«عين بودلير».. معرض يكشف وجوهًا أخرى للشاعر غير التي اختزلها «أزهار الشرّ»

«عين بودلير».. معرض يكشف وجوهًا أخرى للشاعر غير التي اختزلها «أزهار الشرّ»

ارتبط اسم الشاعر الفرنسي شارل بودلير بمدينة باريس، وكان أحد نجومها الأساسيين في القرن التاسع عشر، بل هو أحد الذين أطلقوا الحداثة في سمائها، ومنها إلى أماكن عدّة في العالم. وإذا كان كاتب «أزهار الشرّ» معروفًا بصفته شاعرًا، فهو أيضًا مارس النقد الفني وجعل منه نوعًا أدبيًّا قائمًا بذاته، وعبّر عن رؤية فنية عميقة جعلت منه أحد الذين أرسوا الأسس الأولى للنقد الفني في فرنسا. وهذا ما يكشف عنه المعرض المقام حاليًّا في باريس وعنوانه: «عين بودلير». ولقد امتلأت شوارع المدينة بملصقات تحمل صورته ونظرته الجانبية النافذة ملغيةً الفاصل الزمني الذي يفصلنا عنها.

«عين بودلير» ليس أول معرض يخصصه متحف فرنسي للشاعر. ففي عام 1968م أقام «متحف القصر الصغير» معرضًا بعنوان: «شارل بودلير» بمناسبة مرور مئة عام على وفاته، وقد كشف وفرة الكتابات التي تناولت الشاعر ونتاجه الشعري والنقدي على السواء، وتحمل تواقيع باحثين رصدوا أعمال بودلير وآراءه في الأدب والفنّ، ودوره البارز على الساحة الأدبية والفنية في عصره. كذلك أقامت بلدية باريس في مرحلة التسعينيات من القرن الماضي ومطلع هذا القرن مجموعة من النشاطات التي تبرز وجه الشاعر الناقد، ومنها معرض بعنوان: « بودلير، باريس بلا نهاية» الذي تناول علاقة بودلير الفريدة بمدينته باريس حيث ولد عام 1821م وتوفي عام 1867م.

يأتي المعرض الحالي في «متحف الحياة الرومانسية» ليتوّج سلسلة من المعارض والنشاطات، وهو يقام بمناسبة مرور مئة وخمسين عامًا على وفاة الشاعر، وقد أشرف على تنظيمه وكتابة الكاتالوغ المخصص له مجموعة من المتخصصين الكبار في نتاج بودلير وأدب القرن التاسع عشر وفنونه.

يضم المعرض نحو مئة لوحة ومنحوتة ورسم محفور شاهدها بودلير في بداياته وكتب عنها، ويبيّن كيف أن الإطلالة الأولى له في عالم النشر وفي المشهد الثقافي الباريسي كانت في مرحلة الأربعينيات في القرن التاسع عشر. في تلك السنوات، كتب مجموعة من المقالات والنصوص النقدية عن المعارض الفنية السنوية الكبرى التي كانت تقيمها «أكاديمية الفنون الجميلة» في باريس وتعرف بالصالونات، وأولها صالون عام 1845م، وكان الشاعر آنئذ في الرابعة والعشرين من عمره. ولا بد من الإشارة إلى أن المرحلة التي امتدت من عام 1845 حتى عام 1863م التي عايشها بودلير عن كثب وكتب فيها كناقد شهدت تحولات كبيرة في المشهد الفني الفرنسي، ومنها أفول الحركة الرومانسية وصعود الواقعية وظهور الفنانين الذين مهدوا لما يعرف بالحداثة ومنهم إدوارد مانيه.

باختصار، يتيح المعرض لزواره الاطلاع على الأعمال الفنية التي تأملها وكتب عنها الشاعر، ويذهب أبعد من ذلك فيقدم بانوراما عن أحوال الثقافة في زمن تأسست فيه مفاهيم جديدة عن الجمال والإبداع قلبت رأسًا على عقب المفاهيم الكلاسيكية المتوارثة منذ عصر النهضة الإيطالية في القرن السادس عشر التي التزم بها الفنانون بصورة عامة طوال قرون.

روح دولاكروا

لقد توقف بودلير عند الفنانين الفرنسيين المجددين والتقليديين المعاصرين له، فكتب عنهم وعبّر عن إعجابه ببعضهم، وعدم رضاه عن بعضهم الآخر. وكان لأوجين دولاكروا 1798-1863م مكانة خاصة في قلبه ونتاجه. هذا الأخير، كما هو معروف، من أبرز ممثلي التيار الرومانسي والاستشراقي في الفن، وهذا ما ينعكس في لوحاته الشهيرة في متحف «اللوفر» ومنها «الحرية التي تقود الشعب» التي رسمها عام 1830م، ولوحة «نساء الجزائر» التي رسمها عام 1834م. أعجب بودلير بروح دولاكروا وأجواء الدراما والحلم والوله المهيمنة على أعماله، وتحدّث عن تفجّر الألوان عنده كما في لوحة «صيد الأسود» المنجزة عام 1854م، حتى إن هذه الألوان تسربت إلى قصائده فلم تعد الألوان محصورة في اللوحات بل حاضرة في القصائد أيضًا. ألم يقل: «قط لم تدخل في النفس، عبر قنوات العيون، ألوان بهذا الجمال وبهذه الكثافة»؟

أراد بودلير أن يكون دولاكروا شقيقه الروحي، كما أراد أن يحتل في المشهد الأدبي المكانة التي احتلها دولاكروا في المشهد الفني. فهذا الفنان، بحسب تعبيره، هو «زعيم المدرسة الحديثة في الرسم، وهو الفنان الأكثر خصوصية في الأزمنة القديمة والأزمنة المعاصرة».

من الجوانب التي يكشفها المعرض أيضًا اهتمام بودلير بفناني الكاريكاتير الذين عكسوا برسومهم الساخرة الهموم المعاصرة وأزمات مجتمعاتهم، وكانوا لسان حال المظلومين والبؤساء في صراعهم ضد الطغاة والفاسدين. منذ عام 1845م، بدأ بودلير بكتابة نص عن فن الكاريكاتير وقد صدر في كتاب عام 1855م، ثم تبعه كتاب ثانٍ عام 1857م، وهو العام الذي صدر فيه ديوانه «أزهار الشر». كتابان عن فناني الكاريكاتير في فرنسا وفي إسبانيا، ومنهم الفنان الإسباني غويا والفرنسي أونوريه دومييه. ونشاهد لهذا الأخير في المعرض لوحة أنجزت عام 1850م، وتمثل مجموعة من القضاة والمحامين بالقرب من قصر العدل وهم على شكل شخصيات سوداء بشعة تضع أقنعة على وجوهها. في هذا الإطار، يحيّي بودلير الفنان دومييه الذي سخر برسومه من الشخصيات السياسية التي تخدع الشعب المسكين وتستغله.

بودلير غير راضٍ

عاش بودلير في مدينته باريس الجزء الأكبر من حياته القصيرة، وكان غير راضٍ عن التحولات الكبيرة التي عرفتها المدينة؛ بسبب الثورة الصناعية، والأشغال التي قام بها محافظ المدينة البارون جورج أوجين أوسمان في زمن الإمبراطور نابليون الثالث. لقد هدمت أحياء بكاملها بسبب عدم نظافتها ورائحتها الكريهة واحتضانها الثورات الشعبية. استبدلت بالشوارع الضيقة والصغيرة جادّات واسعة ومضاءة ونظيفة، وشيّدت الأبنية الفخمة من الحجر الأبيض، وفُتحت الحدائق العامة. بالإضافة إلى ذلك، جُهّزت باريس بنظام صرف صحي، وزُرعت فيها الأشجار على طول الشوارع والجادّات.

لقد شهدت المدينة في ذلك الزمن تطورات اجتماعية وسياسية ومدنية أعادت تشكيل فضائها وتكوين مخيلتها. وقد عبّر بودلير في كتاباته عن جدلية الهدم والبناء، فهو عايش تشييد المدينة الحديثة وأفول المدينة القروسطية. كتب قائلًا: «إنّ باريس القديمة لم تعد موجودة». ومن مدينته استوحى الشاعر ديوانه «سأم باريس» ذلك أنّ الحياة الباريسية، بالنسبة إليه، غنية بالموضوعات الشعرية الرائعة، وهو تارة يعبر عن إعجابه بالتطور التقني ومظاهر الحداثة، وتارة أخرى يعبّر عن كرهه لها. أي أن موقفه عكس تناقضاته الشخصية العميقة الحاضرة في شعره التي تتكامل فيما بينها، وتمثّل تناقضات النفس البشرية ذاتها.

أهمية معرض بودلير في العاصمة الفرنسية اليوم أيضًا أنه يكشف عن وجوه أخرى للشاعر غير التي اختزلته في ديوانه الشهير «أزهار الشرّ»، لا سيّما أنه مبدع لنتاج أوسع مفتوح على الحداثة التي مهّدت لها مجموعته الشعرية «سأم باريس» التي طُبعت بعد رحيله، وخصوصًا مواقفه النقدية التي تقدّم صورة رائدة لنتاجات عصره الأدبية والفنية والموسيقية، هو الذي كان مسكونًا بِـ«فرح الاحتفاء بالحدث الجديد»، وهو أحد ممثّلي مرحلة تاريخية آفلة لكنها تبقى، حتى يومنا هذا، التعبير الأنقى للحداثة.

فرنسا تفتش في الكنوز الإسلامية عن الوجه الحضاري للإسلام

فرنسا تفتش في الكنوز الإسلامية عن الوجه الحضاري للإسلام

%d8%a7%d9%84%d9%84%d9%88%d9%81%d8%b12على الرغم من التوتر الذي يشهده المجتمع الفرنسي تجاه كل ما يتعلق بالعرب والمسلمين، وعلى الرغم من سيطرة حال عامة من الخوف من عمليات إرهابية جديدة يقوم بها متحدرون من أصول عربية، فما زالت هناك أصوات فرنسية تؤمن بالتلاقي والعيش المشترك، وترفض الوقوع في الخطاب العنصري الذي يغذي توجهات اليمين المتطرف، ومشاعر الكراهية ضد المهاجرين والمسلمين منهم بالأخص. ويعي العديد من المثقفين والعاملين في الشأن الثقافي أن الثقافة يمكن أن تقوم بدور مهمّ في التخفيف من النزعات العنصرية؛ لأنها تكشف عن التراث المشترك بين الفرنسيين مهما اختلفت دياناتهم وأصولهم.

ضمن هذا التوجه العام، عقد في متحف «اللوفر» في باريس مؤتمر دولي حول مجموعات الفنون الإسلامية في فرنسا، شارك فيه عدد من الباحثين والمسؤولين عن الأقسام الإسلامية في بعض المتاحف الفرنسية.

متاحف فرنسا والتحف الإسلامية

بيّنَ المؤتمر أن المتاحف الفرنسية تضم كنوزًا من التحف الإسلامية التي تعد من بين الأهم في العالم اليوم. فعلى الرغم من الصراعات التاريخية والحروب، فإن العلاقات لم تنقطع يومًا بين ملوك فرنسا والعالم الإسلامي منذ زمن الملك شارلمان والخليفة هارون الرشيد في القرن التاسع الميلادي. ثم جاءت الحملات الصليبية التي انتقل معها الكثير من التحف بين ضفتي المتوسط، إضافة إلى أنّ الحضارة الأندلسية تواصلت قرونًا من الزمن، وكانت المدن كقرطبة وطليطلة وغرناطة عواصم للفنون والعلوم، ومنها تعلم الأوربيون الكثير من الإبداعات في جميع المجالات.

آلاف التحف الإسلامية التي أنجزت خلال مرحلة زمنية طويلة تجاوزت الألف عام، ضمن مساحة جغرافية شاسعة، تتوزع اليوم كما أشرنا على العديد من المتاحف الفرنسية وأولها متحف «اللوفر» الذي يعد واحدًا من أكبر متاحف العالم، ويستقطب سنويًّا نحو ثمانية ملايين زائر.

ومن المعروف أن اللوفر قبل أن يصبح متحفًا، كان قصرًا لملوك فرنسا. وعند تحوله إلى متحف بعد الثورة الفرنسية عرضت فيه عام 1893م ولأول مرة بعض التحف الإسلامية.

%d8%a7%d9%84%d9%84%d9%88%d9%81%d8%b1-%d9%8a%d8%a7%d9%86%d9%8a%d9%8a%d9%83-%d9%84%d9%8a%d9%86%d8%aa%d8%b2

السيدة يانيك لينتز

ويملك «اللوفر» حاليًّا زهاء أربعة عشر ألف قطعة فنية من العالم الإسلامي، يمكن مشاهدة أجملها في الجناح الكبير الذي أعدّ لها خاصة، وافتتح عام 2012م. وهنا لا بد من التذكير بالدور المهم الذي أداه الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك الذي كان قد أعلن عام 2003م عن رغبته في أن يخصص جناحًا قائمًا بذاته، وبأكمله، لفنون العالم الإسلامي، حتى تكون للحضارة الإسلامية المكانة التي تستحقها بين الحضارات الأخرى الممثلة في المتحف الفرنسي العريق، ومنها الفرعونية، وحضارات الشرق القديم، واليونانية والرومانية.

يميز الجناح المخصص للتحف الإسلامية الذي يلاقي إقبالًا لافتًا من زوار «اللوفر» هندسته الحديثة والجذابة، أما التحف المعروضة فيه فتغطي مراحل الإبداع الإسلامي منذ المرحلة الأموية، حتى مرحلة الإمبراطوريات الكبرى، وهي العثمانية، والصفوية، والمغولية في الهند، مرورًا بالمراحل الفاطمية، والأيوبية، والمملوكية، والأندلسية.

تحف ذات مستوى جمالي عالٍ تُظهر الثراء الثقافي للحضارة الإسلامية، حيث عاشت في كنفها شعوب من قوميات ومذاهب مختلفة.

وتشرف على هذا الجناح السيدة يانيك لينتز التي صرحت لـ«الفيصل» على هامش المؤتمر أنها تؤمن بالدور الثقافي «الذي يمكن أن يؤديه قسم الفنون الإسلامية في «اللوفر» في هذا الجو المشحون الذي تعيشه فرنسا، حتى لا تنتصر نظرية صراع الحضارات وأصوات المتطرفين من الجانبين». وتتابع قائلة: «نريد في المتحف أن نساهم في الكشف عن الوجه الحضاري للإسلام حتى لا يصبح أسير الجهلة الذين يلطّخون صورته».

عبقرية الشرق

من باريس إلى «متحف الفنون الجميلة» في مدينة ليون، وهو أحد أهم المتاحف الفرنسية خارج العاصمة باريس، هذا المتحف يملك أيضًا مجموعة نادرة من الفنون الإسلامية، منها ما جيء به من الأندلس، ومنها ما يعود إلى مصر وسوريا، وقد أُنجزَت في العصور الأيوبية والمملوكية والعثمانية. غير أن متحف ليون لم يخصص جناحًا بأكمله للفنون الإسلامية كما الحال في متحف «اللوفر»؛ لأن التحف الإسلامية موجودة في قسم معروف بقسم الأواني والقطع الفنية، إلى جانب تحف من حضارات أخرى، وتشرف عليه السيدة سليمة هلال. وللتعريف بالتحف النادرة في هذه المجموعة تنظّم السيدة هلال المعارض المؤقتة، وكان منها معرض رائع بعنوان «عبقرية الشرق، أوربا الحديثة وفنون الإسلام» أقيم عام 2011م، وشكّل حينها حدثًا ثقافيًّا بارزًا؛ لأنه كشف مرة أخرى عن تأثير الفنون الإسلامية خلال القرن العشرين في الفنون الأوربية، وفي عدد من مبدعيها الكبار الذين طبعوا بأعمالهم مسيرة الفن الحديث، وأولهم في فرنسا الفنان الراحل هنري ماتيس الذي يعدّ أحد رموز الحداثة ومن مبدعيها. كذلك كشف المعرض، من خلال عرضه لتحف ولوحات شرقية وغربية، أن الاهتمام الفعلي للأوربيين بالفنون الإسلامية بدأ في نهاية القرن الثامن عشر، وتواصل إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ إذ بدأت المتاحف المعروفة منذ تلك المرحلة بتكوين مجموعاتها الخاصة من التحف الإسلامية، ومنها متحف «اللوفر» في باريس، والمتحف البريطاني في لندن.

%d8%a7%d9%84%d9%84%d9%88%d9%81%d8%b11بموازاة مجموعتي متحف «اللوفر» و«متحف الفنون الجميلة» في مدينة ليون، تطالعنا تحف إسلامية أخرى في متاحف فرنسية أقل شهرة، ومنها «متحف عصر النهضة» الذي يقع في مدينة إيكوان، وهي مدينة صغيرة تبعد قرابة العشرين كيلومترًا شمال باريس. ويملك المتحف مجموعة نادرة من الخزف العثماني التي تختصر مسيرة هذا الفن. وكان الخزف من الفنون الأساسية خلال مرحلة الإمبراطورية العثمانية، وهو لم ينحصر فقط في صناعة الأواني، بل أيضًا في صناعة البلاطات التي كانت تغطي جدران المساجد والقصور.

تشكل المتاحف جزءًا مهمًّا من الحياة الثقافية الفرنسية؛ إذ تقام فيها باستمرار المعارض المؤقتة والدائمة، وترافقها النشاطات والندوات التي تستقطب ملايين الزوار من فرنسا والخارج. وكما سبق أن أشرنا، قد تكون هذه الأنشطة، إلى جانب التربية والتعليم، أحد الحلول التي من شأنها أن تساهم في التخفيف من الضغوطات الاجتماعية في هذه الأزمنة الصعبة، للوقوف في وجه المحرّضين على الكراهية، والداعين إلى نبذ الآخر المختلف.

معهد العالم العربي.. خيبات وآمال تتجدد

معهد العالم العربي.. خيبات وآمال تتجدد

أثار «معهد العالم العربي» منذ تأسيسه سجالًا واسعًا حول دوره وتمويله وتطلّعاته، وإذا تباينت الآراء حول هذه المسائل فثمة إجماع حول خصوصيّة المعهد الذي يمثّل الصرح الثقافي الوحيد من نوعه في أوربا، بل في العالم أجمع، هذا المعهد الذي تزداد الحاجة إليه اليوم، في هذه اللحظة التاريخية الدقيقة، يعيش مرحلة تحوّل إيجابي مع رئيسه الجديد جاك لانغ، ويستقبل مديرًا جديدًا بدءًا من سبتمبر الجاري هو الناقد والأكاديمي السعودي معجب الزهراني الذي يخلف السعودية منى خزندار.

وإذا كان الزهراني يعطي مصداقية لهذا الموقع وثقلًا عربيًّا داخل المعهد بفضل مساره الثقافي، وتجربته وانفتاحه على الثقافات المختلفة، لا سيما الثقافة الفرنسية التي يعرفها عن قرب، فإنّ التساؤلات تبقى قائمة حول الفرص التي ستتاح أمامه، وحول التحديات التي ستواجهه. وهو يعي الصعوبات التي تنتظره.. لكن المعهد، وكما عبّر الزهراني في تصريحات صحافية، هو فرصة «لنصنع أثرًا جماليًّا عربيًّا». هذا يعني أنه يفد إلى باريس بكثير من الأمل، ويؤمن بقدرة الثقافة والفن على تغيير الصورة النمطيّة السائدة..

جسر بين أوربا والعالم العربي

تأسس معهد العالم العربي في باريس عام 1980م بعدما اتفقت فرنسا مع عدد من الدول العربية الأعضاء في الجامعة العربية على تأسيس مؤسسة للتعريف بالثقافة والحضارة العربيتين في فرنسا، وجعلها جسرًا بين فرنسا وأوربا من جهة، والعالم العربي من جهة ثانية. وقد أرادت فرنسا أيضًا، من خلال هذا المعهد الخاضع للقانون الفرنسي والمسجل كمؤسسة ذات نفع عام، أن تدعم علاقاتها السياسية والدبلوماسية والاقتصادية في العالم العربي، وهي علاقات تاريخية قديمة ترجع إلى أزمنة بعيدة.

mojeb

معجب الزهراني

منى خزندار

منى خزندار

يقع المعهد في الدائرة الخامسة في قلب العاصمة الفرنسية بالقرب من عدد من الصروح والمعالم التاريخية العريقة، كجامعة جوسيو، وجامع باريس الكبير، وثانوية هنري الرابع، وقد أشرف على بنائه مجموعة من المعماريين، ومنهم جان نوفيل الذي يتمتع اليوم بشهرة عالمية بالتعاون مع مكتب «أرشيتكتور أستوديو» للهندسة.

يتميز المبنى بطابعه الحديث الذي يستوحي بعض عناصر العمارة العربية الإسلامية، كما في واجهته الجنوبية حيث تطالعنا عناصر معمارية مستقاة من المشربيات المؤلفة من نوافذ صغيرة تنغلق وتنفتح مع تبدل حركة الضوء. افتتح المعهد عام 1987م في عهد الرئيس الراحل فرنسوا ميتران المعروف برعايته لعدد مهم من المشاريع الثقافية الكبرى التي أصبحت اليوم من معالم باريس الأساسية، ومنها «مكتبة فرنسا الوطنية»، و«متحف اللوفر الكبير»، وهرمه الزجاجي، وقوس النصر الكبير، وأوبرا الباستيل…

منذ افتتاحه حتى اليوم، أقيمت في المعهد مئات الأنشطة الثقافية في مختلف المجالات، ومنها الفنون، والسينما، والإصدارات الجديدة، والندوات الفكرية التي تستضيف الشخصيات العربية والفرنسية. كما أن المعهد يضم مكتبة كبيرة تحتوي على آلاف الكتب، وتضمّ متحفًا جميلًا أعيد افتتاحه عام 2012م، وهو يعرّف بحضارة العالم العربي، مركّزًا على تنوعه الديني والإثني واللغوي منذ مرحلة ما قبل الإسلام.

في موازاة النشاطات الأسبوعية، تقام في المعهد المعارض الموسمية الكبرى التي تستقطب آلاف الزوار، ومنها المعرض الذي يتواصل حتى نهاية الشهر الجاري تحت عنوان «حدائق الشرق»، ويروي مسيرة الحدائق في العالمين العربي والإسلامي، مبيّنًا استنادها إلى أسس جمالية وهندسية وروحية مستمدة من الموروث الثقافي العربي الإسلامي عبر العصور. وبهذه المناسبة، أنشئت في باحة المعهد حديقة تجسّد هذا الطراز من الحدائق وتستمر طوال مدة إقامة المعرض. إنها حديقة عابرة ومؤقتة يتفاجأ بها الزائرون والعابرون من هناك حيث القلب التاريخي لمدينة باريس.

جاك لانغ

جاك لانغ

«معهد العالم العربي» مؤسسة تخضع، كما سبق أن أشرنا، للقانون الفرنسي. منذ تأسيسه يرأسه رئيس فرنسي يرشحه رئيس الجمهورية الفرنسي، أما مديره العام فهو عربي ويختاره مجلس سفراء الدول العربية المؤلف من 22 دولة. الرئيس الحالي للمعهد، ومنذ مطلع عام 2013م، هو السياسي والقانوني الفرنسي والوزير السابق جاك لانغ الذي خلف رونو موسولييه، وتقلد في السابق مرتين منصب وزير الثقافة، ومرة واحدة منصب وزير التربية والتعليم، وكان له أثر مهم في الحياة الثقافية في فرنسا، وقد تجلى هذا الأثر في مجالات كثيرة تشمل الموسيقا والمسرح والفنون البصرية والمتاحف.

عندما تسلم لانغ رئاسة المعهد كان هذا الصرح الثقافي يعاني مشكلات مالية وإدارية كثيرة، كما كان يعاني انخفاض في عدد زواره. ويرجع السبب في العجز المالي إلى إحجام الدول العربية، ومنذ أكثر من خمس عشرة سنة، عن المساهمة في الميزانية السنوية للمعهد. وكان الاتفاق بين الدول العربية وفرنسا ينص على الصعيد المالي أن يساهم الجانب الفرنسي بنسبة ستين بالمئة من الميزانية العامة، ويساهم الجانب العربي بأربعين بالمئة. غير أن الجانب العربي تراجع شيئًا فشيئًا عن مساهمته منذ بداية التسعينيات، وصارت فرنسا وحدها هي التي تتولى الأمور المالية، وتساهم في الميزانية، وهذا أدى إلى إلغاء كثير من النشاطات والبرامج الثقافية، وإلى تدهور مهم في الشراكة العربية الفرنسية.

بعد أن تولى جاك لانغ الرئاسة، قام بخطوات عدة لاستعادة العلاقات مع الدول العربية، وتشجيعها على المساهمة في تمويل المشاريع الثقافية، فأصبح بعض هذه الدول يقوم بمساعدات محددة تطال هذا المشروع أو ذاك، ومن هذه المشاريع والنشاطات، على سبيل المثال، مساهمة مكتبة «الملك عبدالعزيز العامة» في الرياض في تمويل معرض «الحج» الذي أقيم عام 2014م، ومساهمة المغرب في تمويل المعرض المخصص لإبداعات المغرب المعاصر عام 2014م أيضًا. وهكذا أمست كل المشاريع التي تحققت، والتي ستتحقق في المستقبل، مرتبطة بتمويلها الخاص.

تحولات هيكلية

لقد شهد «معهد العالم العربي» في عهد رئيسه الراحل دومينيك بوديس تحولات في هيكلته، ومنها قيامه بتعديل القانون الذي يمنع الرئيس الفرنسي تولي منصبين. وقد جاء هذا التعديل بعد انتخاب بوديس نائبًا في البرلمان الأوربي عام 2009م، كي يتمكّن من الاستمرار في عمله رئيسًا. كذلك صار للمعهد في عهده رئيسان: الأول هو رئيس المجلس الأعلى، والثاني هو رئيس مجلس الإدارة.

إعادة هيكلة المعهد أدت إلى تقليص صلاحيات المدير العربي، ومنح الرئاسة الفرنسية صلاحيات إضافية. وفي زمن دومينيك بوديس كان هو رئيس المجلس الأعلى، وبرونو لوفلوا رئيس مجلس الإدارة. وعندما تولى جاك لانغ رئاسة المعهد أصبح يتمتع بمنصبين: رئيس المجلس الأعلى ورئيس مجلس الإدارة. وقد بقي منصب المدير العربي فارغًا بعد رحيل منى خزندار التي تبوأت هذا المنصب عام 2011م لمدة ثلاثة أعوام.

إنّ تعيين معجب الزهراني اليوم مديرًا للمعهد من شأنه أن يعزّز الحضور العربي فيه، ويفتح هذا الصرح الثقافي النادر، الجاثم على ضفة نهر السين، على مبادرات جديدة يحتاج إليها المعهد في الظروف الراهنة التي تجتازها فرنسا، وأمام التحديات التي تواجه الجاليات العربية والإسلامية بعد العمليات الإرهابية التي من أهدافها شقّ الصفوف، وإحداث هوّة بين مكوّنات المجتمع الفرنسي. يبقى السؤال حول الإمكانيات المتاحة أمام الزهراني، وحدود التحرّك الذي سيجد نفسه فيها، هو الذي يعرف معنى الدور المنوط بالثقافة بشكل عامّ، وفي أزمنة المِحَن بشكل خاصّ.

صلاح ستيتية: أنتظر مواقف تتلاءم مع آفاق الثقافة العربية في حوارها مع الثقافة الغربية

صلاح-ستيتية

صلاح ستيتية

«معهد العالم العربي» الكائن في باريس على أرض حضارة قديمة كأرض فرنسا، هو رمز لحضارة أخرى، قديمة هي أيضًا ومتعددة، كالحضارة العربية الإسلامية؛ لذلك يجب أن تكون التحديات على مستوى الآمال المعلّقة على هذا المعهد في جميع ميادين الإبداع. وعلى المستوى الشخصي، أنتظر من الرئاسة الفرنسية الحالية للمعهد، ومن المدير العربي الجديد مواقف تتلاءم مع آفاق الثقافة العربية في حوارها مع الثقافة الغربية في هذه الأيام الصعبة، حيث يعمل بعض المجرمين على تحويل الحوار الثقافي إلى حرب عنصرية قذرة.

تمنحني معرفتي الشخصية القديمة بجاك لانغ، وما سمعته عن الإمكانيات الثقافية التي يتمتّع بها معجب الزهراني، كثيرًا من الأمل في ما يمكن أن يقدمه معهدنا العزيز في تطلعاته وإنجازاته.

أسعد عرابي: لا يمكننا نفي خيبة الأمل المزمنة

أسعد عرابي

أسعد عرابي

«كثيرًا ما نطرح على أنفسنا السؤال نفسه حول هذا الصرح الكبير في عمارته ونفقاته وطموح مشروعه منذ الأساس، وحتى حول موقعه الإستراتيجي في قلب العاصمة الفرنسية بجانب نهر السين. لا يمكننا أن ننفي خيبة الأمل المزمنة في كلّ مرة نطرح مثل هذا السؤال أمام تواضع ما أنجزه المعهد. مع ذلك، نحن من الذين يأملون دائمًا في تحسين ظروف المعهد والتأكيد على إيجابياته. فهناك مثلًا أسماء مرّت على المعهد، بحجم الأمل الذي كنا نملكه في البداية، مثل الناشر والباحث السوري فاروق مردم بك، لكن الشروط التي عاقته عن العمل دفعته إلى أن يستقيل. وهذا مثل واحد من أمثلة كثيرة، يعني أنّ المعهد لا يزال مشروعًا قيد التحقُّق ولا نزال بانتظار ما هو أفضل.