المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

السيلفي.. غياب للديمومة في مقابل اللحظة

بواسطة | أغسطس 31, 2017 | إعلام

في الهواتف الذكية الحديثة وُضع ألبوم خاص بصور السيلفي، فما الذي يعنيه هذا؟ أهو دلالة لا على استخدامنا المكثف للسيلفي فقط، بل إلحاحه أيضًا؟ أم هو معنى جديد للتصوير يحتاج اسمًا وتصنيفًا وحده؟ وبناءً عليه، ما القراءات المحتملة لوجود السيلفي في محيطنا وكثافة انتشاره؟ فبشكل يومي وجدنا أنفسنا محاطين بأشخاص مهمومين بالتقاط السيلفي، إن لم نكن نحن أيضًا أحد هؤلاء.

السيلفي فعل لا تستطيع حصره بمكان أو بنمط أفراد بمواصفات محددة، فمع 24 بليون سيلفي نُشرت فقط السنة الماضية، فإن الأمر أكثر انتشارًا من إمكانية حصره بفئة محددة. تقول النسب: إنه وإن كان الرجال والنساء يلتقطون السيلفي بمعدلات متقاربة، قد تتفاوت باختلاف الدول، إلا أن 13% من النساء تُجري تعديلاً على صورها قبل نشرها، مقابل 34% من الرجال يفعلون ذلك، هذه النسب لا تتماشى مع تصوراتنا عن أولويات الاهتمام بالشكل لكليهما، لكن يظهر أن هناك عوامل أخرى صنعت هذا الفارق، فهل وجد الرجل في السيلفي مرآته ومكياجه اللذين استهجن عليه استخدامهما لقرون؟

السيلفي ليس بالضرورة صورة لشاب في رحلة ترفيهية عابثة. فمثلاً، في شارع وول ستريت بنيويورك قد تصادف رجلًا أربعينيًّا ببدلة رسمية يمشي بعزيمة وصرامة كأغلب عابري هذا الشارع، ليتوقف فجأة، لثانيتين، يلتقط فيها سيلفي، ثم يستكمل طريقه بعد ذلك. شخصيًّا الفعل كان صادمًا، لكن استطاعت هذه الثانيتان كسر حاجز الوقار المتخيل لرجل أربعيني ببدلة رسمية، وكذلك كسر حاجز رتابة موظفي وول ستريت وجمودهم كما تشكل في مُخيلتنا! أيضًا، في الجامعة، وفي أثناء إلقاء محاضرة تفاجأت بطالبة تخرج جوالها لتلتقط سيلفي داخل قاعة المحاضرة! هذا الأمر قد يُعرضها، وفق لوائح الجامعة للحرمان من فصل دراسي وربما الطرد من الجامعة، لكن من الواضح، انتماء الطالبة لثقافة عصرها، لدرجة أن يصبح هذا الانتماء أهم من مستقبلها الأكاديمي في مؤسسة أكاديمية عجزت أن تواكب وتتناسب قوانينها ومعاييرها مع متطلبات العصر الذي يعيشه طلبتُها.

بداية لنتفحص التعريف المعتمد للسيلفي، في عام 2013م عرف قاموس أوكسفورد السيلفي بأنه «صورة ملتقطة ذاتيًّا بواسطة هاتف ذكي أو ويبكام تُنشر على مواقع للتواصل الاجتماعي». ولتُطرح كلمة سيلفي بوصفها «كلمة العام» لكثرة تداولها. هذا التعريف يتضمن ثلاثة عناصر أساسية تحدد السيلفي وتُميزه من بقية الصور، أولًا: إنها صورة ذاتية، ثانيًا إن الأداة: هاتف ذكي، وثالثًا: النشر يتم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. إذن هذا التعريف يحدد أركانًا ثلاثة للسيلفي: الذات، والتقنية الحديثة، تواصل عبر مواقع النت. ما دلالة هذه الأركان الثلاثة، وأي فارق تصنع؟ لتحليل هذه الأركان الثلاثة، ربما يحسن بنا تأمل سريع في تاريخ التصوير.

السيلفي.. تاريخًا

يقارب عمر التصوير الفوتوغرافي مئتي عام. ظهرت أول صورة ما زالت متداولة عام 1826م. تلك الصورة استغرق زمن تصويرها ثماني ساعات! كل هذا الوقت لتثبيت الكاميرا وضبط الإضاءة الطبيعية، وبخاصة مع حساسية المواد المستخدمة في التصوير وبدائيتها. الصورة كانت لمنظر طبيعي، فحينها من كان سيجد من يقبل الوقوف أمام آلة غريبة ومجهولة لمدة ثماني ساعات بشكل منتصب، مع عدم معرفة ماذا سيحدث من هذه الآلة العجيبة بعد ضغط الزر. لعله كان هناك خوف وتردد مشترك من جانب من سيُصوَّر، ومن المصوَّر كذلك. على أي حال، هذا الأمر، كما كل ما يخص التقنية، لم يستمر طويلًا، ففي نهاية القرن التاسع عشر، ومع تطور التقنيات أصبح التقاط الصورة يستغرق بين عشر دقائق إلى دقيقتين، وأحيانًا قد يمتد إلى ساعة. هذا الاختلاف الزمني، الذي يكشف عن سيطرة أفضل على تقنية ما زالت في طور الاكتشاف، أسهم في وجود الأفراد في الصور، وبدأنا نرى صورًا شخصية، لكن لأن الزمن المستغرق طويل فنجد صور الأفراد، كأنها صور لتماثيل خشبية. فمن يستطيع الاحتفاظ بذات تعابير الوجه، كالابتسام، لمدة عشر دقائق أمام الكاميرا. لذا كان الجمود هو الحل الملائم أمام جمود الوقت الذي يتطلبه التصوير آنذاك. وقتها كان التقاط صورة عائلية حدثًا لا يتحقق إلا للمحظوظين، وقد يحدث مرة واحدة في العمر، ولا نعرف دوافع الأفراد لتجربة ذلك وكيف كانت تصوراتهم ومشاعرهم حول تجربتهم تلك. وإن كان هناك كتاب لمصور أميركي جمع قصص أفراد تناولوا تجارب مواجهة الكاميرا للمرة الأولى، وكيف أن بعضهم كان برحلة سفر لهذا الغرض، ولهذا الغرض فقط، كأنها إحدى رحلات العلاج التي يقوم بها أحدنا الآن!

بعد ذلك بدأت الصور تستخدم كإثبات لهوية الفرد في الوثائق الرسمية، وهذا يتطلب وضعية للجسد ثابتة، لا خوفًا من الآلة، بل لالتقاط صورة بجدية تكشف ملامح الوجة بأفضل وضوح ممكن، لأسباب أمنية. علمًا أن صور الهوية لم تمر بالسلاسة المتوقعة، فما زال التصوير في بطاقة الهوية موضعًا للجدل، وبخاصة حين يتعلق الأمر بصور النساء، وإن كان هذا الجدل شمل صورة الرجال لكن بنبرة أقل تشددًا. ألم يكن مجتمعنا إلى زمن ليس ببعيد يسمي التصوير «عكسًا»، مع ما تحمله هذه الكلمة من دلالة للاستهجان والرفض الخائف؟

ولأن التقنية لا تتوقف، فالتحديثات في صناعة الكاميرا جعلتها تقتحم البيوت وتصبح ضيفًا أساسًا لتسجيل المناسبات الاجتماعية المهمة. ألا يشغل كل عروس هم إيجاد مصورة أعراس مناسبة. وأصبح كل من يسافر عليه حمل كاميراه لتوثيق اللحظات التاريخية المميزة في رحلته. كل هذا، كان تصويرًا غير ذاتي. بل كاميرا معدة للتصوير وشخص آخر يقوم بذلك، إما متخصص أو أحد الحضور، وبتبرع أحدهم بالتصوير يفقد امتياز وجوده في الصورة. لننتهي بعد هذه المراحل إلى ما وصلنا إليه حديثًا، أي السيلفي.

