مسيرة الغناء السعودي.. تجارب ومراحل في إستراتيجية الذاكرة المستمرة

مسيرة الغناء السعودي.. تجارب ومراحل في إستراتيجية الذاكرة المستمرة

أحمد الواصل

أحمد الواصل

إن التراث الثقافي غير المادي –أي المعنوي- من ضمن ما يشمل فنون الأداء والقول والحركة، وفن الغناء يعد من الفنون الجماعية الحاوية لفن الأداء أي: صوت الحنجرة والآلة، والقول: أي النص الشعري، والحركة: أي الإيقاع واللعب أو الرقص المصاحب.

واستطاعت هذه الفنون الأدائية المختلفة أن تخلق قالب «الأغنية» الذي عبر عن القرن العشرين لكل المجتمعات في الكرة الأرضية، وشكلت أرشيفًا أعاد قراءة التراث وأضاف عناصر جديدة، وانقطع عن كل هذا إلى المجهول، ولكل مجتمع مزايا إما أن تجعله يقرأ المستقبل بمواهبه ومؤسساته، وإما أن تنتهي كل التجربة الثقافية إلى التبدد. فإذا ما لحظنا من الناحية الجغرافية شبه الجزيرة العربية وتنوعها البيئي، وفي المملكة العربية السعودية حيث تشكل مساحتها الكبيرة قوة في التنوع من حيث توزيع الأقاليم وتنوع ثقافاتها في تفاصيلها رغم اشتراكها في بعض تلك الفنون دون أن يغفل آثار الجوار سواء لأقاليم مشتركة الثقافة داخل شبه الجزيرة العربية أو من خارجها في القارتين الآسيوية والإفريقية:

أولًا- الإقليم الغربي أو الحجازي: مكة، والمدينة، والطائف، وينبع.

ثانيًا- الإقليم الأوسط أو النجدي: الرياض، وسدير، والقصيم.

ثالثًا- الإقليم الجنوبي: عسير، ونجران، وجازان.

رابعًا- الإقليم الشرقي: الأحساء، والقطيف.

خامسًا- الإقليم الشمالي: حائل، وتبوك، والجوف.

إذا كانت تشترك بعض الأقاليم في بعض الفنون سواء داخل المملكة أو خارجها مثل: فن السامري والشعر النبطي بين نجد والكويت والبحرين وقطر كذلك فن النهمة والشعر الزهيري بين الأحساء والكويت والبحرين وقطر، فإن فن الكسرة يتبع مدينة ينبع، والمجرور إلى الطائف، والزامل إلى نجران غير أن المجس مشترك بين مكة المكرمة والمدينة المنورة.

وإذا كان فن المزمار حبشيًّا وافدًا إلى الحجاز، فإن فن الطنبورة فنٌّ صومالي وافد إلى الأحساء مثلما فن المرافع وافد إلى نجران، والصهبة والدور وافدان من مصر إلى مكة المكرمة، كذلك فن الدان وافد من اليمن إلى الحجاز. غير أن هذه الفنون الناشئة في كل إقليم متطورة عبر الزمن، كذلك الوافدة اتخذت صور الأداء والتواتر مندمجة في مكان معيشتها؛ ما يجعلها جزءًا من العناصر الثقافية والمكونات الحضارية.

الفنون الشعبية في الجزيرة العربية

وما بين تناقل فنون الأداء الموروثة عبر الذاكرة الشفوية بمختلف أنماطها وطرائق أدائها ورقصاتها المصاحبة إن لزم، وبين نشأة الأغنية بعناصرها الأساسية، ومن ثم نشأة صور الملحن المستقل عن المغني، وأساليب الأداء، واتجاهات التلحين، ومدارس الغناء المختلفة؛ ما يبني تاريخ فن الغناء في أي بلد عربي منذ القرن العشرين. أقول: وما بينها يمكن مطالعة تجمد بعض فنون الأداء والقول والحركة حين سجلت بوصفها نصوصًا من الشعر المغنى، ولا يمكن عزلها عن تقاليد تلزمها وطقوس تصاحبها في أدائها، ومن ثم التفاعل معها. ويمكن التذكير بموسوعتين –على سبيل المجاز- حفظتا في منطقتين هما أدعى إلى الشعور باكتساح قالب «الأغنية» الذي قطع بشكل نهائي مع أنماط فنون الأداء والقول والحركة، وهما اللتان مهدتا لأن يصدر كتاب «الفنون الشعبية في المملكة العربية السعودية» (1994م) الذي أشرنا إليه في المقدمة بوصفه يقدم مداخل لفنون من التراث غير المادي أقاليم المملكة.

ففي المؤلف الذي أعده محمد بن أحمد الثميري برواية محمد بن عيد الضويحي، وصدر بعنوان: «الفنون الشعبية في الجزيرة العربية» (1972م)، تبرير سبب تأليفه في مقدمته الموجزة:

«وأبصرنا الكثير من الشباب يحبون أن يغنوا ويسمروا في البر والسيارات في الطريق، وحاولنا أن يوجد لهم ما يسليهم، ويحفظ تراثهم، وكان الكثير من الشباب لا يحفظون من الأغاني الشعبية ما يريدونه، فكثيرًا ما تساءلوا عن قصائد الغناء فلا يجدون من يجيبهم، ومن هنا يتبين أن كل من أراد أن يصوّت بالغناء سيجد في هذا الكتاب طلبه».

جمع الكتاب أنماطًا من التراث غير المادي، فوضعه في قسمين: الأول- يعنى بنصوص من الشعر المغنى أو الشعر الملقى، مثل: الهجيني (غناء السفر)، والعرضة (غناء الفروسية)، والسامري (غناء السمر)، والمراد (مساجلات شعرية)، والمروبع (غناء راقص)، وجرّة ربابة، ومدائح وإخوانيات..

وأما القسم الثاني من الكتاب، فهو يحتوي على سوالف وقصائد (حكايات يتخللها شعر)، وتتنوع موضوعاتها ما بين حكايات بطولة وحكايات رمزية وأخلاقية، وبعض الألغاز. ويغطي الكتاب مناطق عدة من إقليم نجد حيث توجد هذه الأنماط وتتناقل فيما بينها، بل إنه يمتد بحسب توسع «التراث النجدي» ما بين الزبير والكويت، ويبرز من بين تلك المدوّنات من الشعر المغنى أسماء دائمة الذكر: محمد بن لعبون، وعبدالرحمن البواردي، وصالح السكيني وسواهم.

ومن نصوص محمد بن لعبون التي وضعها ضمن نمط «فن السامري»، ثم أعاد تلحينها يوسف المهنا –من مواليد الزبير وأبنائها- لطلال مداح عام 1962م:

«علامه ما ينابيني علامه

ويخفي ما بقلبه من غرامه»

وأما من القسم الثاني، فهذا نموذج لحكاية بين الشاعر حميدان الشويعر وابنته لطيفة:

«لطيفة بنت حميدان الشويعر». أحبّت لطيفة رجلًا من قومها لا تعرف اسمه، فخطبها من أبيها فأبى أن يزوجها له؛ لأنه يرى أنه ليس بكفء لها، ولما اتضحت محبتها له نزل على رغبتها، فتزوجها وكان فقيرًا، فلما كثر أولاده لم يستطع عولهم فهرب ليلًا ولم يعرف مكانه، فقال حميدان الشويعر:

«لا جا ثور يخطب بنتك

فاقرع قينه وقل له قف!»

وأما الكتاب الثاني، فهو «السفينة» (1983) لأنس محمد سعيد كمال، وعرف المؤلف مصطلح السفينة على العنوان بوصفه مجموعًا أدبيًّا من الشعر الملحون وبعض الفصيح للأغاني القديمة وبعض الحديثة.

ويذكر في مقدمة الكتاب التي توفرت على تعريف وربط تاريخي ووصف لبعض هذه الأنماط التي تنتمي إلى إقليم الحجاز، فيقول: «إذ كان بعض رجالنا يعتني بتدوين الشعر الملحون (الحميني) لدورانه على الألسنة ولذيوع فهمه بين كثير من الأوساط ولسهولته ورقته وانسجامه اتُّخِذ كثير منه للأغاني الشعبية حتى دُوِّن وجمع فيه بعض الناس ما يسمّى (السفينة) وهي كناية عن مجموع أدبي يختاره ذوو الذوق في الشعر لتسجيل هذه الأشعار، وكثير منها إن لم تكن كلها قد استحسنها الأدباء وذوو الأصوات الحسنة، لينشدوا بها فتزداد حسنًا إلى حسن، هذا ولا أكتم القارئ الكريم أن بعضًا من الأغاني الحجازية القديمة كانت يمنية في طابعها بالرغم مما أدخل عليها من إضافات وتحسينات حتى لقد اشتهر هذا الغناء المعروف (باليماني) ولكن بعد أن أضيف إليه حسن الأداء، وأدخل عليه تحسين في اللحن يتواءم مع البيئة الحجازية؛ لهذا نجد كثيرًا من القدامى يفضلون الأغاني اليمنية الحجازية على الأغاني الشامية أو المصرية، سيما إذا أجيد الأداء واختير حسن الصوت».

ويشير إلى مصادره، مثلما أورد الثميري راويه في صدارة الكتاب، وهي مجموعة من السفن المخطوطة التي اطلع عليها، ومنها سفينة درويش الحلواني (ت.1945م)، وسفينة عبدالرحمن الحلواني (ت. 1931م)، وسفينة نائب الحرم محمد بن عثمان التي اشتراها الشيخ محمد الكردي، وأضاف إليها نصوصًا أخرى عام 1918م، وسفينة أحمد بن منصور المنديلي، وسفينة هشام بن عثمان العمري.

وقد اعتمد على مختارات دون أن يسمي أنماطها أي الفنون الأدائية والحركية والقولية التي تمثلها، فهي مجموعة من نصوص الشعر المغنى، وإن كان أشار إلى فن المجرور منفردًا، غير أنه يُعرَف لتلك النصوص أنماط مثل: المجس، والدانة، ويماني الكف.

وتتنوع أسماء مبدعيها سواء من شعراء اليمن، بما يخص «الشعر الحميني»، مثل: ابن شرف الدين وأحمد الآنسي، وللمجرور شعراؤه مثل: الشريف أحمد بن يزيد، والشريف عبدالله بن هزاع، وكامل بن شحات، وعلي باشا، وأضاف إليها قصائد صوفية في المدائح النبوية والتوسلات الإلهية معروفة لكل من أبي بكر العيدروس وعبدالرحمي البرعي، وأضاف أغنيات وضعها طارق عبدالحكيم لنصوص كتبها شعراء جدد وقتها مثل: الأمير عبدالله الفيصل، وإبراهيم خفاجي، ومحمد الفهد العيسى، ومحمد طلعت.

ومن نماذج فن المجرور لعلي باشا:

«بنفسك على نفسك حبيبي ترجيت تسامح وتعفي

وإن كان لي ذنب فأنا قد تربيت وما زال يكفي».

ومن الأغاني الحديثة لطارق عبدالحكيم لحنًا وغناء، وهي من شعر طاهر زمخشري:

«أهيم بروحي على الرابية

وعند المطاف وفي المروتين

وأهفو إلى ذكر غالية

لدى البيت والخيف والأخشبين».

تقاليد وطقوس

وما بين النماذج الفائتة انتقلت فنون الأداء والقول والحركة من أنماطها ذات التقاليد والطقوس، مثل فن المجرور أو فن السامري، نحو قالب الأغنية الذي لم يكن في الأغنية السعودية، بل كان مترسخًا في مراكز الغناء العربي خلال القرن العشرين.

وفي القرن الحادي والعشرين دخلت المجتمعات حالة جديدة من تطور فن الغناء؛ إذ أتاحت وسائل نقل الأغنية وأجهزة تسجيلها صناعة أغنية لعصرها لا يمكن التنبؤ بمستقبلها، ولعلنا نجمل تاريخ الغناء السعودي خلال قرن كامل عبر مراحل تلخص لهذه التجربة الكبيرة:

المرحلة الأولى- الرحلة الفنية والتسجيلات الأولى

يحفظ التاريخ تسجيلات غنائية عام 1909م عن طريق موظفي القنصلية الهولندية في جدة، سجلوا نماذج من الأذان وتلبيات الحجاج من إندونيسيا، وأصوات مقرئين من زنجبار واليمن، وهي تسجيلات الهولندي سنوك هوروخورنيه، ويذكر الباحث محمود صباغ حكاية هذه التسجيلات في مدونته: «كان سنوك هوروخرونيه مسؤولًا رفيعًا في الدبلوماسية الهولندية عبر البحار في مواقع نفوذها في جزائر جاوى وجزر الهند الشرقية. كانت مهمته تنحصر في رصد واستشراف اتجاهات الفكر لدى السكان الجاويين المحليين، وكان ذلك باعث رحلته الأولى إلى مكة عام 1885م. لكن نزعات المعرفة والاستطلاع ستنمو لديه.. فاستغل درايته وقدراته اللوجستية في رفد حقلي اللسانيات والموسيقا الإثنيّة وفلكلور الشعوب بمواد رائدة عن مكة. وفي سبيل تنفيذ مشروعه أرسل سنوك الفونوغراف الخاص به إلى الحجاز عام 1906م عبر ترتيب يشرف عليه السيّد محمد سعيد تاج الدين أحد أقطاب نقل حجاج جنوب شرق آسيا بالسفن البخارية، مع القنصلية الهولندية في جدة وعبر مندوبه وشقيقه في الحجاز السيّد جمال الدين آل تاج الدين.

سلامة-العبدالله

سلامة العبدالله

سُجل على تلك الأسطوانات قدر هائل من كل ما يمكن أن يخطر على البال، مما يخص الموروث الحجازي بين عامي 1906 و1909م: سور قصار من القرآن الكريم، وأذان الحرم المكي، وابتهالات دينية، وموشحات مديح نبوي وتزهيد، وغناء محكي، ودانات مكيّة مُغنّاة على آلة العود، وألوان من المجرور والحدري والفرعي، ومجسات على الأصول والفروع، وتسجيل لغناء جماعي في الحارات الشعبية كمقاطع من الصهباء المكيّة ويماني الكف، وغناء نسائي، وشعر بدوي، وغناء لنساء بيشة، ومقاطع من احتفالات الزواج، ومقاطع ترصد الأهازيج المغناة في الاحتفاليات العامة مثل: افتتاح محطة معان الحجازية ضمن سكة حديد الحجاز عام 1907.

لكن في سجلات شركة ميشيان الألمانية حفظ أكثر من عمل بين دانات ومجسّات سجلها الشريف هاشم العبدلي (ت.1926م) –على وجه التقريب- في العهد الهاشمي، فقد تغنى بمجس من شعر الملك عبدالله الأول بن الحسين (انظر ملحق: الشعر المغنى)، وحفظت تسجيلات أخرى في الخمسينيات لمغنية تحمل اسمًا مستعارًا «كوكب الحجاز» تدعى ليلى حسين.

ويعد من سجّل لهم هذه الفترة طبقة من رواة الغناء الحجازي التقليدي تشكل جيلين من أبرزهم: سعيد أبو خشبة وحسن جاوة –من عائلة باجنيد- وعبدالرحمن مؤذن شهير بالأبلاتين –من عائلة دحلان- وحسن لبني حتى من ورث ذلك الجيل محمود حلواني ومحمد علي سندي. وقد ارتحل بعض منهم إلى إسطنبول لدراسة الموسيقا مثل أحمد شيخ (اللهبي، 2009، ص: 24) وذاع صيته في الشام كما تحدثنا سابقًا. بينما ارتحل بعضهم إلى مصر لتسجيل أعمالهم.

إذا كان الشريف العبدلي ارتحل إلى مصر ليسجل أعماله، فإن مجموعة من فناني الأحساء والرياض ذهبت إلى البحرين والكويت لتسجيل أعمالها منذ منتصف الخمسينيات حتى ظهرت شركات الأسطوانات نهاية الخمسينيات، فتمكنت من توفير أجهزة تسجيل وإنشاء أستوديوهات في الرياض والأحساء لشركات مثل: الأسود فون، ونجدي فون والتلفون.

الشريف-هاشم-العبدلي

الشريف العبدلي

وقد حفظت لنا هذه الشركات أسماء مغنين منها: شادي القصيم (صالح الدوسري)، وشادي الرياض (سعد اليحيا)، وفرج الطلال، وفتى حائل (سالم الحويل)، ووحيد الجزيرة (فهد بن سعيد)، ومن الأحساء عبدالرحمن الهبة، وعايد عبدالله، وعبدالله العماني، وفرج المبروك، ومن الحجاز عبدالعزيز شحاته، ومحمود حلواني، ومحسن شلبي، ومن الجنوب علي عبدالله فقيه (بشير، 2009، ص67).

وقد نشأت في تلك الحقبة إذاعات أهلية لعل أشهرها «إذاعة طامي» في الرياض لصاحبها عبدالله الطامي (1921- 2000م)، وإذاعة في الدمام لعبدالله الشعلان، وعلى الرغم من أن إذاعة جدة قد أسّست عام 1949م إلا أن «إذاعة طامي» تمكّنت من نقل الأخبار السياسية والاجتماعية، وبث الأغنيات، وبخاصة تسجيلات الأسطوانات رغم منعها من البث في الإذاعة الرسمية قبل افتتاح إذاعة الرياض (1964م).

المرحلة الثانية- انطلاق الفنانين والإذاعة الرسمية

يشير أحد المؤرخين، محمد علي مغربي، في كتابه «ملامح من الحياة الاجتماعية في الحجاز في القرن الرابع عشر الهجري» (1982م) إلى مسألة اجتماعية تختص بتحول في تقاليد تصاحب فنون الأداء والقول والحركة: «كان هناك من يمارس ذلك النوع من الترويح ولكن في السر وبعيدًا عن العيون والآذان في أقبية البيوت، أو في الأماكن المكتومة التي لا تظهر فيها أصوات آلات الطرب، أو في الخلاء بعيدًا عن العمران».

برغم أن جهاز الغرامافون (أو صندوق الغناء) أتيح نهاية الأربعينيات تهريبًا إلا أنه لم يسمح به رسميًّا حتى عام 1961م. ولعلنا نعد إنشاء وزارة الدفاع السعودية لمدرسة موسيقات الجيش العربي السعودي عام 1953م حدثًا بارزًا حين عاد من دراسته في القاهرة وترأسها طارق عبدالحكيم، وحددت أهدافها: أولًا- تقديم التحية العسكرية (السلام الملكي السعودي). ثانيًا- الترفيه عن الضباط وصف الضباط والجنود.

سعيد-أبو-خشبة

سعيد أبو خشبة

قيدت أنشطتها في المناسبات الوطنية والأعياد، وكلّف وزير الإعلام عبدالله بالخير عبد الحكيم أن يكوِّن فرقة الإذاعة عام 1961م لتكون نواة لعمل أستوديوهات الإذاعة ودعم الأغنية الناشئة آنذاك. خلال هذه الحقبة سوف تعرف أصوات كثيرة بعضها لأول مرة يظهر مثل غازي علي وطلال مداح وجميل محمود، وبعضها انتقل إليها من مرحلة الغناء في السهرات والأعراس، مثل: محمود حلواني، ومحمد علي سندي، وعبدالله محمد، وفوزي محسون. كما أنه وضع مؤلفات تعليمية تخص الموسيقا العسكرية، مثل: «دليل العازفين الموسيقيين العسكريين»، و«تاريخ الموسيقا العسكرية قديمًا وحديثًا».

وقد استطاع عبدالحكيم، الذي عرف ملحنًا ومغنيًا وراقصًا، من خلال أغنيات شهيرة: «يا ريم وادي ثقيف، عند النقا، يا لابس الإحرام»، أن يمنح الكثير من الأصوات العربية ألحانه حقبة الخمسينيات والستينيات مثل نجاح سلام، وسميرة توفيق، ووديع الصافي، كذلك منح جميل محمود ألحانه هيام يونس، وفي المقابل انتقل الشعر السعودي إلى الحناجر العربية بألحان عربية أيضًا؛ إذ لحن رياض السنباطي من قصائد الشاعر عبدالله الفيصل لأم كلثوم «ثورة الشك (1958م)، ومن أجل عينيك (1972م)» ولنازك «ليته يعرف الملل»، ولحن محمد محسن منها لنور الهدى واحدة من قصائده «حبي البكر».

ولا يمكن أن يغفل في هذه المرحلة الدور الكبير الآخر لسمير الوادي (1926-1982م) الاسم المستعار لمطلق الذيابي شاعرًا وملحنًا ومغنيًا، إضافة إلى عمله الإعلامي مذيعًا مبكرًا منذ عام 1955م. سجّل سمير الوادي أغنياته ما بين شركات الأسطوانات والإذاعة (منذ عام 1961م)، التي تجمع ما بين الطابع البدوي والتقليدي. وقدم مجموعة من الألحان لأصوات سعودية مثل: طلال مداح، ومحمد عبده، وإبتسام لطفي، وعبدالله السلوم، وخالد مدني. ومن الأصوات العربية: هيام يونس، وعايدة بوخريص، وسعد عبدالوهاب، ووديع الصافي، ومصطفى كريديه، وسعاد محمد، وشريفة فاضل، ونجاح سلام. وأنجز سمير الوادي 39 قطعة موسيقية خلال مدة عمله بالإذاعة، ولحق به المؤلف الموسيقي حامد عمر (1938- 2006م) الذي ألّف أول أعماله الموسيقية عام 1959م، وبلغ 20 قطعة موسيقية حتى توقف عام 1983م، فوضع بعض الألحان لفرقة الثلاثي المرح، وعلية التونسية، ووديع الصافي، وكتب في الصحافة معرفًا بالموسيقا الأوربية الكلاسيكية.

طلال-مدّاح

طلال مداح

ويعد عبدالله محمد (1928 – 1998م) الأب الأول للغناء الشعبي، حيث أطلقت ألحانه حنجرة طلال مداح غير مرة، وأسهم فوزي محسون (1925 – 1987م) في غنائه وألحانه بروح حجازية مدنية الطابع، تنقل مزاج حارات جدة غير منقطعة من جذور مهاجريها وجذورهم القابعة وراء ذكرياتهم، ولا ينكر الدور الذي اضطلع به عمر كدرس (1933 – 2002م) في تطوير التراث الحجازي وبراعة ألحانه القليلة، وخدمة صوت محمد عبده بشكل احتكاري موجهًا وراعيًا حتى تقاعده ووفاته.

غير أن عبده نقلت صوته خارج البلاد الألحان الكويتية من يوسف المهنا وأحمد عبدالكريم، وألحان عبدالرب إدريس ذي الأصل اليمني ، حامل الجنسية السعودية.

المرحلة الثالثة- انتشار الأغنية السعودية

ونورد شهادة لعبدالرحمن اللهبي، عازف كمان هاو، أدرجها ضمن مذكراته «رجال الطرب الحجازي» (2009م)، فيقول عن الفنان طلال مداح أحد رموز هذه المرحلة:

«وخرج صاحبي في عام 1380هـ (1960م) في حفلة من الحفلات التي تقام للملك سعود، وغنى أولى أغانيه (وردك يا زارع الورد) وقد عمل على تلحينها عبدالله محمد والريس، وقد صاحبه الريس محمد على الكمان، وحامد فقيه على الإيقاع، وكانت ليلة انطلاقه وشهرته».

محمد-عبده

محمد عبده

إذ شهدت هذه المرحلة تكريس انطلاقة الأغنية الجديدة من بعد المسرح والأسطوانات حين أسّس طلال مداح ولطفي زيني والشاعر المنتظر شركة «رياض فون» مطلع الستينيات، واستطاع مداح أن يقدم تجربة ملفتة في تطوير الأغنية السعودية، ووضعها على قدم المساواة والغناء العربي آنذاك في منافسة قوية في القاهرة وبيروت والكويت من خلال نقلات مهمة في تجربته «وردك يا زارع الورد» (1960م)، ثم بداية الأغنية الطلالية «عطني المحبة» (1968م)، ثم حقبة الرومانسية الجديدة أغاني مسلسل «الأصيل» (1973م)، وهي حقبة تعاونه مع الملحن سراج عمر، وتعزيزها بأعمال شهيرة بين عامي 1976 – 1978م «مقادير، وأغراب، والموعد الثاني، ولا تقول لا تقول» كما أسهم في هذه الانعطافة شعراء طوروا شكل الكتابة الشعرية الغنائية مثل: إبراهيم خفاجي، وبدر بن عبدالمحسن ومحمد العبدالله الفيصل.

شهدت هذه الحقبة انطلاقة محمد عبده، وسعد إبراهيم، وعودة سعيد، وقدم دعم طلال مداح من خلال شركته أسماء كثيرة مثل: عبادي الجوهر، وإبتسام لطفي، وعتاب، وحيدر فكري، وسلامة، ويسرى البدوية، وهدى مداح. إذ يشكل حضور المرأة في تأليف الأغاني والغناء والعزف ملفتًا بشكل متواز مع الرجل سواء عند ذوي المرجعية البدوية أو الحضرية. وقد عززت الإمكانيات الفنية والإعلامية والإنتاجية في الكويت دعم بدايات محمد عبده وعتاب وإبتسام لطفي؛ إذ أسهمت ألحان يوسف المهنا في تكريس محمد عبده في أغنيات شهيرة «ماكو فكة، وبعاد، والجو غيم» (انظر. ملحق: الشعر المغنى). كما أن إبتسام لطفي أفادت كثيرًا في تثمين أرشيفها الغنائي من الملحنين المصريين مثل: رياض السنباطي، وأحمد صدقي، ومحمد الموجي. إضافة إلى استمرار أصوات الغناء الشعبي مثل: فهد بن سعيد، وسلامة العبدالله، وحمد الطيار. وبدأت تظهر المؤلفات المتخصصة في الفنون الأدائية، بعضها وُضع لأغراض تعليمية في القواعد الموسيقية وتراجم الموسيقيين –كما عرفنا سابقًا- وضع معظمها طارق عبدالحكيم بينما يمكن أن يعد كتاب «الأنغام الخفية في الصحراء السعودية» (1971م) المعتنية بالفنون الأدائية، إضافة إلى نماذج جمعها مع محمد الزايدي في كتاب «شدو البلابل: أغاني عاطفية وأناشيد وطنية حماسية».

وقد أتاح تأسيس جمعية الثقافة والفنون عام 1973م فرصة جمع الفنانين في ملتقيات وتنظيم حفلات غنائية أطلقت ودعمت أسماء جديدة. إذ كُلّف طارق عبدالحكيم بتأسيس فرقة الفنون الشعبية تحت مظلة الرئاسة العامة لرعاية الشباب عام 1975م، وطافت بلاد عربية وأوربية وآسيوية تنشر فنون البلاد. وضع عبدالحكيم أكثر من مؤلف تعليمي ومؤلفات أخرى تؤرخ لفنون البلاد أصدرها عندما كان مديرًا لإدارة الفنون الشعبية بالرئاسة العامة لرعاية الشباب، منها كتابه «أشهر الفلكلورات الشعبية» (1980م)، وألحقه نموذجين آخرين :«العرضة السعودية»، و«سامري عنيزة».

وبرغم أن جيلًا حاول الظهور متأثرًا بالمرحلة الانتشارية غير أنه لم يتجاوز بعض الظروف التي عرقلته بينما سهلت لآخرين، وهم مثل محروس الهاجري الذي انطلق مع الملحن عبدالرحمن الحمد والشاعر جواد الشيخ في أغنية «غدّار يا بحر» (1978م).

وبعد تقنين صناعة الكاسيت وتأسيس الشركات عام 1983م انطلقت مرحلة جديدة في الأغنية السعودية ظهرت فيها أسماء مثل: سارة قزاز -توقفت لاحقًا- ومحمد عمر، وعلي عبدالكريم، وأيوب خضر، وحسين قريش، وعبدالمجيد عبدالله، وطلال سلامة.

وقد أعاد الكرة عبدالمجيد عبدالله، مثل عبده ولطفي، مستفيدًا من ملحني جيله سواء من البحرين أو الكويت في تثبيت مسيرته الغنائية، على رأسهم خالد الشيخ وراشد الخضر وعبدالله الرميثان. كما أنه دعمت حناجر عربية بإنتاج الشركات السعودية، فنون الجزيرة وروتانا وفرسان، مثل: رباب، وعبدالكريم عبدالقادر، ونبيل شعيل، وعبدالله الرويشد، وسميرة سعيد، ورجاء بلمليح. نشطت الصحافة الفنية مخصّصة صفحاتها اليومية والأسبوعية بالمواد الصحفية، إضافة إلى الحروب الكلامية المؤججة في إثارة جماهير الفنانين، ومفاضلة أنماط فنية، ومسائل تخص القديم والمعاصر عكست أفكارًا ومواقف بعضها تجاوز الفن ودوره ما ترك آثارًا لدى الفنانين.

وقد صدر عن النادي الأدبي الثقافي بجدة ديوان سمير الوادي الأول «أطياف العذارى» (1981م)، ثم أصدر الشريف منصور بن سلطان كتابًا عن سمير الوادي «الذيابي: تاريخ وذكريات» (1983م)، وصدر له ديوان شعر آخر بعد وفاته «غناء الشادي» (1984م).

وأعقب هذا إصدار الصحافي أحمد المهندس أكثر من كتاب يوثق أسماء تحولت إلى رموز الأغنية السعودية: «أغاني في بحر الأماني: محمد عبده» (1985م)، و«الأصيل: طلال مداح» (1986م)، و«عبدالمجيد عبدالله: مشوار وأغنيات» (1989م)، وصدر عن دار النشر الخاصة به «فوزي محسون: متعدي وعابر سبيل» (1989م) لمحمد رجب. وأضاف أحمد صادق دياب إلى المكتبة الموسيقية كتاب «سفير الحزن: عبادي الجوهر» (1990م)، وهو الجزء الأول من سيرة ذاتية، ثم وضع الصحافي علي فقندش كتاب «الفنانون» (1993م)، وخص الملحنين سراج عمر والمغني محمد عمر بفصلين منفردين. كما وضع حمدان صدقة «آراء وأفكار» (1993م) أفرد قسمًا عن تجارب وقضايا غنائية مختلفة. ويمكن أن نتوج هذه المؤلفات بموسوعة مصغرة وضعتها هند باغفار بعنوان: «الأغاني الشعبية في المملكة العربية السعودية» (1994م).

المرحلة الرابعة- عولمة الغناء العربي

بدأت بوادر هذه المرحلة في النصف الثاني من التسعينيات (نهاية القرن العشرين)؛ إذ دخلت صناعة الكاسيت مرحلة النهاية بظهور الشبكة الإلكترونية، وخدمة تحميل وتداول الأعمال الفنية رقميًّا بوصفها مادة إعلامية بالرغم من ظهور صناعة الأسطوانة الرقمية إلا أنها لم تستطع أن تصمد.

عتاب

عتاب

غير أن الفضائيات شكلت فرصة كبيرة لتحقيق الانتشار لأي مغنٍّ أو مغنية. وأسهم تصوير الأغنيات أو نقل بث الحفلات في تكريس الأسماء الجديدة وإعادة تلميع الأسماء المخضرمة. وقد استطاع موقع اليوتيوب وما يماثله أو يعتمد على خدمته من مواقع أخرى أن يكسر سلطة جهاز التحكم عن بعد وسلطة نظام برامج الفضائيات وعناء الانتظار والتوقع مكرسًا طواعية مارد المصباح السحري، فأمسى حقيقة المصباح الإلكتروني. ظهرت هذه الحقبة أسماء جديدة مثل: راشد الماجد، وراشد الفارس، ووعد، وجواد العلي، وعباس إبراهيم، وأسيل العمران. ودعمت حناجر عربية في هذه المرحلة وبرز منهن أنغام وذكرى وأصالة ويارا ومنى أمرشة.

عبادي-الجوهر

عبادي الجوهر

ويعد التحول الجديد ظهور غناء الهامش، وتقدمه إلى مصاف أمامية مع مغني الراب، وهي نسخ عربية لفن الهيب هوب، وبرز في هذا كلاش (محمد الغامدي) في فرقة حملت اسم «عيال الغربية»، وقصي خضر أحد الأعضاء البارزين في فرقة «أساطير جدة» (الواصل، 2010، ص: 63)، وقد طوّعوا هذا الفن لموضوعات النقد الاجتماعي بصورة الرفض والاحتجاج. ويوازي هذا الغناء في صورته النقدية الاجتماعية تجربة غير مكرسة لعبدالرحمن محمد من حيث اختياره نصوص «الشعر المغنى» المستقرة في ذاكرة الغناء الحجازي منذ القرنين التاسع عشر والعشرين -كان يؤدّى بعضها مجسات ودانات- (السيحاني، 2014، الرياض)، فأعاد تلحينها بروح تعبر عن «جماليات الحنين» تخلق مسار «رومانسية رقمية» في التعامل مع نص مقفل من التراث بقدر أنه لا يحاكي عصره غير أنه يعيد تمثيل صوتيات الانتماء والهوية العربية الإسلامية في نمط «الأغنية البديلة» التي تختبر طرائق الأداء العربية مع موروثات مشتركة سواء تركية أو شامية، بالنسبة لمرجعيات الغناء الحجازي المتقاطع مع المصري والشامي والتركي، وإعادة دمجها في غناء متوسطي يستثمر إيقاع «الروك البديل» وحساسية عزف الغيتار بروح متوسطية تجمع التراث الهجين والطابع الأندلسي والموريسكي والتروبادوري.

رابح-صقر

رابح صقر

كأنما تجربة عبدالرحمن محمد تشير إلى أن افتتاح القرن العشرين بتسجيلات الشريف هاشم العبدلي بمجسات ودانات لنصوص شعرية من عصور الثقافة العربية، لا تقف عند فارس عبس عنترة بن شداد، ولا تنتهي عند الملك الهاشمي عبدالله بن الحسين، إنما يعاد تحريك الشعر المغنى بأصوات عصر آخر يتبع تيارات «الأغنية البديلة» (انظر. ملحق: الشعر المغنى).

خلال هذه الحقبة صدرت بعض المؤلفات بعضها يخص شخصيات فنية كأن يكون مغنيًا أو شاعرًا غنائيًّا أو ملحنًا، وبعضها ديوان نصوص شعرية غنائية ومنها: «بشير حمد شنان» (1998م) لحمد عبدالله شنان، و«إبراهيم خفاجي: إبداع له تاريخ» (1999م) هاني فيروزي، و«عميد الفن السعودي: الموسيقار طارق عبدالحكيم» (1999م) لإسماعيل حسناوي، وديوان «مشاوير الهوى» (2000م) صالح جلال، وأصدر الشاعر والمنتج علي القحطاني سير مغنيه وأعمالهم في ثلاثة مجلدات: مجلدان عن السيرة «عيسى الأحسائي: ذكريات فنان» (2001م)، والثالث عن أعماله الغنائية «عيسى الأحسائي: أغاني» (2004م)، وأصدر الصحافي علي فقندش موسوعة من خمسة مجلدات عن شخصيات عامة: «هم وأنا» (2001 – 2005م) احتوت سيرًا ذاتية لفنانين (مغنون، وموسيقيون، وشعراء أغنية، ومنتجون)، وموسوعة مشاهير الفنانين السعوديين» (2003م) لطارق عبدالحكيم وإسماعيل حسناوي.

ويمكن أن نشير إلى أنه وردت ترجمات لشخصيات من الفنانين السعوديين في موسوعات عربية؛ إذ نجد ترجمات لكل من حسن جاوة (1892 – 1964م)، وطلال مداح (1940 – 2000م)، وبشير شنان (1946 – 1974م) ومحمد عبده في كتاب «أشهر الملحنين في الموسيقا العربية» (2000م) للمؤرخ التونسي محمد بو ذينة.

ووردت ترجمة للشاعر عبدالله الفيصل (1923 – 2007م)، إضافة إلى طلال مداح ومحمد عبده في «موسوعة الغناء في مصر» (2006م) للمؤرخ والصحافي المصري محمد قابيل.

وأصدر الصحافي علي فقندش مع وديان قطان موسوعة «نساء من المملكة العربية السعودية» (2006م) احتوت سيرًا ذاتية لمغنيات وشاعرات أغنية. وفي مؤلفات عبدالله أبكر الموسوعية «صدى الأيام ماذا في حارات مكة» (2007م) أورد سيرًا لبعض مشاهير الإنشاد والغناء مثل: المنشد عباس مالكي، والمغني علي غسّال (1915 – 2004م)، والمغني عمر العيوني (ت.2006م).

راشد-الماجد

راشد الماجد

كذلك وضع أبكر موسوعة أخرى: «صور من تراث مكة المكرمة في القرن الرابع عشر الهجري» (2009م) تحدّث فيها عن الفنون الغنائية المكية، وأصدر عبدالرحمن اللهبي كتاب «رجال الطرب الحجازي» (2009م)، وأصدر أبكر لاحقًا «الصهبة والموشحات الأندلسية في مكة المكرمة» (2013م). ولكن يواجه فن الغناء مصاعبًا أدت إلى انهيار الصناعة (وللسينما نصيب أيضًا)، وهذه ظاهرة عالمية، وتحاول شركات الإنتاج أن تعوض خسائرها وإيجاد فرص عمل للحناجر، بينما اتجه بعض من الفنانين إلى الإنتاج الذاتي.

وتكشف هذه الحقبة عن تحول في مسار التجربة الفنية من حيث إثبات الجدارة بمعايير تشابه صعوبات مطلع القرن العشرين، ولا تغفل التطور الفني وأساليبه بموازاة التطور التقني وسرعة ابتكاراته وتنوعها في الحجم والوظيفة والخدمة.

عبدالمجيد عبدالله

عبدالمجيد عبدالله

وعلى الرغم من أن أزمة الملحن دائمة في نقصانه مثل الشعراء المجددين غير أن الحناجر، مع شركات الإنتاج، تأخذها رغبة المنافسة في التفرد بأعمال ولو بمستويات متفاوتة دفعت إلى ضخ كمية من الألحان التي كانت تعبأ في أشرطة الكاسيت ما بين أربع أغنيات وعشر أغنيات، ثم انتقلت مع الأسطوانات الرقمية نحو خمس عشرة أغنية، ومن ثم خضعت لمنطق الوضع المتغير بإصدار أغنية منفردة، ولا تسلم من هدر الحقوق في النقل والتداول. ولكن تطور صناعة وسائل التداول (الأسطوانات البلاستيكية والنايلون، والكاسيت، والأسطوانة الرقمية) ووسائط النقل التقني (الجوال، اللاب توت، الآي بود، الآي باد، الآي تونز) ومواقع التداول المتنوعة مثل: (اليوتيوب، والساوند كلاود) دفع بعملية تسهيل الحصول على العمل الفني في أي لحظة، ونقله وحفظه مع خطورة هدر حقوق المؤلف (شاعرًا، وملحنًا، ومغنيًا وموزعًا ومنتجًا) في العالم العربي. وهو ما يسهم في تفاقم مشاكل ينبغي مواجهتها بالتعاون مع مختلف المعنيين بشكل جدي.

إستراتيجية الذاكرة المستمرة

يجب التنبه إلى ما يواجه الإنتاج الثقافي من مخاطر التلف والفقد، وتقديم مقترحات تتيح له مفعولًا أطول لتكوين ذاكرة الأجيال المستقبلية.

ويمكن أن نضع هذا السؤال: ما هي المشاكل التي تواجه التراث الموسيقي (أو الفنون الشعبية) وتاريخ الأغنية؟ أولًا- إهمال التوثيق والأرشفة والصيانة.

ثانيًا- انعدام التربية والتثقيف الموسيقي للداخل والخارج. ثالثًا- انعدام حفظ حقوق المؤلف عبر وسائل التداول التجاري. إذن لا بد من وضع ما أطلق عليه «إستراتيجية الذاكرة المستمرة» حيث تتمثل في دعم مشترك بين أكثر من جهة وقطاع، وهي مهمة وطنية واجبة تتصل بمهمة حضارية إنسانية شاملة؛ إذ يتوجب وفق المسؤولية الاجتماعية التنبه إلى الحفاظ على «التراث الوطني» –والفنون الأدائية فرع منه- بوصفه همًّا مجتمعيًّا يقوم على جهود الطبقات والفئات قبل المؤسسات والمنظمات وما في حكمهما: 

الدعم الأساسي:

يمكن أن تدعم الفنون بإنشاء مؤسسات أو مراكز دراسات أو تأسيس أقسام بحثية في جمعيات الثقافة والفنون، وتشغيل لجان متعددة لحصر وتوثيق الفنون، وتطوير برامج تعليمية وتثقيفية، وتوفير صالات عروض، وبناء أستوديوهات تسجيل، وتأسيس فرق لكل إقليم بحسب الفنون ومناسباتها.

ويمكن حصر نقاط محددة للدعم الأساسي على النحو الآتي:

أولًا- مركز دراسات لفنون الأداء: الغناء والرقصات والنصوص والألبسة.

ثانيًا- إنشاء بيوت لأداء الفنون الشعبية في كل منطقة. ثالثًا- تأسيس متاحف لحفظ الأسطوانات والآلات الموسيقية. رابعًا- وضع موسوعة شاملة للفنون وتفعيلها إلكترونيًّا. خامسًا- تشجيع تأليف الكتب المتخصصة في الفنون والسير الذاتية لمبدعي الفنون.

سادسًا- إتاحة تسجيلات الإذاعة والتلفزيون للباحثين والدارسين والمؤرخين إلكترونيًّا. سابعًا، إصدار سلسلة ثابتة: كتب وأسطوانات.

وهي ممكنة حين تجدول حسب الإمكانيات والخطط ذات التدرج الزمني، مع استثمار خبرات القطاعات المختلفة تحت مظلة «المسؤولية الاجتماعية» التي تتضامن مع ذات الاختصاص. إن مشروع التحول الوطني لهو قادر على احتواء الاحتياجات الأساسية لإنشاء ودعم الذاكرة المستمرة، وهذا هو الأمل؛ لنعمل جهدنا ليتحقق.