ثقافة المصلحة.. وضرورات المصالحة

ثقافة المصلحة.. وضرورات المصالحة

لم يعرف العرب في تاريخهم الحديث وضعًا كالذي يعيشونه اليوم. فالخرق ازداد اتساعًا بشكل يدعو إلى التساؤل عن كيفية الخروج من المأزق الذي دخل فيه العرب نتيجة تكالب المصالح وتضاربها. إن الحيرة وانسداد الأفق والترقب الحذر عناوين المرحلة الحالية التي تجتازها الأمة العربية والإسلامية، مما جعلها تلقي بظلالها على مختلف التحليلات والتوقعات. تتعدد التصورات حول ما يجري، وكلٌّ يَلغُو بلَغْوِه في واقع يقوم على التأزم والتشنج. ويبدو أن الخوض في التفاصيل والجزئيات لا يسهم إلا في انعدام أي مقاربة ترمي إلى النظر في عمق الأشياء وجذورها القائمة على تضارب المصالح وتجاذب المطامح في المنطقة العربية.

تحرك الدول مصالح معينة وملموسة تحدد توجهاتها وإستراتيجياتها المختلفة. فهل يمكننا الحديث عن مصلحة خاصة تعين مواقف الدول العربية وتصوراتها لمستقبل أوطانها وشعوبها؟ وأين هي المصلحة العربية في علاقتها بالمصلحة الأجنبية التي تتدخل في الشؤون العربية، وتسعى من وراء ذلك إلى رسم خارطة لما ينبغي أن يكون عليه الوضع العربي حالًا واستقبالًا؟ أرى أن هذا هو السؤال الذي يمكننا طرحه لتشخيص تأزم الواقع العربي حاليًّا بالصورة التي لم يُشهَد لها مثيل في كل تاريخه الحديث. كما أن الجواب عنه هو الذي يمكن أن يسهم في إعطاء المصلحة العربية ما تستدعيه من اهتمام وممارسة لتجنب الكوارث الواقعة والممكنة والمحتملة.

إن الدول الغربية، وعلى رأسها أميركا تربط مصلحتها الحيوية لفائدة دولها وشعوبها بالعمل على تثبيتها وضمانها ولو خارج حدودها، بل على حساب دول وشعوب خارجة عنها. إن هذا الخارج هو الذي يتيح لها تحقيق الرفاه لشعوبها واستقرار نظمها، واستمرار قوتها. تكرس هذا التصور مع الاستعمار الذي صاحب تشكل أوربا التي تدخلت في شؤون الدول المستعمرة بذريعة نشر الحضارة الغربية وقيمها. فكان نهب الخيرات واستغلال الثروات الخارجية لفائدتها، ولم تترك للشعوب المستعمرة أي فرصة للسؤال عن مصلحتها الخاصة التي ظلت مرتبطة بمصالح المحتلين. وبعد الاستقلالات السياسية، ظلت التبعية تحكم العلاقة التقليدية بينهما تحقيقًا للأغراض عينها.

ضياع مصلحة المواطن

يمكننا أن نتحدث، مع الدول المتقدمة والديمقراطية، عن ثقافة المصلحة التي تبرز في كون الحكومات المتعاقبة في تاريخها الحديث والمعاصر يحكمها في علاقتها بمواطنيها وأوطانها ميثاق محدد يتمثل في ضمان الاستقرار والأمن والرفاهية. تولدت هذه الثقافة ذات الجذور الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية عبر تاريخ من الصراعات بين مختلف المكونات. وانتهى هذا التاريخ بالاحتكام إلى الشعب في مختلف المنعطفات الكبرى لتقرير المصلحة العامة، وضمان استمرارها. فكانت الاستفتاءات، والانتخابات في مختلف الاستحقاقات دليلًا بارزًا على كون الشعب يسهم بإعطاء صوته لمن يسهر على تأكيد تلك المصلحة ويضمن استمرارها. في الوطن العربي، لغياب هذه الثقافة وتقاليدها في الحياة العامة، تضيع مصلحة الوطن والمواطنين بين التحكم السياسي من جهة، والتدخل الخارجي الذي لا يمكن تحقيق مصلحته الخاصة إلا على حساب التفريط فيما يمس مصالح الدول المتدخل فيها من جهة أخرى. يتم هذا التدخل الخارجي، أوربيًّا كان أو أميركيًّا عبر التهديد بالعقوبات حينًا، والتدخل العسكري حينًا آخر. وينتج عن هذا عجز الدول المتدخل في شؤونها عن الاحتكام إلى شعوبها لضمان مصالحها، والتخطيط لما ينبغي أن يكون عليه واقع هذه الدول لاستمرار تحقق المصالح الخارجية.

