أزمة الصحافة الورقية في لبنان.. قصة موت لم يعلن عنه بعد

أزمة الصحافة الورقية في لبنان.. قصة موت لم يعلن عنه بعد

السؤال الذي لا بد من أن نستبق به الكلام عن أزمة الصحافة في لبنان هو: هل هذه الأزمة تؤدي إلى انهيار الصحافة وموتها أم انهيار الصحافة الورقية فقط، حتى لا تختلط علينا الأمور، في عصر تنهض فيه وسائط إعلام جديدة بدأت تسود على أكثر ما عداها من وسائط؟

هذا السؤال لا يتردد في لبنان وحده إنما يسود العالم كله؛ إذ بدأ التحول الانقلابي يطيح بكثير من أساليب الحياة التقليدية، وقد بات علينا أن نتعامل بحذر حيال الموقف، فلا نقف ضد تطور الحياة ونحن نتصدى لمفاعيل أزمة الصحافة التقليدية، فموت أسلوب في سبيل ولادة أسلوب جديد ليس موتًا، ففي مطلع مقدمته لكتاب صاحب جريدة النهار غسان تويني، «أسرار المهنة وأسرار أخرى»، كتب الشاعر اللبناني الراحل أنسي الحاج الذي كان وقت صدور الكتاب (عام 1995م) رئيس تحرير الجريدة: «ما من غياب إلا لحضور آخر، والانهيار قيامة، لا موت هنا، في هذا العالم، مع أنه مرصع بالموت، لا موت ولا صمت، بل حياة تتفجر من كل شيء». هذا الكلام جاء في معرض تفاؤل أنسي الحاج بالمستقبل الصحافي، وسط كل ما كان يراه من مشكلات في الصحافة اللبنانية، وما استنتجه من الحوار الطويل الذي أجراه مع صاحب «النهار» حول أسرار المهنة؛ حتى إن تويني نفسه الذي خاض غمار الصحافة في «النهار» منذ عام 1948م، حين رأس تحرير الجريدة بعد والده جبران تويني (أسسها عام 1933م) كان متفائلًا بما كان يجري في العالم من تغيرات.

مظاهر الأزمة

إذا كانت «النهار» صامدة حتى الآن مع كل التراجعات التي ألمّت بها، فإن إقفال جريدة «السفير» هو الذي اختصر الأزمة في لبنان، ولم يبدأها، ومنه انطلق الكلام الواسع عن بدء سلسلة الانهيارات المتوقعة للصحافة الورقية في لبنان، فالصراخ كان يتصاعد أكثر من صحف أخرى، عندما وصل تأخر دفع مرتبات العاملين في وسائل إعلام الرئيس الحريري (تلفزيون المستقبل، وإذاعة الشرق، وجريدة المستقبل) إلى عشرين شهرًا، وفي جريدة النهار إلى خمسة عشر شهرًا، وشهدت السنوات العشر الماضية سلسلة إجراءات تسريح عدد من الموظفين من الصحف. لم تنقطع مرتبات العاملين في «السفير» وهذا أمر إيجابي، لكن التوتر كان سائدًا في الاجتماعات، والخوف من التوقف في أي شهر كان ماثلًا أمام الجميع. وكانت «السفير» و«النهار» وصحف أخرى قد جمدت الزيادات الإدارية الدورية قبل 15 سنة، وأوقفت الشهرين الثالث عشر والرابع عشر، واتخذت إجراءات تقشفية مختلفة، على أساس تخيير الموظفين بين هذه الإجراءات والإفلاس. إن ما حصل لـ«السفير» كان يمكن أن يحصل في صحف أخرى، لولا أن هذه الصحف اتخذت إجراءات وقائية تحميها إلى مدد لا تطول كثيرًا، وقد اعتمدت مبدأ ملاقاة الأزمة في منتصف الطريق، فاختصرت عدد العاملين، على حساب مستوى التحرير ومستوى العمل الصحافي، علمًا بأن كل هذه الإجراءات الوقائية لن تقيها من الانهيار؛ ذلك أن الانهيار بات أمرًا بديهيًّا، وسوف يدور على الجميع، ما دامت الصحف مشاريع تجارية خاصة غير حكومية، وإن كان بعضها ذا أبعاد حزبية.

