المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

عبدالمجيد الشرفي: الحلول لا ينبغي البحث عنها في القياس

بواسطة | مايو 1, 2018 | حوار

يعد المفكر التونسي عبدالمجيد الشرفي من بين أبرز المختصين في تاريخ الفكر الإسلامي، وله مجموعة كبيرة من الدراسات والبحوث والمؤلفات حول مجال تخصصه، لكن اهتمامات الباحث ورئيس المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة بقرطاج) والأستاذ الزائر بعدد من الجامعات بالخارج لا تقف عند الفكر الإسلامي إنما تشمل الظاهرة الدينية كلها. فمعرفة الخلفية الدينية وفق الباحث التونسي الذي كان أول شخصية من العالم الإسلامي تشغل كرسي اليونسكو للأديان المقارنة (بين 1999م و2003م) مهمة جدًّا بل ضرورية لفهم كل جوانب الحياة في المجتمع. بل إنه يرى أن الغاية من دراسة الظاهرة الدينية في الأساس هي فهم انعكاساتها في حياة الناس اليوم، وهو ما يفسر عدم تردده في ترؤس أو الانضمام إلى لجان وفرق بحثية مهمتها صياغة حلول للإشكاليات التي تطرح على المجتمع في العلاقة بالنصوص الدينية وفهمها، ولا سيما أن التأويلات القديمة لم تعد تقدم أجوبة مقنعة تتوافق مع التغييرات الجوهرية التي تشهدها مجتمعات هذا العصر.  ولذلك فهو اليوم، مثلًا، ضمن لجنة تناقش إمكانية إعادة النظر في التشريع التونسي فيما يتعلق بالميراث. في حواره مع «الفيصل» تطرق المفكر عبدالمجيد الشرفي إلى عدد من القضايا والموضوعات المطروحة على المجتمع التونسي الذي يشهد نقاشات ساخنة حول عدد من المسائل ذات العلاقة بفهم الدين وتأويله، إضافة إلى قضايا مهمة أخرى تشغل العالم العربي والإسلامي بصفة عامة.

إلى نص الحوار:

● أنت من المختصين في تاريخ الفكر الإسلامي، رغم أنك لست من خريجي الجامعات الدينية بل من خريجي كلية الآداب في الجامعة التونسية، فكيف أصبحت باحثًا في علم الأديان؟

في الحقيقة تكويني مزدوج لأن البكالوريا (امتحان ختم الدروس الثانوية قبل التوجه للجامعة) كانت تتم على جزأين. في الجزء الأول كنت في شعبة العلوم ثم اخترت شعبة الفلسفة في الجزء الثاني، وفي قسم الفلسفة كان يمكن لكل تلميذ ينجح في البكالوريا أن يختار أي شعبة في الجامعة حتى إن كانت شعبة علمية ومن بينها الطب مثلًا. وفيما يخصني، اخترت دراسة العربية وآدابها (العربية فيها اللغة والأدب وما يسمى بالحضارة) وتخصصت في الحضارة. وفي الحضارة هناك جوانب مختلفة من بينها الفكر الديني، لكن اهتمامي بالفكر الديني كان سابقًا لظهور الإسلام السياسي وانتشاره في تونس؛ لأنني لاحظت أن كليات الآداب في البلدان المتقدمة تولي اهتمامًا بالفكر الديني من ناحية هو مكوّن من مكونات الثقافة في كل بيئة من البيئات، سواء كانت بيئة «معلمنة» كما في فرنسا مثلًا أو بيئة تقليدية. ولا يمكن فهم الأدب والفن والسياسة والاقتصاد من دون الرجوع إلى الخلفية الدينية. ولم أهتم بتاريخ الفكر الإسلامي فقط، بل توجه اهتمامي للفكر الديني في غير المجال الإسلامي واهتممت بالمسيحية خصوصًا وبعدد من الديانات الأخرى، وكنت صاحب كرسي اليونسكو للأديان المقارنة، وهو أول كرسي في العالم الإسلامي.

وفي اعتقادي لا يمكن فهم الإسلام إلا بوضعه في نطاق الظاهرة الدينية عمومًا، وهو ما حاولت القيام به في كامل مسيرتي العلمية، وهو مسار مختلف اختلافًا جذريًّا عما يجري في الجامعات الدينية كالزيتونة (تونس) والأزهر (مصر) والنجف (العراق) وقم (إيران) والقرويين (المغرب) وغيرها. والغاية من دراسة الفكر الديني بعيدًا عن الدوغمائية والوثوقية هي محاولة لفهم هذه الظاهرة وفهم انعكاساتها في حياة الناس اليوم، وهذا أمر صعب؛ لأنه تتقاطع فيه اختصاصات متعددة فلا بد من الإلمام بشيء من علم النفس والفلسفة والتاريخ وحتى الديموغرافيا، وهي عوامل تتضافر ونحاول من خلال استغلالها أن يكون فهمنا للظاهرة الدينية فهمًا أفضل لا فقط لأسباب ذاتية بل لأسباب معرفية.

