المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

ميشا غوردن: أنا إنسان بسيط يثق في حدسه

بواسطة | مارس 1, 2018 | فنون, فوتوغرافيا

تعد تجربة الفوتوغرافي الأميركي من أصل سوفييتي ميشا غوردن واحدة من أعمق التجارب في فن الفوتوغرافيا، ومن أكثرها أصالة واشتباكًا بالتهديدات التي تواجه الذات الإنسانية. أعماله الرائدة تعبر، في كيفية لا تخلو من غرابة وتعقيد، عن المأزق الوجودي للإنسان، وعن عزلة الفرد واغترابه في لحظات زمنية وشعورية مختلفة. أعماله ليست مجرد صور مركبة أو ذات مسحة سوريالية، إنها تراجيديا مستمرة تثير التساؤلات وتحفز التأمل في سر الفن ومصير الإنسان، الذي يبدو في أعمال ميشا معطوبًا أو يتهدده العطب، مقذوفًا في خلاء مفتوح على الوحشة. ولد ميشا في الاتحاد السوفييتي عام 1946م بعد سنة واحدة من انتهاء الحرب العالمية الثانية. درس هندسة الطيران، لكنه لم يعمل في تخصصه، ثم قرر الهجرة إلى أميركا. وللتعرف أكثر على العالم الإشكالي لهذا الفوتوغرافي، ننشر هنا ترجمة لحوار معه، ثم شهادة له حول تجربته، ومقال نقدي حول مشروعه. والمواد الثلاث من إعداد وترجمة الكاتب والمترجم إلياس فركوح:

ذكرتَ أنكَ اكتشفتَ أسلوبك الخاص عندما تركتَ التصوير الوثائقي والتقاط «البورتريه». حدث ذلك تحديدًا في عام 1972م، حين اجترحتَ أوّل وأهمّ صورة مفاهيميّة: الاعتراف. صِفْ، لو سمحتَ، ما قادكَ باتجاه هذا المفهوم، وكيف قُمتَ بتطويره فيما بعد؟

في تلك المرحلة من حياتي تركَّزَت جُلُّ حيويتي في العثور على شيء «جديد» في التصوير الفوتوغرافي. ذات صباح كنتُ جالسًا في الخارج من منزل أبي الواقع على البحر. انتبهتُ للبستاني وإلى جانبه عربة يد بدولابٍ واحد.. ما أدّى هذا إلى قَدْح صورة لحقلٍ مفتوح مع امرأة عارية تدفع عربة اليد المليئة بدُمًى معطوبة وهي تواجه ريحًا عاصفة. بعد هذا، وفي يومٍ كنتُ متوجهًا للعمل، رأيتُ مجموعة أولاد لفرقة عزف متجوّلة تعبرُ الشارع بآلاتها. ضَرَبَني المشهدُ مثل البرق. كان ذلك هو العنصر المفقود الذي أبحث عنه. صارَ لديَّ هذه الرؤية، بسيطة وواضحة. رسمتُ تخطيطًا للصورة القادمة وبدأتُ بتركيب العناصر. استغرقني هذا عدة أسابيع لأجدَ الموقع المناسب، ودعامات المشهد، ومَن سيقوم بالأداء.

صباح أحد أيام الأحد، وعلى جانب طريق مرتفع، وقفت مجموعة من ثلاثة أشخاص غرباء ومعهم شبكة مليئة بالدمى، وطَبْل، وعربة يد، ينتظرون مَن يُقلُّهم. توقفَت أوّل سيّارة… عندما وصلنا إلى الموقع، تبيّنَ لي أنّ الحقلَ تحوّلَ إلى وَحْلٍ وطين. كانت أمطَرَت ليومين متتاليين. والموقع المناسب لالتقاط الصورة كان وسط الحقل. انتزعتُ أدواتي، وحملتُ عربة اليد على ظهري، وشرعتُ في عبور الحقل ببطء، غاطسًا بالوحل والطين حتّى رُكبَتَيّ. تَبِعَني المؤديان. لم يكن هذا الوضع ساحرًا أو فاتنًا مثلما توقعاه. كان يومًا مشمسًا بسماءٍ زرقاء صافية وبلا ريح. قُمتُ بترتيب جميع الأدوات أمام آلة تصويري لأحاكي الرسمَ الذي خططته، لكنه لم يكن كما حسبته. ثمّة شيء مفقود. ثم فجأةً، ظهَرَت غيمةٌ سوداء في الأفق.