منذ الاستقلالات العربية ظلت مصالح الوطن العربي مرهونة بمصالح الآخرين، فلم تتحقق المصالح الخاصة به أبدًا. وفي مختلف المحطات التاريخية الكبرى كان التفريط في المصالح الداخلية لحساب الخارجية. ويكفي أن نضرب مثالًا من القضية الفلسطينية ليتبين لنا لذلك. فمنذ الاحتلال البريطاني حتى زرع إسرائيل والحروب المختلفة التي خاضها العرب ضدها، لم ينتج عن تداعيات صراع المصالح في المنطقة سوى تأكيد المصلحة الإسرائيلية وأميركا التي ترى في استمرار وجودها ضمانًا للمصلحة الأميركية والغربية في المنطقة على حساب الشعب الفلسطيني. كما يمكننا من خلال التدخل في العراق باسم امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، وبروز الإرهاب، والحرب عليه في العراق وسوريا ومختلف الدول التي يوجد فيها، وفي إملاء السياسات الاقتصادية على الدول العربية المختلفة؛ تقديم أمثلة دالة على استهداف المصالح العربية بمختلف المبررات والمسوغات، وتأكيد أن تحقيق المصلحة الغربية والأميركية في منطقة الشرق الأوسط لا يمكنها أن تتحقق إلا في غياب أي تفكير في المصلحة العربية.

وفي ظل هذا الواقع لا يمكن سوى التخطيط لإدامة تغييب المصلحة العربية عن طريق إضعاف الدول العربية باستنزاف خيرات أراضيها ومواطنيها، من جهة، وتعريض هذه الأرض لتكون بؤرة مشتعلة بالصراعات المفتعلة، بشكل دائم ومتواصل، من جهة ثانية، وأخيرًا العمل على تفريق وجهات النظر، والتخطيط لوضع خرائط ترمي إلى العمل على تقسيم البلاد، وخلق كيانات ضعيفة، وقابلة للحماية، عن طريق التمهيد لزرع بذور الشقاق والخلاف ليس فقط بين الدول العربية، لكن بين الشعوب التي تتشكل منها، لتثمر، مع الزمن دويلات لا مصلحة لها غير ما يمكن أن تخدم به مصلحة الآخرين.

ذهنية المؤامرة

يبدو لنا ذلك بشكل واضح في بروز مقولة «المؤامرة»، من جهة، ومقولة «ما بعد الاستعمار» من جهة ثانية. لقد صارت مقولة «ذهنية المؤامرة» في مختلف التحليلات السياسوية ترمي إلى اتهام من يقول بها بأنه متخلف عن العصر، وأن لا وجود للمؤامرة إلا في أذهان العاجزين عن فهم الأمور كما ينبغي أن ترى بالعين المجردة. وما الرجوع إلى «مقولة ما بعد الاستعمار» في أواخر التسعينيات، رغم كونها وليدة الستينيات، سوى دعم لنفي المؤامرة، بالقول بأن الاستعمار انتهى، وأن العلاقات بين الدول في العالم أجمع متكافئة، ومبنية على أساس القانون الدولي الذي بموجب الاتفاقات والتعاقدات بين الدول تتحدد مختلف العلاقات بينها، وليست هناك تبعية، أو تفريط في مصالح دول أو شعوب على حساب أخريات. لكن الواقع الحقيقي يبيِّن أن هناك صراع مصالح، وهو غير متوازن، ولا يقضي سوى بالتفريط في مصالح دول وشعوب لحساب شعوب ودول أخرى. وبذلك فالمؤامرة مستمرة، والاستعمار اتخذ وجهًا جديدًا.

حين نتأمل ما يجري في الوطن العربي حاليًّا من صراعات وحروب، وما يعرفه من انقسامات وشقاقات، وما يعانيه من تدخل بعضه في شؤون بعض بتلاؤم مع ما يدبره الآخر، ومباركته، واتهامات متبادلة بين مختلف مكوناته، وانسداد أي آفاق لتحقيق مصالح الشعوب العربية في الحرية والعيش الكريم، لا يمكننا سوى معاينة أن المؤامرة والاستعمار الجديد يرميان إلى ضمان مصالح خاصة تتصل بالآخر على مصالح العرب العامة. وحين نرى كيف تتحرك إيران وتركيا، من جهة، وأميركا وروسيا والغرب، من جهة ثانية، في الوطن العربي، وكيف تسير الدول العربية متخبطة وسط تضارب المصالح، منحازة إلى هذا الطرف أو ذاك، من جهة ثالثة، يسلمنا هذا إلى النظر إلى أسباب ضياع المصلحة العربية، سواء اتصلت بالدول أو الشعوب. متى يمكن أن يعرف العرب مصلحتهم الخاصة في تماسّ مع مصالح الآخرين، وبشكل متوازن ومتكافئ؟ كيف يمكن لثقافة المصلحة العربية أن تكون جزءًا من تفكير الدول والشعوب العربية؟ أرى أن السؤالين يختزلان الواقع السياسي – الثقافي العربي. ولا يمكن الجواب عنهما إلا بالتفكير في ضرورات المصالحة العربية.