ونحن نتحدث عن هذه الظروف القاسية التي تعيشها الصحافة اللبنانية نتذكر، لو رجعنا بالتاريخ إلى الوراء، أنها كانت مثلًا حسنًا للصحافة العربية، وأن بيروت كانت ذات يوم عاصمة الصحافة العربية مثلما كانت عاصمة الثقافة العربية وعاصمة الحريات، وصحيح أن الصحافة اللبنانية الحديثة التي تأسست في القرن العشرين قد استفادت كثيرًا من الصحافة المصرية قبل أن يلجمها نظام عبدالناصر، فإن الصحافة المصرية نفسها التي انطلقت مع «الأهرام» عام 1874م كانت تأسست على يد اللبنانيين سليم تقلا وأخيه بشارة اللذين أسسا مطبعة ودار «الأهرام» في الإسكندرية قبل نقلها إلى القاهرة، لتصير أهم جريدة مصرية. ولعل عز انتشار امتيازات الصحافة اللبنانية كان بين عامين 1950م (حيث صدر 50 امتيازًا) وعام 1955م (45 امتيازًا). وإذا علمنا أن عدد امتيازات الصحف اللبنانية قد وصل إلى 110 امتيازات، نفهم أن الخط البياني لانهيار الصحافة بدأ منذ زمن طويل، فكثير من الصحف التي توقفت ذات عام كانت تعاني مشكلات مشابهة للتي عانتها «السفير» وتعانيها صحف اليوم، مع اختلاف التفاصيل وطبيعة العصر، وقد وصل عدد الصحف اليومية حاليًّا إلى عُشْرِ الـ110، كما صرح نقيب الصحافة الجديد في لبنان عوني الكعكي.

أسباب الأزمة

غسان تويني

يمكن أن نلخص أسباب أزمة الصحافة في لبنان بما يأتي:

أنسي الحاج

أولًا- أزمتنا جزء من الأزمة التي تصيب الصحافة الورقية في العالم، وتحوُّل عدد كبير منها إلى إلكترونية، في ظل ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الجديدة، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة، نذكر منها «النيوزويك» الأميركية الشهيرة، و«كريستيان ساينس مونيتور»، أعرق صحيفة أميركية وقد استمرت بالصدور قرنًا كاملًا، ثم «الإندبندنت» البريطانية وصحيفة «ذي لندن بيبر» المسائية المجانية، بعد إقفال نحو مئة صحيفة محلية في بريطانيا. وهكذا يمكن ذكر كثير من الصحف الأوربية وسواها من دول العالم، التي أسقطها التنافس مع الإعلام الإلكتروني، وبات متعذرًا عليها الاستمرار في ظل الأزمات الاقتصادية، وكذلك في ظل تنافس التلفزيون والإذاعة أولًا، ثم وسائط التواصل الاجتماعي وأثر الإنترنت وصيغة الإعلام الجديدة التي تركز على المعلومات أكثر من الإعلام بمعناه الأشمل. لم تكن تبعات الأزمة العالمية التي نتحدث عنها ترمي بثقلها على الصحافة اللبنانية وحدها في منطقتنا، إنما شهدت الصحافة العربية كثيرًا من الأزمات، وسادت حال الرعب العديد من العاملين في الصحافة الورقية، خصوصًا العاملين في الصحف غير المدعومة من الحكومات، بل إن بعض الصحف التي تقف خلفها سلطات بدأت تعاني مشكلات تهدد استمرارها، وقد اتخذت صحف خليجية عدة إجراءات وقائية؛ لتفادي السقوط المبكر، فلم تَسلَم الصحيفتان الكبريان «الحياة» و«الشرق الأوسط» من الاهتزاز، وإن كانت «الحياة» محسوبة بامتيازها على لبنان، وبمضمونها وقدراتها المالية على السعودية. وقد باتت صحف كثيرة مصرية وكويتية ومغاربية تشعر بهذا الاهتزاز، ويكفي أن نعرف أن مجموع توزيع الجرائد اليومية المصرية انخفض إلى 400 ألف نسخة فقط (كان مليونين و400 ألف عام 2009م) وهذا تراجع ينذر بالشؤم لأنصار استمرار الصحافة الورقية.

ثانيًا-  تراجع المال السياسي الذي انقطع مع انهيار نظام صدام حسين ونظام القذافي، وكذلك توقف تدفق المال الخليجي لأسباب عدة؛ منها شعور الداعم السياسي بعدم الجدوى من دعمه، بعد حدوث ضعف في الأداء والتأثير شهدته الصحف، كذلك بعد تطوير وسائل الإعلام الخليجية التي باتت تؤدي الغرض نفسه الذي تؤديه الصحافة اللبنانية، خصوصًا بعد استقطاب الطاقات الصحفية اللبنانية التي هجر بعضها بسبب الحرب وبعضها الآخر طلبًا لأجور أعلى.

ثالثًا- تراجع المبيعات، فقد مرت على الصحف اللبنانية مراحل ذهبية، أو مناسبات، وصل فيها إصدار جريدة «النهار» إلى 125 ألف نسخة، في حين وصل إصدار «السفير» إلى 50 ألف نسخة، لتبدو الأزمة في قمتها عندما وصلت مبيعات كل من «النهار» و«السفير»، الأكثر انتشارًا في لبنان، إلى قرابة خمسة آلاف نسخة يوميًّا، إذا لم تقل عن ذلك في المراحل الأخيرة لاحتضار «السفير»، وقد بات عدد النسخ المطبوعة من الصحيفة في لبنان سرًّا من الأسرار العميقة خوفًا من انكشاف نقاط الضعف. ومع هذا التراجع في المبيعات تصبح كلفة النسخة أضعاف أضعاف سعرها في السوق، وقد وصلت في جريدة «السفير»، على حد علمي، إلى أكثر من خمسة أضعاف، وقد بات من المستحيل الاستمرار من دون دعم إعلاني أو سياسي.

عوني الكعكي

عوني الكعكي

رابعًا-  تراجع الإعلانات سنة بعد سنة جعل الأزمة في ازدياد تدريجي، خصوصًا في الصحف التي لا تعتمد على مال سياسي أو دعم حكومي، وكل الصحف اللبنانية المعروفة غير مدعومة رسميًّا، وقد تركز الدعم الرسمي في لبنان على «الجريدة الرسمية» وهي مقتصرة على الإعلانات الرسمية، ووكالتي الأنباء «الوطنية» و«المركزية».

خامسًا- تراجع مستوى التحرير، مع تزايد الضغوط الاقتصادية، واضطرار الصحيفة للتخلّي عن كوادر مهمة بسبب مرتباتهم العالية، وتوظيف شباب وشابات جدد بمرتبات أقل. ولا نغالي إذا قلنا: إن بعض الذين توقفوا عن شراء الصحف إنما فعلوا ذلك لأن مضمونها لم يعد يقنعهم، ولم يعد يمثل تطلعاتهم، خصوصًا في مرحلة تزايد الحساسيات الطائفية والمذهبية، ولم تستطع الصحف، التي حاول بعضها كثيرًا استقطاب قراء الأجيال الشابة، الوصول إلى الهدف.

سادسًا- عدم تحول الصحف اللبنانية إلى مؤسسات تدار بشكل ذاتي؛ إذ تخضع الصحف لأمزجة شخصية، ثم يأتي التوريث ليفقد الصحيفة البوصلة التي وضعها المؤسس، فيأتي جيل أقل حماسة من سابقه، وهذا ما حدث بوضوح عندما مرت جريدة «النهار» بمراحل مختلفة متأثرة بمصلحة الوريث، فمن جبران تويني الجد إلى غسان، ثم ابنه جبران، وصولًا إلى ابنة الأخير نائلة التي في زمنها تشهد الجريدة آخر انهياراتها، ولا شك في أن تدخلات أبناء طلال سلمان عجلت من إقفال «السفير»؛ لأنهم هدفوا إلى حفظ ما توافر لهم من أرباح في زمن مضى، لأن الاستمرار أكثر يقضم بعضها، وقد صرح سلمان بما يؤكد هذا المعنى عندما رأى أنه لا يريد أن يحرم أبناءه من الإرث.

ماذا‭ ‬بعد؟

إذا كان إقفال جريدة «السفير» قد رمى قرابة 150 موظفًا في الشارع، فإن نقيب المحررين اللبنانيين، إلياس عون، دعا الدولة إلى إيجاد حلول لإنقاذ قطاع يوفر دخلًا لقرابة 10 آلاف شخص، يمكن أن تمارس بحقهم أساليب «تطفيش»، لا سيما من خلال تأخير دفع الرواتب، لكن كل صيحات استدراك استفحال الأزمة باءت بالفشل حتى الآن.

كلنا أسف على التاريخ المجيد للصحافة اللبنانية الرائدة على المستوى العربي، وأسف أكبر على تلك التي أقفلت الستارة على تجربتها بشكل كامل، وتلك التي تقف على شفير الهاوية، أو لم تعلن عن موتها بعد (تحويرًا لعنوان رواية ماركيز «قصة موت معلن»). ولا يسعنا إلا أن نأمل في استمرار حضور الصحف اللبنانية الجادة، بما تتميز به من حريات وخبرة عالية، من خلال تحولها إلى الوسائط الإعلامية الرقمية الجديدة، الأقل كلفة والأكثر انتشارًا.. وتأثيرًا.