● تدافع في بحوثك عن فكرة الارتقاء بالفكر الإسلامي نحو الحداثة وأشرت مثلًا في كتابك «الإسلام والحداثة» إلى ضرورة الأخذ في الحسبان وجود أربع ثورات كبرى شهدتها البشرية منذ بداية النهضة الغربية، وهي على التوالي ثورة كوبرنيك وإثباته أن الأرض ليست محور الكون، ونظرية التطور منذ داروين، وما أثبته فرويد من استدلال على السلوك الإنساني (ثنائية الوعي واللاوعي)، والتطور التكنولوجي المهم، وفي هذه الأثناء حدث ما يسمى بالربيع العربي. هل يمكن أن نعتبره ثورة كبرى خامسة وجب أخذها بعين الاعتبار في العلاقة بإعادة قراءة الفكر الديني؟

ما يسمى بالربيع العربي هو علامة على أن طرق الحكم التقليدية في البلاد العربية وصلت إلى مأزق، ولذلك فإن خروج ملايين المواطنين إلى الشارع والمطالبة بالحرية والديمقراطية والكرامة ظاهرة كانت في حد ذاتها متوقعة لكن لا في شكلها. فالشكل الذي اتخذته هو الذي كان غير مسبوق لكنها حركة طبيعية في مسار التاريخ فهذا ليس غريبًا؛ لأن ما حصل في تونس حصل في ليبيا وسوريا ومصر واليمن. وهذا الربيع العربي لا شك أن تقييمه الآن ربما ما زال سابقًا لأوانه لأن فيه هذا البعد الذي ذكرته، وهو أن الشعوب لم تعد تقبل طرقًا في الحكم أصبحت غير متماشية مع تطلعات الشباب بصفة خاصة. هذا واضح، لكن هناك عوامل خارجية كان لها دورها فيما شهدته المنطقة العربية في الأعوام الأخيرة. ليس هذا واضحًا في تونس كل الوضوح لكنه واضح في ليبيا وواضح في سوريا بصفة أخص، فلا ننسى أن الولايات المتحدة خططت للشرق الأوسط الجديد ولا ننسى أن هناك مخططًا إسرائيليًّا لتقسيم مصر على أساس طائفي، ولا ننسى ضرب قوة العراق العسكرية (الحرب الأميركية وحلفاؤها على العراق سنة 2003م) وحرب بالوكالة في سوريا وهذا المخطط موجود فعلًا، يعني أننا لا نتحدث عن مؤامرة بل عن مخطط منشور ومعروف لدى القراء.

وهذا التفكيك للعالم العربي يندرج في إطار مخطط إسرائيلي تسانده الولايات المتحدة ويسانده الغرب بصفة عامة؛ لأنه يمكّن لإسرائيل من قوة تنفرد بها من دون سائر الأنظمة العربية. وهنا لا بد من أن نشير إلى أن المعضلة الفلسطينية رغم المحاولات الراهنة لتهميشها تبقى هي قلب القضية القومية والوطنية في البلاد العربية وهذا يطول فيه الحديث. وأنا شخصيًّا أعتبر أن الغرب في هذه القضية كان من مصلحته إقامة إسرائيل لأنه لولا مساندة الغرب لما قامت إسرائيل، وإسرائيل تقوم بأدوار مختلفة في هذا الشأن. أولًا، هي تخلص الأوربيين من يهودهم فيهاجرون إلى إسرائيل ونعرف أن اللاسامية متغلغلة في أوربا الغربية والشرقية، فالمآسي التي عاشها اليهود في أوربا بالطبع أحدثت نوعًا من الشعور بالذنب في الغرب، لكن الحل بالنسبة لهم لم يكن في تجاوز العنصرية واللاسامية وإدماج اليهود في المجتمعات الغربية، ولكن التخلص منهم بأن يُوجَّهوا إلى فلسطين. ثانيًا، ومن الناحية الجيوستراتيجية، فإن إسرائيل تعتبر رأس الحربة بالنسبة للغرب تمكّن لهم من بيع الأسلحة للأنظمة القائمة في الشرق وفي الآن نفسه تمنع شعوب هذه المنطقة من أن تتوجه نحو بناء المستقبل بحسب المواصفات التي يقتضيها العصر الراهن، أي التوجه نحو المعرفة والتمكن من العلوم الحديثة والتكنولوجيا لذلك فإن ما حصل في الربيع العربي فيه هذا الجانب أيضًا الذي لا يمكن إنكاره.

ضياع مستحقات الشعوب

● كنتَ عضوًا في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، ولك علاقة بلائحة تخص تأييد الثورة في سوريا؟

عندما قامت الثورة في سوريا كنتُ عضوًا في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة (الهيئة التي تولت زمام الأمور مباشرة بعد فرار الرئيس بن علي) وكنت بادرتُ بتحرير لائحة صادقت عليها الهيئة العليا لتأييد الثورة السورية لكن قبل أن تنزع نحو التسلّح. وعندما سلحت هذه الثورة من طرف الأنظمة الموجودة في المنطقة العربية وغير العربية، فإن الثورة إذ ذاك حادت عن طريقها ولا يمكن مساندة ثورة مسلحة على حاكم أيًّا كان؛ لأن الثورة المسلحة تتدخل فيها المصالح الأجنبية وتضيع مستحقات الشعوب وهذا ما حصل في الربيع العربي.

● هل تجاوزت تونس الأزمة، بعد الثورة؟

تونس نجحت إلى حد كبير في تجاوز أزمتها، أعني أزمة الحكم لا الأزمات الاجتماعية والاقتصادية فهي ما زالت قائمة، لكن أزمة الحكم لم تنحل في مصر وفي سوريا وفي اليمن وفي ليبيا؛ لأنها أدت إلى الدمار والفوضى وإلى حكم الميليشيات، ولا يمكن أن نعتبر أن الربيع العربي هو كل متجانس بل إن ظروف كل بلد تختلف عن ظروف البلد الآخر.

تحديث الفكر الديني في تونس ليس مصادفة

● لنعود إلى علاقة الربيع العربي بتحديث الفكر الديني، ماذا يمكن أن تقوله في هذا الصدد؟

يمكن القول: إن من الأسباب التي جعلت تونس تنجح نسبيًّا في تجاوز المرحلة التي عاشتها إبان حكم الترويكا (الحكومة التي أفرزتها أول انتخابات ديمقراطية بعد ثورة 14 جانفي 2011م، واتسمت بالاضطراب وببداية تسرب الإرهاب إلى تونس) هو أن الفكر الإصلاحي متجذّر منذ القرن التاسع عشر وهناك حركات فكرية واجتماعية عصرية لا مثيل لها في البلاد العربية الأخرى وبخاصة الحركة النقابية. فلا ننسى أن الحركة الفكرية ليست منعزلة عن السياق التاريخي الذي ترد فيه. فالمُصلِح الطاهر الحداد مثلًا كان من دعاة تحرير المرأة وكان لكتابه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» تأثير لا ينكر، لكن لا بد من التذكير أنه في المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام التونسي سنة 1946م (المنظمة النقابية الوطنية الأهم في تونس وساهمت في معركة التحرير الوطني) كانت هناك لائحة تطالب بتمكين المرأة من حقوقها وتطالب بتحديد تعدد الزوجات. إذن كانت هناك حركة فكرية وكانت هناك أيضًا حركة اجتماعية فاعلة، كما أن وجود طبقة وسطى مهمة في البلاد والقرب الجغرافي من أوربا من العوامل التي ساعدت التونسيين على تجنب بعض المنزلقات التي شهدتها بلدان أخرى، ولهذا فالفكر الديني التحديثي هو موجود في تونس لا من باب المصادفة، إنما هناك عوامل تاريخية جعلت الجامعة التونسية المعلمنة الوحيدة في العالم الإسلامي التي يدرس فيها الفكر الديني لا عن طريق رجال الدين والمشايخ، بل يقوم بالتدريس والبحث باحثون لا صلة لهم بالمؤسسة الدينية التقليدية، وهذا المثال غير موجود لا في مصر ولا في السنغال ولا في إندونيسيا ولا في أي بلد. وعندما حاول المرحوم نصر حامد أبو زيد في جامعة القاهرة أن يكون مدرسًا للفكر الديني وهو غير منتمٍ للجامعة الدينية التقليدية نعرف جميعًا ما آل إليه أمره من تكفير وهذا ما لا يحصل في تونس، فالذين يدرِّسون الفكر الديني من غير رجال الدين ومن غير المتخرجين من المعاهد الدينية. ونحن في نطاق بيت الحكمة نظمنا ندوات شاركت فيها مجموعة من المختصين في الدراسات الدينية وليسوا كلهم من خريجي الزيتونة أو من علماء الزيتونة، فهذا تقليد موجود في الساحة الثقافية التونسية وفي الساحة الدينية التونسية.

● التركيز على وجود مؤامرة خارجية ومخطط أجنبي عدواني وعلى وجود متربصين بالمنطقة العربية الإسلامية، هل يؤدي بنا إلى السقوط في منطق الوثوقيّة – التي تحاربها أنت شخصيًّا – التي تؤمن بأن الآخر هو سبب الوضع المتردي للمسلمين اليوم وأن يحيد بنا إلى نوع ما من السلفية التي تحمّل المسؤولية للغرب الكافر؟ هل يكون العيب فينا وليس في الآخر؟

ليس هذا ما قصدته البتة؛ لأنني ذكرت المخطط الأجنبي للمنطقة العربية والإسلامية باعتباره عاملًا من العوامل. فهو ليس العامل الوحيد ولا هو ربما العامل الرئيسي وهذا أمر معروف؛ لأن الاستعمار والاستغلال والهيمنة لا تسلط إلا على الشعوب التي هي مستعدة لقبول هذه الهيمنة؛ لأنها هشة وغير متقدمة وقابلة للاختراق. ولذلك فإن العيب ليس في الآخر وإنما فينا نحن. ومن المهم أن نكون واعين بمسؤوليتنا لكن يجب أن تكون أعيننا منفتحة على العوامل الخارجية كذلك. فهي ربما ليست هي المحددة ولكنها موجودة ولا يمكن إنكارها. ونحن عندما نقول ذلك لا نسقط في نظرية المؤامرة؛ لأن المخطط الهادف لتفكيك المنطقة العربية للأسباب التي ذكرنا موجود ومنشور، لكنه تحليل للقوى الإقليمية الدولية الموجودة ولا يعفينا البتة من المسؤولية الذاتية وهذا لا شك فيه ولا يعود بنا إلى أي نوع من أنواع السلفية، بل على العكس من ذلك تمامًا فالسلفية لا معنى لها في هذه الحالة لأن الحلول التي كانت صالحة لدى السلف لم تعد صالحة لهذا العصر، والدليل على ذلك أن «داعش» ولأنه تبنى مقولات سلفية على غرار تركيز الخلافة وتطبيق الشريعة، نعرف ما آل إليه الأمر مع هذا الاقتداء الأعمى بالسلف من دون اعتبار الفروق بين الظروف التي فكّر فيها السلف والظروف التي نعيش فيها نحن، وليس هناك أي خطر من هذه الناحية.

● يتردد في بحوثك ودراساتك ما تسميه بالخطاب الميثي الذي يكبل الفكر الإسلامي من منظورك، كيف يبرز ذلك؟ وكيف يمكن تجاوز هذا الخطاب للوصول إلى العقلانية التي تعدها شرطًا من شروط الوصول إلى الحداثة؟

لا شك أن الجانب الميثي مثل البعد الرمزي بصفة عامة والمتخيل، موجود باعتباره ملكة من الملكات البشرية وباعتباره يتحكم في سلوك الناس والجماعات بصفة خاصة، لكن إلى جانب الميث والرمز والمتخيل، هناك العقل. وواجبنا أن نجعل الجانب العقلي حاضرًا في تفكيرنا وفي سلوكنا حضورًا يستجيب للواقع الحضاري الكوني اليوم. لا يمكن لنا ألا نكون عقلانيين وعقلانيتنا هي التي تجعلنا نأخذ بعين الاعتبار الملكات الأخرى التي ذكرتها. فهذا في صلب العقلانية فنحن نميز بين الميث والرمز والمتخيل بواسطة العقل؛ ولهذا فإن العقلانية لا تلغي الأنماط الأخرى إنما تأخذها بعين الاعتبار. أعرف أن في الغرب تيّارًا كاملًا ضد حركة التنوير وما آلت إليه، وأن هناك مفكرين يعتبرونها مسؤولة عن المآسي التي عاشتها البشرية وبخاصة في القرن العشرين وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين خلفتا الملايين من الضحايا، لكن هذا ليس صحيحًا، وأنا أومن أن العقلانية ليست السبب في ذلك.

ويحضرني أني شاركت بمداخلة في المغرب الأقصى وكان من بين الحضور المفكر الأميركي فوكوياما المعروف بنهاية التاريخ، وكان عنوان مداخلتي «المراهنة على العقل والتقدم». وهي مراهنة فعلًا، يعني أن ما يصلح لنقد العقلانية في الغرب لا يصلح لنا اليوم. وعندما نصل إلى عقلنة تصرفنا في حياتنا اليومية وحياتنا السياسية وعندما نصل إلى الدرجة التي وصل إليها الغرب، يمكن لنا ربما أن نقلل من شأن العقلانية، لكن في هذه المرحلة الحالية التي نمرُّ بها، نحن مضطرون إلى التخلص من كثير من طرق التفكير الميثية والمعتمدة على المتخيل وعلى تمثل الماضي تمثلًا غير تاريخي. وهذا من مقتضيات الحداثة بالنسبة إلينا نحن، وليس بصفة مطلقة لأن الحداثة من أهم مقوماتها العقلانية. هناك أساسان للحداثة وهما العقلانية والفردانية التي هي ليست الأنانية بل الاعتراف بقيمة الفرد باعتباره حرًّا ومسؤولًا. وإذا ما كنا في تفكيرنا وفي سلوكنا نولي الفرد مكانة غير المكانة التي له في القديم، فإننا نطمع في أن نكون حداثيين. نحن اليوم نعيش فترة يتداخل فيها التفكير الميثي والخرافي واللاعقلاني مع التفكير العقلاني والرصين والعلمي؛ لأن المرحلة التي نعيشها، مرحلة انتقالية في تاريخنا، ولا أتحدث عن تونس فقط، وإنما عن العالم الإسلامي عمومًا.

العيش في مرحلة الترميق

● لكن هذه المرحلة الانتقالية التي من المفروض أن تحولنا إلى مرحلة قادمة، مرحلة عقلنة حياتنا في مختلف جوانبها لم تحل دون وجود جانب مهم من الشباب المسلم لا يحلم إلا بالانتقال إلى مرحلة ما بعد الحداثة من دون انتظار ما ستؤول إليه الأمور في المنطقة. ويمكن القول: إن شبابنا اليوم وعلى الأقل الكثير منهم إن كانوا موجودين جسديًّا في المنطقة العربية والإسلامية فإن عقلهم في الضفة الأخرى من العالم وتحديدًا في الغرب الذي دخل مرحلة ما بعد الحداثة؛ فكيف نفسر هذا الوضع؟

إذا أردنا تلخيص الوضع، فإننا نقول: إننا انتقلنا من المرحلة الأولى التي كانت انبهارًا كاملًا بالغرب إلى مرحلة أصبحنا نميز فيها بين ما هو إيجابي في الغرب وما هو سلبي. مثلًا فيما يخص بناء الدولة. الغرب بنى منذ قرنين على الأقل ما يسمى بالأمة الدولة لكن لم يكن يعترف بهذا الحق في بناء الأمة الدولة للشعوب المستعمرة، ولذلك فليس لنا أن ننبهر بما تحقق للغرب وللشعوب الغربية بما أن هذه الشعوب كان سلوكها فيما يتعلق باحترام حقوق الإنسان وفيما يتعلق بالحقوق السياسية والفردية سلوكًا لا مثاليًّا ولا حتى إنسانيًّا. ثم نحن الآن بعد تجاوز مرحلة التمييز بين ما هو إيجابي في الغرب وفي الحداثة الغربية، في الفترة التي تسمى العولمة التي تشعبت فيها المسائل إلى درجة غير مسبوقة وضعفت فيها رغم كل شيء المؤسسات الوطنية القائمة لفائدة الشركات المتعددة الجنسيات ولفائدة رأس المال العالمي، الذي هو أساسًا يمتلكه الغرب قبل أن تدخل قوى أخرى على الخط من بينها الصين مثلًا. وشبابنا اليوم ممزق بين ما يراه وما يسمعه ويقرؤه في وسائل الاتصال الحديثة من أنماط حياة غربية وما يعيشه في مجتمعه. بهذا نفسر هذا التوق إلى الهجرة مثلًا لدى الكثير من شبابنا؛ لأنه يتصور أن الغرب هو ذاك الذي يراه على شاشة التلفزيون أو في الإنترنت ولا يعرف الصعوبات التي يعانيها الغربيون أنفسهم. المهم أننا دخلنا الآن مرحلة كنت وصفتها في بعض المناسبات بمرحلة الترميق. ومرحلة الترميق هذه ليست خاصة بنا فنجد هذا الترميق كذلك في الغرب. فما معنى أن ينخرط بعض الغربيين في الحركات الجهادية وهم قد عاشوا في بيئة بعيدة جدًّا عن قضايا الإسلام والمسلمين؟ السؤال كذلك ما معنى أن نجد عند الشباب من يعتنق مذاهب وأديانًا لم تكن موجودة في بلادنا أو في البلدان العربية الأخرى. فهذا كله يدل على أن الترميق هو السمة الغالبة على السلوك اليوم ويتجلى ذلك مثلًا في تقليد الغرب في اللباس وفي إطلاق اللحية عند الشباب وفي استعمال وسائل الزينة لدى النساء وفي الآن نفسه هناك ردة فعل على هذه العولمة من خلال إرادة التميز. فالكثير من النساء يشعرن بطريقة غير واعية بأن إثبات الذات يمرّ عبر تميّز المرأة المسلمة عن المرأة غير المسلمة بلباس الحجاب مثلًا. طبعًا هناك أسباب اقتصادية واجتماعية، لكن في العالم الإسلامي الظاهرة موجودة وظهرت في البداية بتأثير من حركات الإسلام السياسي.

ونعرف اليوم مثلًا أن في إيران التي تفرض نوعية معينة من اللباس يشترط تغطية الرأس، هناك حركة نسوية تطالب بحق المرأة في ألا تلتزم باللباس المفروض على المرأة (التشادور) وما أعتبره ترميقًا هو أن تأخذ ما تراه مناسبًا لك في ظرف معين وترفض شيئًا آخر من دون أن يكون هناك منطق داخلي يربط خياراتك هذه.

في القديم كانت الأمور واضحة. فقد كانت هناك منظومة متكاملة بين الفكر والسلوك والآن هناك تشظٍّ لهذه المنظومة في المستوى الفكري والسلوكي. ولهذا فإن الشباب بصدد البحث عن إثبات الذات بطرق مختلفة، تؤدي في بعض الأحيان إلى الانتحار، وعدد المنتحرين في السنوات الأخيرة في تزايد وليس في تونس فحسب، وهو نتيجة صعوبة التوفيق بين الإيمان التقليدي والإيمان الذي يأخذ بعين الاعتبار المعارف الحديثة من ناحية وصعوبة التوفيق بين مقتضيات الحرية الذاتية والضغط الأسري والاجتماعي من ناحية ثانية. الشباب يعيش كذلك التمزق بين الطموح والإمكانيات. وكل هذا يجعل هذه العولمة تخلق وضعًا يمكن أن نقول: إنه وضع مأسوي بالنسبة إلى العديد من الشباب بصفة خاصة، ولهذا ترين أن الجواب عن سؤالك يثير قضايا من طبيعة مختلفة ليست كلها فكرية، بل فيها ما هو فكري وأيضًا ما هو سياسي وما هو اقتصادي واجتماعي إلى غير ذلك.

● تلاحظ في مسيرتك البحثية أن القوانين في البلدان العربية والإسلامية كلها وضعيّة إلا فيما يتعلق بقضيتي الحكم والأسرة، فهي محكومة لدى أغلبية الفقهاء بنصوص غير قابلة للتأويل في حين أنك تعتبر أن ليس هناك ثوابت في الإسلام ما عدا ما تسميه بنواة صلبة؛ علامَ تستند في ذلك؟

يلتقي الرئيس الباجي قائد السبسي

ليست هناك نصوص غير قابلة للتأويل، هناك مقولات نسمعها بكثرة ونقرؤها في الأدبيات الإسلامية مثل المعلوم من الدين بالضرورة. وليس هناك شيء معلوم من الدين بالضرورة وإنما هناك ما هو معلوم من الدين بحكم الثقافة والتكوين والقيم إلخ. وليس هناك شيء ثابت في الدين باستثناء نواة صلبة وهي التوحيد والإيمان بنبوة محمد ما عدا ذلك فإنه نسبي وليس ثابتًا، وإذا ما اعتبرنا ذلك فإننا نلاحظ أن التشبث بالتأويل التقليدي للنصوص القرآنية إنما يعكس مصالح فئات اجتماعية محافظة. نحن ورثنا مجتمعًا أبويًّا بطريركيًّا حسب عبارة هشام شرابي وهذا المجتمع يصعب عليه أن ينتقل إلى مجتمع فيه المساواة بين الرجل والمرأة وهذا – مرة أخرى- ليس خاصًّا بتونس. في الأسبوع الماضي، نشرت جريدة «لوموند» الفرنسية بحثًا عن العلاقة بين الرجال والنساء في السويد التي يضرب بها المثل في المساواة، يعني أن هذه المساواة ليست كاملة وهناك صعوبات في تحقيقها في كثير من المجالات. ومجتمعاتنا لا مناص لها من أن تحقق في يوم من الأيام هذه المساواة بين الرجال والنساء؛ لأن هذا الأمر ينخرط في حركة التاريخ في نهاية الأمر. فنحن أحببنا أم كرهنا بصدد الانتقال من مجتمع يعتمد على تراتبيّة معيّنة إلى مجتمع فيه نوع جديد من العلاقات بين الأفراد غير التراتبية. فهذه التراتبيّة لم تعد مقبولة في الضمير الجمعي ولا تؤيدها أنماط الإنتاج الحديثة، ولذلك فالأفضل بالنسبة للمسؤولين السياسيين وقادة الفكر كذلك أن يأخذوا بعين الاعتبار هذه التحولات، فهي من مقتضيات الانخراط في العصر. والمساواة بين النساء والرجال في جميع المستويات من سمات هذا العصر، وإذ ذاك فإن تأويل النصوص يجب أن يتلاءم مع يقتضيه هذا الانخراط في العصر. فظروفنا تغيرت وينبغي أن يتغير تأويلنا لهذه النصوص، ونحن اليوم نعرف ما لا يمكن للقدماء أن يعرفوا، فما توافر لنا من أدوات المعرفة لا صلة له بما كان يتوافر للقدماء. لنتذكّر أن الكتابات كانت مقتصرة على طبقة من الكتاب الرسميين الذين يدوّنون لجهاز الحكم فقط ويدوّنون على البردي أو على الجلد أو على الحجر، ثم تم اكتشاف «الكاغط» وأصبحت الكتب المخطوطة باليد متوافرة أكثر من البردي أو من الرقوق وغيرها من الأدوات التي يكتب عليها، ثم تم اكتشاف المطبعة وأصبح الكتاب متوافرًا لأعداد لم تكن تحلم بأن تقرأ؛ لأن الكتاب المخطوط كان نادرًا وحكرًا على طبقة ضيقة لكن المطبعة وسعت من جمهور القراء.

والآن نعيش عصر الإنترنت والمعلومات أصبحت مذهلة، ولذلك نحن اليوم نعرف عن مجتمع القرن السابع الميلادي الذي ظهر فيه الإسلام أضعاف ما كان يمكن لآبائنا وأجدادنا أن يعرفوه عن خصائص المجتمع، وعن تكوينه وعما كان يوجد فيه من موازين القوى في نطاق العشائر والقبائل والعلاقات مع الخارج، فعندما نستحضر هذه الظروف التاريخية فإننا نفهم لماذا فهمت الآيات القرآنية وأوِّلت بطريقة معينة، ولماذا وضعت الآلاف المؤلفة من الأحاديث لتبرير القيم السائدة، فهذا لم يكن ممكنًا منذ قرن لأن المعلومات لم تكن متوافرة. أنا نشرت منذ بضع سنوات مقالًا في الحوليات التونسية حول ملكة سبأ وهو نتيجة سنوات من البحث، وإذا ما قارنت بين ما يمكن لمن يعيش سنة 2018م أن يعرفه ومن كان يعيش منذ خمسين سنة فقط وهو يبحث عن المعطيات التاريخية، فإن المعلومات المتوافرة لمن يعيش اليوم أكثر بكثير من التي كانت متوافرة منذ خمسين سنة، أو بالأحرى لمن عاشوا منذ عشرة قرون. فالتفاسير التي نجدها والمتعلقة بهذه القصة من سورة النمل عند الطبري وعند الرازي والزمخشري والقدماء كلهم إلى الطاهر بن عاشور، هي معلومات تجاوزها الزمن ولا يمكن أن نفهم النص القرآني وأن نهمل في الآن نتائج المعطيات التاريخية التي تتوافر لدينا نحن، وقس على ذلك مئات الأمثلة.

● هل نقيس ذلك على مسألة الميراث مثلًا؟

ناجية الوريمي

نحن نسمع بالنسبة للمساواة في الإرث أن القاعدة القرآنية مطلقة ولا سبيل إلى عدم تطبيقها. طيب إذا كان الأمر كذلك فكيف نفسر أن مئات الآلاف من الحالات لا يمكن أن نطبق فيها بعض الآيات القرآنية وخاصة الآيات المتعلقة بالإرث، أضرب على ذلك مثلًا يمكن أن يعيشه أي إنسان، وهو أن يموت شخص في حياة أبويه ويترك زوجة وابنتين. وإذا ما أردنا أن نطبق ما يوجد في النص القرآني على هذه الحالة المتكررة، فإننا نلاحظ أن أنصبة الجميع تتجاوز التركة نفسها. البنتان لهما الثلثان والزوجة لها الثمن والأب والأم لكل واحد منهما السدس، وعندما نجمع نجد أنها تتجاوز نسبة المئة بالمئة من التركة. وهذه ليست حالة شاذة فماذا فعل الفقهاء الذين عاشوا هذه الحالات؟ لقد احتالوا بأن أنقصوا من نصيب كل واحد من الورثة بطريقة يسمونها العول ولهذا يقولون: هذه المسألة عالت.

وهذه الآيات ليست قابلة للتطبيق في كل الحالات؛ مما يدل على أنها وضعت لحل مشاكل ظرفية عاشها المجتمع الإسلامي، وهذه الآية وغيرها إنما جاءت لفض مشاكل معيشة لا مطلقة. ويفسر التأويل التقليدي بأن الناس في القديم يحتاجون للمبررات الدينية للقوانين التي يسنّونها للمجتمع. أما اليوم فلسنا في حاجة إلى مبررات دينية لسنِّ القوانين للمجتمع وهذه ليست دعوة للعلمانية، بل هو واقع. بالطبع، الفقهاء يحاولون دائمًا عن طريق القيم والقياس، لكن الأوضاع تختلف اختلافًا جذريًّا والحلول لا ينبغي البحث عنها في القياس، وإنما ينبغي البحث عنها في القيم الحديثة التي تلخصها حقوق الإنسان التي من بينها الحرية والمساواة الديمقراطية والعدل …إلخ.

إنتاج الجهل

● بما أنك مهتم بتاريخ الفكر الإسلامي وبما يجري من أحداث على الساحة العربية ولا سيما الاضطرابات وبؤر التوتر؛ كيف تتوقع من المفكرين والمختصين في العلوم الدينية أن يساعدوا على تجاوز هذا الوضع، ثم كيف تنظر أنت شخصيًّا إلى آفاق المنطقة عمومًا من موقعك بوصفك مفكرًا وباحثًا وملاحظًا ومحللًا للأحداث؟

لو حاولت أن ألخص السؤالين في قضية واحدة لقلت: إنها مشكلة التعليم والبحث في البلاد الإسلامية. وفي تعليمنا، نعلِّم أبناءنا وبناتنا بطريقة دغمائية لا تحملهم على التفكير؛ لأننا لا نعطيهم إلا وجهًا واحدًا مما نعتقد أنه الحقيقة. وكنت منذ بضع سنوات ألقيت محاضرة افتتاحية في كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بتونس وعنونتها بنوع من الاستفزاز وهو مقصود بـ«إنتاج الجهل في عصر العلم»، وضربت العديد من الأمثلة عن الطريقة التي تؤكد أننا نقدم لأبنائنا وبناتنا معلومات ناقصة. هل نقول لهم: إن القدماء قد اختلفوا في تولي المرأة القضاء وفي تولي المرأة للمناصب السياسية العليا، وإن المرأة في تاريخ الإسلام تبوأت مناصب مهمة؟ هل نحدثهم عن موقف ابن عربي من إمامة النساء؟ الحقيقة، إننا نعلمهم جانبًا من الحقيقة ونسكت عن البقية، ولا نسمح لهم أن يختاروا، في حين أن الفكر النقدي لا يمكن أن ينشأ إلا إذا وفِّرت إمكانية للاختيار. فعندما نعلّم الرياضيات لأبنائنا نعلمهم: واحد مع واحد يساوي اثنين، وهذا صحيح لكنه ناقص، فنكيف تفكيرهم بطريقة لا تسمح لهم بأن يكونوا يقظين تجاه المشاكل المتجددة التي تعترضهم كل يوم. وبالنسبة للمسائل الدينية فغالبية الذين يدافعون عن النظريات التقليدية هم لم يعرفوا غيرها، إضافة إلى موضوعات أخرى يطول الحديث عنها؛ من بينها ما هو الفرق بين العلماء التقليديين وزعماء الإسلام السياسي اليوم. إن العلماء التقليديين كانوا مطلعين على هذه النظريات والمقولات المختلفة، أما زعماء الإسلام السياسي والجيل الذي تربى في المدرسة الحديثة فقد لقّن بعض المعطيات التي اعتبرها الوحيدة والصائبة، ولذلك تنكر لتدين أبويه وللوسط الذي يعيش فيه لأن العلاقة بالكتابي حديثة في مجتمعاتنا. الحقيقة كانت مقصورة على فئة ضيقة وعندما عمّم التعليم أصبح هناك فئات اجتماعية لها صلة بالمكتوب غير قابلة للإطلاقية وهذه الوثوقية، لذلك لخصت مشكلتنا في طريقة التعليم وفي مناهج التعليم، وإذا ما استطعنا أن نعمم المعرفة الحديثة يمكن لنا أن نتجنب الكثير من العقبات التي تعترضنا.

زهية جويرو

● ازداد عدد الكتابات النسائية حول الإسلام، إلى درجة أصبحت مثيرة للجدل داخل تونس وخارجها؟

إنها مثيرة للجدل لأن الرجال كانوا مستأثرين بمسائل الدين، وهذه الذكورية ما زالت تعمل عملها في الضمير، ولهذا يعسر على هذا الضمير الجمعي أن يقبل أن تكون المرأة صاحبة قول في المذهب، وينكر عليها أمرًا كانت مقصية عنه تمامًا. بهذا أفسر موقف المعارضين؛ لأن استئثار الرجال بالخوض في مسائل الدين يولد نوعًا من البداهة بأن أمور الدين مقصورة على الرجال، وهذا يعود إلى التراتبية في المجتمعات القديمة وهذا ما نظّر له الإمام الشافعي عندما ميز بين المكلفين في أنفسهم (عامة الناس) والمكلفين في أنفسهم وفي الآخرين (رجال الدين).

● إنه التقسيم اليوناني القديم نفسه؟

المجتمع الإسلامي القديم لم يكن يختلف عن بقية المجتمعات القديمة، لكن الاختلاف عن بقية المجتمعات الأخرى هو وليد اليوم. هل المرأة في تونس مثلًا حرة رغم ما حدث من تقدم في منزلتها، هل يمكن لها أن تتصرف كما لو كانت في باريس أو لندن أو برلين؟ لا أظن ذلك…

● كيف تقيّم ما تكتبه النساء حول المسألة الدينية، ومن بينهن باحثات تتلمذن عليك؟

الكثير من الأبحاث جيدة وما تنتجه باحثات في تونس في مستوى ناجية الوريمي أو زهية جويرو وغيرهما من الأسماء، كان يمكن أن ينتج في جامعة هارفارد أو جامعة بكين أو غيرهما. في مقابل ذلك، هناك باحثات اقتحمن المجال من دون اختصاص مما يجعلهن لا يحسنّ قراءة بعض النصوص فيُؤَوِّلْنَها تأويلًا غير مقبول، وأخص بالذكر الكتابات التي تتأثر ببعض الأيديولوجيات السائدة في الغرب وتسايرها.

● وأنت المهتم بالأديان المقارنة، عادة يُطالَب المسلمون بضرورة القيام بعملية النقد الذاتي، هل تقوم الأديان الأخرى وخاصة المسيحية واليهودية بما هو مطلوب من المسلمين؟ وهل تُطالَب بدورها بالقيام بالمجهود نفسه إزاء المسلمين ولا سيما في باب النقد الذاتي لطريقة تعاملها معهم مثلًا وفهمها للإسلام؟

ما يوجد عندنا في النطاق الإسلامي موجود في المسيحية وفي اليهودية. وفي اليهودية هناك تيار يسمى اليهودية الليبرالية موقفه من التشريع في اليهودية لا يختلف عن موقف الكثير من العلماء المسلمين فيما يتعلق بالتشريع الإسلامي. أما بالنسبة للمسيحية، كل التيارات الموجودة في الإسلام موجودة فيها لكن بخصوصية معيّنة؛ لأن المسيحية مشكلتها مشكلة عقدية وليست مشكلة تشريعية خلافًا لليهودية والإسلام. والمسيحيون في المشرق العربي منهم من هو منفتح على النظريات المسيحية الحديثة، وفيهم من هو منغلق على التراث المسيحي التقليدي مثلما يوجد عندنا في الإسلام. ولا أظن في هذا المستوى أن هناك فروقًا كثيرة…

المنشورات ذات الصلة

مصطفى محسن: اشتغال عالم الاجتماع على المسألة الاجتماعية ينبغي ألّا يفهم منه تحوله إلى واعظ أو داعية إلى ثورة

مصطفى محسن: اشتغال عالم الاجتماع على المسألة الاجتماعية ينبغي ألّا يفهم منه تحوله إلى واعظ أو داعية إلى ثورة

يتحدث عالم الاجتماع المغربي الدكتور مصطفى محسن عما يميز مساره النقدي من ترحال موضوعاتي، يصفه بأنه ضروري لحرفة عالم...

المستشرق الإيطالي جوزيبي سكاتولين: لا بد للحوار بين الأديــــان أن يكون جادًّا وحقيقيًّا وليس لأغراض شكلية أو لتوظيف سياسي

المستشرق الإيطالي جوزيبي سكاتولين: لا بد للحوار بين الأديــــان أن يكون جادًّا وحقيقيًّا وليس لأغراض شكلية أو لتوظيف سياسي

جاء المؤتمر الدولي في ميلانو الذي عقد في مايو الماضي لتكريم المستشرق الإيطالي جوزيبي سكاتولين، تتويجًا لجهوده بوصفه...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *