيرت صورتها لتتبدى في رأس الإبريق، كما ناب الإبريق مناب الثدي الطبيعي الذي يتغذى منه الطفل؛ وحلت المزبلة بدورها محل المستشفى أو البيت أو دار الحضانة، لأنها الأماكن الطبيعية للولادة والرعاية والتنشئة السليمة للأطفال. في حين يمثل العثور على الطفل في المزبلة شيئًا يستدعي الغرابة، ويولد في النفس إحساسًا بالامتعاض والاستهجان وعدم تقبل هذا الوضع، على رغم ما قد تحمله اللقطة من إثارة.

إلا أن هذه الإثارة ستزداد عمقًا حين يلمح المشاهد اكتشاف شارلي هذا الطفل، حيث سيكون عاملًا في إثارة مستدعيات الجمهور بشأن شخصية شارلي التي ابتكرها شابلن، والفكرة السابقة التي كوّنها عنه من خلال أفلامه الكوميدية الساخرة والمتهكمة، وهي معرفة لا تتعدى معنى كون هذه الشخصية تؤدي أدوارًا إنسانية بسيطة، لكنها ترمز في الوقت ذاته للسذاجة والبلادة والحمق والبلاهة. غير أنها بالرغم من كونها حالات ترمز للغفلة، فإن الجمهور يتقبلها من شابلن ولا ينظر إليها على أنها عيب في السلوك عندما يجسدها في قالب فكاهي؛ لأنه من جهة أولى فهم اللعبة وتوصل إلى أنها عادية في مجال التمثيل الكوميدي، ما دام الجنون والبلادة والحمق والبلاهة والغباء وغيرها، من الحالات المختلفة التي تغيب فيها جدية الإنسان واتزانه ورجاحة عقله وصرامته، المحيلة إلى عالم الآخر الهامشي، المقموع والمنسي، ليستقر عنده الفهم بالتالي أنها ليست في النهاية سوى حالات مغلفة بظلال العقل، وأنها تنطوي على مغزى ما، يحمل خطابًا مضمرًا ورسالة جدية، تختزل المعنى في صوره المتعددة وأشكاله المختلفة.

معالجة الأمور بالمقلوب

شارلي-شابلن--٤من جهة ثانية يقبلها الجمهور كذلك من شابلن؛ لأنه يأتيها بشكل طريف ومرح، ويستمتع الجمهور أكثر حينما تقدم هذه الشخصية على معالجة الأمور بالمقلوب، في نوع من السذاجة وعدم المبالاة وعدم الوعي بالمغامرة إلى حد المخاطرة بمصير الآخر؛ ونتيجة لذلك فنحن نضحك من عيوبه التي ندركها ولا يدركها هو، ونراها ولا يراها عن نفسه. يضحكنا شابلن لأن ما يقوم به من أفعال وما يزاوله من أعمال وما يسند إليه من أدوار ومهام، لا يأتيها في الغالب كما يأتيها الناس عادة على وجه سليم. فإذا دخل أحدهم من الباب خرج شابلن من النافذة، وإذا قام أحدهم جلس شابلن أو افتعل سقطة غير إرادية. السقوط والصلابة الآلية والمطاردة والركض السريع والتدحرج والدوران بصفة مستمرة، وغيرها من الحركات التي تظهر الإنسان في أوضاع غريبة، تمثل نماذج للحالات المميزة لطابع المُضحك عند شابلن. منطق شابلن في عرض المشاهد هو إظهارها بلا منطق، معكوسة ومقلوبة، شابلن يسير دائمًا عكس التيار، وحين يبادر إلى فعل ما أو أداء دور ما، فإن ذلك يصدر عنه بلا عقل أو تفكير، وأعماله في سائر أفلامه قائمة على مبدأ عدم التدبير، كأنه يقول لنا: إن التدبير السليم للأشياء في مكان آخر غير هذا؛ إنه يحثنا على إعمال الذهن لكي نفهم أفكاره، ونرتبها حتى نراها في مرآتها السليمة الصحيحة التي ينبغي أن تظهر عليها في الواقع، لا في صورتها المعكوسة المشوهة.

يهود المغرب.. وحديث الذاكرة

يهود المغرب.. وحديث الذاكرة

book-jewis-marrocصدر في الآونة الأخيرة عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط كتاب «يهود المغرب وحديث الذاكرة»، وهو من تأليف الباحث عمر بوم، أستاذ الأنثروبولوجيا والتاريخ بجامعة كاليفورنيا، ومن ترجمة خالد بن الصغير أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة محمد الخامس بالرباط. تتمركز أعمال الباحث عمر بوم واهتماماته الأكاديمية حول موضوعات الأقليات الدينية والعرقية في شمال إفريقيا والعالم العربي. وكتابه الأخير عن يهود المغرب هو في أصله أطروحة لنيل دكتوراه في التاريخ والأنثروبولوجيا، ناقشها بجامعة أريزونا سنة 2006م. واستغرقت مدة إنجاز الموضوع منه عشر سنوات من البحث الوثائقي والإثنوغرافي.

صدر كتاب يهود المغرب وحديث الذاكرة لأول مرة باللغة الإنجليزية سنة 2013م، بعنوان: Memories of Absence How Muslims remember Jews in Morocco عن منشورات جامعة ستانفورد بكاليفورنيا، ولأهمية هذا العمل قام المؤرخ الجامعي خالد بن الصغير بترجمته، وقد عرف طريقه للنشر ضمن سلسلة نصوص وأعمال مترجمة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط (موسم 2015م). وحاز جائزة المغرب للكتاب لسنة 2016م في صنف الترجمة مناصفة مع رجاء بومدين المثنى عن ترجمتها إلى الإسبانية كتاب مجنون الورد El Loco de Las Rosas، لمحمد شكري.

سبق للمؤرخ خالد بن الصغير أن ترجم كتابًا آخر عن يهود المغرب خلال القرن التاسع عشر، والذي يرصد فيه مؤلفه دانييل شروتر سيرة أسرة آل مقنين، وهي من بين أكثر الأسر التجارية اليهودية شُهرة في المغرب أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، وقد استفادت من السياسة التي نهجها السلاطين العلويون، بدءًا من المولى محمد بن عبدالله، في الاعتماد على اليهود لتمتين الأواصر بين بلدهم المغرب والعالم الأوربي. والكتاب صدر أيضًا عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 2011م بعنوان «يَهُودِيُّ السلطان: المغرب وعالم اليهود السفرد». كما أن هناك أعمالًا في غاية الأهمية لباحثين مغاربة أنجزوها عن يهود المغرب، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: كتاب يهود المغرب 1948-1912م لمحمد كنبيب (1998م)، ترجمه عن اللغة الفرنسية إدريس بنسعيد. وكتاب اليهود المغاربة من منبت الأصول إلى رياح الفرقة: قراءة في الموروث والأحداث (2009م) لأحمد شحلان.

الذاكرة والتاريخ

تتناول الدراسة الجديدة لعمر بوم، عن اليهود المغاربة وحديث الذاكرة، التي تتخذ من القرن العشرين إطارًا زمنيًّا لها، إشكالية الأقلية الدينية اليهودية في المغرب (يهود الصحراء الموجودين في أقا على وجه الخصوص) من خلال إبراز التقاطعات الموجودة بين الذاكرة والتاريخ، وذلك عبر إبراز العوامل الرئيسة المتحكمة في ذكريات المسلمين المغاربة حول اليهود الغائبين اليوم بعد هجرة معظمهم بعد استقلال المغرب سنة 1956م، متأثرين في ذلك بدعاية الحركات الصهيونية التي شجعت آنذاك اليهود على الرحيل لإقامة دولة قومية لهم في أرض فلسطين، حيث وجدت هذه الدعوات صدى لدى اليهود المغاربة الذين توجسوا خيفة من تبني الحكومة المغربية الأولى بعد الاستقلال النزعة العربية الإسلامية القائمة على تفعيل برنامج وطني للتعريب، وشرعوا تدريجيًّا في مغادرة التراب المغربي.

%d9%8a%d9%87%d9%88%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ba%d8%b1%d8%a8-%d9%a2%d9%a1ومن المعلوم أن الخلاف اشتد بشأن رحيل اليهود المغاربة إلى الأراضي الفلسطينية مع بداية الستينيات من القرن الماضي، فقد رفض حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ذلك، وانتقد مواقف الحكومة التي غضت الطرف عن هذه الهجرة، بينما هي تكرر في كل لحظة شعاراتها بشأن التضامن العربي. على حين صدرت تصريحات مضادة على لسان زعيم حزب الاستقلال علال الفاسي، إذ عبَّر عن موافقته على هجرة اليهود شريطة عدم السماح لهم بالعودة مجددًا إلى البلاد. وفي ظل هذه الأجواء المتوترة ازداد الاحتقان السياسي إثر الإعلان عن طريق الإذاعة والتلفزة بدء الحملة للتصويت على مشروع الدستور يوم 7 ديسمبر 1962م. وكان لافتًا موقف الجالية اليهودية التي دعت إلى التصويت بنعم على المقترح استجابة منها للنداء الملكي الذي أطلقه الراحل الحسن الثاني، وقد أشيع آنذاك بأن ضغوطات مورست على المسؤولين اليهود للتصويت إيجابيًّا مقابل الحصول على جوازات سفر لمغادرة المغرب.

اليوم، وقد أصبح الوجود اليهودي المكثف بالمغرب في خبر كان، ما العامل المهم المتحكم في تشكيل ذاكرة المسلمين عن هؤلاء؟ هل هو سرد الأجيال السابقة لتجاربهم المشتركة مع اليهود في السابق؟ أم أن الأحداث الجارية حاليًّا بالشرق الأوسط، وبخاصة الصراع العربي الإسرائيلي، هي التي تشكل الآراء والمواقف من اليهود وعلاقتهم بالمسلمين؟

رحلة إثنوغرافية

للإجابة عن هذه التساؤلات ينطلق الباحث عمر بوم في رحلة إثنوغرافية تاريخية للكشف عن الذكريات الخاصة بأربعة أجيال متعاقبة من المسلمين المغاربة، حول جيرانهم بالأمس من اليهود في المجتمعات الهامشية الموجودة بمناطق المغرب الجنوبية الشرقية – إقليم طاطا تحديدًا- ليكشف لنا حجم التنافر والتناقض الموجود في مواقف هؤلاء بشأن اليهود، فعلى حين يستحضر كبار السن من الأجداد، ممن عايشوا اليهود كجيران لهم، بكثير من الحزن المشوب بالحنين جراء غياب اليهود جسديًّا، وعدم وجودهم في أرض المغرب، نجد أن من هم أصغر سنًّا لا يترددون في استعمال قاموس ينهل من أساليب الفكاهة والتنكيت والتلويح بعبارات السخرية والاستهزاء، كطريقة تعبر عن احتجاجهم اليوم على الإسرائيليين واليهود بصفة عامة، والتعبير بذلك ضمنيًّا على مقاومتهم إلى أبعد حدود بوصفهم أعداء للفلسطينيين. وهؤلاء لم يسبق لهم أن التقوا أحدًا من اليهود في الداخل المغربي، لكنهم استأنسوا بوجودهم في فلسطين من خلال تغطية وسائل الإعلام المختلفة، فعبر متابعتهم لأطوار النزاع العربي الإسرائيلي، ومشاهدتهم المتكررة لمعاناة فلسطينيي الداخل والشتات، كوَّنوا صورة أخرى مختلفة عن صورة %d9%8a%d9%87%d9%88%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ba%d8%b1%d8%a8%d9%a2المسنِّين من الأجداد المغاربة، وهي ناتجة عن الخلط الواقع في ذهنهم بين اليهود المغاربة، وسياسات الكيان الصهيوني في الشرق الأوسط.

يحمل الجيل الجديد صورة مختلفة وناقصة عن اليهود المغاربة بخلاف أجدادهم ممن عاشوا جنبًا إلى جنب مع اليهود في الماضي، واختلاف التمثلات التي استقاها الباحث عمر بوم من ألسنة العيِّنات الأربع موضوع الاستجوابات الدقيقة (الأجداد الكبار – الأجداد – الآباء – الأبناء)، تمكننا من ملامسة التقاطعات بين الذاكرة المشتركة للأجيال المختلفة، وفي الوقت نفسه تبرز لنا حجم الاختلافات الناتجة عن المؤثرات الجديدة الطارئة.

لم يعتمد الباحث عمر بوم الرواية الشفوية وحدها، وإنما استثمر مجموعة من المصادر الأخرى الأساسية، ومنها المخطوطات المحلية، والرسائل والرسوم العدلية، ونصوص الرحلات الفرنسية الأولى إلى المغرب قبل الاستعمار، ومنها بالأخص: رحلة شارل دوفوكو (Reconnaissance du Maroc)، الذي قدم إلى المغرب سنة 1883-1884م، متنكرًا في زي يهودي، ليتمكن بذلك من زيارة غالبية المناطق المغربية، وقد احتفظ لنا بمعطيات مهمة عن الطائفة اليهودية بالمغرب. كما قدم رؤى عن نظرة الأجيال السابقة في المغرب لليهود، وهي المعلومات التي تحتاج إلى دراسة نقدية مستقلة مبنية على أن دوفوكو (رجل الدين المسيحي) كان منغمسًا حتى أخمص قدميه في الثقافة المعادية للسامية التي استشرت آنذاك في الأوساط الدينية والعسكرية الفرنسية. كما كان مناصرًا للسياسة الاستعمارية الكولونيالية لبلاده.

إن دراسة الثابت والمتغير في الصور المخَزَّنة في ذاكرة الأفراد المغاربة عن اليهود المحليين تمكننا من رصد وتتبع التحولات التي عرفها المجتمع المغربي في صيرورته التاريخية، فمواقف الأجيال المسلمة المعاصرة تجاه اليهود المنحدرين من أصل مغربي، مرتبطة بشكل كبير بالسياقات الدولية أكثر من ارتباطها بالسياقات المحلية والوطنية، وهو أمر يختلف عن مواقف الجيل السابق ممن عايش الحضور اليهودي في قرى مختلفة في أنحاء متعددة من جنوب شرق المغرب، وكذلك في باقي المناطق الأخرى من المملكة.

طه عبدالرحمن ورهان التأسيس لأنموذج فكري جديد

طه عبدالرحمن ورهان التأسيس لأنموذج فكري جديد

يعد المفكر المغربي طه عبدالرحمن، أحد أكبر سدنة الدرس الفلسفي المنطقي في العالم العربي، وما يرتبط به من قضايا ذات صلة بفلسفة اللغة، وقد شرع في تطوير قضايا ومحاور هذا الدرس منذ وقت مبكر، إثر التحاقه سنة 1969م بالتدريس بشعبة الفلسفة بكلية محمد الخامس للآداب والعلوم الإنسانية، وخلف طه آثارًا عظيمة، تجلو عن أصالة المجهودات التي ما انفك يبذلها بكثير من الحنكة الأكاديمية والكفاءة العلمية، توجت بإصداره مجموعة من الدراسات المهمة، التي تعبر عن قناعاته وتوجهاته واختياراته وتمثلاته لنمط القول الفلسفي الذي يدعي أن بإمكانه أن يخدم إنماءنا واستدراك ما فاتنا.

استهل طه عبدالرحمن إصداراته بمصنفه الأول سنة 1979م تحت عنوان «اللغة والفلسفة»، ثم أعقبه بإصدار ثانٍ سنة 1983م بعنوان «المنطق والنحو الصوري»، وثالث بعنوان «فقه الفلسفة»، وهو عبارة عن مشروع في جزأين، صدر منه الجزء الأول سنة 1995م بعنوان فرعي: «الفلسفة والترجمة»، والثاني بعنوان «القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأثيل»، وقد هدفت هذه الإصدارات التي شيد على أثرها طه مسيرته الفكرية، استنطاق أسس فلسفة اللغة والمنطق. ثم عرج بعد ذلك إلى التناول النقدي للأطروحات والتصورات السائدة في الفكر الفلسفي المغربي والعربي ككل، مفصحًا عن توجهه الفكري، المؤسس على تجربة روحية تنهل من المبادئ الأخلاقية التخلقية، وذلك في إصداراته الموسومة بـ «في أصول الحوار وتجديد علم الكلام» (1987م)، و«العمل الديني وتجديد العقل» (1989م)، ثم «تجديد المنهج في تقديم التراث» (1994م). وتصنف بقية إصدارات طه ضمن مقولة «الائتمان»، وتدخل فيها مجموعة من الدراسات التي أصدرها طه تباعًا في هذا المجال.

نقد تيارات التقليد والحداثة

إن هذه المصنفات التي خطها طه عبد الرحمن بكثير من الحنكة والدقة، إنما تجلو عن مشروع فكري ضخم، يتغيا نقد تيارات التقليد والحداثة في الفكر المغربي والعربي، سعيًا منه إلى تحقيق نوع من الاستقلال الفلسفي المبدع، ينهل من تجربة روحية عقدية، تربط صفاء السريرة بالعقل العملي الصوفي، على أن هذا الأخير هو وحده من يستطيع أن يمنح للذات ما يهبها الرضا والقرب من طبيعة الإنسان ومعنى العالم وحقيقة الله. وهو مشروع سيكتشف المطلع عليه، أنه أمام جهد نظري كبير، جهد يعتني، كما قال المفكر كمال عبداللطيف، «بالكلمات والعبارات كما يعتني بالمفاهيم والتصورات، مستوعبًا خاصية الدقة والتدقيق باعتبارها لازمة أساسية في الكتابة الفلسفية، وذلك من أجل مقالة واضحة المعالم، وعبارة مسبوكة بكثير من العناية». (كمال عبداللطيف، أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب، المركز الثقافي العربي).

يضعنا مشروع طه، أمام براديغم أو أنموذج إرشادي، يهدف إلى إعادة النظر في متخيلنا الاجتماعي، وفي القضايا التي يخوض فيها الفكر العربي المعاصر، ويعرف طه عبدالرحمن بهذا البراديغم أو الأنموذج في كتابه بؤس الدهرانية، إذ يقول: «نستعمل (الأنموذج) هاهنا بمعنى غير (النموذج)، ولو أنهما مشتقان من أصل لغوي واحد، فـ(النموذج) عبارة عن (المثال) بمعنى (الطراز)، ومقابله الإنجليزي هو Model أو Pattern، في حين نقصد بـ(الأنموذج)، على وجه الإجمال، منهجية متبعة ورؤية محددة للعالم، فمثلا نظرية نيوتن في الجاذبية أنموذج، ونظرية أينشتاين في النسبية أنموذج آخر، ومقابله الإنجليزي هو Paradigme (طه عبدالرحمن، بؤس الدهرانية: النقد الائتماني للفصل بين الأخلاق والدين، الشبكة العربية للأبحاث والنشر). إنه أنموذج مؤسس على قناعة ذاتية عميقة تخص تجربة طه الإيمانية، وقائم على ترسانة نظرية ومفاهيمية سميكة، تحاجج من أجل سلامة هذه التجربة، وتبرهن على نجاعتها وصدقها وإمكانيات تعميمها خدمة لتصور معين للعالم وللزمان.

bb-001

الخيوط الكبرى الناظمة

يصعب على القارئ مسايرة المشروع «الطاهائي»، من دون إدراكه للخيوط الكبرى الناظمة للأنموذج الذي يتأسس عليه، ولعل ذلك ما حدا بالدكتور رضوان مرحوم إلى القول في التقديم الذي خصه لكتاب طه المعنون بـ(سؤال المنهج في أفق التأسيس لأنموذج فكري جديد): «ولما كان الحديث عن (أنموذج النظر) ينبني على منهجية غير مسبوقة، ويؤسس نمطًا معرفيًّا متميزًا – أي جملة من الصور والنظريات والمفاهيم والمسلمات والأحكام والأدلة التي تنبني عليها المعرفة الإنسانية في مدة معينة – لزم التطرق إلى (الأطر المفاهيمية) التي تلزم عن استعمال هذه المنهجية باعتبارها توجه النظر وترشده إلى تحصيل مطلوبه». ومن ثم فإن قارئ المشروع مطالب حسب رضوان مرحوم، بإدراك ترسانة كبيرة من المفاهيم المنهجية التي تشكل معجمًا اصطلاحيًّا خاصًّا بفكر طه عبدالرحمن، وهذه المفاهيم هي:

• «المنهجية التكاملية»: تقويم التراث الإسلامي العربي لا يصح إلا بفقه المنهاج التكاملي الخاص بهذا التراث، يرى طه أن تحقيق الإبداع الذي يوصلنا إلى التحرر الفكري لا يتم إلا بواسطة استخراج المنهجية التي نظّر لها من تقدّمنا من النظار المسلمين ممن حافظ على الخصوصية التداولية لثقافته الإسلامية الأصلية، وكرس في كتاباته استقلالية عقل المسلم، وهذه المنهجية المستنبطة من التراث ينبغي إعمالها عند تقويم عطاء المتقدمين في مختلف المجالات التي خاضوا فيها بنظرهم، وهو الأمر الذي يوجب الابتعاد عن الأحكام المتسرعة والدعاوى الأيديولوجية التي أطلقها بعض من خاض في تقويم التراث، لأن التمكن من وسائل النظر في التراث يتقدم طلب المعرفة بمضامين هذا التراث.

• «المنهجية التداولية»: تقويم العمل الفلسفي لا يتوصل إليه إلا بفقه آليات التداول الخاصة بالفيلسوف، إذا كان للتراث الإسلامي إبداعه الذي يميزه ويتفرد به عن باقي الإنتاجات الثقافية الأخرى، فإن للتراث الغربي (اليوناني والأوربي) إبداعه الخاص به، ومن منطلق الدعوة إلى التعارف التي تقتضي الانفتاح المعرفي والتلاقح الفكري بين الأمم، فإن استكشاف «المنهجية الفلسفية» التي اتبعتها ثقافة الغرب لإنتاج نموذجها الخاص في إبداع قولها الفلسفي يكون شرطًا ضروريًّا لاستئناف مسيرتنا الفلسفية الإبداعية بعد عصر الانحطاط، من هنا دعوة طه إلى النظر في الصنعة الفلسفية الغربية من منطلق علمي، لا فلسفي، حتى نتمكن من الدخول إلى مصنع الفيلسوف وهو يضع ترجمته لنصوص غيره من الفلاسفة، ويبدع مفهومه، ويضع تعريفه، ويبني دليله، ويسلك وفق مقتضيات قوله الفلسفي، لهذا، يتعين التعامل مع مشروع «فقه الفلسفة» بوصفه جهدًا نظريًّا ينبغي أن تضطلع به أجيال مجتمعة من الباحثين والمفكرين، من أجل استكشاف المنهجية التي صيغت بها الفلسفة عند العرب، وذلك بقصد استعمالها بما يتناسب مع مقتضياتنا التداولية في تحصيل أسباب الإبداع.

• «المنهجية الحجاجية»: التقويم المنطقي للتراث الإسلامي والخطاب الفلسفي لا يصح إلا بقانون المنطق الحجاجي، ذلك أن المنهجية التي تم استمدادها من التراث الإسلامي واستكشافها في الفلسفة الغربية لها أيضًا شرائط منطقية، ومقتضيات حجاجية، فيكون النهوض بإمكانياتنا الفكرية، واستئناف عطائنا الإبداعي محتاجًا، لكي يحيط بتمام عرضه، إلى تحصيل قوانين هذه المنهجية، واستعمالها عند صياغة نظرياتنا الفكرية. (طه عبدالرحمن، سؤال المنهج في أفق التأسيس لأنموذج فكري جديد، المؤسسة العربية للفكر والإبداع).

أخيرًا، يركن المشروع الطاهائي إلى ممارسة نوع من النقد الصوفي للحداثة، ويلجأ من أجل ذلك في أحايين عديدة، إلى توظيف لغة دعوية تقليدية محافظة، ليبرز بذلك جاهلية وبهيمية ومادية الحضارة المعاصرة، حضارة الحداثة والتقنية، وهذا ما يبعد طه عبدالرحمن كما يقول كمال عبداللطيف، عن الطموح الذي أعلن عنه.