وكان أن أطارت عَصْفَةُ ريحٍ شَعرَ المرأة. قَرَعَ الرجلُ الطَّبْلَ. بُعِثَ المشهدُ حيًّا أمامي. أخذتُ عدة لَقَطات. ثم همدت الريحُ تمامًا، وعبرت الغيمةُ لتبقى السماءُ الزرقاء الصافية فوقي بقية اليوم…

أفكِّرُ أحيانًا أن عَصْفةَ الريح تلك قامت بتغيير اتجاه حياتي.

كيف تلقى الآخرون «الاعتراف» لأوّل مرّة؟

أذكرُ نسخةً صغيرةً مطبوعةً مُلصقة على خزانة المطبخ. عرفتُ أني كنتُ أنظرُ إلى أهمّ عَمَلٍ اجترحته في حياتي. امتلكتُ جميع العناصر لصورةٍ عظيمة وبمقدوري التعلُّم منها. معظم الناس حاروا في أمر «الاعتراف». كانت مختلفة جدًّا عن الفنّ الرسمي في الدولة الشيوعيّة. شعرتُ بأنّ بعض المصورين الفوتوغرافيين ممن رأوا هذه الصورة أُصيبوا بالرعب من الأسلوب غير المعروف، و«حاولوا» تجاهل عملي. لكنني لم أكن بحاجة إلى رأي الآخرين. كنت امتلكتُ رأيي أنا…

ذكرتَ أنّ بعض أكبر التأثيرات فيك كانت كتابات دوستويفسكي والتصوير السينمائي لتاركوفسكي. يبدو عملك متأثرًا أيضًا بـ«جحيم» دانتي أليغييري. هل قرأتَ لدانتي؟ ومَن كان له التأثير في عملك غير هؤلاء؟

لا، أنا لم أقرأ لدانتي، لكنني سمعتُ في كثير من المرّات أنّ الناس يرون عناصرَ مِن «جحيم» دانتي في عملي. وإني أعمل دائمًا على تشجيع المشاهدين على تأويل عملي كما هم يرونه. إنّ غايتي هي خلق صورة «تتكلّم».

كم من الوقت تحتاج لخلق صورة جديدة؟ ما العملية التي تنخرط فيها؟

يعتمد الأمر على الصورة نفسها. أحيانًا يستغرقني الأمر أسبوعًا، وأحيانًا أخرى شهرًا كاملًا. غير أنّ الأفكار حاضرة دائمًا. بعض الصور المطبوعة تكون في غاية التعقيد الفني وأحتاج لعدة جلسات لدراسة مكوِّناتها والتقاطها، ثم أمضي عدة أسابيع في غرفة التحميض (darkroom) لأجل تركيب أجزاء الصورة وجمعها من عدد كبير من نُسَخ الـ«نيغاتيف» المختلفة. أما العمليّة نفسها؛ فهي هي لا تتغيّر. تبدأ بالفكرة، ثم التخطيط بالرسم، وتجميع المكوّنات وترتيبها، وتصوير المادة ودراستها، وبعد ذلك الاشتغال التدقيقي في غرفة التحميض.

● أنتَ لا تلجأ لاستخدام الوسائل الرقمية (الديجيتال) مثل برنامج الفوتوشوب. جميع ما خرجتَ به ناتج عن العمل في غرفة التحميض ويدويًّا. هل تمنحك هذه الطريقة سيطرةً أكبر على النتيجة النهائية؟

اشتغلتُ جميعَ صوري داخل غرفة التحميض تحت أداة تكبير واحدة، مستخدمًا تكنيكًا متطورًا باتَ ممتازًا عبر سنوات العمل. هذا التكنيك له حدوده، وإني أنكبُّ عليه لأواجه تلك المحدوديّة حين العمل على الأفكار. إضافة إلى هذا، وقبل طباعة الأصل، أُجري اختبارات وتنظيمًا وضبطًا لكلّ صورة سلبيّة (نيغاتيف) معدة للطباعة. أدوّنُ جداول حيث أُظهر الكشف المناسب وجميع نتائج المعمول عليه بتسلسله ولكلّ صورة نيغاتيف اسْتُخْدِمَت. بعد ذلك، تأتي مرحلة «تجفيف» ما طُبع. هذا الجزء من العملية هو الأكثر حساسية لأي خطأ. أعمل على التدقيق في العمل، كلّ صورة نيغاتيف بعد أخرى، مغيّرًا باستمرار التصحيحات إلى أن تصلح النيغاتيف الأخيرة لأن تُستخدم. عندها، يكون شعوري كمن يرجع إلى بيته سالمًا بعد قيادة طويلة لسيّارة على الطريق. هذا الجزء إنما يتعلق بالتدريب والانضباط والخبرة أكثر من كونه خاصًّا بالفنّ. بعد ذلك يأتي وقت «الحُكْم»، عندما تخرج أوّل صورة مطبوعة من جهاز التحميض. إنها لحظة في غاية التشويق لي. أبحثُ عن أخطاء محتملة كلّما أظهرَت الصورةُ نفسها، وثمّة إحساسٌ عظيم بالراحة والشعور بالإنجاز عندما تكون المطبوعة «خالية من العيوب». دائمًا ما أطبعُ سبعَ نُسَخٍ إضافة إلى ثلاث نُسَخ كبراهين فنيّة. لسوء الحظ؛ إنّ التكنيك الذي أستخدمه لا يسمح بأيّ أخطاء. إنه يتطلّب تركيزًا كاملًا، ويمكن أن يكون مُرهِقًا بَدَنيًّا وذهنيًّا للغاية.

المُعطيات الرقميّة (الديجيتال) سهلة ومطواعة. لكنّ طريقتي، على ما هي عليه من مشقة، تمنحني سيطرةً أفضل وفوريّة على الجودة. فأنا أطبع من النيغاتيف الأصلي بعد كل شيء. وكذلك؛ لستُ أشعر في هذا الوقت بالحاجة إلى تغيير الطريقة التي تأتي بنتائج طيبة. لا أدري كم من الوقت سأظلُّ محتفظًا بقوةٍ جسديّة جيدة لأكون قادرًا على مواصلة العمل بهذه الطريقة. لكني، عند لحظة ما، سيكون لديَّ خيار الانتقال إلى المُعطيات الرقمية.

كثيرٌ من أعمالك يعكس اغترابًا وعزلة. أهذه حالة عانيتها في حياتك؟ إذا كان الأمر كذلك، هل تشعر بأن هذا لعبَ دورًا في تطوير «موهبتكَ» الفنيّة؟

نشأتُ في دولةٍ توتاليتاريّة (شموليّة استبداديّة) بعد الحرب العالمية الثانية. كنتُ وَلَدًا سعيدًا أُمضي معظم وقتي في الشوارع ألعب مع أولادٍ آخرين، وغالبًا ما أكون مفتونًا بـ«ألعاب الحرب». كانت الحياة من حولي فقيرة جدًّا، مليئة بالصراع والمآسي. صور من طفولتي كامنة في العمق مني. كنتُ مراهقًا صعب المراس، حَرونًا وعنيدًا جدًّا ولا أحترم السلطات. أبعدني هذا السلوك عن المراهقين الآخرين، وكان له تأثيره في تطوير أسلوبي. لم أنْتَمِ قط لأيّ منظمة، وهو الأمر الذي يُعَدُّ مستحيلًا في دولة شيوعيّة. بعد وصولي للولايات المتحدة، وجدتُني مُحاطًا بكثير من الأشخاص الذين حاولوا مساعدتي. تعلّمتُ كثيرًا من أصدقائي الجُدد. وعندما أسستُ لنفسي سُمعةً كفنّان، أصبحتُ جزءًا من «مجموعات الفنّ» العاديّة. ثم بِتُّ بعدها مُهيأً لخطوة تغيير. حدث هذا عندما اشتريتُ ثمانين فَدَّانًا من تِلالٍ متدرجة وسط مينيسوتا، وانتقلتُ مع عائلتي لعيش حياة هادئة، بسيطة، بعيدًا من مشاحنات حياة المدينة وضجيجها. أعمل غالب الوقت مع القليل من وسائل التسلية. أثبتَ هذا التغيير أنه جيد ومناسب حتّى الآن. لقد أنجزتُ كثيرًا من الأعمال المهمة منذ ذلك الوقت… صخرةٌ كبيرةٌ ملقاة على الحدود الجنوبيّة للأرض حيث أعيش.

أحبُّ أن أزورها في أيام الشتاء المشمسة والسير من حولها في حلقات، متشرِّبًا لطاقتها الصامتة.

أحبُّ أن أقفَ فوق قمتها بعينين مغمضتين متجهتين صوب الشمس الساطعة. أحبُّ أن أملأ صدري بهواءٍ منعش وبارد وأن أبلغَ أعلى الفضاء. أشعرُ بأني متفرِّدٌ، ولكني لستُ وحيدًا. هو المكان حيث أنتمي. البومة المتوحدة تراقبني من عشها عبر الوادي.

ما الذي تعتبره أعظم منجزاتك؟

العثور على دربي الخاصّ واتباعه.

ما النصيحة التي تود تقديمها للفوتوغرافيين الصاعدين المتطلعين لاجتراح أسلوبهم الخاص؟

كونوا حَذرين عند اختياركم لمعلّمكم. إذا كنتم تملكون موهبةً حقيقية، ربما لا تحتاجون لأي معلّم.

بعد تطوير قوام عَمَلٍ يعكس أفكارك ومشاعرك الخاصّة، ماذا عَلَّمَتْكَ صورُك الفوتوغرافيّة عنك؟

أني إنسانٌ بسيطٌ يثقُ في حَدْسه.

المصدر:

http://www.ventilate.ca/issue06/bsimple.html

الفوتوغراف‭ ‬المَفاهيمي

ولدتُ عام 1946م، بعد السنة الأولى من انتهاء الحرب العالميّة الثانية. كانت عائلتي قد نجت للتو من الإجلاء القسري وعادت إلى ريغا، التي ترزح الآن تحت الاحتلال السوفييتي. ترعرعتُ وكبرتُ ضمن الأكثريّة الناطقة باللغة الروسيّة في لاتفيا، وباتت الثقافة الروسيّة ثقافتي الجذريّة. تخرجتُ من الكليّة التقنيّة مهندس طيران، لكنني لم أمارس تلك المهنة قط؛ إذ بدلًا من هذا التحقتُ بأستديوهات ريغا للسينما مصممًا لأجهزة المؤثرات الخاصّة. كنتُ في بداية العشرين من عمري، وأكاد أكون جاهلًا بالفنّ. في ذلك الوقت كانت الواقعيّة الاشتراكيّة ثقافة البلاد الرسميّة، لكني لم أولِها أيّ اكتراث. كانت المعلومات عن الفنّ الغربي الحديث متوافرة بصعوبة بالغة، واطلاعي عليها محدود للغاية. بدأتُ التصوير وأنا في التاسعة عشرة، مدفوعًا بالرغبة في اجتراح أسلوبي الشخصي ورؤيتي الخاصّة. انشغلتُ مدة من الوقت بالـ«بورتريه» وأنجزتُ بضع لقطات وثائقيّة، ثم سرعان ما اكتشفتُ أنّ النتائج لم تُرضني.

نَحَّيتُ الكاميرا جانبًا، وشرعتُ في التركيز على القراءة (دوستويفسكي، وبولغاكوف) والكتب الخاصّة بالتصوير السينمائي (تاركوفسكي، وباراغانوف). كنتُ أبحث باستمرار عن الطريقة التي أعبِّر من خلالها عن مشاعري وأفكاري الشخصيّة بواسطة الصورة الفوتوغرافيّة. بعد سنة من هذه القراءات، جاءتني الفكرة جَليَّةً وبسيطة. قررتُ تصوير المفاهيم. في عام 1972م اجترحتُ أوّل صورة وأهمّها: الاعتراف. لاحظتُ من فوري الاحتمالات الكامنة والممكنة لطريقة الاقتراب من إدراك المفهوم، وأصبحَت المعرفةُ المكتسبة من تلك الصورة العمود الفقري لجميع الأعمال التي أنتجتها طوال السنوات الخمس والعشرين اللاحقة. في عام 1974م، بعد سنوات من النفور من السلطات الشيوعيّة، تركتُ بلدي إلى الولايات المتحدة.

التقليديّ مقابل المفاهيميّ

هل أسلّط الكاميرا الخاصّة بي على الخارج باتجاه العالم الموجود، أم أقوم بتحويلها للداخل صوب روحي؟ هل أقوم بالتقاط صُوَر لواقعٍ موجود، أم أخلق عالمي الخاصّ بي، عالمي الحقيقي جدًّا لكنه غير– الموجود؟ إنّ حصيلة ما نتجَ عن هاتين الطريقتين المتعارضتين في الفهم، كلّ واحدة بمفردها، لهي مختلفة بوضوح شديد، وإنّ الصورة المفاهيميّة، من وجهة نظري، صيغة عليا في التعبير الفني تضع التصوير على مستوى الرسم نفسه، والشِّعر، والموسيقا، والنحت. إنها توظِّف الموهبة الخاصّة للرؤية الحَدْسيَّة. فمن خلال ترجمة المفهوم الشخصي إلى لغة التصوير، تنعكس الإجابات المحتملة لأسئلة الوجود الرئيسيّة: الولادة، والموت، والحياة. إنّ خلْق فكرةٍ ما وتحويلها إلى واقع لهو عمليّة جوهريّة وأساسيّة للتصوير المفاهيمي. المُنْتَج التقليدي اليوم، خلا القليل من الاستثناءات، هو المهيمن كاملًا على فنّ التصوير. غير أنّ ما يتأتى عن التصوير الرقمي (ديجيتال) سيعمل على تغيير هذه المعادلة. إنّ سهولة إنتاج وقائع خضعت للتعديل ستأتي بموجةٍ جديدة من فنّانين موهوبين سيعمدون إلى استخدام قدرات هذه التقنية في التعبير عن عالم رؤاهم الخاصّ، بكلّ ما تحمله من معانٍ، عَبْر الرموز واللجوء للغموض.

في عالم التكنولوجيا المتقدمة جدًّا، هل ستبقى مُسَلِّمًا بمصداقيّة الصورة؟ وهل يعنيكَ الأمر فعلًا؟

من جهتي؛ الأمرُ يعنيني. حاولتُ، في أثناء سنوات خلقي للصور المفاهيميّة، أن أجعلَ منها صورًا واقعيّة قدر الإمكان. تطورت قدراتي التقنيّة، مُتيحةً لي توسعة آفاق أفكاري. غير أنّ هذا ليس هو الجزء الأهمّ في المسألة. فالمفهوم الفقير، مهما بلغت درجة إتقانه، يظلُّ منتِجًا لصورٍ فقيرة. لذلك؛ فإنَّ المكوِّن الأكثر أهميّةً في الصورة ذات القوة الأكبر هو المفهوم. مزيج الموهبة في خلق مفهومٍ ما والبراعة والحذق في نَقْل ذلك – هاتان هما الكُتلتان البانيتان الرئيسيتان حين خلق صورة مفاهيميّة مُقْنِعَة.

أن تُستخدم صُوَرٌ فوتوغرافيّة ببراعة ليست فكرة جديدة. في الحقيقة، إنَّ جميع الصور تتحلّى بالبراعة بدرجة أو بأخرى. لكنّ القوة الحقيقية للصورة الفوتوغرافيّة تنشأ وتنبثق حين يُقَدَّم الواقع المُعَدَّل كواقعٍ موجود فعلًا ومُتَوَقَّع أن يكون هكذا. من الواضح أنّ صورة متقنة لا تعدو أن تكون خدعة تُظهر قدرًا من النقص في فهم القوة الفريدة للتصوير الفوتوغرافي – ذاك الإيمان المطمور في لا وعينا في أنّ ما التُقط بعدسة الكاميرا ينبغي له أن يوجَد. فنحن عندما نكون حيال أفضل الأمثلة على الصور المتقنة الناجحة، فإنّ السؤال: «أهذه صورة حقيقية؟» لا يبرز. أظهرَتْ لي أُولى محاولاتي في التعامل مع الكاميرا الرقمية كيف يتشابه تناظرها وتقنياتها الرقمية. فكلّ واحدة منها لها موضعها المُشِعّ والمظلم. إلّا أنني، في هذه اللحظة، لا أرى سببًا للانتقال إلى هذه التقنية. ما زلتُ أفضِّل القيمة المتوهجة للصورة المطبوعة وعمليات التظهير المختبريّة في إنتاجها. ومع ذلك؛ أعتقد أنها مجرد مسألة وقت قبل أن تستبدل المضاهاةُ الرقمية التناظرَ، وتسمو الصورةُ المفاهيميّة على التقليديّة. كما أريد أن أومن، بعد عدة سنوات من الآن، بأنْ يواصل الفنّانون تطوير لغة التصوير الفوتوغرافي، مُدركين قوته الفريدة ومحافظين عليها.

المصدر: http://www.ablemuse.com/premiere/mgordin.htm

الاستيقاظ في ظِلال الحُلم

يتجلّى الإبداع عبر حالات متعددة مُركَّبة من اللاشعور، ولا ننفتحُ على تلك الحالات إلّا من خلال الرمز أو المَجاز. ففي أثناء الأحلام، نواجه حالةً لا شعوريّة ناتجة تحديدًا عن خبرة شخصيّة من شَواشٍ وفوضى بدائيّة ظهرت عبر الاتحاد الحُر للمَجاز أو الرمز الحِسِّي المُرَكَّب. ولأنَّ الشَّواش والفوضى يشكلان صيغةَ نظامٍ أو بُنية، فإنَّ العقل الرصين أو الراشد غير قادر على استيعابهما، ومن ثم فإنَّ هذا الإبداع لا يشكّل مفهومًا يمكن الإحاطة به بالتفكير. إنه يوجد عميقًا في داخلنا، يختبئ خلف هياكل وأُطُر ما نَعرف وما نتمسك به. إنه يَبلغ عميقًا إدراكاتنا ووعينا عبر الأحلام وتدفق تخيلاتنا، ويوصلنا بعالَم داخلي غامض.

الفارق الوحيد بين واقع اليقظة وواقع الحلم يتمثّل في أنّ الأحلام لا قدرة لدينا على التشكيك فيها. لذلك؛ فإنّ الأحلام في الحقيقة أكثر واقعيةً، وأكثر حيويةً وخيالًا من الواقع الذي ندركه من خلال حواسنا البسيطة الخمس. إنّ العوالم الخياليّة التي ننتقل إليها في صور ميشا غوردن إنما تستدعي، بلا شكّ، أفكارًا ومشاعرَ نشأت من لغة الأحلام أكثر بكثير من لغة العقل اللفظي الرصين. كلّ صورة هي مدخلٌ يؤدي إلى ممرات ظِلاليّة تتعرَّج نحو مكانٍ ما، نحو مكانٍ آخر، يتيه وراء الواقع المنطقي، والعقلي، والمصنوع كما نتعارف عليه. هذه المداخل والممرات تتصلُ بأصْلٍ أو مصدرٍ ضخم، ومعقَّد، ومَتاهيّ؛ إنه أصْلٌ فوضويٌّ مُرَكَّب بُنيَ على قاعدة أكثر أُسس البشريّة من الحنان والتَّوق والتشوُّف.

تطفو صُورُ ميشا غوردن فوق الشَّواش والفوضى، ومع ذلك فإنها تحت السيطرة من خلال التجانس والشكل. ثمّة منطق محدد واضح وقصديّة في بنية الأفكار رغم تحديها للإدراك العقلاني. ربما تكون الصور سرياليّة، لكنها، مع هذا، دائمًا ما تكون واقعيّة حقيقيّة وبائنة بما يكفي لأن لا نرتاب بما نرى ونشعر، تمامًا مثلما نكون داخل حلم. في الأغلب يكون الفضاء قَفرًا عاريًا، والعزلة تامّة؛ أميالٌ وأميال من مساحات خاوية منجذبة وراء الخيال، منفتحة ووالجة لسماءٍ سوداء قاسية هي محيطها وحدودها، أو ثمّة شخصيّة وحيدة تلعبُ دورًا خياليًّا. وبصرف النظر إنْ كان هذا قصد ميشا غوردن، فإنّ صُورَهُ تقوم بتجسير الهوة بين واقع الحلم وواقع اليقظة عبر الميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة) التجريديّة. من خلال تدرج رائع للّون الأسود، أبيض وإلى حدّ كبير رمادي، تتنفس الشخصيات في صوره، كالمُسرنمين (السائرين وهم نائمون)، ويوجدون باستيقاظٍ كامل في «ظلال الحلم».

سيمفونيّة الأرواح الضائعة هو العنوان الذي خطرَ لي حين شاهدتُ هذه الصورة لأوّل مرّة. وكالعادة، هنالك شعورٌ بالانطواء والعزلة (يكاد يكون خانقًا غير مُحْتَمَل)، ومع ذلك يتراءى عنصرٌ بارزٌ للشر في هذه الصورة، ليس فقط بسببٍ من الأسود المنذر بالسوء، المهدد للسماء، ولكن أيضًا ناتج عن طبيعة وقفة «المانيكان». وتبدو المايسترو الصلعاء في ثوبها المتجعِّد الأسود آمرةً الأداءَ الموسيقي للمنشد الملائكي العاجز، غير المستسلم، بحماسةٍ تكاد تكون عسكريّة. ربما التضاد الصارم بين الأسود والأبيض في الثياب، والسماء، والرمل، والبحر ليس محض مصادفة. ربما هي دلالة غير واعية على صراعٍ داخليّ بين الخير والشر، أو مثلما في هذه الحالة، أنّ الشَّرَّ يهيمن على الخير. وهو الأمر الذي لا يمكن تصوّره بخصوص هذه الصورة، وما جذبني لأن أُعلِّقَ عليها (بالنظر إلى حقيقة أني شخصيًّا مفتونٌ على نحوي الخاص بـ«المانيكان» في صوري)، هو كيف اجتمعَت موضوعتان فاقدتان للحياة في هذه الوضعية (المايسترو والعازف محض «مانيكان» – المترجم) واستطاعتا إثارة هذا الكم الكبير من المشاعر والأفكار.

رهاب الخَلاء هي الكلمة الأولى والوحيدة التي خطرت لي حيال هذه الصورة الصادمة. ففيها نعاينُ تحولات الإنسان المعاصر، الصارخ، المُحتجّ، المكافح بلا أمل للخروج من جِنس الفئران للمجتمع الخانق. الفردُ محشورٌ داخل حشود من أُناسٍ بلا وجوه، ربما في أثناء ساعة الازدحام في أنفاق القطارات، ربما داخل مركز تسوُّق في أثناء سُعار الاستهلاك بمناسبة عيد الميلاد، أو ربما في المكتب في وقت الغداء وقد أُحيط بمن هُم يعملون، لا فرق بينهم وبين الإنسان الآلي (الروبوت)، يتلهون بألعابهم على أجهزة كومبيوتراتهم.

إنّ ما يميّز «الأفراد» من «الحشود» يتمثّل في أنّ «الأفراد» يشعرون باضطرارهم للرحيل من أجل أنفسهم، داخل أنفسهم، ومدعوون لرؤية ما وراء المفاهيم الثقافيّة، والأفكار، والتصرف حيال الذات، والتصرف حيال كيفيّة قضاء الوقت، ومواصلة الحياة، والتواصل مع الآخرين. إنهم يجرؤون على النظر وراء نظاميّة العالَم واستتباب أموره المحيطة بهم، إنْ قاموا بتثبيت المفاهيم لملاءمتها، أو لإعادة تشكيلها. على كلّ حال؛ يسعى المجتمع لأن يسيطر، ومن خلال التراتبيّة الراهنة نصبحُ مُسَيَّجين بما يفعله الإنسان، والواقع المصنوع للكلمات، والأفكار والخواطر. وللنجاة من تحكمه الضاغط على عقولنا، ليس هنالك من مسيرة قصيرة لهذه المهمة الضخمة.

إذن؛ ماذا علينا أن نفعل؟ الصراخ بكلّ اليأس.

(*): Sacha Dean Biyan

المنشورات ذات الصلة

رئيس مهرجان الرياض المسرحي عبدالإله السناني: نسعى إلى تعزيز الوعي المسرحي.. وتقديم جيل جديد من المسرحيين السعوديين

رئيس مهرجان الرياض المسرحي عبدالإله السناني:

نسعى إلى تعزيز الوعي المسرحي.. وتقديم جيل جديد من المسرحيين السعوديين

أوضح الدكتور عبدالإله السناني، رئيس مهرجان الرياض المسرحي -الذي أقيم في المدة من 13 إلى 24 ديسمبر الماضي- أن قرار وزير...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *