برتولوتشي.. تحويل المفاهيم المعقدة بشأن الطبقية إلى دراما شخصية أخَّاذة – أمين صالح

برتولوتشي.. تحويل المفاهيم المعقدة بشأن الطبقية إلى دراما شخصية أخَّاذة – أمين صالح

برتولوتشي-٢

بوستر فلم «الحصاد المتجهم»

استقبل النقاد الفرنسيون أفلام المخرج السينمائي الإيطالي برناردو برتولوتشي الأولى بحفاوة بالغة، ربما أكثر من النقاد الإيطاليين. لقد وجدوا في أعماله أصداءً من الموجة الفرنسية الجديدة، وذلك عبر توظيفه لكاميرا قلقة، غير مستقرة، ومواقع خارجية نابضة بالحياة، وقصص شخصية بسيطة، وجماليات بصرية تتناغم مع المضامين الثورية.

الأساس الأدبي لأعمال برتولوتشي ينشأ من بداياته كشاعر. صرَّح مرةً بأنه كان على وشك أن يتوجه إلى كتابة الرواية، لكنه بدلًا من ذلك اختار السينما، محاولًا أن يحافظ على الحرية ذاتها التي كان يمكن أن يتمتع بها لو كتب روايات. اهتماماته الأساسية هي بالأمكنة، وبالمساحات التي ضمنها «يكتب» المشاهد في أشكال تلقائية، وبالإضاءة التي تساعده في خلق تلك الأشكال، وبتفاعل الشخصيات ضمن تلك الأمكنة أو المساحات.

في أفلامه، يوحِّد برتولوتشي الوعي السياسي والأسلوب المغوي بصريًّا، المتقن والمدروس من أجل إدهاش المتفرج.

أسلوبه السينمائي يتميَّز بتوظيفه الغنائي لحركات الكاميرا الرشيقة، المتموجة، المديدة. الكاميرا غالبًا ما تكون في حركة مستمرة، وذات حضور متواصل، لا يهدأ. إضافة إلى استخدامه التعبيري للألوان، وأسلوبه السردي الذي يتلاعب بالزمن في سبيل خلق حاضر شبيه بالحلم. ولد برناردو برتولوتشي في 16 مارس 1940م، في مدينة بارما بإيطاليا. مارس كتابة الشعر منذ صباه. وقد ازداد ولعًا بالسينما مع انتقاله إلى روما واستقراره فيها أواخر الخمسينيات. وسعى إلى الانخراط عمليًّا في هذا العالم الذي سحره، وبحصوله على كاميرا 16 ملي، راح يصوِّر أفلامه القصيرة. أول فلم له كان بعنوان: «موت خنزير» وهو صامت.

مساعد مخرج لبازوليني

برتولوتشي-٥

مشهد من فلم «خدعة العنكبوت»

كان في العشرين من عمره عندما سنحت له فرصة العمل كمساعد مخرج مع بازوليني في أول أفلامه: أكاتونه Acatone (1961م).. عن هذه التجربة يقول: «كانت المرة الأولى التي أدخل فيها موقعًا للتصوير. قلت لبازوليني: أنا لم أعمل في السينما من قبل، فكيف يمكنني أن أساعدك؟» رد قائلًا: «أنا أيضًا. إنها المرة الأولى لكلينا». كلاهما كان يتعامل مع السينما للمرة الأولى.. بلا خبرة ولا تجربة. بعد أن نجح الفلم، عرض أحد المنتجين على برتولوتشي ثلاث صفحات كتبها بازوليني ولم يكملها، وطلب منه أن يحوِّل هذه الصفحات إلى سيناريو كامل.. «كان من المقرَّر أن ينجِز الفلم مخرج آخر، لكن حين قرأ المنتج السيناريو الذي كتبته، طلب مني أن أخرجه بنفسي.. كان ذلك أول أفلامي: الحاصد المتجهم (1962م)».

العنوان يشير إلى الموت. من خلال هذا الفلم يوطد برتولوتشي هويته: أسلوبيًّا وشخصيًّا.. إنه يقدِّم لغةً سينمائية مصقولة وأسلوبًا بصريًّا ديناميكيًّا يجعله يتصل بالسينما الحديثة العالمية. الفلم جوهريًّا قصيدة انطباعية عن روما كما يراها فتيان البروليتاريا الرثة، الذين يستمتعون بالحياة رغم فقرهم وافتقارهم إلى الرؤية الواضحة. ظاهريًّا، تبدو القصة بوليسية إثارية: جريمة قتل مومس، في منتصف العمر، حدثت ليلًا في المتنزه، والتحريات التي تُجرَى للكشف عن القاتل، واستجواب عدد كبير من المشتبه بهم الذين يروون قصصهم مع اهتمام دقيق بالتفاصيل. كبناء درامي، الفلم قريب من فلم كوروساوا «راشومون»، حيث عبر سلسلة من الفلاش باك، التي تعبِّر عن وجهات نظر مختلفة، ومتباينة، بعضها حقيقيّ وبعضها زائف (أحيانًا يقول الشاهد شيئًا في حين نرى، عبر الفلاش باك، شيئًا يناقض ما يقوله)، نتابع تحركات عدد من المشتبه بهم وقت حدوث الجريمة. كل شهادة، في تحريات الشرطة، تصبح عنصرًا في لوحة عريضة. هنا ثمة توازن بين الحساسية تجاه القضايا الاجتماعية والثراء البصري.

هنا، وكما في أفلامه اللاحقة، يؤكد برتولوتشي على فكرة تدفق الزمن، وهي الفكرة التي تستحوذ عليه، ويقول عنها: «هذه الفكرة، الإحساس بمرور الزمن، هي بسيطة جدًّا. لكن الفكرة ذاتها هي أساس أو منطلق الكثير من الشعر». الفلم استُقبل بردود أفعال متضاربة. ولم ينجح تجاريًّا؛ لذلك بقي برتولوتشي عاطلًا عن العمل نحو سنتين. حين شرع في إخراج «قبل الثورة» (1964م)، يقول برتولوتشي: «عنوان فلمي -قبل الثورة- يتصل بالتضمين المقتبس من تاليران في بداية الفلم.. (أولئك الذين عاشوا قبل الثورة، وحدهم يعرفون مدى عذوبة الحياة). الفلم هو أكثر من مجرد سيرة ذاتية، كان عملية تطهّر.. محاولة لتخليص نفسي من مخاوفي الخاصة». البطل، فابريزيو، يعجز عن الانفصال عن روابطه العائلية التقليدية؛ بسبب تربيته الاجتماعية والثقافية. إنها قصة نضال خاسر. هنا يحلِّل برتولوتشي لا جدوى معتقداته السياسية الثورية، محوِّلًا المفاهيم المعقدة بشأن الهوية الطبقية إلى دراما شخصية أخاذة. ومع أن الفلم يستعير موقع الأحداث (في بارما) وأسماء الشخصيات وبعض العناصر السردية من رواية ستندال، الصادرة عام 1838م، فإن التفاصيل مختلفة تمامًا.

الوقوع تحت سحر الأيديولوجيا

برتولوتشي-٤

مشهد من فلم «بوذا الصغير»

الفلم عبارة عن صورة ذاتية لشاب شديد الحساسية، يُدعَى فابريزيو، يقع تحت سحر الأيديولوجية الماركسية، فيقوم بمحاولة، فاترة وتعوزها الحماسة، لرجّ خلفيته البورجوازية. إنه الشاب الممزَّق بين رفاهية حياته وتوقه إلى التحرر منها، بين الراديكالية والنزوع المحافظ، بين العلاقة العاطفية المحرَّمة وضرورة ارتباطه بالمرشحة لأن تكون زوجته. إن حالة التردُّد لديه ظاهرة ناشئة عن محيطه التاريخي، والتأثير المتنامي لليسار الإيطالي، وعن الخوف من الثورة.. هذا الخوف المطمور عميقًا في البورجوازية الأوربية. في هذا الفلم استخدم برتولوتشي التقنيات والعناصر الأسلوبية التي كانت تميِّز حقبة الستينيات، مع بحث السينمائيين آنذاك عن لغة جديدة، وتجديد السرد السينمائي، وابتكار تكوينات مغايرة.

وقد رحَّب النقاد بالفلم، ووصفوه بالإنجاز المهمّ والبارز للسينما الإيطالية الجديدة، كما حاز جوائز، لكنه أخفق تجاريًّا. بعد هذا الفلم كان على برتولوتشي أن ينتظر أربع سنوات (خلالها أخرج فلمًا وثائقيًّا عن البترول من ثلاثة أجزاء لصالح التلفزيون الإيطالي (1964م)، وأخرج فلمًا قصيرًا بعنوان: «ألم» (1967م) كجزء من فلم «حب وغضب». كما ساهم في كتابة سيناريو «حدث ذات مرة في الغرب» لسرجيو ليوني.. وذلك قبل أن يحقِّق فلمه التالي «الشريك» (1968م). وهو معد بتصرُّف عن قصة دوستويفسكي «البديل».

بيير كليمنت يؤدي دورين لشخصية مزدوجة أو فصامية.. المدرِّس في معهد الدراما، وهو متردد وحائر في عالم من الضغوطات المادية والفوارق الاجتماعية التي تحيله إلى حالة من السلوك العقيم. إنه حذر، غير واثق من نفسه.. سياسيًّا وجنسيًّا. بينما الآخر، الجانب الراديكالي العنيف، هو رجل فعل يحرِّض الطلاب على الثورة.. فنيًّا واجتماعيًّا. فيما الاثنان يتمازجان، تتضبب الأحداث وتزداد غموضًا، والفلم يصبح رحلة نحو عالم السوريال (ما فوق الواقع).

الفلم صعب واستفزازي، يكون مفهومًا على نحو أفضل بوصفه نتاج حلم. الفلم يتّخذ مساره المتعرّج، الملتوي، بدون قواعد سردية قابلة للتمييز، قافزًا من مشهد صعب ومبهم إلى آخر مماثل في الصعوبة. الانتقالات مفاجئة بين مشاهد حلمية، غير مترابطة، لا تلتزم بنظام منطقي، ومن غير أي إحساس بالتماسك والتلاحم. السرد هنا يخضع للتكثيف والتشظي. يقول برتولوتشي: «الفلم حلم، والمخرج هو الحالم. كل شخصيات الحلم تعكس أو تعبّر عن ذات الحالم». إنه أول أفلام برتولوتشي بالألوان والسينما سكوب. يتميّز بصريًّا بالقوة وبالتلاعب بالضوء والظل، وتوظيف الصوت بشكل مغاير، مع حركات كاميرا متقنة لكن مسرفة. موضوعه –رغم حيويته– بدا مراوغًا وغامضًا، والانتقال من الشخصية إلى البديل بدا مربكًا.

التغريب البريشتي

برتولوتشي-٦

مشهد من فلم «الإمبراطور الأخير»

عن فلمه هذا يقول برتولوتشي:«هو فلمي الملعون. ربما جاء مبكرًا جدًّا، ربما جاء متأخرًا جدًّا، لا أدري. الفلم لم ينجح جماهيريًّا. القليلون أعجبوا به، وقد جعلني أعاني الكثير. ربما لم أكن أفهم نفسي. إن فكرة التغريب البريشتي، التي يتبناها الفلم ويحاول أن يفرضها، هي ملتبسة وغير حاسمة على المستوى الثقافي بسبب القراءة السيئة لبريشت». فلمه التالي كان «خدعة العنكبوت» (1970م) المبني على قصة قصيرة كتبها خورخي لويس بورخيس بعنوان: «موضوع عن الخائن والبطل»، تدور في أيرلندا عام 1824م، ويمكن أن تدور –كما قال بورخيس– في «أي بلاد مقموعة». برتولوتشي جعل الأحداث تدور في بلدة صغيرة. بنية الفلم تستدعي درجة كبيرة من التماهي أو التطابق مع الشخصية الرئيسة، الشاب الذي يعود إلى بلدته، ويتحرى جريمة قتل أبيه قبل ثلاثين سنة الذي ربما قتله الفاشيون كما يشاع، أو قد يكون خائنًا للقضية المضادة للفاشية فقتله زملاؤه في المقاومة، وحتى تتكشف الحقيقة يظل الأب الراحل في موضع التوقير والتبجيل عند أهالي البلدة بوصفه بطلًا وشهيدًا معاديًا للفاشيين؛ لذلك فإن الغموض الذي يحيط بتفاصيل موته من الصعب، بل من الخطورة، اختراقه.

في النهاية تتضح له الحقيقة؛ إذ يكتشف أن أباه، في الواقع، قد خان رفاقه والقضية –في لحظة ضعف- وأفشى بالمؤامرة المخطط لها لاغتيال الزعيم موسوليني عام 1936م، في أثناء زيارته للبلدة. هذا ما يعترف به رفاق أبيه المتقدمون في السن، حين التقاهم في دار الأوبرا، كما يذكرون له عن الاتفاق الذي عقده أبوه معهم؛ أن ينال عقابه على خيانته لكن من دون تلويث القضية وإفقادها نقاءها وبريقها أمام المؤمنين بها، أي أن يُعدَم جزاء فعلته لكن من دون إفشاء السبب، بل يجب أن يبدو الأمر كما لو أن الفاشيين هم الذين قاموا باغتياله. وهم لسنوات طويلة أخفوا الحقيقة؛ ليبقى أبوه بطلًا شهيدًا في نظر أهالي البلدة. في النهاية، حين عرف الابن الحقيقة، كان عليه أن يختار بين كشف الحقيقة أو إخفائها. في الفلم كما في القصة، الابن لا يفشي السر، لا يكشف الحقيقة لأحد.. ربما لأن صورة الأب تظل قوية ومهيمنة إلى درجة تجعله يعجز عن كشف حقيقتها، عن تحطيمها، عن التحرّر منها. الابن يهمّ بمغادرة البلدة، بالهرب من الأب، من الماضي المفترس، من القدر. يذهب إلى محطة القطار نفسها التي وصل إليها في بداية الفلم، لكن يسمع من يعلن عن تأخر القطار لمدة 40 دقيقة، ثم لمدة ساعتين، ثم يخبره مدير المحطة: «أحيانًا ينسوننا تمامًا».

بينما يسير الشاب في موازاة خط السكة الحديدية، مع حركة كاميرا مصاحبة على طول القضبان، يكتشف أن السكة، عند موضع ما تصير مطمورة في الأرض تحت شجيرات نامية، ومكسوَّة بالأعشاب، دلالة على أن أي قطار لم يمر على هذه السكة منذ زمن طويل، ولن يمرّ أي قطار على الإطلاق. إنها إشارة ضمنية إلى أن الماضي استطاع أخيرًا أن يغمر الحاضر، أو ربما هو مجاز بصريّ لثيمة الفلم: حجب أي أثر للماضي، وللتعبير عن شرَك الزمن. على أية حال، هو يجد نفسه عالقًا في شبكة العنكبوت، عارفًا أن ليس بإمكانه أبدًا مغادرة البلدة. إنه ينصهر تدريجيًّا مع الماضي، مع أبيه، في كينونة واحدة. في هذه النهاية، التي تشكِّل صدمة شديدة للبطل وللمتفرج على حد سواء، تختلط الحقيقة بالوهم، الصدق بالزيف.

بعد إخفاق أفلامه السابقة، على الصعيد التجاري، حاول برتولوتشي أن يغيِّر طريقته في صنع الفلم متبنيًا أسلوب سرد مختلف قادر على أن يصل إلى الجمهور العريض. يقول برتولوتشي: «مع فلم خدعة العنكبوت بدأت في قبول فكرة الجمهور، بدأت باتصالي بالجمهور، هذا الاتصال الذي كان مفقودًا في السابق».

دي نيرو المتعدّد والمتحوّل

دي نيرو المتعدّد والمتحوّل

أمين صالح

أمين صالح

روبرت دي نيرو ممثّل خلّاق، ومتجدّد، ومتنوّع، ومتعدّد الوجوه والأشكال. منذ أن انبثق في السبعينيات كممثل استثنائي وهو يحفر في ذاكرة المشاهد سلسلة متوالية، بارزة ولافتة، من الشخصيات التي لا تتماثل إنما تختلف وتتعارض. مع كل فلم جديد يبدو مختلفًا عن الذي سبقه على نحو أخاذ ومدهش. يبدو أشبه بالحرباء. شخصيات ثرية، ومتنوعة، ومركّبة، ومتعددة الأبعاد، تتأرجح بين الرقة والعنف، والحساسية والفظاظة، والوداعة والقسوة، والهدوء والتوتر، الصفاء والغموض. شخصيات ذات أعماق مضطربة مبهمة، وشخصيات مباشرة أقل تعقيدًا، تلك التي تجوب عالم التراجيديا تارةً أخرى، وعالم الكوميديا الخفيفة تارةً. شخصيات مؤثرة ومحركّة للمشاعر، وفي الوقت ذاته، موشومة بحس الدعابة والجاذبية.

ولد روبرت دي نيرو في 17 أغسطس 1943م، في الحي الإيطالي الواقع في الجانب الشرقي من نيويورك. والده من أصل إيطالي – أيرلندي، ويدعى أيضًا روبرت دي نيرو، وهو رسام وشاعر وناقد. أمه فرجينيا أدميرال، رسامة أيضًا. لقد نشأ دي نيرو في محيط فني، حيث كان البيت بؤرة التقاء لعدد من الفنانين والكتّاب والصحفيين. هذه الدائرة الثقافية ساهمت في توجّه دي نيرو نحو الاهتمام بالفنون في سن مبكّرة. لكن هذا الصبي الخجول، الانطوائي، وجد صعوبة في التعبير عن نفسه حتى اكتشف، وهو في سن العاشرة، متعة التمثيل الذي مارسه في المسرح المدرسي. آنذاك التحق بالورشة الدرامية الأميركية بنيويورك.

عندما بلغ السادسة عشرة من عمره ترك المدرسة ليحقّق ذاته في المجال الفني كممثل، فدرس التمثيل تحت إشراف «ستيلا أدلر» و«لي ستراسبرغ» في أستوديو الممثل. والداه لم يعترضا على اختياره التمثيل: «كانا متعاونين جدًّا، قدّما لي الدعم والتشجيع. كانا سعيدين لأنني لم أرغب في أن أكون مروّجًا لصكوك التأمين». مارس التمثيل على خشبة المسرح، وفي بضعة أعمال تلفزيونية. في عام 1964م، في أثناء مشاركته في إحدى المسرحيات، لفت إليه انتباه المخرج بريان دي بالما، الذي كان آنذاك طالبًا في السنة الأخيرة بمعهد السينما، وكان يحضّر لتنفيذ فلم التخرج «حفلة زفاف» The Wedding Party، فأسند إليه دورًا ثانويًّا، وكان أول ظهور له على شاشة السينما. دي بالما اختاره مرة أخرى ليمثّل في فلميه التاليين: تحيات Greetings، أهلًا ماما Hi Mom . بعدهما ظهر دي نيرو في عدد من الأعمال المسرحية، وقد جذب أداؤه اهتمام الممثلة شيلي وينترز التي أصرّت على أن يمثّل دور ابنها في فلم «الأم الدموية» Bloody Mama. بعد ذلك شارك في بضعة أفلام قبل أن يلفت الأنظار ويحرز الثناء على أدائه الجيد والمحرّك في فلم «اقرع الطبل على مهل»  Bang The Drum Slowly.

لكن المخرج مارتن سكورسيزي هو الذي فجّر طاقته وأبرز موهبته الرائعة ووضعه في بؤرة الاهتمام عندما اختاره لدور مهم، وإن لم يكن رئيسًا، في فلمه «شوارع وضيعة» Mean Streets. لقد فتح هذا الفلم بوابة الشهرة والنجومية لدي نيرو، ورسّخ أقدام سكورسيزي كواحد من أهم مخرجي السينما الأميركية. وكان الفلم بداية لتعاون وثيق، لافت وفعّال، على مدى سنوات طويلة، أثمر أعمالًا قوية ومميّزة.

صار دي نيرو الممثل المفضّل لسكورسيزي، وكوّن معه علاقة فنية وشخصية حميمة. يقول سكورسيزي (Photoplay, August 1983): «لقد طوّرنا معًا نوعًا من العلاقة بحيث صار كل منا يعرف الكثير عن الآخر، يعرف ما يفكر فيه قبل أن ينطق به. جئنا من المنطقة ذاتها، فقد نشأنا في الحي الإيطالي ذاته، وكنا نرى الأشياء بالطريقة ذاتها. كلانا كان يشعر بأنه غير منتمٍ إلى محيطه. كممثل، أنا معجب به كثيرًا. لا أعتقد أن هناك ممثلًا أفضل منه». أما دي نيرو فيقول عن علاقته بسكورسيزي: «ما هو مهم في عملنا، والذي هو شاق جدًّا وبطيء جدًّا، هو ذلك النوع من المشاركة، والتواطؤ، والتضامن، والحد الأدنى من الهزل.. والذي يحول دون الإصابة بالصداع النصفي».

خصوصية الفنان

مارلون براندو في فلم العراب

مارلون براندو في فلم العراب

قليلة هي المرات التي وافق فيها على إجراء لقاءات صحفية معه. وعندما تتصل الأسئلة بحياته الخاصة وعلاقاته الشخصية كان يرفض الإجابة بشكل مهذب. لم يكن يميل إلى البوح عن طفولته، وتجاربه الأولى، حتى أسلوبه في التمثيل، حيث يرى مثل هذه الأسئلة تدخلًا في شؤونه الخاصة وانتهاكًا لخصوصياته. إجاباته غالبًا ما تكون مقتضبة، إيجازية، مراوغة، غير مرضية أو مشبعة.. «لماذا يرغب الناس في معرفة ماذا أتناول في إفطاري؟ ما أهمية معرفتهم بهواياتي أو مراحل دراستي؟ ما علاقة كل هذا بالتمثيل، بما أفعله، بما يدور في ذهني؟ لا شيء. أريد أن يحبني الناس، لكن ليس بسبب طريقتي في الابتسام في الحفلات إنما بسبب عملي في الأفلام». هناك من يدافع عن خصوصية الفنان، كما في حديث المخرج رولاند جوفي، الذي عمل معه في فلم The Mission: «دي نيرو يبذل جهدًا جبارًا، ويعطي الكثير من ذاته في أي فلم يشارك فيه، لذلك هو يقينًا بحاجة إلى صيانة خصوصيته وشؤونه الشخصية، هذا من حقه».

نعرف القليل عن حياته الخاصة. في عام 1976م تزوج الممثلة السوداء الجميلة ديان أبوت (التي ظهرت معه في بعض الأفلام: نيويورك نيويورك، ملك الكوميديا) ومنها أنجب ولدين هما: رافائيل، ودرينا. ويقال: إنه في حياته العادية شخص خجول، انطوائي، غامض، مراوغ، كتوم، هادئ، قليل الكلام، لا يحب أن يتحدث كثيرًا عن أعماله وأدواره. «أشعر بالتوتر حين أكتشف أن شخصًا ما ينظر إليّ». أما الجانب الآخر من شخصيته فيعلن عنه أحد أصدقائه: «إنه مهرج. بوبي (دي نيرو) لا يمارس تهريجه ولهوه ومزاحه إلا مع أصدقائه المقربين. لكنك تستطيع بسهولة أن تكتشف حس الدعابة لديه حتى في أكثر أدواره صعوبةً وتعقيدًا».

ابتعاده عن الأضواء وتجنبه اللقاءات الصحفية والدعاية، جعل بعضهم يتهمه بالغطرسة والعجرفة والفظاظة. غير أن الذين تسنى لهم الحديث مع دي نيرو، في المقابلات، وتوقعوا مواجهة شخص مشاكس، وقح، كتوم، عاجز عن الإفصاح عن آرائه ومشاعره، اكتشفوا شخصية جذابة ولطيفة، وأشادوا بثقافته وهدوئه وروحه المرحة وطريقته المهذبة في التصريح. منذ أواخر الثمانينيات، بدأ دي نيرو في كسر هذه القاعدة، وصار يتيح للصحافة ووسائل الإعلام إجراء لقاءات معه، إلى جانب مشاركته أحيانًا في الحملات الدعائية للفلم. كذلك كسر قاعدة مشاركاته في الأفلام، إذ حتى منتصف الثمانينيات لم يكن يمثّل إلا في فلم واحد في العام، لكنه منذئذٍ صار يظهر في أكثر من عمل في السنة.

وعن هذا يقول دي نيرو: «في هذه المرحلة من حياتي أشعر بأنني أريد أن أعمل كثيرًا، أن أنجز أشياء كثيرة. ربما سيختلف الوضع في المستقبل، ولن أعود أشعر بالرغبة المحمومة في العمل. في الماضي شعرت بأنه ليس من الضروري أن أعمل باستمرار، كممثّل، ولهذا أمضيت وقتًا طويلًا دون أن أفعل شيئًا. سنوات مضت وأنا أنتظر. الآن أريد أن أعوّض عما فات، فأنا شاب وقوي. ربما في مرحلة لاحقة سوف أركّز طاقتي على شيء آخر مختلف.. إخراج الأفلام مثلًا».

عندما طُلب من دي نيرو أن يحدّد أفضل أدواره، قال: «كثيرًا ما يُطرح عليّ هذا السؤال، لكنني في الواقع لا أستطيع أن أحدّد وأختار أفضلها.. ربما أتمكن من ذلك بعد خمس أو عشر سنوات». وعندما سئل عن الأفلام المفضلة لديه، تردّد طويلًا قبل أن يجيب: «الباحثان» The searchers للمخرج جون فورد. أما عندما سئل عن الممثلين الذين كان يفضلهم في شبابه، فقد ذكر: مارلون براندو، جيمس دين، مونتغمري كليفت، سبنسر تريسي، ولتر هيوستون. ومن الممثلات: جيرالدين بيغ، كيم ستانلي.

دي نيرو ومارلون براندو

حين تفجرت موهبة دي نيرو على الشاشة، وتعرّف الجميع إلى قدراته المدهشة في تأدية مختلف الأدوار وأكثرها صعوبة، وعلى طريقته الجديدة، غير المألوفة، في فهم وسبر وتجسيد الشخصيات، بدأ العديد من النقاد في مقارنته بمارلون براندو، خصوصًا في مراحله الأولى. لقد أدى إقلال براندو في الظهور في السبعينيات إلى انتخاب دي نيرو كوريث بلا منازع لبراندو. كان حقًّا الجدير والمؤهل لأن يحتل المكانة التي شغلها براندو في السينما الأميركية كممثل استثنائي وفريد. الخاصيات التي ارتبطت ببراندو طوال عقدين (الخمسينيات والستينيات) هي ذاتها التي ارتبطت بدي نيرو في السبعينيات والثمانينيات: الحداثة، والمغايرة، وممارسة التمثيل كحياة لا كمهنة، والتكثيف، والاختزال، والتحوّل.

التماثلات بينهما كثيرة، ويسهل تحديدها عبر مستويات متعددة: الانغمار الكلي في الدور، وتذويب الذات أو تحويلها بحيث يصبح الممثل هو الشخصية التي يؤديها. وضع كل شخصية في الواقع الملائم لها نفسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، والتعبير عنها بصدق وديناميكية. انتقاء الشخصيات المركّبة التي لا تتوافق مع ذاتها ومحيطها، التي تسعى إلى تأكيد نفسها. إعطاء اللغة سلطة إضافية تعبيرية وإيحائية من خلال التكثيف والاختزال والتركيز على المظاهر الصوتية المتنوعة كالغمغمة والهمهمة والتلعثم والتكرار. نبذ التقنيات المسرحية في الأداء وتحاشي الانفعالات الخارجية المفرطة والمكشوفة.

مارتن سكورسيزي

مارتن سكورسيزي

على مستوى المسار الفني نلحظ أن كليهما درس التمثيل في أستوديو الممثل، وتبنّيا أسلوب «المنهج» method في الأداء، معتمدين على تقنية المنهج في البحث والتحوّل أكثر من اعتمادهما على الغريزة والخبرة المكتسبة. من جهة أخرى، كلاهما حينما وصل إلى مرحلة في مسيرته الفنية شعر بأنه لا يعود يتعيّن عليه تأدية الأدوار الرئيسة فقط؛ بل يمكنه التحرك خارج دائرة هذه الأدوار، والظهور في أدوار ثانوية من دون أن يفقد بريقه المهيمن، وغالبًا ما تلقي شخصيتهما القوية ظلالها الحادة والمؤثرة على الفلم بأسره. براندو ظهر في دقائق قليلة من الزمن السينمائي في فلم «القيامة الآن» لكن المتفرج يستطيع أن يشعر بحضوره في كل كادر من الفلم. كذلك دي نيرو في Untouchables حيث يكون حضوره الطاغي محسوسًا طوال الفلم على الرغم من غيابه.

التماثلات أو المقارنات بينهما تتخطى حدود الشاشة وطرائق معالجة الشخصيات والتعبير عنها، لتمتد إلى مظاهر معينة ومحدّدة من السلوك الشخصي يقال: إن كثيرًا من المخرجين يرفضون العمل معهما لصعوبة التعامل معهما وترويضهما. التأويل المباشر والتبريري، والعجرفة والغرور، والمطالب اللحوحة غير المنطقية. لكن التأويل الحقيقي للخلاف يكمن في رغبة هذين الممثلين العظيمين في بلوغ الكمال، الذي يقتضي بالضرورة الحرص إلى حد الوسوسة، ومعرفة كل التفصيلات وأدقها بشأن الشخصية وعلاقاتها، ليس بالشخصيات الأخرى فحسب، بل بالعناصر الفنية أيضًا من كاميرا وإضاءة ومكياج.

وهما يشتركان أيضًا في كراهيتهما، أو عدم ثقتهما بالنجومية والأضواء والوسائل الدعائية، مفضّلين النأي والعزلة، معمقين بذلك الغموض الذي يحيط بهما. كلاهما لغز.

لقد أشار دي نيرو في مواضع عديدة إلى التأثير القوي الذي مارسه براندو عليه في بداية حياته الفنية. ومن اللافت أن نلحظ هذا الارتباط، أو هذه العلاقة غير المباشرة، متجلية في الوسط نفسه: الفيلم. في الجزء الأول من «الأب الروحي» جسّد براندو شخصية فيتو كورليوني، عرّاب المافيا، في مرحلة الشيخوخة، وعنه نال جائزة الأوسكار. في الجزء الثاني، جسّد دي نيرو الشخصية ذاتها لكن في مرحلة الشباب، مصوّرًا شباب براندو السينمائي، وعن دوره هذا حاز جائزة الأوسكار. أما في فلم The Raging Bull فقد وجّه دي نيرو إلى براندو ما يشبه التحية، أو ما يشبه الاعتراف بالفضل، حين كان يخاطب نفسه أمام المرآة مردّدًا حوار براندو في فلمه «على رصيف الميناء»  On The Water Front.

شخصيات تمتلك واقعها الخاص

taxi-driver01عبر عملية التحضير والبحث الطويلة الشاقة، يسعى إلى خلق شخصيات تمتلك واقعها الخاص وتميّزها ومصداقيتها. مثل هذا الاندماج الكلي، والمحاولة الصارمة لبلوغ الكمال، وعملية الاستقصاء المضنية والموجعة، لابد أنها ترهق وتستنزف كثيرًا من ذاته. ودي نيرو يعترف بذلك: «كل شخصية أمثلها تستنزف قدرًا كبيرًا من ذاتي. فيما بعد ينتابني إحساس بالفقد بأني فقدت شيئًا، وهذا الإحساس لا يزول إلا حين أبدأ من جديد في الحفر باحثًا عن الشخصية التالية».

هو لا يصبح الشخصية في أثناء التصوير فقط، بل خارج الموقع أيضًا.. في بيته، مع أصدقائه ومعارفه، مع الآخرين. إنه يتصرف كالشخصية التي يجسدها أمام الكاميرا. ابنة جاك لاموتا (الملاكم الذي مثّل شخصيته في الثور الهائج) تتذكر يوم تناول دي نيرو الغداء معهم، وفي لحظة معيّنة بدأ دي نيرو في انتقادها وتوبيخها بقسوةٍ، تمامًا مثلما يتصرف والدها معها في مثل هذه المواقف. بدا كما لو أنه تقمّص شخصية والدها كليًّا. شعرت بأنها ليست أمام دي نيرو الممثّل بل الأب الفعلي، والانتقاد الجارح دفعها إلى الخروج من الحجرة وهي تبكي. عملية التحضير والبحث أثمرت أدوارًا رائعة وناجحة، وكرّسته كواحد من أكثر الممثلين تفانيًا وجديّة وإبداعًا، وكان لمنهجه مفعول إيجابي وتأثير قوي في الجيل اللاحق من الممثلين الشباب الذين اتبعوا طريقة مماثلة في البحث والإعداد.

من جانب آخر، تثير عملية التحضير والبحث عند دي نيرو ذعر المحيطين به والمتعاونين معه. يعبّر أحد كتّاب السيناريو عن خوفه على دي نيرو، فيقول: «لو طُلب منه أن يمثّل شخصية رجل أكتع فلن يتردّد في بتر يده». وقال المخرج آلان باركر: «لست واثقًا من أنني أستطيع إسناد دور رئيس له في عمل قادم. ستكون بلا شك تجربة مرهقة إلى أبعد حد. كان دي نيرو، على رغم قصر دوره في (Angel Heart)، يطرح باستمرار كثيرًا من الأسئلة في موقع التصوير، ثم يتصل بي هاتفيًّا كل يوم مقترحًا أفكارًا واحتمالات جديدة. استغراقه في العمل لم يكن اعتياديًّا على الإطلاق».

أما جورج أولد، عازف الجاز الشهير، الذي عمل مستشارًا فنيًّا في فلم «نيويورك نيويورك»، وساعد دي نيرو على تعلّم العزف على الساكسفون، فقد قال: «كان يطرح عليّ عشرة ملايين سؤال في اليوم. كان ذلك مزعجًا وموجعًا بالنسبة لي».

كن مقامرًا

في بداياته، لم يعتمد دي نيرو على وكيل أعمال يتولى شؤونه الفنية.. «عندما تبدأ، لا تعتمد على أحد. كن مقامرًا. لن تعرف شيئًا ما لم تجازف وتجرّب.. بالتجربة تستطيع أن تحقّق ما ترغب في فعله». من شوارع وأحياء المدينة التي عاش فيها، من الناس الذين اختلط بهم وعاشرهم، من الشخصيات التي رصدها واختزنها في ذاكرته، استمد الأصوات والحركات والإيماءات والتصرفات.. «أنظر دائمًا إلى كل ما يقع تحت بصري ويدور أمامي. الشيء المهم هو أن تحدّق مليًّا وتتأمل وتفكّر. أحيانًا أدوّن أفكاري. عندما تكرّس وقتك لذلك، حتى لو كانت العملية مضجرة، سوف تكتشف أنك قمت بتغطية كل الاحتمالات، وكل الأشياء الممكنة، ولن تصادف مشقة في الاختيار».

هل يستطيع دي نيرو أن يقيّم أفلامه؟ الفلم مجرد محطة في رحلة طويلة مضنية، ومثمرة وغنيّة بالتجارب. إنه ينتقل من محطة إلى أخرى بلا توقف، وكل محطة تنتزع جزءًا من ذاته.. «لا أحب أن أشاهد أفلامي. عندما أفعل، يغلبني النعاس. أفضّل أن أشاهدها بعد عشر أو خمس عشرة سنة؛ لأنني عندئذ أكون منفصلًا عنها، مستقلًا منها، وأستطيع رؤيتها على نحو أفضل».