الأساطير المؤسسة لـ«الإسلام السياسي».. عبادة الماضي وتكفير المجتمع والبحث عن الإمبراطورية المفقودة

الأساطير المؤسسة لـ«الإسلام السياسي».. عبادة الماضي وتكفير المجتمع والبحث عن الإمبراطورية المفقودة

تتقدم جماعات الإسلام السياسي الأحزاب والتنظيمات السياسية، في استدراج جموع غفيرة من الناس واستقطابهم، ولم يعد تجاهل تأثيرها البالغ في الأوساط السياسية العربية والإسلامية خافيًا على أحد. هذا الأمر يدفع إلى تفكيك خطاب هذه الجماعات وطرح عدد من الأسئلة الشائكة حول مقولات هذا الخطاب ومداميكه الأساسية. وبحسب بعض الباحثين فإن جماعات الإسلام السياسي تنطلق في عملها من مجموعة مقولات، لا يمكن تحققها في الواقع، ويصفها بعضهم بالأساطير، بداية في الحث على قتال المخالفين تحت عناوين «الفريضة الغائبة – والميتة الجاهلية» وصولا إلى أن المجتمع كافر وفي حالة جاهلية كما كان المجتمع المكي في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا بد من هجرته كما هاجر الرسول من مكة، إلى حين إعداد العدة والعودة لفتحه كما فتحه الرسول صلى الله عليه وسلم قديمًا.

هذه المقولات والتمثلات التاريخية، في رأي مهتمين بفكر هذه الجماعات، جعلت فكرهم أشبه بالأفكار الرومانسية الساذجة، وطبعت كل أفعالهم بنوع من السطحية سواء في قراءة النصوص أو تأويلها، ومن ثم الاستنتاجات المترتبة على ذلك، وهكذا في نهاية المطاف يقف الدارس أمام خطابات زائفة ومعادية للواقع وداعية في جملتها للانتحار الإنساني، إلا أنها من ناحية أخرى، جعلت من اختراق المجتمع والتلاعب بعواطفه ووجدانه هدفًا سهلًا لهذه الجماعات. يرى الراحل الدكتور محمد حافظ دياب في كتابه «سيد قطب.. الخطاب والأيديولوجيا» أن الخطاب لدى الجماعات الإسلامية يمارس قطيعته في صوغ أفكار ومفاهيم وفرضيات لا تقبل الجدال، فرضيات يكرسها ابتعاده كخطاب عن المنظومات المعرفية كافة، ورفضه الاعتراف بحجية أو شرعية مبادئها. ومن اللافت بقاء المعنى في فضائه الرمزي غير قابل للتجزئة أو الاقتحام أو التعيين (المنهج هو الإسلام، الأمة دار تحكمها العقيدة، الحاكمية لله، المجتمعات المعاصرة كلها جاهلية، البعث لن يتم إلا عن طريق عصبة مؤمنة).

تطرح «الفيصل» أسئلة حول هذه الأساطير أو المقولات التي يتأسس عليها ما يسمى جماعات الإسلام السياسي، وإلى أي حد هذه المقولات بعيدة من الواقع؟ وكيف يتم التسليم بها من شرائح واسعة في المجتمع؟ وإلامَ تسعى هذه الجماعات من خلالها؟ في محاولة لفهم هذه القضية، بوصفها شاغلًا رئيسًا لعدد من البلدان العربية.

عبدالمنعم الأعسم: الفشل والاستحالة

عبدالمنعم الأعسم

تنطلق جماعات الإسلام السياسي من اختزال التاريخ إلى مقولات انتقائية عن «التفويض» بحيث تعطي لنفسها الحق المطلق في تقرير مصاير الإسلام والمسلمين، كما تحتكر الفتوى فيما يتعلق بهوية الدولة التي تتطلع إلى إقامتها على أساس ديني، وتنأى عن كل مجادلة مع غيرها من التيارات المجتمعية. علينا دائمًا الأخذ في الاعتبار الفشل الذي واجهه قادة الحركة الإسلامية الباكستانية بعد الاستقلال عن الهند وإصرارهم على إقامة نظام ديني، وقد اعتقلت السلطاتُ أربعةً من كبار أولئك القادة، وفي المحكمة وجَّه قاضي المحكمة لهم سؤالًا عن شكل النظام الديني الذي يعتقدون أنه ملائم لباكستان، فكانوا مختلفين فيما بينهم في الإجابات اختلافًا هائلًا.

وإذ تجد جماعات الإسلام السياسي نفسها في استحالة إخضاع الواقع إلى الوصفة التي يسعون إلى فرضها على دولهم؛ فإنهم يلجؤون إلى اللاعقل في حساب تناسب التصورات مع احتياجات التنمية، ووضع الثروات قيد خطط واقعية، إنهم يجهلون دور القوى الذاتية في التنمية، وكيفية التعامل مع تلك القوى بما يجعلها ضامنة للمواكبة، وبناء اقتصاديات التنافس، ومواجهة شروط سباق السوق المحموم نحو الربح. بل إنهم يؤمنون بمعادلات غامضة ومضطربة لعملية تحقيق الأرباح وفق منظر الإسلام المسيّس. فمن جهة يناهضون منطق الربح كآلية اقتصادية رأسمالية، ومن جهة ثانية يضعون كل ثقلهم في عمليات تؤدي إلى الربح لكن عبر سلسلة من الإجراءات الشكلية التي تعطيها طابعًا دينيًّا تقليديًّا.

أما في السياسة فقد ارتكبت جماعات الإسلام السياسي شنائع في التنظير والممارسة والتطبيق لإنتاج قواعد للتطرف، عبر القفز فوق الحقائق الجديدة للعصر، وأهمها بطلان الحاجة إلى استخدام القوة والعنف في مواجهة المشكلات بين الدول، وأحلت مفهومًا غريبًا لـ«الجهاد» لا يعترف بحدود وسيادات الدول، ولا بحق الشعوب في اختيار الحكم الذي يناسبها، وبلغ الأمر بها أنْ كفّرت أُممًا وشعوبًا وحكومات، وفرضت عليها توصيفات من خارج قواعد المعاهدات والمواثيق الدولية.

كاتب وباحث عراقي

عمار علي حسن: رومانسية الرؤية والخيال

هناك العديد من الأفكار الفاسدة التي قامت عليها الجماعات الإسلامية، وذلك نظرًا لقراءتهم للتاريخ والأحداث بشكل خاطئ، فضلًا عن معاكستهم لمنطق الحياة، فبدلًا من السير إلى الأمام، يسيرون إلى الخلف، ومنطلقاتهم أسطورية بالفعل؛ إذ إنها تتمتع بمنطق رومانسي في الرؤية والخيال، فضلًا عن استحالة استحضار الماضي، فما بالنا بأن هذا الماضي لم يكن موجودًا، بل إنه لا يزيد على كونه نوعًا من الخيال في التدوين التاريخي، وذلك لأنه يخالف الطبيعة البشرية، أو يفوق قدرتها على الاحتمال، ولا ينطبق عليه مبدأ ابن خلدون في نقد التدوين التاريخي، هذا المبدأ القائل بقياس الشاهد على الغائب، أي أننا نقيس الأمور على قدر وطاقة الإنسان الحالي، فإن كان يحتمله فما قيل في الماضي محتمل، وإن كان بمقدور الإنسان أن يفعله، فبمقدور أهل الماضي أن يفعلوه، أما إن استحال ذلك فهو ضرب من الخيال، ومن ثم فالعديد من أفكار ومنطلقات الجماعات الإسلامية هي من قبيل الأساطير والأوهام.

عمار علي حسن

الأفكار والمنطلقات الفاسدة لدى الجماعات الإسلامية؛ أولها الشكل الإمبراطوري لتاريخ المسلمين، والتعامل مع الخلافة بوصفها فريضة غائبة ويجب إعادتها، وثاني هذه الأفكار هو تقسيم العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب، أما المقولة الثالثة فهي اعتقاد كل جماعة منهم أنها تشكل صحيح الإسلام، ورابع أفكارهم الفاسدة هو الإسلام المخترع، أو ما يعرف بتاريخ المجتمعات الإسلامية، والاعتقاد بأن هذا التاريخ هو صحيح الدين، وخامسها هو الاعتقاد بأن المسلمين أفضل من غيرهم، وهو أسطورة يشترك فيها أصحاب الديانات الثلاث. فاليهود يقولون: إنهم شعب الله المختار، والمسيحيون يقولون: إنهم ملح الأرض ونور العالم، والمسلمون يقولون: إنهم خير أمة أُخرجت للناس، وهذا الاشتراك يدلنا على مدى أسطورية ورومانسية الفكرة، فكل أصحاب أي دين يسعون لتفضيل أنفسهم على الآخرين، جاعلين منهجهم هو الأصوب والأهم والأفضل، وما انسحب على فكرة اعتقاد كل جماعة داخلية أنها الوحيدة التي على صحيح الدين، ومثلما كفر كل أصحاب دين غيرهم، فقد كفرت كل فرقة غيرها، انطلاقًا من أن كل الفرق في النار وأن ثمة فرقةً واحدة هي الناجية.

الإيمان بالحتمية التاريخية إحدى الأفكار الأسطورية الفاسدة التي اخترعها الإسلام السياسي، وهم لا يختلفون فيها عن الشيوعيين الذين قالوا بحتمية ثورة البروليتاريا وقيام الدولة الشيوعية العظمى، وكذلك قال الليبراليون بنهاية التاريخ، وأن ما وصلت إليه الحضارة الغربية الآن هو نهاية التطور البشري، وكذلك قالت الجماعات الإسلامية بأن النصر حليفهم في النهاية، وأنهم سيعيدون إقامة المجتمع الإسلامي من جديد، فهو كفرَ وضلَّ وأَصبح بحاجة إلى إعادة فتحٍ مثلما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة. ومن ثم فقد عاشوا في الماضي، وتصوروا أن خطى التاريخ تسير نحو الانتصار الحتمي للخلف وليس للأمام، حيث يمكن استعادة التاريخ القديم، ومن ثم استعادة العالم الإسلامي، انطلاقًا من أن الحضارة العربية لم تقم إلا لأن السلف كانوا متمسكين بدينهم، وإذا تمسكنا بالدين وتمثلنا بمقولاتهم فإننا سوف ننهض ونقيم أمجاد الأمة وحضارتها من جديد.

باحث في شؤون الإسلام السياسي

قاسم الخطيب: مصطلح مسيء للإسلام

قاسم الخطيب

مصطلح «الإسلام السياسي» في حد ذاته كلمة مسيئة للإسلام، وقد خرجت في سوريا المظاهرات الشعبية العارمة من المساجد والجوامع والجامعات هاتفة بشعار «الحرية والمواطنة والمدنية ودولة القانون»، هؤلاء هم الثوار الباحثون عن التغيير السلمي والوصول إلى دولة عصرية جديدة لا مكان فيها للطائفيين والحاقدين والعنصريين. من أوجد داعش السنية هو نفسه من أوجد داعش الشيعية. وفي المحصلة اعتُقل طلاب الحرية وأُودعوا سجون الظلم والظلامية. ونحن دومًا نعوّل على توجهات أهل الثورة المدنيين الديمقراطيين التعدديين وهم الأغلبية بالمناسبة. ونتحدث بلسان حالهم، بل نمثلهم إذا تطلب الأمر؛ لأننا طلاب سلامٍ واستقرار وخلاص، ولسنا دعاة جهادٍ، وحق الدفاع عن النفس مشروع، وأقرَّته المواثيق الدولية، ناهيك عن الديانات السماوية كلها.

عضو الأمانة العامة لتيار الغد السوري

محمود إسماعيل: الحاكمية ورومانسية إحياء الماضي

أصحاب اليوتوبيات ينطلقون دائمًا من الواقع إلى رحاب اليوتوبيا، وهكذا فعلت جماعات الإسلام السياسي ومفكروها وتابعوها، ومن ثم فهم يعيشون في عالم غير الذي نعيش فيه، فهم ماضويون سلفيون، يريدون إحياء الماضي لإلباسه ثياب المستقبل، والأمر الأكثر شناعة هو أن الماضي الذي ينطلقون إليه ليعيشوا فيه لا يعرفونه، ولا يعرفون صحيح الدعوة من الأساس. الحاكمية مبدأ أكثر رومانسية من كل المبادئ، ففيه يذهبون إلى أنه لا حكم إلا لله، وعلينا أن نسأل أنفسنا عن النصوص الواضحة التي وردت فيها أحكام الله، وماذا عمّا لم يرد فيه نص واضح وصحيح؛ هل تتوقف الحياة أم نجتهد؟ وحين نجتهد فنحن نعمل بحاكمية الله أم أننا خرجنا عليها؟ وإذا كنا نعمل بها، فلِمَ نعطِّلها في أمور ونسيِّرها في أخرى؟ وكان الأشاعرة هم الذين ينطلقون من هذا المبدأ، ومن ثم كان ابن رشد يسميهم السفسطائيون.

محمود إسماعيل

توجد ضرورة لتجديد الفكر الديني وليس الخطاب الديني فقط؛ لأنه لا قيمة لخطاب لا تنطبق لغته على مضمونه ومغزاه. وإذا ما جرى تجديد الفكر يتجدد الخطاب تلقائيًّا، ثمة التباس في مفهوم مصطلحي «التجديد» و«الإصلاح»، فالتجديد لا يمس ثوابت العقيدة، بقدر ما يعني تجديد الشريعة، وذلك عبر تجديد علم أصول الفقه. لقد أسهم علماء أصول الفقه القدامى بجهد كبير في وضع أصول هذا العلم وقواعده، تلك القواعد هي التي يلتزم بها المشرِّع في استنباط الأحكام، ومن ثم فمن الضرورة تجديد تلك القواعد من خلال معطيات الواقع المتغير دومًا، وذلك عن طريق المراجعة والحذف والإضافة؛ كي يتسق مع الواقع الذي يتعامل معه. وهو ما جعل التجديد ضرورة عملية نصّ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة مَن يجدِّد لها دينها».
أما «الإصلاح» فيعني أن أمرًا ما قد اعوجّ، ومن ثم تدعو الحاجة إلى تقويمه بإعادته إلى سابق وجوده. هذا من حيث اللغة، أما من حيث المعنى «التاريخي» فالأمر أكبر من تقويم المعوجّ؛ ذلك أن حركة الإصلاح الديني في أوربا استهدفت إلغاء الأفكار والمفاسد التى عجت بها تفاسير اللاهوتيين برمتها لأمور العقيدة والشريعة في آنٍ. فالحركة البروتستانتية لم تكن مجرد إصلاح بقدر ما كانت ثورة على اللاهوت برمّته، وذلك بالعودة مباشرة إلى الكتاب المقدس، وهدم الفكر الكنسي برمته.

باحث مصري

سعادة أبو عراق: مصر أصل الشجرة

سعادة أبو عراق

أولًا- بعد أن أرسى رفاعة الطهطاوي أفكارًا حديثة في معنى الدولة والمجتمع، وراحت مصر تتجه نحو الدولة الحديثة في التصنيع والتقدم، وأصبحت جاذبة لكل المتنورين من العرب والمسلمين مثل: جورجي زيدان، والأفغاني، والكواكبي، ومحمد رشيد رضا وغيرهم، قبيل استعمارها عام 1882م، لم يكن الأزهريون قد تنبهوا إلى هذا التقدم في المجتمع، في المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية والدينية، هنا شعر الأزهريون أن البساط قد سحب من تحت أرجلهم.

ثانيًا- لم يستطع الأزهريون أن يتفهموا المرحلة، فبدلًا من أن يسيروا معها ويطوروا مناهجهم الفكرية، راحوا يقاومون هذه التغريب الفكري، لا من خلال فكر مضاد، بل رفض مطلق لما جاء به الغرب، على أنه تشبه بالكفار.

ثالثًا- أنشئت جماعة الإخوان المسلمين التي كان دورها هو مقاومة التحديث، من خلال شتم وتسخيف كل من أسهم في تحديث مصر من أدباء وعلماء وسياسيين وفنانين وغيرهم، انظر كتاب الدكتور محمد محمد حسين «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر». ولكنه لم يذكر عملًا جديرًا قام به الإسلاميون.

رابعًا- حينما اجتذب حسن البنا أعدادًا كبيرة من الإخوان، أصبح لهم قوة يجب استعمالها فاغتالوا النقراشي، وهنا تحولت الجماعة إلى حزب سياسي.

خامسًا- لكنهم كانوا يفتقدون إلى شخصية كاريزمية سياسية تجمع الناس وتقيم دولة، وهذا أبقاهم خارج الفعل السياسي؛ لذلك راحوا ينادون بدولة إسلامية يقيمونها بأنفسهم.

سادسًا- يعتقدون أن دولة الخلافة الإسلامية بنيت على الإسلام، لذلك يجب إعادة التاريخ وبناء دولة على الإسلام، ولم يعلموا أن الدول مرتبطة بالزمان والمكان وليس بالتاريخ.

سابعًا- لم يقنعنا سيد قطب بضرورة بناء دولة إسلامية، فهل الإسلام مزيف في مصر؟ لذلك راح يقول بجاهلية القرن العشرين، وهو كلام من السهل تفنيده.

ثامنًا- يتمسكون بارتباط الدين بالسياسة طمعًا في أن يكون الحاكم من الإسلاميين، فإن اعتقدوا بفصل الدين عن الدولة فمعنى ذلك أن يزاحمهم على السلطة آخرون، ومن هنا كانت معاداتهم للعلمانية.

تاسعًا- أساليب تفكيرهم القديمة تعتمد على النقل، لذلك لم يكن خطابهم يرتقي للطبقة المتعلمة الواعية؛ لأنهم لا يملكون مفكرين، بل شيوخ جوامع يتوجهون إلى طبقة العامة.

عاشرًا: استثمروا حب الناس وتوقيرهم الموروث لرجال الدين، ليَحتَموا به من الانتقادات التي توجه إليهم على أنها انتقاد للدين ذاته.

حادي عشر: استثمروا كره الشعوب العربية للحكام الانقلابيين، ليطرحوا أنفسهم بديلًا لهؤلاء، ويقولوا: جربونا فقد جربتم كل الأطياف.

هذه الأفكار الساذجة غير المدروسة جعلت من السهل إنشاء حركات إسلامية ممولة من الخارج؛ لتدمير الدول العربية مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا باسم الإسلام.

باحث عراقي في شؤون جماعات الإسلام السياسي

شريف يونس: الإمبراطورية المفقودة

شريف يونس

كل مقولات وأفكار الإسلام السياسي تنطلق من أسطورة واحدة، وهي فكرة الإمبراطورية الموعودة من قبل الله لهم، والأمر يتوقف لديهم على السعي لإقامة هذه الإمبراطورية من خلال تنفيذ الأجندة نفسها التي قام بها السلف الصالح، فتحققت لديهم إمبراطوريتهم القديمة التي تمثلت في الخلافات سواء الرشيدة أو الأموية أو العباسية أو حتى العثمانية، فإذا التزموا بهذه الأجندة فسوف تستعاد تلك الإمبراطورية المفقودة منذ زمن العباسيين.

الرومانسية التي يتمتع بها الإسلاميون تهيئ لهم الأمر على أن العرب هم العالم، في حين أن تعداد المنطقة العربية كلها يُراوِح ما بين 300 مليون إلى 350 مليونًا، بينما تعداد الصين وحدها 1.4 مليار نسمة، والهند 1.1 مليار نسمة، وأميركا 350 مليونًا، ودخل المنطقة العربية كلها بما فيها من بترول وثروات أخرى لا يزيد على دخل بلد كفرنسا. الموضوع بالفعل رومانسي كثيرًا، ولا ينظر بواقعية إلى موازين القوى التي بيننا وبين المراكز الأخرى من العالم. مشكلة الإسلاميين أنهم اعتبروا الدين هو واعد بالإمبراطورية، ومن ثم فتدينهم وخطابهم وكل ما لديهم من أساطير ومنطلقات إنما جاءت لخدمة هذا الغرض.

باحث مصري في علم الاجتماع السياسي

رفعت السعيد: أساطير البنا

رفعت السعيد

المشكلة الحقيقية هي أن جماعات التأسلم السياسي تحاول أن تعطي أفعالها وآراءها نوعًا من الأسطورية التي تجعل التابعين لها مؤمنين بها ومصدقين بكل ما يقوله رؤساؤها، فحسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين أحاط نفسه من اليوم الأول بهالة لا تصلح إلا للأنبياء، فقد ذكر أن والده قال له: (فلينجينك الله يا ولدي، إذ تركتك أمك وعادت لتجد أفعى كبيرة تنام على صدرك لتحميك، وعندما سقطتَ من الدور الثالث سقطتَ في بركة من الطمي اللين كي ينجيك الله). هكذا أحاط البنا نفسه بهالة وقداسة ونوعٍ من النذر الإلهي على نحو ما يحدث في الأساطير الإغريقية، وذلك ليقنع أتباعه أنه مشمول بالرضا الإلهي والإيمان الرباني، ومن ثم فقد قارنوا الأفغاني بالبنا قائلين: إن الأفغاني كان مؤذنًا، في حين أن البنا كان منبهًا عن حقيقة الإسلام. وظلوا يؤكدون على أن البنا شيء كبير حباه الله ما لم يعطه الآخرين. البنا حينما كان يريد أن يخدع المحيطين به فإنه كان يخدعهم بأكاذيب ترتدي ثيابًا دينية، فهو عمل لحساب هتلر وتلقى دعمًا منه ثلاث مرات، وكان في كل مرة يتقاضى خمسمئة جنيه، وهذا مثبت في وثائق وزارة الخارجية البريطانية الموضوعة في المتحف البريطاني، وحين سأله أتباعه عن ذلك قال لهم: لقد علمت أن ألمانيا وإيطاليا واليابان قررت أن تتجه إلى الإسلام، وأصبحت تدرس اللغة العربية كلغة رسمية، ومن ثم كتب إلى رؤساء هذه البلدان لتفهمهم طبيعة الإسلام. ومن أجل هذا سرت شائعة بأن هتلر أَسلمَ وأصبح اسمه محمد هتلر، وحين نجا من محاولة اغتيال قيل: إن الله قد نجاه لأنه آمن به وبكتبه.

والذي يؤكد هذه المقولة هو أن الله ناصر عباده، ومن ثم فإن الله سينصرهم قطعًا، ولك أن تتخيل أن صالح سرية في السبعينيات شكَّل تنظيمًا من 16 طالبًا (تخيل 16 طالبًا) وقرر أن يقوم بانقلاب أو ثورة على نظام السادات، وذلك انطلاقًا من أنه كم من فئة قليلة هزمت فئة كثيرة بإذن الله، وبالتالي جلس فكتب البيان الذي سيذيعه بعد أن يستولي على السلطة. وشكري مصطفى مؤسس التكفير والهجرة وقف أمام القاضي قائلًا: إنه سيقتله برصاصة في عينه اليسرى؛ لأن العين اليمنى مسلمة ولا يجوز إهانتها، وكان يرى أن المطبعة كفر؛ لأنها من عمل الكفار، ومن ثم كان يصرّ على كتابة كتبه ومقالاته بخط اليد، ويجعل الآيات بالزعفران والحبر الأحمر، بينما كلامه هو بالحبر الأسود، ولكن حين قرر اغتيال الشيخ الذهبي قتله بمسدس من صنع الكفرة وأدوات الكفرة، انطلاقًا من «وأعدُّوا لهم ما استطعتم». وحين قُبض عليه ودخل غرفة الإعدام جاءه شيخ ليُلقِّنه الشهادة حسب ما هو معتاد ومعمول به، فقال له الشيخ: اطلب من الله المغفرة، فرد عليه: اطلب منه أنت أيها الشيخ الكافر، أما أنا فعاصفة ربي ستأتي لتنجيني.

صالح سرية وشكري مصطفى هما الامتداد الحقيقي لسيد قطب، وحين تقرأ التحقيقات في اغتيال السادات تجد نفسك أمام أناس تتعامل بسذاجة نادرة، فحين قرر خالد الإسلامبولي قتل السادات أرسل طالبًا الإذن من عبود الزمر، فرفض الأخير قائلًا: إنهم لو قُبض عليهم سوف يجرون الجميع إلى الهاوية، لكن محمد عبدالسلام فرج قال له: إن الأمن سواء نجح الأمر أو فشل سوف يقتلونهم، ومن ثم سوف تختفي كل الخيوط المؤدية إلينا معهم، فوافقه الزمر، لكن رغم نجاح العملية ومقتل السادات لم يقتلهم الأمن، وقُبض عليهم، واعترفوا بكل شيء.

الرئيس السابق لحزب التجمع المصري

(أدلى بهذا الحديث لـ«الفيصل» قبيل رحيله)

أحمد زايد: الأساطير الخمس

أحمد زايد

الإسلام السياسي في شكل عام لديه خمس أساطير أساسية، أولها: تقديس الماضي، فمن المعروف أن التاريخ هو الخلفية التي يتربع عليها الحاضر الذي نعيش فيه، وينبني عليها المستقبل، ومن المعروف أيضًا أن أهم خصائص الحداثة هي الانعكاسية أو نقد المجتمع من أجل التوجه نحو المستقبل، لكن الإسلاميين قاموا بتقديم انعكاسية ماضوية، فأداروا ظهورهم للمستقبل وتوجهوا للسلف، وقد قمت بتحليل لمجموعة من الخطب فوجدت أن 85% منها يتحدث عن الآخرة، و15% عن الحياة الدنيا: 10% منها لا تتناول الدنيا بشكل مباشر، بل على النقيض أحيانًا يكون ساخرًا.

الأسطورة الثانية: الانتقائية التاريخية؛ إذ إنهم يصورون التاريخ على أنه مجموعة من الأبطال والانتصارات، أي أنه لا يوجد به هزائم ولا انكسارات، ويصورون مجتمع المدينة على أنه حالة من الوئام والمحبة والمثالية الزائدة والدائمة، وهذا منافٍ للطبيعة البشرية القائمة على الصراع، ورغم أن القرآن تمتع بالشفافية؛ إذ جاءت فيه إشارات إلى العديد من المواقف والصراعات، فإنهم لا يرون ذلك ويعتّمون عليه.

أما الأسطورة الثالثة: فهي استدعاء الكاريزما الفردية، مثل: عمر بن الخطاب، وعمر بن عبدالعزيز وغيرهما، وهذا الأمر على هذا النحو منافٍ لطبيعة الكاريزما في العصر الحديث حيث التجاور والتعدد والبطولة الجماعية، إلا أنهم لا يعترفون بذلك.

أما الأسطورة الرابعة: فإنهم يتجاوزون الوطن ومفهوم الدولة الوطنية إلى ما فوق الدولة الوطنية، حيث الدولة الإسلامية أو الخلافة أو غير ذلك، رغم أنه من المعروف أن المجتمعات المعاصرة تقوم على مفهوم الدولة الوطنية، وأن مفهوم الإمبراطوريات ذهب بغير رجعة، وأن النظام القائم هو الاتحادات المكونة من مجموعة دول وطنية تجمعها مصالح معينة. وقد دعا أبو الأعلى المودودي إلى فكرة الجامعة الإسلامية، تلك التي تسربت إلى كتابات سيد قطب وتلامذته أو تابعيه في صورة مفاهيم مشابهة.

أما الأسطورة الخامسة: فهي الآخر، هذا الذي ازداد وتعدد وتوسع مفهومه، لينتقل من الآخر البعيد مكانيًّا وزمانيًّا، إلى الآخر القريب المختلف فكريًّا أو أيديولوجيا، هكذا وجدنا الآخرين صاروا كُثرًا، وصارت نظرية المؤامرة هي العامل الحاسم، وبالتالي سيادة التقسيم والتمييز بين معسكر الإسلام ومعسكر الكفر الذي يشمل كل من ليس معهم.

باحث مصري وأستاذ في علم الاجتماع

ليست منظمة دينية ولا سياسية ولهذا خسرت في الحقلين

سليمان الضحيان – كاتب سعودي

سليمان الضحيان

أوضح الكاتب السعودي الدكتور سليمان الضحيان أنه لا يمكن فهم «جماعة الإخوان المسلمين»: «من دون إعادة قراءة تاريخ نشأتها، ففي بداية القرن العشرين كانت السلطة العثمانية تطرح نفسها خلافة إسلامية جامعة، وحامية للدين ومُـحكِّمة له، لكنها ما لبثت أن سقطت في نهاية الربع الأول من القرن العشرين ثم ألغيت الخلافة العثمانية، وقامت على أنقاضها دول قطرية تحت مظلة الاستعمار الغربي مع استبعاد الدين في تنظيم الدولة، وهنا شعرت النخب المتدينة بفراغ هائل، فلأول مرة في التاريخ الإسلامي يخلو الفضاء الإسلامي من أمرين؛ الأمر الأول: وجود سلطة سياسية جامعة ينضوي تحتها المسلمون، والأمر الثاني: غياب المشروعية الدينية للحكومات الناشئة، ومحصل هذين الأمرين غيابُ «الخلافة الجامعة»، و«غيابُ حاكمية الدين»، ومن هنا برزت محاولات إعادة هذين الأمرين، ومن تلك المحاولات قيام حسن البنا بتأسيس «جماعة الإخوان المسلمين»؛ وملخص مشروع جماعة الإخوان هدفه إعادة ذَيْنِكَ الأمرين: «الخلافة الإسلامية» و«حاكمية الدين»، ولا يمكن فهم حركة الإخوان والحركات الإسلامية التي خرجت من عباءتها بمعزل عن هذين الهدفين».

ويقول الضحيان: «ولأنها نشأت في بدايات صعود التنظيمات اليسارية فقد تأثرت بها في شكلها التنظيمي الهرمي المكون من خلايا حزبية متسلسلة، والالتزام الحزبي الصارم، والطاعة العمياء الشبيهة بالانضباط العسكري، والرؤية الأُممية لمشروعها الذي يجب أن يشمل العالم كله، والرؤية الشمولية في مشروعها الفكري والسياسي؛ إذ طرحت نفسها حركة شمولية تسعى لإصلاح (الدين وفهمه، والتربية والتعليم، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع)، ومحصل ذلك كله أن «جماعة الإخوان» محكومة بتلك الرؤية والأهداف منذ نشأتها إلى اليوم؛ هدف إعادة الخلافة، وهدف إعادة حاكمية الدين، والرؤية الشمولية في رؤيتها للإصلاح، ولقد ساهم هدفها إلى إعادة الخلافة الإسلامية في تكوين نظرتها ونظرة منتسبيها إلى السلطات والنخب السياسية المخالفة لها في كل العالم الإسلامي على أنها سلطات ونخب طارئة، وغريبة على الأمة، وغير معبرة عن إرادتها، وأن الواقع السياسي برمته من صنع الجاهلية، ولا إصلاح إلا بالبديل الجذري لكل الواقع السياسي». ويشير إلى أنها لهذا السبب «فهي تطرح نفسها على أنها بديل حضاري جذري يسعى لكنس الواقع السياسي بكل ما فيه من حكومات، وتيارات، ورموز، ومؤسسات لا تتفق معها، وهذا ما يفسر اتساع الجبهة المناوئة لجماعة الإخوان؛ إذ لا يعقل أن يقف خصومها في المجال السياسي موقف المتفرج، وهم يرونها تسعى لإلغائهم الجذري من الواقع السياسي».

ويرى الضحيان أن هذه الجماعة «تنتهج البراغماتية السياسية بكل ما فيها من انتهازية وتخلٍّ عن المبادئ الدينية ما دامت في صالح الجماعة»، في سبيل تحقيق مشروعها السياسي «إقامة الحاكمية»: «ولهذا فهي في سبيل مصلحتها السياسية تغض الطرف عن علاقات حلفائها مثل قطر وتركيا مع إسرائيل، ووجود قاعدة أميركية في قطر فيها 11 ألف أميركي ما بين عسكري وموظف مدني، ومنها انطلقت الطائرات الأميركية لقصف الجيش العراقي في بدء احتلال أميركا للعراق، وقصف حركة طالبان في أفغانستان، ومنها تنطلق الطائرات بدون طيار التي تلاحق أعضاء القاعدة في أفغانستان واليمن، وقد قتلت أكثر من 9 آلاف مدني مسلم، منهم الأطفال والنساء في أفغانستان واليمن في إصابات خاطئة أثارت ردود فعل كبيرة في الداخل الأميركي».

ويقول: «في مشروعها الديني «إعادة حاكمية الدين» طرحت نفسها على أنها ممثلة للدين، وكل خصومة معها هي خصومة للدين، وفرض عليها ذلك التعامل بالأدوات الدينية في الحقل السياسي، واستعارة قاموس «التضليل»، و«التكفير» للفرقاء السياسيين، ورفعت شعاراتها ورموزها السياسيين إلى مستوى التزكية الدينية، وجعلتهم فوق مستوى النقد، وفسرت إخفاقاتها السياسية بتفسيرات دينية كالابتلاء الرباني، والتمحيص الإلهي للصفوف، وهذا ما حصَّن زعماءها من أي مساءلة من المنتسبين للحركة نفسها في حالة الإخفاق. وهكذا فالجماعة في سبيل تحقيق هدفها بإقامة الخلافة وإعادة حاكمية الدين خلطت بين العمل الديني والعمل السياسي، فهي تتحصن بالدين من أي نقد يوجه إليها في ممارساتها السياسية؛ إذ تفسره ماكينتها الإعلامية على أنه هجوم على الدين ومعاداة للدعوة الإسلامية كما حدث في قضية عزل الرئيس المصري مرسي المنتمي إليها، إذ صَوَّرتْ ماكينتها الإعلامية أحداث عزله على أنها معركة بين الحق الباطل. وفي الوقت نفسه تتحصن بالرؤية السياسية، وأن المصلحة السياسية تملي عليها اتخاذ بعض المواقف حين يوجه إليها نقد ديني من خصومها السلفيين بسبب بعض مواقفها الدينية.
ومحصل هذا كله أنها ليست منظمة دينية خالصة تتعامل بأدوات الحقل الديني، وتلتزم بأدبيات الدين في مواقفها ورؤاها، وليست بمنظمة سياسية خالصة تتعامل بأدوات الحقل السياسي التي تفرضها البراغماتية السياسية في تكوين علاقاتها بالأوساط المحلية والإقليمية العالمية، وبهذا خسرت دينيًّا لدى جمهرة عريضة من المتدينين، وخسرت سياسيًّا لدى العاملين في الحقل السياسي من أحزاب ومنظمات المجتمع المدني في مصر وكثير من البلدان العربية.

نصير شمة: طرائق الأداء تمكننا  أن نستشف أسلوبية  كل مُلحن أو عازف

نصير شمة: طرائق الأداء تمكننا أن نستشف أسلوبية كل مُلحن أو عازف

نال الموسيقي العراقي نصير شمة مؤخرًا درجة الماجستير عن دراسة بعنوان: «الأسلوبية موسيقيًّا»، وما دفعه إلى هذه الدراسة عدم وجود أسلوبية في الموسيقا كما هي في الأدب. ويقول شمة في حوار مع «الفيصل»: إن هناك أدوات وطرائق أداء يمكننا من خلالها أن نستشف أسلوبية كل ملحن أو عازف. وأوضح أنه خلال البحث والدراسة استطاع الوصول إلى عالم جديد، يمكنه من تفسير كثير من الأمور في عالم الموسيقا. ويعد نصير شمة العود الآلة الأولى والأهم في تاريخ حضارتي العراق ووادي النيل، من هنا كان لا بد أن يقيم من أجله كيانًا يهتمّ به وبعازفيه، مشيرًا إلى أنه في زمن هارون الرشيد كان المعهد به 40 طالبًا، «فهل من المعقول بعد ألف سنة لا نستطيع أن نصنع شيئًا يوازي هذه التجربة؟»، إلى نص الحوار:

لكل فنان أو كاتب أسلوبه، لكننا في الكتابة يمكننا أن نرصد من طرائق تركيب المفردات والجمل أسلوب كل كاتب أو شاعر، فكيف يجري ذلك في عالم الموسيقا؟

■ يحدث ذلك لكل ملحن أو عازف أو مؤلف موسيقي، وقد شرحت الأمر بتفصيل واضح داخل البحث، فهناك أدوات وطرائق أداء يمكننا من خلالها أن نستشف أسلوبية كل ملحن أو عازف، ففي الشعر لدى كل شاعر معجمه الشعري، وهناك شاعر معرفته موسوعية أكثر من آخر، وفي الأسلوبية الأدبية نقيس مفردات الكاتب وموسوعيته واستخداماته لحروف وكلمات أكثر من غيرها، ومدى استخدامه للمواربة والتصريح والتخييل، في الموسيقا أيضًا نقيس اختلاف الهارموني وشدته ومدى التلوين بالأداء في نبرات الأصوات لدى العازف، أو ضربات أنامله للبيانو، أو طريقة استخدامه للأيدي في التآلفات الجديدة.

لدينا في الموسيقا مجموعة من السلالم الموسيقية، كل سلم يجري التعامل معه بطريقة مختلفة، ومن ثم فإننا نتأمل كيف تعامل معه ملحن كبير مثل: رياض السنباطي أو محمد عبدالوهاب أو ناظم الغزالي، وندرس كيف تعامل كل منهم مع نفس المقام، ونستشف أسلوبيته من خلال تلك الفروقات البسيطة بين كل ملحن وآخر، يمكننا أيضًا أن نتعرف من خلال اللحن وطريقة أدائه على ثقافة وقدرة الملحن أو العازف من خلال توافق الأصوات، حيث إنه يسبغ على لحنه دون أن يدري ثقافته وألوانه الجديدة، في البحث وضعنا مجموعة من المقاييس، من خلالها يتضح لنا قدرة كل مؤلف على التمايز عن غيره، في مقدمة هذه المجموعة الثقافة التي ستنعكس على العمل الموسيقي، فمثلما تسُر الموسيقا كل سامع لها، فإنها تعكس مدى سعة اطلاع مؤلفها، هذا الذي يمكنه أن يأتي من شيء صغير بعمل كبير وفريد، كضربات القدر لبيتهوفن، تلك التي استوحاها من مجيء الشحاذين ليقرعوا باب بيته، فاختار إيقاعيتها من طريقة طرقهم الأبواب، هذه السيمفونية التي تعددت الروايات فيمن استوحى بيتهوفن موسيقاها منه، قال البعض: من شعوره بتزايد ضعف سمعه يومًا عن الآخر، وقال البعض الآخر: من حلم راوده، لكنني أميل إلى رواية الطرق على الأبواب.

ما الذي ألهمك فكرة تقديم دراسة أسلوبية في الموسيقا؟

■ من سنوات بعيدة أهداني الناقد الدكتور صلاح فضل كتابه عن الأسلوبية، وما إن شرعت في قراءته حتى شعرت أن الأسلوبية في الأدب عمل محكم وواضح، وتساءلت لماذا لا يجري ذلك لدينا في الموسيقا، فنحن نتحدث عن ملحن أو مؤلف ما بأنه شاطر أو ناجح من دون أن نعرف لماذا، حين بدأت في تأمل الأمر تأكد لي أنه لا بد من دراسة الأسلوبية موسيقيًّا، فبدأت أستنبط لماذا السنباطي عظيم في هذا وهذا، ولماذا عبدالوهاب كبير وعبقري في هذا، وبدأت أطوّر الأمر لمعرفة كيف أتى عبدالوهاب بهذه الجملة، ولماذا فعل السنباطي هذا ولم يفعل هذا، هكذا بدأ البحث.

هل الدرجة العلمية التي حصلت عليها نهاية المطاف أم إنه بداية طريق أكاديمي جديد؟

■ من خلال البحث والدراسة استطعت الوصول إلى عالم جديد، يمكنني أن أفسر من خلاله كثيرًا من الأمور في عالم الموسيقا، قبل منحي الدرجة الأكاديمية كنت أتحدث في أمور نظرية، وبعد أن أقر الرسالة أساتذة كبار مشهود لهم بالعلم والأستاذية في مجالات الفن والأدب والأسلوبية وتاريخ الموسيقا، صار الأمر الآن يستهويني لأن أكمل، وأن أبحر في مزيد من أعماقه، فالرسالة ستطبع في كتاب بالمجلس الأعلى للثقافة في مصر، وكنت حريصًا على أن تكون بلا زيادات، فحذفت منها أكثر من أربعين صفحة قبل المناقشة، فما لا يعود منها بالإضافة إلى النظرية الأسلوبية فلا أهمية لوجوده بها، وقد قال عنها الدكتور صلاح فضل: «أنا وزملائي نعمل في الأسلوبية منذ أربعين عامًا ولم نضف جديدًا، ولكن أنت بضربة ريشة أضفت الجديد والكثير». بالتأكيد سأكمل دراساتي في هذا الموضوع، علمًا بأن الشهادة لم تكن هدفًا لي، ولن أقدمها إلى أي مكان، ولن أحتاجها في شيء، لكنها كانت الفكرة.

في المناقشة اختلفت معك الدكتورة إيناس عبدالدايم حول مصطلح موسيقا الميكروباص الذي استخدمته للتدليل على أسلوبية الموسيقا الشعبية الراهنة، فكيف ترى واقع الموسيقا الآن في العالم العربي؟

نصير شمه يشهد حفل أوركسترا بيت العود العربي

جوابي للدكتورة إيناس كان أن علماء الاجتماع يدرسون هذه الظواهر، ولماذا وصلت إلى هذا المنحدر، ففي السبعينيات حين ظهر مطربون شعبيون حدثت ضجة عظيمة، لكننا الآن صرنا نرى ما قدمه هؤلاء المطربون في السبعينيات أعمالًا فنية مهمة إلى جانب ما يحدث الآن، ومصطلح الميكروباص لست صاحبه، لكن هكذا يستخدمه الناس.

ما رأيك في أغاني المهرجانات وما وصلت إليه؟

هناك مهرجانات قدمت فنًّا حقيقيًّا، هذه المهرجانات أحدثت حالة من التوازن، فعلى الأقل أصحاب الذوق الموسيقي يجدون من خلالها مساحة يستمتعون فيها بالموسيقا الراقية، وأعتقد أن مهرجان الموسيقا العربية الذي كانت تشرف عليه الدكتورة رتيبة الحفني قدم كثيرًا من التقاليد المهمة لتلك المهرجانات، ومن الصعب تغيير هذه التقاليد.

اختلفت مع الدكتور صلاح فضل رئيس لجنة المناقشة حول مصطلح التناص، فهل كنت مدفوعًا بتجريم أي محاولة لتضمين جمل موسيقية بطرائق غير مشروعه؟

■ هناك قانون لحقوق الملكية الفكرية لا يسمح باقتباس أكثر من أربعة موازير، أكثر من ذلك يصبح سرقة، ومن ثم أردت أن أفرق بين التناص والاقتباس وبين السرقات الفنية.

كنت أول من أقام بيتًا لآلة موسيقية وهي العود، فلماذا العود تحديدًا؟ ولِمَ سعيت إلى نقله إلى عدد من الأقطار العربية؟

لأنه الآلة الأولى والأهم في تاريخ حضارتي العراق ووادي النيل، وكان لا بد أن يقام من أجله كيان يهتم به وبعازفيه، ففي زمن هارون الرشيد كان المعهد به 40 طالبًا، فهل من المعقول بعد ألف سنة لا نستطيع أن نصنع شيئًا يوازي هذه التجربة.

قدمت في العود إضافة مهمة عبر تطويره بوصفه آلة موسيقية، فما القدرات الصوتية التي أتاحها ذلك التطوير للعود؟

■ التطوير جعل للعود صوتًا موازيًا للآلات العالمية المعروفة، حيث إن صناعة هذه الأدوات عالميًّا يجري على أسس علمية ومعروفة، وأخشابها تختار بطريقة علمية، وتعالج بطريقة علمية، وكان لا بد أن يجري هذا الأمر مع العود، بما يجعله آلة نابضة وحية وذات صوت لا يقل في جودته عن الأصوات العالمية الأخرى.

هناك تطوير على مستوى الأوتار؟

■ نعم العود المثمن، وقد كانت فكرته ورسمه في إحدى مخطوطات الفارابي، لكن الفارابيين يقفون ضد أي شيء يخص الفارابي، وكان من الممكن أن أنسبه لنفسي، وقد قدمته لأكثر من دولة في العالم، ولاقى نجاحًا رائعًا، ويأتينا طلاب من مختلف البلدان لدراسته والعزف عليه.

كيف تنظر الآن لما يجري في العراق؟

■ العراق الآن ملعب كبير لدول وأجهزة كثيرة نتيجة الغباء الأميركي في سياسته مع العراق، فقد ترك العراق لقمة سائغة لدول الجوار، هذا أحدث ذعرًا في مفاصل الدولة العراقية وكيانها، وجعلهم يعاملون العراق كمطبخ خلفي لمشكلاتهم، تعرف أن «داعش» ما جاءت من فراغ، وكل دولة لها داعش خاص بها، لكن الآن استطاع العراق أن يقضي عليها، إلا أن العراق الآن مليء بالقتلى والجرحى والثكلى واليتامى، ولا بد من البحث عن السلام، وإرساء مبدأ نبذ العنف.

الشارقة تنتصر للقوة الناعمة.. وتتوج عاصمة عالمية للكتاب

الشارقة تنتصر للقوة الناعمة.. وتتوج عاصمة عالمية للكتاب

في الوقت الذي يراهن فيه بعض البلدان والدول على توسيع النفوذ عبر الانتشار العسكري والحربي في محيطيها الإقليمي والدولي، فإن بعضها الآخر يراهن على ما يعرف بالقوة الناعمة، حيث الانتشار الثقافي الذي يسيطر على العقول أكثر من الأبدان، ويبدو أن هذه كانت إستراتيجية إمارة الشارقة العقود الأخيرة؛ إذ انتقلت فيها الشارقة من إمارة صغيرة على تخوم الصحراء العربية الكبرى إلى منارة ثقافية استحقت التكريم أربع مرات، فهي فازت بأربعة ألقاب ثقافية مهمة على الأصعدة المحلية والدولية، فقد نالت عام 1998م لقب عاصمة الثقافة العربية، ثم عاصمة الثقافة الإسلامية عام 2014م، ثم عاصمة السياحة العربية عام 2015م، وأخيرًا حصلت على لقب عاصمة عالمية للكتاب عام 2019م، بعدما أقرت لجنة اختيار العواصم العالمية للكتاب بمنظمة اليونسكو المشروع الذي تقدمت به الشارقة.

جاء هذا الاختيار تتويجًا لجهود الشارقة الثقافية في الداخل وفي الخارج، فقد تعدت الجوائز وسلاسل الكتب التي تقوم بإصدارها أو منحها، وارتبط كثير من المثقفين العرب بتلك المدينة التي لا يعرف عنها أكثر من إنتاجها الثقافي، حتى إن معرض كتاب الشارقة أصبح سوقًا كبيرة للثقافة، ومنتدى عظيمًا لتلاقي المثقفين، لكن هل كانت هذه الأسباب وحدها هي العامل الحاسم في تتويج الشارقة باللقب؟ وكيف يمكن استثمار الحدث في الترويج للثقافة العربية، والكتاب والمبدع العربيين على مستوى العالم؟ وما مقترحات المثقفين العرب كي يكون الحدث شأنًا عربيًّا ككل، وليس احتفالًا خاصًّا بمدينة واحدة؟ «الفيصل» وجهت هذه الأسئلة إلى عدد من الكتاب العرب.

الخروج على المركزية الأوربية

يقول الناقد المصري جابر عصفور: «حين علمت باختيار منظمة اليونسكو لمدينة الشارقة كي تكون عاصمة عالمية للكتاب عام 2019م لم أُصَبْ باندهاش، وبدا عليّ أنني متوقع لمثل هذا الخبر المهم، فإمارة الشارقة مهتمة بالثقافة منذ أن تولى سلطان القاسمي الحكم فيها، فهو رجل مبدع، له أعمال مسرحية مهمة، وما رأيته في زيارتي للشارقة من اهتمام رفيع بالثقافة يجعلني أؤكد أن هذا الاختيار صائب إلى أبعد حد، فالشارقة بالقياس إلى مختلف المدن في البلدان العربية أكثرها اهتمامًا بالثقافة على مختلف المستويات والأجيال، وتفوُّق الشارقة ثقافيًّا يمد بقية البلدان العربية بالدعم الثقافي والفني، ويحملها مسؤولية أمام الجميع في هذا التوجه، فمثلما كانت القاهرة تقوم بهذا الدور في الماضي، فعلى الشارقة أن تقوم بدورها الآن». ويضيف عصفور أنه «علينا نحن أيضًا أن نتعلم الدرس، ونسعى لاتخاذ المسارات التي من شأنها أن تجعلنا ننهض ثقافيًّا بما يتوازى مع قدرنا وقيمتنا التاريخية والمعرفية، ولو كان لي أن أقدم نصيحة، فإنني أرى أنه لا بد من استثمار هذا الحدث بشكل طيب بالنسبة للثقافة العربية ككل؛ إذ يجب عقد حوارات ثقافية كبرى وموسعة مع الكتاب العرب من مختلف البلدان والأعمار ومع كتاب مهمين من مختلف بلدان العالم، وبخاصة من آسيا وأميركا اللاتينية، فالأدب والفن يوجدان في هذه المناطق الآن أكثر مما يوجدان في المركزية الأوربية؛ لذا علينا أن نغامر ونتعرف إلى العالم خارج المركزية الأوربية».

اقرأ.. أنت في الشارقة

الشاعر والمترجم الفلسطيني محمد حلمي الريشة يوضح أن اختيار الشارقة عاصمة عالمية للكتاب جاء بناءً «على توصية من اللجنة الاستشارية التي اجتمعت في مقر الاتحاد الدولي لجمعيات ومؤسسات المكتبات في لاهاي، وبخاصة أنها حملت على عاتقها مسؤولية جسيمة؛ هي مسؤولية التثقيف الواعي عن طريق القراءة، الذي شمل برنامجها الهادف، الحامل شعار «اقرأ.. أنت في الشارقة»، بمحاوره الراقية وعناصره الستة: التضامن، والقراءة الحثيثة والمستدامة، والتراث العربي، والتوعية التثقيفية، والنشر، وأدب الأطفال». ويقول: «مما يشرّف، أيضًا، ما تناهى إلى العالم أن الشارقة ستطلق «مدينة الشارقة للنشر»، وهي مخصَّصة بالكامل للنشر والطباعة؛ حيث ستكون الأنموذج الأول من نوعه بالمنطقة المصممة خاصة لتلبية احتياجات الشركات والمؤسسات العاملة في مجال النشر. فالثقافة هوية، ونحن كفاعلين وكمثقفين بكل اتجاهاتنا الفكرية والإبداعية، بحاجة ماسة إلى هذا الحراك الثقافي شديد الأهمية، بقدر ما هو تشريف للثقافة العربية ولهويتنا كعرب. هو سمعة ثقافية اتساقًا مع مفهوم الإبداع الإنساني، وبخاصة العربي منه؛ سيكون منجزًا رياديًّا في العالم العربي بتوثيقه للدراسات وللعطاء الفكري الخلاق». ويلفت إلى أن الشارقة، بكل إطلالاتها السابقة التي تجلت بمنتدياتها الثقافية وباتحادات كتابها وبجوائزها التحفيزية، «سعت دائمًا لترسيخ الهوية العربية من خلال القراءة؛ فالثقافة أولًا رؤية لها دوافعها ودواعيها الحضارية لمسايرة الركب الفكري العالمي، وبذلك هي تقبُّل للآخر؛ لاختلاف طرق تفكيره، ومناقشته، وسبر غور حرفه، لإدراك أن الثقافة هي منظومة من القيم الإنسانية الفكرية الكينونية، وتحليق في مساحات الإبداع والجمال الروحي والفكري والعقلي التعقُّلي الهادف لبناء صرح ما بين فكر وآخرَ، لاستشراف مستقبل ثابت الخطى، وازن متَّزن، هو زرع قيم عليا من خلال حوار ثقافي حضاري متمكن من آليات العمل الثقافي الذي تقدمت به الشارقة من خلال ملف ترشيحها؛ إذ هو دليل انتماء للحضارة الكونية العالمية، وإثبات هوية، وإصرار أكيد على النهوض من بوتقة الحزن التي انغرست بها الروح العربية، وقبلها العقل العربي، وكادت تقضي على طموحه، حيث ستقيه الخذلان والتقوقع حول ذاته مستسلمًا لخساراته المتتالية؛ كي لا يموت المبدع قهرًا، فتُسلب هويته، وتُزهق مرة تلو أخرى».

جائزة عربية عالمية

أما الروائي السعودي فهد العتيق فيرى أن عمل مدينة الشارقة الثقافي والأدبي والفني المبدع «كان يتميز في السنوات العشرين الماضية بجدية ثقافية وصدق فني من دون ضجيج إعلامي مبالغ فيه، وهذا جعلها تقدم قيمًا ثقافية وأدبية وفنية رفيعة مكنها من استحقاق عاصمة العالم للكتاب عام 2019م. ومن وجهة نظر شخصية أرى أن الشارقة هي مدينة الثقافة والفن والأدب في العالم العربي من دون منازع، هي مدينة الإبداع الثقافي بشكل عام، هي كذلك بشكل تلقائي وبهدوء ومن دون قرارات رسمية ومن دون مبالغات إعلامية، وهذه التلقائية الثقافية كانت من أهم سماتها الجدية والمثابرة والاستمرارية والروح العالية من أجل أهداف ثقافية كبيرة هي في النهاية في مصلحة الشعب العربي الكبير». ويذكر العتيق أن هذه الجدية والروح الإبداعية المتجددة كل يوم وليس كل عام، «حوّلت المناسبات الثقافية من موسمية إلى مناسبات متواصلة على مدار العام، وهذه هي الثقافة الحقيقية حين تكون ممارسة يومية وليست موسمية فقط. في الشارقة على سبيل المثال معارض للكتب للكبار والصغار، ومهرجانات للشعر والسرد والموسيقا والسينما والتراث؛ معارض منوعة للكتب، ومعارض منوعة للفن التشكيلي، وملتقى الشارقة للمسرح العربي، وجائزة الشارقة للإبداع العربي، وبينالي الشارقة. هذه جهود كبيرة قامت بها هذه العاصمة منذ عقود طويلة بكل مثابرة وإخلاص، ونرجو أن تحذو المدن العربية حذو هذه المدينة في الإخلاص للثقافة والفنون وخدمتها يوميًّا وليس موسميًّا بكل صدق وإبداع».

عائد ثقافي كبير

بدور سلطان القاسمي
رئيسة لجنة ملف
«الشارقة عاصمة عالمية للكتاب»

في حين يقول الروائي والناشر الأردني إلياس فركوح: إنه بناءً على البرامج التي وضعتها الجهات الحكومية في الشارقة، «ذات الصلة بالثقافة وبالتالي بالكتاب، وشرعت بتنفيذ خطواتها من أجل تعميم ثقافة القراءة بتوفير الكتاب مجانًا لطلبة المدارس، بكافة مراتبهم العُمْرية، وفرز اللجان المختصة بالاختيارات الملائمة لكل مرحلة ومواءمتها لمستوى النضج؛ أقول: بناءً على هذا المشروع الواضح في هدفه من جهة، والقابل للتطبيق العملي من حيث وفرة التمويل المالي من جهة ثانية، وتجييش لجان مختصة للعمل على إنجاز خطواته المتدرجة مرحلة مرحلة من جهة ثالثة؛ فإني أرى في هذا الأمر عائدًا ثقافيًّا على المدى القصير والطويل. عائدًا يشمل جميع فئات المجتمع المستهدفة بهذا المشروع الذي آمل في استمراره على نحو إستراتيجي». ويقول أيضًا: أما أن نأمل في ترويج الكتاب العربي من خلال هذا الاختيار؛ فلن أضحك على نفسي، أو أخدعها – إذ أقول بصراحة ومن غير حَرَج: إذا لم تبدأ بقية المدن العربية وعواصمها، أسوة بما تفعله الشارقة، بالالتفات إلى الكتاب بوصفه عنصرًا أساسيًّا ومؤسسًا لأجيال قادمة تأخذ بالكتاب منارة وعي جديد، من أجل فضاءات اجتماعية ذات طموحات جديدة مغايرة لحزمة «الأوهام» التي عشناها وسط فوضى المفاهيم؛ فلسوف تتحوّل إلى مجرد «صرخة في العراء!».

بمثابة معرض فرانكفورت

الروائي المصري أشرف أبو اليزيد يذكر أنه في فضاء الثقافة «ينظر المبدعون بتوجه شديد لمفردة «سلعة» كأن تسليع الثقافة جريمة، أو امتهان، أو حط من قدر الإبداع، وهي نظرة غير مكتملة؛ لأن أحد شروط الإبداع هو الاستمرارية، وهي –خاصة- تتحقق حين يستمر دعمها، وإثراء دورتها الاقتصادية، فتجد المسارح من يدخلها، وتعثر المنتجات الموسيقية على مشترين، وتجد الكتب من يبحث عنها ويدفع من أجل اقتنائها. الكتاب كمحتوى قبل الطبع هو فكرة في الأدراج، لكنه حين يُطبع يتحول إلى سلعة ثقافية، تحتاج إلى سوق مناسبة، يستطيع فيها الأطراف جميعًا؛ المؤلف (المنتِج) ودور النشر (الوسيط الإنتاجي) والمتلقي إكمال تلك الدورة بنجاح. قد ازدهرت في العقد الأخير المعارض العصرية التي استقبلتها عواصم الثقافة في الخليج العربي، وأصبحت سوقًا حية للكتاب، وتضاعفت فعالياتها الموازية لتتحول إلى حدث ثقافي محرك وفاعل للمستقبل، وارتبطت بمواعيد معارض الكتب الدولية مسابقات ومؤتمرات، وتحولت تلك المعارض إلى مناسبات حقيقية للعرس الثقافي. من هنا أنظر إلى اختيار الشارقة عاصمة عالمية للكتاب عام 2019م كمحصلة بدهية؛ لأن البنية التحتية استطاعت أن تدعم الفكرة، واستقطب التنافس القادرين على الفوز، ضمن شروط محددة، ولا يفوز تاريخ بثقل الماضي وحده، بل بالقدرة على التجديد كمبدع، أرى أنها فرصة لا تقل أهمية عن تخصيص معرض فرانكفورت قبل سنوات موسمه للأدب العربي، فالسوق المنفتحة على الآخر تقدم رياحًا يجب على أشرعتنا أن تستفيد من قوتها، وأن نبتعد من الفرح بالشكل وحسب، بل نسأل سؤالًا واحدًا: ماذا نريد لكي نروج لمنتجنا الإبداعي؟ هنا تتعدد الإجابات، وتنشط الخطط، وتتضافر الجهود من أجل قوة دفع تتجاوز 2019م لأعوام بعدها، وربما لعقود، إذا أحسنّا الاستعداد والتنفيذ والمشاركة.

نعيم «البيست سيلر» وجحيمه، الكتب الأكثر رواجًا.. ظاهرة فعلية أم تضليل بهدف التسويق؟

نعيم «البيست سيلر» وجحيمه، الكتب الأكثر رواجًا.. ظاهرة فعلية أم تضليل بهدف التسويق؟

لوقت طويل ظلت أعمال فاروق جويدة ونزار قباني وأنيس منصور ومصطفى محمود وغيرهم تتصدر الأعمال المعروضة في المكتبات ولدى بائعي الجرائد، لكن ما يباع أعداده محدودة. أما الثقافة العربية مع ظهور ثورة الاتصالات الحديثة فقد دخلت مضمار الأكثر مبيعًا، فصرنا نجد أعمالًا تنفد طبعتها الخامسة سريعًا، ونرى كُتابًا توزع أعمالهم ما لم توزعه أعمال عميد الأدب العربي أو صاحب نوبل في الأدب، في حين يصبح كُتاب آخرون قادمون من حقول مثل موسيقا الراب نجومًا في الأدب، مثلما حدث مع الشاب زاب ثروت في معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2015م في حفلة توقيع روايته «حبيبتي»، فقد أتى جمهوره ومحبوه من الشباب إلى أرض المعارض كي يوقع لهم على نسخ بخطه، فأصبح نجم الأدب الأول في مصر لذلك العام، على الرغم من أن عمله يفتقد أبسط قواعد اللغة وبناء الجملة ورصد المشهد، لكنه الأكثر توزيعًا وتفاعلًا مع الجمهور.

ولأن هذه الظاهرة متعددة الملامح والجوانب، وتتخطى سلبياتها، مثلما يرى بعض المتخصصين، إيجابياتها، تطرح «الفيصل» هذه الظاهرة التي أصبحت تعرف بـ«البيست سيلر» للنقاش مع عدد من المهتمين.

صلاح السروي

في البداية، يؤكد رئيس قسم اللغة العربية بجامعة حلوان الناقد الدكتور صلاح السروي أن ما يعرف بأدب «البيست سيلر» أمر واقع وليس خيالًا، وأن هذه النوع من الكتابة «يقوم على أن يقدم الكاتب نوعًا أو وعيًا أدبيًّا يستهوي فئة معينة من الجمهور، ومن ثم فهو أدب مصنوع أو مصطنع حسب مقاسات الطلب، لذلك نجده يضرب في مجالات بعينها كالسخرية أو الميتافيزيقا والأساطير أو الحب الرومانسي… إلخ، ونموذجه الأبرز هو هاري بوتر في الغرب وروايات أحمد مراد لدينا». ويرى السروي أن «البيست سيلر» نوع من الأدب «لا يحمل مغامرة جمالية أو إبداعية من أي نوع، إنما يتحرك في المناطق المعبدة الجاهزة مثل الروايات البوليسية أو الجاسوسية أو الجنسية، وهذا النوع من الكتابة يشبه سينما الشباك والأغاني الباحثة عن النجاح الجماهيري بصرف النظر عن القيمة الفنية، وعلى كل فهو أدب لا يصمد أمام أي نقد أدبي محايد أو رصين».

موت الناقد

في حين يذهب الشاعر محمد سليمان إلى أن ظاهرة «البيست سيلر» في السنوات الأخيرة «لم تعد حقيقية، وعلينا أن نراجع في ذلك كتاب «موت الناقد» الصادر عن المركز القومي للترجمة، الذي يذهب فيه مؤلفه إلى أنه في حال تحدث إعلامي واحد في برنامجه عن كتاب ما فإن هذا الكتاب يتصدر قائمة الأكثر مبيعًا، ومن ثم فنحن نعيش في عصر الشاشة، هذا العصر الذي يروج لأي سلعة ويقدمها إلى الجمهور على أنها الأفضل، ومن ثم يتم توزيعها على مستويات واسعة وعديدة».

ويضيف صاحب ديوان «سليمان الملك» قائلًا: «علينا أن نتذكر أن كاتبًا بحجم نجيب محفوظ كانت أعماله تطبع في عدد محدود من النسخ، وهو كاتب أجمع الكل على أنه كبير ومؤسس حقيقي لفن الرواية في العالم العربي، وأنه ظل عاكفًا على إنتاج الروائع المهمة والشهيرة على مدار خمسين عامًا من العمل الثقافي الإبداعي، أما اليوم فإننا نجد أعمالًا لكُتاب لم نسمع بهم من قبل، توزع أرقامًا لم يحلم بها نجيب محفوظ نفسه، وعلى افتراض أنها أعمال مهمة فإن هناك أعمالًا أكثر أهمية منها عشرات المرات ولا توزع سوى نسخ محدودة، ومن ثم فالأمر يتعلق بمسألة الترويج والإعلام، سواء من خلال الصحف والمواقع وما بها من تقارير صحافية أو من خلال القنوات التلفزيونية، هذا سر الأكثر مبيعًا والأكثر توزيعًا وغيرهما من الأسماء التي لا علاقة لها بالأدب الحقيقي ولا إنتاجه الفاعل».

سعيد نوح

أما الكاتب سعيد نوح فيعد «البيست سيلر» نوعًا من الوهم، موضحًا أنه على مدار السنوات الماضية «ظهرت بعض الحقائق فيما يخص هذه الظاهرة، من بينها ما جاء في كتاب «فوديكا» للكاتب أشرف عبدالشافي، الذي رصد فيه العديد من الأعمال الروائية التي طبعها الناشرون في طبعات محدود، كل طبعة منها لا تزيد عن مئة أو مئتي نسخة، مسابقين الزمن للإعلان عن نفاد الطبعة، وبلغ الأمر ببعض الكتاب والناشرين أن أعلنوا عن صدور الطبعة الرابعة أو الخامسة من أعمال لم تصدر بعد».

حسن داود والأسواني و«ميرامار»

وأكد صاحب رواية «كلما رأيت بنتًا حلوة أقول يا سعاد» على أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، ضاربًا المثل في ذلك بنجيب محفوظ، «فقد كان محاطًا بعشرات الكتاب الأكثر شهرة منه، لكنهم جميعًا ذهبوا ولم يبق سواه؛ لأنه كان صاحب كتابة حقيقية وجادة، أما الكتابة التي بلا أخلاق ولا معرفة فلا تبقى؛ لأنها لا تقدم ظلًّا لبني آدم واحد على الأرض، لا تقدم رؤية ولا شخوصًا ولا رائحة لمكان. الكاتب اللبناني حسن داود قال في تصريح له: إن الكاتب المصري علاء الأسواني سرق روايته الشهيرة «عمارة يعقوبيان» من فكرة روايته «بناية ماتيلدا»، والحقيقة أن الأسواني وداود أخذا فكرة روايتيهما من رواية نجيب «ميرامار»، فكلاهما مدان بالاعتذار له، وهو ما يؤكد أن الكتابة الخالدة تنتصر وتعيش وتبقى لتنفع الناس، على نقيض «عمارة يعقوبيان» التي لم يعد أحد يتذكرها بعد موت النائب البرلماني العتيد كمال الشاذلي، أو الفولي حسبما أطلق عليه الأسواني في روايته».

أحمد أبو خنيجر

ويذهب نوح إلى أنه كان أحد الذين أسهموا في ظهور أحمد مراد، فقد كان من أصدقاء محمد هاشم، صاحب دار ميريت، وعرض عليه هاشم نص روايته الأولى «فيرتيجو»، ويومها قرأها نوح معلنًا لهاشم أنها رواية سينمائية، «ورأى آخرون أنها تقدم تجلِّيًا جديدًا للإنسان في العصر الحديث، وتوقعنا جميعًا أن تكون روايته الثانية «الفيل الأزرق» على المستوى نفسه، لكنها جاءت على نقيض ذلك، وجاء عملاه «1919» و«أرض الإله» ليؤكدا «أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض بالفعل»؛ إلا أن ظاهرة «البيست سيلر» تبدو في عمومها جيدة للكاتب أحمد أبو خنيجر، مستدركًا: في حال وجود شروط منضبطة لها ولمعاملاتها بالمنطق التجاري الذي يحدد بوضوح عدد النسخ التى بيعت من أي كتاب، من دون اختلاق لظاهرة وهمية من ناشرين مزورين، وبخاصة أنه ليس لدينا إحصاءات جادة وحقيقية حول الموضوع». وأضاف أبو خنيجر أن كتابات البيست سيلر «تضعنا في حرج واضح؛ إذ إنها من ناحية تعنى برواج الأدب وازدياد المقروئية، ومن ناحية أخرى تعنى بالتعامل مع الكتابة الإبداعية والفنية بوصفها سلعة، وهو ما يتنافى مع طبيعة الإبداع وخصائصه النوعية المفارقة بدرجة ما لمعارف المجتمع»، مشيرًا إلى أن الغرض الذي تركز عليه ظاهرة «البيست سيلر» هو التسلية، «وهي الجانب الأضعف في طبيعة الإبداع، لكن هذه الظاهرة في عمومها جعلت عددًا كبيرًا من غير المهتمين بالثقافة والإبداع يقبلون على قراءة الأدب واقتناء كتبه، وهذا يعود بالنفع على الثقافة ورفع الوعي العام في مجتمع مصاب بضعف الثقافة ومحدودية القراءة، لكن لا بد من ضبط آليات عمل وقياس هذه الظاهرة، بحيث تصبح ممثلة حقيقة لما يعلنونه من رواج، ولا يعني تصدُّر كتاب ما قائمة «البيست سيلر» أنه الأفضل أدبيًّا أو فكريًّا».

موضوعات تشغل بال الناس

أكثر الكتب مبيعًا وأوسعها توزيعًا قد تكون الكتب المثيرة لشهية القراء في مادة تناولها وطريقة عرضها أو لمؤلفين معروفين بأسمائهم المشهورة الناجحة التي سبق الاستمتاع بإنتاجها. هكذا وضع الناقد المصري الكبير إبراهيم فتحي مواصفات كتابات «البيست سيلر» من وجهة نظره، قائلًا: «هذه الكتابات نادرًا ما تكون لمؤلفين جدد يشقون طرقًا جديدة في الإبداع إلى درجة أن يلفتوا الأنظار إليهم بشدة. بل على النقيض قد تكون لمؤلف صاحب اتجاه سياسي أو فكري أو ديني شعبي يلقى دائمًا إعلانًا واسعًا، أو كتبًا تتناول الموضوعات التي تشغل بال الناس أيامها أو المشاكل التي يهتم بها القراء. ولكن اتساع التوزيع ليس دليلًا على الامتياز، فقد لقيت بعض الكتب التي حوت خرافات منتشرة أو أفكارًا رائجة شديدة التخلف أو أحداثًا لا يصدقها العقل تنشر الجهل وتروجه، انتشارًا وتوزيعًا واسعًا».

محمد رشاد

من جانبه أقر رئيس اتحاد الناشرين العرب الناشر محمد رشاد بأن بعض دور النشر تغالط القارئ والرأي العام، وتكتب أرقام طبعات وهمية على الكتاب، «فالطبعة لديها لا تزيد عن مئة أو مئتي نسخة، مما يحدث نوعًا من تزييف الوعي لصالح كتابها». وأضاف رشاد أن ظاهرة البيست سيلر «حديثة على بلداننا العربية، فعمرها لا يزيد عن سنوات بسيطة، لكنها انتشرت وأصبحت الشغل الشاغل لدى العديد من المكتبات والناشرين». ويلفت إلى أنها ظاهرة جيدة، «مفيدة للناشر وصناعة الكتاب ورواجه، مثلما هي مفيدة للكاتب

نفسه؛ إذ إنها تشعره بالثقة في عمله، وأن كتاباته لها مردود وجمهور، لكن رغم كل ما قيل ويقال عن ظاهرة «البيست سيلر» في العالم العربي فإن عدد النسخ المطبوعة والموزعة لا يتناسب بحال من الأحوال مع تعداد سكان العالم العربي، ومن ثم فهذه الظاهرة لم تنشط بعد بشكل كافٍ، وإن كان ثمة كتب حققت مبيعات مهمة، لكن مثل هذه النوعية من الكتب قليلة، وأغلبها أعمال روائية وليست أعمالًا فكرية».

مؤلف يحصل على ما يشبه المرتب الشهري من عوائد كتبه… وناشر يؤكد أن «الأكثر مبيعًا» هراء

حقق بعض الكتاب السعوديين أرقامًا عالية في المبيعات، وطبعات كتب بعضهم تخطت الطبعة العاشرة، وبدأ عدد منهم يتحدث عن أنه يقبض مبالغ جيدة من عوائد كتبه، إلا أن هذه الكتب التي تشهد رواجًا لا تلقى اهتمامًا من النقاد، فما الذي يحدث؟ الكاتب السعودي محمد الرطيان أحد أبرز الكتاب الذين حققت كتبهم أرقامًا عالية في المبيعات، وهو يصدر كتبه عن دار مدارك. الرطيان يقول لـ«الفيصل»: «بكل بساطة أنا أتلقى ثمنًا لا بأس به من كتبي، إنه يشبه المرتب الشهري، وللأمانة فإن هذا الثمن مبني على أرقام تقوم دار النشر التي أتعامل معها بعرضه عليّ طمعًا في الشفافية، أضيف إلى ذلك أنهم يتواصلون معي بشكل متكرر؛ لإخباري عن التفاصيل المتعلقة بكتبي، خصوصًا تلك التي تتعلق بالتفاصيل المادية أو الطبعات الجديدة التي سيقومون بطباعتها؛ نظرًا لنفاد ما سبقها».

محمد السيف

ويتطرق الرطيان إلى الاهتمام النقدي، فيضيف قائلًا: «رغم رواج كتبي إلا أنه يؤلمني أن أخبرك عن تجربة شخصية مررت بها؛ فأثناء فوز روايتي «ما تبقى من أوراق محمد الوطبان» بجائزة الأمير سعود بن عبدالمحسن للرواية السعودية في دورتها الأولى وعلى الرغم من أن اللجنة المحكمة تكونت من أسماء لها ثقلها النقدي مثل: لمياء باعشن، ومعجب الزهراني، ومحمد الشنطي، وإلياس فركوح، ومحمد العباس، ويوسف المحيميد، فإن ما تمت كتابته لا يتساوى مع انتشارها». على الرغم من تأكيد الرطيان على مسألة الشفافية والتقارير المالية التي تقوم دار النشر بتقديمها إليه، فإنه يبقى حالة خاصة ولا تشمل الجميع، فالكاتب فارس الروضان أوضح لـ«الفيصل» قائلًا: «لا شك أن دور النشر قد ساهمت بشكل كبير في وصول كتبي إلى الناس. ولكن السياسة التي تعتمدها هي: الربح أولًا وثانيًا وعاشرًا! ولأجل هذا هي تتبنى في معظم الأوقات كثيرًا من الأسماء التي لا تحمل من المزايا سوى أنها تمتلك متابعين كثر في قنوات التواصل الاجتماعي؛ ليكونوا لهم مصدرًا للإعلان والتسويق لكتاب لا يحمل أية علامات فكرية أو إبداعية! ورغم أن «بعض» الدور تعمل على تضليل القارئ من خلال تهويل الكِتاب، بوضع أرقام غير حقيقية للطبعات بهدف التسويق وتحقيق المبيعات؛ إلا أن هذا لا يلغي وجود دور نشر تحترم مهنة النشر، وتقدم مؤلفات مهمة أضافت للقارئ الكريم وللمكتبة العربية الشيء الكثير، وأرقام الطبعات لديها أرقام حقيقية ولكنها بلا عوائد مالية على المؤلف فمن خلال تجاربي الشخصية وتجارب الزملاء الكتاب مع دور النشر، فإن أكثر ما يؤسف أنها تفتقد للشفافية في إعلان الأرقام الحقيقية لعدد النسخ في الطبعة الواحدة، كما أن العقود التي تبرم بين الكاتب والدار لا تمنح الكاتب إلا نسبة ضئيلة جدًّا من صافي الأرباح السنوية للكتاب! ورغم هذا الإجحاف فإن هذا هو أفضل الخيارات لكاتب يريد منصة نشر لتقديم كتابه؛ إذ إن غالبية الدور تطلب من الكاتب أن يدفع قيمة طباعة كتابه مقابل أن يتبنوه تحت اسمهم وحصولهم على النسبة الأكثر للمبيعات».

أما الناشر محمد السيف (دار جداول للنشر والتوزيع) فأكد لـ«الفيصل»: أن كل ما نراه من حولنا وعلى الأغلفة من عدد الطبعات مجرد هراء وتضليل وخداع، فأبرز الكتب وأكثرها انتشارًا بالكاد تصل إلى ألفي نسخة سنويًّا على مستوى المبيعات»، موضحًا أن السمة الغالبة على النشر في السعودية وفي الوطن العربي «هي الربحية والاستغلال وامتهان الكاتب أو المؤلف بجانب ضعف التوزيع والغياب التام للتخطيط الإستراتيجي الفعّال، فتسويق الكتاب العربي مقارنة بالغرب شبه معدوم؛ لأنه واقعيًّا غير موجود سواء على مستوى الناشر أو الإعلام».

إليسا تسوِّق كتابًا والعائد لا يستحق الذكر!

للمؤلف نبيل فهد المعجل الذي وصلت طبعات كتابه المعنون «بيل ونبيل» إلى الطبعة العاشرة تجربة خاصة ومخيفة في الوقت نفسه؛ إذ يذكر قائلًا: كتابي الأول قام الناشر وهو «الدار العربية للعلوم ناشرون» بعرضه في مكتبة النيل والفرات الإلكترونية التي تملكها؛ ونظرًا لتأخر وصول النسخ من بيروت إلى المكتبات السعودية والخليجية لجأ الراغبون في اقتنائه لشرائه من النيل والفرات، وارتفعت مبيعات الكتاب حتى وصل إلى أعلى الكتب مبيعًا لأسابيع عدة. أيضًا لم يترك الناشر فرصة إلا واستغلها ليسوق إنتاجه». ويمضي المعجل قائلًا: «أتذكر أن الناشر اتصل بي وأنا أتجول في معرض بيروت للكتاب عام 2007م وبعد يومين من صدور كتابي يطلب مني الحضور فورًا لركن مكتبته، وعندما وصلت وجدت المطربة إليسا بجانبه وهي تحمل بعض الكتب منها كتابي، وطلب مني الوقوف بجانبها ومعها نسخة من الكتاب وحولها العشرات من الصحافيين والمصورين وانتشرت الصور على وسائل الإعلام اللبنانية، وللأسف لم أحرص على الاحتفاظ بها، أقصد الصور وليس إليسا!»، مشيرًا إلى أن المعيار في الكتب الأكثر مبيعًا «ليس الجودة كما ذكرت ولكن معايير عدة، فكل دار نشر لها أسلوبها في طبع النسخ بعضها لأسباب مادية وأخرى لمنح أكبر عدد من الكتب المتنوعة، وهناك من يسعى لأرقام عالية تحفيزًا لمزيد من التسويق لها. والذي أعرفه أن الطبعة الواحدة لا تقل عن 500 نسخة وتصل عند بعض المؤلفين لآلاف عدة». وعن طبعات كتابه والمردود المادي منها، يقول: بالنسبة لأول طبعة لكتابي «بيل ونبيل» جرى طبع 500 نسخة وقفزت لـ 3000 نسخة في الطبعة الثانية، أما الطبعات اللاحقة حتى الطبعة الثانية عشر فلا أعرف العدد وإن كنت أظنها لا تتجاوز 2000 نسخة لكل طبعة. ومن الناحية المادية، لا ينعكس ذلك على أوضاع الكاتب؛ لأسباب أوجزها بأن المردود في غالبية الأحيان بالكاد يغطي المصاريف، ودور النشر تعودت ألّا يطالب المؤلف العربي (والخليجي خاصة) بحقوقه. 

‭ ‬محمد‭ ‬العباس‭: ‬أزمة‭ ‬القراءة‭ ‬تجعل من‭ ‬الصعب‭ ‬تصديق‭ ‬ما‭ ‬يعلن‭ ‬من‭ ‬أرقام

محمد العباس

لغرض تعدد الطبعات فهو تسويقي بالدرجة الأولى؛ فمن المستحيل تصديق هذا الكم الهائل من الأعداد في ظل وجود أزمة قرائية واضحة للجميع، وتصريحات الناشرين المتكررة عن صعوبة بيع كومات الورق الموجودة في مخازنهم، لكن في الوقت نفسه يوجد بالفعل إقبال على كتب بذاتها، وتحقق نجاحًا لافتًا في الطباعة والتوزيع، بل إن هناك دور نشر قد جرى تأسيسها لهذا الغرض. وهي دور نشر مخصصة للإنتاج الشبابي، الذي لا يرقى بحال إلى مستوى النص الأدبي، حيث تزدحم هذه الدور بكتب الخواطر العاطفية، والروايات الرومانسية الساذجة، التي تناغي أزمات المراهقين. ولهذا تلجأ هذه الدور إلى منظومة من الحيل في الطباعة الأنيقة، وطريقة العرض الباهرة، والترويج الخادع لمضمون الكتاب، بما في ذلك تقليل عدد نسخ الطبعة الواحدة وتكرار الطبعات، ليدخل الكتاب في قائمة الكتب الأكثر مبيعًا وإقبالًا. لكنه ليس من ضمن الكتب الأكثر قراءة لأن الحيلة هنا مكشوفة، ولا يمكن تمريرها إلا على المؤلف ذاته الذي يستمرئ هذه اللعبة ليرفع من مستوى كتابه الخاوي. وهو ما يعني وجود جيل من القراء يمكن أن يرفع منسوب البيع والطبعات ضمن أفق ثقافي خاص به، ولا يتقاطع مع مفاهيم القارئ ومعانيه المتعالية.
الكتب الأكثر مبيعًا حقيقة، ولكن ليس بالضرورة أن تكون الأجود، تجتمع ظروف ومعايير كثيرة لتجعل من كتاب ما لأن يكون الأكثر مبيعًا. أي أنها هي بين الحقيقة والوهم، فمن الناحية العددية صحيحة ولكن ليس بالضرورة نفس الصحة من نسب القراءة. أي ليس بالضرورة أنه حظي بنسبة قراءة عالية، فربما تركه القارئ بعد الصفحة الثانية أو الثالثة. تعدد الطبعات يعتمد على المهارة التسويقية لدار النشر والمؤلف أيضًا، فمن المهم وجوده قدر الإمكان في المعارض حيث يكثر شراء الكتب التي تحمل توقيعه.

«النسوية السعودية».. حراك يشق نفسه بين تشويه مجتمعي وتسلط ذكوري  انقسام «النسويات» على أنفسهن يضيع عدالة القضية

«النسوية السعودية».. حراك يشق نفسه بين تشويه مجتمعي وتسلط ذكوري انقسام «النسويات» على أنفسهن يضيع عدالة القضية

كثر تداول مصطلح النسوية السعودية، وترابط «النسوية» بـ«السعودية»، كأنما يقترح معنى يشير إلى خصوصية اجتماعية وإلى انتماء، على أن المصطلح، وهذا ما يهم، يروج له على الرغم من عدم توافر سمات النسوية المتعارف عليها عربيًّا وعالميًّا، ما يؤسس لظاهرة مكانية مستقلة بذاتها لدى النسوية في السعودية كتكوين وكمفهوم؛ إذ بدا الأمر يحمل أبعادًا وطنية نسوية إنسانية ومحاولات مخلصة للحصول على بعض الحقوق المشروعة، تتركز في مطالباتها ومطالبها على مرجعية الشريعة الإسلامية لا العادات والتقاليد وما شابه ذلك من تشدد. فيما يخص النسوية السعودية يوجد استقواء بالرد على المعارضين لمطالبات النساء بأحكام الشريعة وما وهبته المرأة من حقوق. وينبغي التأكيد على تعاون الكتاب مع الكاتبات في طرح مصطلح النسوية السعودية في شكل غير مباشر، وبخصوصية ترتبط بمطالب السعوديات بحقوقهن وتحسين صورتهن ونيل مكانتهن اللائقة بهن في المجتمع السعودي.

فتح كتاب «النساء والفضاءات العامة في المملكة العربية السعودية» لأميلي لورونار، مجالًا لولوج باب الدراسات النسوية من النساء في السعودية، ليتلمسن الحركة النسوية من خلال جهود ميدانية. ومن المطالب النسوية التي وجدت صدى جيدًا تلك المتمثلة في بطاقة الهوية للمرأة السعودية، كتأكيد لموقعها وشخصيتها الوطنية المستقلة، أيضًا المطالبة بمدونة للأحوال الشخصية مقننة لا تحتكم إلى الأحادية الفقهية ولا إلى تقدير القضاة، والمطالبة بمشاركة المرأة في مواقع صنع القرار. إضافة إلى مطالب جوهرية أخرى مثل رفع الوصاية عن المرأة بمعناها السياسي والاجتماعي والتعامل معها بوصفها مواطنة تتمتع بالرشد والأهلية.

ظهر الفكر النسوي معبّرًا عن مطالبه بقوة – بالرغم من ضيق فرصه- في الكتابة المطبوعة والإعلام المرئي، وتداولت أسئلة المرأة في شتى مجالاتها في قنوات الإعلام، وظهرت مبادرات تحاول معالجة تأثيرات تبعية المرأة وضعف أدوارها في المجتمع. «الفيصل» تناقش النسوية في السعودية بوصفها جزءًا من قضية كبرى، هي قضية النسوية في العالم العربي، متسائلة: ما الذي تحقق للنسوية السعودية؟ وما التحديات التي تواجهها؟ وهل هذه النسوية على تماسّ مع النسويات في العالم العربي وفي العالم؟ وما الرهانات التي تحاول النسوية أن تكسبها في لحظتها الراهنة؟

ناهد باشطح: فساد المرأة أو تغريبها!

ناهد باشطح

في مجتمع لا توجد فيه حتى الآن أي هيئة أو منظمة مستقلة تُعنى بشؤون المرأة، كما أن الحديث عن «الجندر» أو «النسوية» يمكن أن يكون أشبه بالحديث عن فساد المرأة وتغريبها، نجد في مقابل ذلك أن المرأة تخطو بقوة نحو المشاركة التنموية على الرغم من المعوقات الاجتماعية، بل يحتل عدد كبير من النساء مناصب عليا، ويحققن إنجازات علمية عالمية، على سبيل المثال: دخول المرأة لدينا مجلس الشورى هو تأكيد لمشاركتها السياسية أيًّا كان تصنيف هذه المشاركة أو نعتها بالرسمية؛ لأن دخول المرأة مجلس الشورى سيزيد من إيمان المجتمع بقدراتها وسيمنحها الفرصة للمشاركة في الشأن العام؛ إذ تعدّ المرأة السعودية متأخرة في المشاركة السياسية مقارنة بالنساء في منطقة الخليج بالرغم من أن هناك عددًا من الموظفات في السلك الدبلوماسي لكن لم يُعَيَّنَّ سفيرة أو وزيرة بعد.

لذلك لا يمكن اختزال المسألة في بعض المناصب من دون أن يكون للمرأة الحق في صنع القرار. بمعنى أن تولِّي المناصب لا يكفي لأن نحكم أن هناك حركة نسوية لدينا مع أنّ تاريخ المرأة السعودية حوى وعيًا متقدمًا من النساء في الخمسينيات من القرن الماضي، فقد دخلت المرأة السعودية العمل الإعلامي بوصفها مذيعة في الراديو، وكاتبة في الصحف، و«تشكل في السعودية أول اتحاد نسائي، كان ذلك في منتصف الستينيات من القرن الماضي باسم الاتحاد النسائي العربي السعودي، وكانت رئيسته بالانتخاب السيدة سميرة خاشقجي. ولقد شهدت تلك الحقبة عددًا من التجمعات، مثل: جمعية نساء الظهران، وجمعية الناطقات باللغة العربية، لكن الخطاب النسوي في الثمانينيات تحوّل إلى التشدد عقب حادثة الحرم المكي المشهورة، أعقبتها حادثة قيادة مجموعة من النساء للسيارات عام 1990م. (الدكتورة هتون الفاسي في مقالة عنوانها: «هل لدينا نسوية سعودية؟» ضمن إصدار مركز دراسات الوحدة العربية (2012م).

لكن الحركة النسوية لا يمكن أن تتحقق في مجتمع لا توجد في جامعاته أقسام لدراسات المرأة أو أي منظمات أهلية أو حتى حكومية تختص بشؤون المرأة؛ إذ تظل الجهود الفردية من أكبر التحديات أمام النسوية السعودية. والرهان الحقيقي أن تتفق النساء السعوديات الناشطات في قضايا المرأة، فتتّحد أهدافهن وينطوين تحت مظلة واحدة، ثم يتحدن مع الإعلام وهو التحدي المهم الآخر؛ إذ إننا إذا قرأنا التاريخ فالموجة الثانية من النسوية الغربية شهدت ازدهارًا بسبب ذلك الاتحاد عام 1960م. وإذا ما أردنا تسليط الضوء على المشكلات التي تعترض طريق المرأة السعودية وفق تقرير التنمية البشرية الذي صدر عام 2011م، فيمكن القول: إن هناك ثلاث مشكلات: أولًا- المشكلات القانونية، وهي متعلّقة بقانون الأسرة ووصاية وليّ الأمر، والعنف الأسريّ، وتحديد سن الزواج، وقوانين الإرث. ثانيًا- المشكلات الثقافية أي التقاليد والأعراف غير المرتبطة بالدين التي ما زالت تمنع المرأة من المشاركة في كافة نشاطات الحياة العامة. ثالثًا- غياب المؤسسات التي تمثل المرأة، وهذا نتيجة لغياب مؤسسات المجتمع المدني.

ربما يمكن القول: إن تمكين المرأة يمكن أن يبرز جهود النسويات، إن صح التعبير. أما عن وجود حركة نسوية من عدمها فما زالت المجتمعات العربية في جدال حول النسوية، حتى حين ظهرت النسوية الإسلامية فإنها لم تستطع النجاح وبخاصة أن النسويات الغربيات لم يقدمن الدعم الكافي للحركة النسوية العربية. والسؤال المطروح: ما الذي يمكن أن ينجي المجتمع من موروث التسلط الذكوري؟

  كاتبة سعودية

هيلة المشوح:

«من بيتك إلى قبرك»

بدأت إرهاصات الحركة النسوية في الخليج العربي مع بدايات الأربعينيات الميلادية في الكويت وتلتها البحرين، وامتدت حتى وصلت إلى السعودية، وبالطبع سبقتنا في ذلك مصر وبلاد الشام؛ مثل: جهود رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين، ورائدات الحركة النسائية مثل: هدى شعراوي، لكن الأسبقية بلا شك للحركة النسوية في أوربا وأميركا، وأبرزها سيمون دي بوفوار. النسوية أو Feminism جاءت نتيجة تغييب دور المرأة من المشهد، وتتغير المطالب حسب الجغرافيا والزمن، فهناك من يطالبن بالمساواة مع الرجل، وبعضها يدعو المرأة للمساهمة في النهضة والتحرر من قيود التقاليد، وهناك من يطالبن على أقل تقدير بحقوقهن المشروعة مثلما يحدث في المملكة.

وكأي حركة غير معهودة في مجتمع محافظ ولا يعترف أساسًا بمشاركة المرأة، إما بسبب التقاليد أو بسبب موروث ديني موغل في الإقصاء والتهميش، فقد واجهت النسوية السعودية تشويهًا وهجومًا اجتماعيًّا واحتقارًا لمطالبها، وعدم اعتراف بحقوقها التي شرعها الله؛ مثل: حق تقرير المصير في الزواج، أو التعليم، أو السفر، أو حتى تنقلاتها، وكسب عيشها، فكان التضييق على أشده حتى تغيرت الحركة النسوية في وقتنا «الآني» إلى حالة أشبه بالتمرد الذي يشي بضياع البوصلة، وتشتت المطالب، وإقصاء متعمد لأصوات الاعتدال والحكمة التي لا تخرج عن إطار الدولة ومظلتها.

وبحكم هذا التشتت فقد انقسمت النسوية على نفسها في ضعف ملموس لا يبشر بتحقيق أي مكتسبات من طريقها؛ ما جعلها فريسة لاستبداد الذكورية المؤدلجة المتشبثة بمقولة: «من بيتك لقبرك»، فكان الصدام على أشده مع هذه الفئة من جهة، ومصادمة الدولة من جهة أخرى، في الوقت الذي تحاول فيه -أي الدولة- تخفيف هذه القيود، وتغيير بعض الأنظمة، وهي تغييرات لا ترتقي إلى مستوى الطموح، لكنها تضيف أملًا جديدًا. الحركة النسوية «الصادقة» في أي مكان قوامها الحكمة في عرض المطالب من دون تأجيج أو مؤثرات أو اللجوء لطرائق من شأنها تأخير هذه المطالب، وهذا للأسف ما يحدث، فبينما تخفت أصوات العقل، تتعالى أصوات النشاز والتحدي والصدام، وهذا كما أسلفت من شأنه أن يعرقل كل المطالبات، بل يتسبب في ظلم أخريات لا ذنب لهن، وأشد ما نحتاج له هو «التعقل».

كاتبة سعودية وناشطة على تويتر

إيمان‭ ‬الحمود‭:‬‭ ‬كسر‭ ‬حاجز‭ ‬الخوف

لو نظرنا إلى تاريخ بداية الحركات النسوية في منطقة الخليج وبخاصة في الكويت والبحرين، نجد أن المرأة السعودية لم تكن قادرة على التفاعل ضمن بوتقة هذا الحراك لأسباب عدة: اجتماعية وتاريخية قد يطول شرحها، وتأخر ظهور الحركة النسوية في السعودية بمفهومها الشامل إلى ما بعد الثمانينيات وهي أوج الحقبة التاريخية التي اصطلح على تسميتها بالصحوة. بالنسبة لي وأنا ابنة التاسعة تناهى إلى مسامعي في عام ١٩٩٠م عن حراك نظمته مجموعة من النساء السعوديات قمن بقيادة سياراتهن في تظاهرة ذائعة الصيت آنذاك؛ للمطالبة بحقهن في قيادة السيارة. قد يكون هذا التاريخ هو أحد أبرز المراحل المفصلية في تشكيل الحركة النسوية في السعودية، استمرت بعدها المطالبات بأشكال وأوجه متعددة، وأسهم ذلك في وصول المرأة السعودية إلى منابر الإعلام ولا سيما الصحف التي فتحت المجال أمام الحراك النسوي للحديث عن قضاياه.

أعتقد شخصيًّا أن الحادي عشر من سبتمبر 2001م والضغوط التي تعرضت لها المملكة خلال تلك المرحلة التاريخية المهمة والدقيقة من صدام الحضارات بين الشرق والغرب إذا صح التعبير، قد أسهم في إفساح المجال بشكل كبير أمام النساء لتفعيل حراكهن، لكن الأمر لم يصل إلى إعلان جمعية للمرأة أو إنشاء وزارة تعنى بشؤونها كما هي الحال في دول مجاورة. هذا الأمر خلف برأيي تداعيات مهمة على طريق الحراك النسوي الذي كان يبحث عن متنفس للتعبير عن ذاته ولتنسيق المواقف فيما يتعلق بكثير من القضايا الحساسة التي تعايشها المرأة في السعودية، ودفع بالنساء إلى فضاء المجالس الخاصة التي انتقلت بدورها إلى منتديات الإنترنت حديثة العهد في ذلك الوقت، وصولًا إلى مواقع التواصل الاجتماعي في وقتنا الحالي.

هذا الفضاء المفتوح رغم كونه افتراضيًّا فقد أسهم بشكل كبير في زيادة الوعي لدى النساء في السعودية، وسمح بتبادل الخبرات بين الأجيال النسوية المتعاقبة التي تعاقبت على أصعب المراحل الاجتماعية التي عاصرتها المرأة السعودية منذ الثمانينيات إلى وقتنا الحالي. ربما تكمن أبرز التحديات أمام الحركة النسوية السعودية حاليًا، في عدم القدرة على نقل هذا الحراك من العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي، فنجد كثيرًا من الفتيات يفضل التغريد عبر حسابات مجهولة نظرًا لعدم توافر الضمانات التي توفر لهن الحماية الاجتماعية في حال كشفن عن هوياتهن، هذا الأمر طبعًا يفتح الباب واسعًا أمام الحملات المشككة في جدية هذا الحراك، وما أكثرها مع الأسف الشديد. لكن هذا لا يمنع النظر إلى الجانب الممتلئ من الكوب، وهو عندما نلمس هذا التنسيق الكبير بين النسويات السعوديات خلال أي قضية نسوية تطرأ على الساحة، وهو أمر اكتسبنه مع مرور الوقت ونضج التجربة فضلًا عن قدرتهن المتواصلة على كسر حاجز الخوف من العادات والتقاليد، نحن اليوم أمام نواة حقيقية لحراك نسوي عربي من نوع آخر في المنطقة سيترك بصمته لسنوات طويلة مقبلة.

مذيعة في إذاعة مونت كارلو