السيلفي.. سيكولوجيًّا

تقول الدراسات: إنه يوميًّا يتم التقاط مليون صورة سيلفي، فمع السيلفي أصبح التقاط الصور جزءًا من الممارسات اليومية لا يحتاج طقوسًا أو مناسبات خاصة: سيلفي في أثناء التسوق، أو في مطعم، أو حتى الجلوس في الغرفة وحيدًا. في المقابل، لنتخيل لو أراد أحدهم ممن عاش في بداية القرن العشرين التصوير في أثناء ممارساته اليومية، كالأكل: عليه حينها أن يمسك الملعقة ويضع لقمة الطعام في فمه لمدة عشر دقائق، وقد تخرج صورة تستحق أو عليه إعادة اللقطة! مشهد تراجيدي أكثر منه كوميدي، وعليه فلنشكر وجود السيلفي، وإن كنت لا أعلم ما الذي يعنيه أن يصور أحدهم نفسه وهو يمضغ الطعام. ومع هذا لا يمكن أن نتغافل عن الفرضية التي تطرحها المفارقة هنا، وهي أن التقنية تنتج موضوعها. فمع الكاميرا سريعة الالتقاط أصبح بالإمكان التقاط لقطات تستغرق ثواني، كمضغ الطعام! ليصبح مضغ الطعام مثلًا، هو الموضوع مع السيلفي.

لنستطيع تفسير ما الذي يدفع أحدهم لتصوير حالة حميمية وبذات الوقت مكررة، يفعلها الجميع كل يوم مرات عدة، كمضغ الطعام، ربما علينا الاطلاع على التفسيرات التي قُدمت لأسباب انتشار السيلفي. بعض الدراسات النفسية اقترحت، بل بعضها أكّد إمكانية أن يكون استخدام السيلفي المكثف إحدى العلامات لاضطراب نفسي الذي قد يتداخل فيه عدد من اضطرابات الشخصية كالنرجسية أو الحدية أو الهستيرية أو الوسواس القهري وتحديدًا الأفعال القهرية. وبقراءة أكاديمية دقيقة لهذه الدراسات، نجد إشكاليات عدة تتعلق بمنهجية هذه البحوث تحديدًا، فمن صغر العينة، إلى عدم تمثيلها، إلى عدم تقديم تعريف إجرائي دقيق لأدوات الدراسة. مثلاً، نوع وعدد السيلفي الذي يعد محكًّا للاضطراب أو عدمه، وأخيرًا إشكالية تعميم تزامن ظاهرتين بوصفهما علاقة سبب ونتيجة، من دون وجود أدلة كافية لعلاقة بينهما. من جهة أخرى، هناك دراسات ترى في السيلفي شكلًا للإدمان، وفي هذا نطلق أيضًا تحفظنا. فما العدد الذي تعد فيه مرات التقاط السيلفي إدمانًا؟ وهل يشمل هذا العدد جميع الصور الملتقطة، سواء ما ينتهي منها إلى الحذف أو ما ينتهي إلى الوجود في شبكات التواصل الاجتماعي؟ مع الأخذ في أن تعريف السيلفي يشترط النشر في شبكات التواصل الاجتماعي. إذن هل يدخل تحت تعريف الإدمان من تلتقط صورًا ذاتية من دون نشرها حتى لو التقطت مئة صورة يوميًّا ولا تنشرها؟ رمي الأمر بالإدمان لا يساعد على الفهم، فممارسات اليوم العادية قد تتحول إلى إدمان إن خرجت عن سيطرتنا، كشرب القهوة، أو تناول النبيذ، فالأخير مثلًا يعده الأطباء – بعيدًا من الموقف الديني – مفيدًا للقلب، قد يتحول إلى سلوك إدماني يتطلب تدخلًا لا يتوافر إلا في مصحات أعدت لهذا. ليست القضية هنا إخراج السيلفي من دائرة الإدمان أو الاضطراب، لكن وصمه باضطراب ليس كافيًا لتفسير الحالة وفهمها أولًا، وثانيًا ما زلنا لا نمتلك أدلة كافية للجزم بصحة هذا الوصف.

وبما أننا في حقل السيكولوجيا وما تقدمه من تفسيرات للسلوك الإنساني، فلنتأمل تفسير الدكتور تيري أبتر، أستاذ علم النفس بجامعة كمبردج، إذ يرى أبتر السيلفي ويعده معملًا لفهم الهوية وصنعها. فحين يأخذ الأفراد صور سيلفي، فهم يحاولون اكتشاف ذواتهم، ومن ثم عرضها على الآخرين ليتحقق فهم أوسع للهوية الذاتية: «فالسيلفي نوع من تعريف الذات، فعبر السيلفي نمتلك الإحساس المريح بقدرتنا على التحكم بصورنا، والحصول على الانتباه، والاهتمام، ومن ثم الانتماء لجماعة ما». لنختبر هذا التحليل ربما علينا العودة إلى الأركان الثلاثة التي شكلت تعريفًا معتمدًا للسيلفي. سنجد في السيلفي أن بطل الصورة هي: الذات، والأداة: هاتف ذكي، والنشر: عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ألا تنص أدبيات علم النفس على أن الذات تُشكَّل ويُتَعَرَّف عليها من خلال صورتها لدى الآخرين في المواقف الاجتماعية المختلفة؟ وبهذا، تصبح صورة السيلفي هي الذات، والهاتف الذكي بما يحمله من مواقع التواصل الاجتماعي هو الموقف الاجتماعي، والآخر هم الأفراد السابحون في فضاء مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقاتهم وردودهم. هذه الذات تُخْتَبر كهوية تتحدد وفق ردة فعل الآخرين في مواقع التواصل الاجتماعي. الشائك هنا أن الآخرين ليسوا شخوصًا نواجهها ونقف أمامها، بل الآخرون هنا هم – بشكل ما – وسائل التوصل الاجتماعي! هذا الاختلاف الذي يجعلنا نحدق بشاشات هواتفنا الذكية انتظارًا لتعليقات الآخرين وإعجابهم، ولا نعرف إن كانوا هم بذات الذوات التي أعلنوها لنا أم لا، أي هل صورهم وأسماؤهم كما أخبرونا بها. المسألة ليست تشكيكًا في المصداقية فقط، بل في كون مواقع التواصل الاجتماعي هي ملجأ الغرباء، فنحن حين نتوجه إلى مواقع التواصل الاجتماعي فإننا نبتعد من المحيطين بنا واقعيًّا، لنضيف أشخاصًا لا نعرفهم، محاولين جعلهم يعرفوننا، بل يحبوننا. فأي وجه من وجوهنا سنُظهر لهم؟ وما مقدار صدقنا هنا؟ وبخاصة أننا تركنا المحيطين القريبين منا دون أن نشاركهم صورنا، فلماذا نفعل ذلك؟ هل أخفق القريبون منا في اكتشاف جزء ما من الصورة التي تخصنا؛ لذا اخترنا عرضها على الغرباء، علّهم يرون ذلك الجزء المفقود فينا الذي نعرف بافتقادنا له، لكن لا نعلم ما كُنه ما نفتقد؟ أم هو مجال لنقول كما الممثل أحمد زكي في عنوان فلمه «أنا لا أكذب ولكن أتجمل» حين ادعى ادعاء يظهره بغير حقيقته. إننا نعرض صورة قد لا تكون نحن تمامًا، لكن كما نحلم أن نكون، نعرضها لغريب لن يخسر كثيراً إن صدق «كذبتنا ـ تجملنا» كما يظهرها السيلفي.

السيلفي.. ثقافيًّا

لنتأمل الآن في السيلفي من زاوية أخرى، وتحديدًا زمنية السيلفي. في السيلفي لا تحتاج زمنًا للالتقاط ولا تعديل كادر خلفي أو انتظار إضاءة محددة أو متخصص ليلتقط لك صورة، كل ما عليك فعله أن تواجه الكاميرا وتلتقط وبشكل سريع أكبر عدد ممكن من الصور بأقل من دقيقة، ثم اختيار أجملها لنشرها، وخلال دقائق ستسقبل ردود الأفعال المهنئة على فعلك هذا. شعور عظيم بامتلاك الفرد للحظته، فهو لا يحتاج الآخرين ليظهروا في الصورة أو ليقوموا بتصويره. الشعور بامتلاك اللحظة قد ينفخ خيالنا حد التصور أننا ربما نمتلك حياتنا، ليغذي هذا من نهمنا لمزيد من السيلفي. فهل هذا ما يمنحنا إياه السيلفي، شعور مفخم بالقوة والسطوة حد امتلاك تقرير لحظتنا – حياتنا؟

لنعد بالزمن قليلًا، منذ ثلاثين سنة هل كنا نتخيل أن يلتقط أحدهم صورة تظهره وحيدًا، وفوق هذا يبتسم سعيدًا، لينشرها على العالم، متباهيًا بوحدته! سابقًا الوحيدون في الصور يظهرون إما لأن الصورة ستستعمل كهوية رسمية، أو أن الصور أُعدت لغرض فني لتظهر بؤس الفرد أو عبث الحياة. أما أن يفعلها الجميع دون خجل من عرض وحدتهم، فيظهر كم أصبحنا فردانيين حتى في أكثر المجتمعات تقليدية. لكنها فردانية بصيغة مختلفة، فأنت في المكان وحدك، تصور ذاتك الوحيدة، لتعرضها على الآخرين، ليعلقوا عليها. إنه انفصال واتصال بذات الوقت. وهذا سحر وسائل التواصل الاجتماعي، فهي تُعزز الفرداني فينا ولا تُلغي المجتمعي بذات الوقت. وإن كنا لا ندري ما عواقب هذا السحر، فعمر وسائل التواصل الاجتماعي أقصر من أن نتبين ذلك، وهذا ليس موضوعنا هنا. السيلفي هو امتداد لحياة الفردانية التي أصبحنا نعيشها، لا كموقف فكري يتخذه الفرد بقرار سابق، بقدر ما هو اشتراطات العصر الذي نعيش؛ إذ أصبح أكثر قبولًا أن يجلس أحدهم في مقهى أو مطعم لتناول وجبته من دون أن يعني هذا بؤسه، أو أن يسافر الفرد وحده ليتمتع وحيدًا بلحظات مبهجة من دون اشتراط وجود آخرين، فلماذا لا يصور نفسه بنفسه وحيدًا. ثم ينشر هذا على الملأ الذين يختارهم.

السيلفي.. وجوديًّا

من جهة أخرى، أليس في السيلفي تواضع في البحث عن لحظة للفرح لا ديمومة لها. فهل تواضعت أحلامنا وأصبح كل ما نسعى له هو لحظتنا الخاصة، البعيدة من صخب وتدخلات الآخرين لنصورها. هل توقفنا عن الإيمان بخاتمة القصص التقليدية: «وعاشوا بسعادة أبدية» ليصبح؛ عشت لحظة جميلة، هي المبتغى. أهذا بؤس أم واقعية في الطموح؟ لو تأملنا صور السيلفي، أغلبها صور لأفراد يظهرون وحدهم وعليهم أمارات السعادة، أو العبث، أو «الدلع»، فالسيلفي احتفال الذات بالذات دون اشتراط وجود الآخرين لإقامة الحفلة، لكن بإمكان الآخرين رؤية آثار الحفلة، ما تبقى منها، بعد نشر الصورة. فالفرح لا يرتبط بوجود الآخرين. في السيلفي، الفرد يعلنها: لا أحتاج أحدًا ليصورني، ولا أحتاج كاميرا متخصصة، أو محل تحميض ووقتًا للحصول على صورة، إنها لحظتي أصنعها بوقتي الذي أختاره وبجهازي الخاص، وبمساعدة تطبيقات أعرفها، لأجعل الصورة تقارب ما أحلم به من أنف أدق وبشرة أكثر صفاء، ومكان كخلفية للصورة أكثر إشراقًا وإثارة.

الشاشة الأمامية لكاميرا الجوال وبمقاييس فيزيائية، غالبًا، تُظهر الوجه بشكل أقل جاذبية من حقيقته، إلا أننا أصبحنا نفضل أن نصور ذواتنا على أن يفعل الآخرون ذلك. هم لا يعرفوننا كما نعرف أنفسنا، لا يعلمون أي زاوية تُظهرنا أجمل، وأي نظرة والتفاتة تعمق سحرنا. فكما قالت صديقة لتفسر تفضيلها السيلفي «لا أثق بتصوير الآخرين، أنا لست جميلة، لكن أعرف الزاوية التي تظهرني كجميلة». كأننا بالارتكان إلى السيلفي نقول للآخر: إنك لا تستطيع التقاط جمالنا المخبوء، لا ترى الجمال بداخلنا، لكننا نستطيع ذلك بأنفسنا. أنا لا أثق بعينك ولكن أثق بعيني أنا. ومع هذا فالعلاقة ليست بهذا التبسيط، ففي الوقت ذاته وبعد التقاط الصورة، ينشرها الفرد ليراها الآخرون، كأنه عدم ثقة بالآخرين، وفي الوقت نفسه التماس لتأكيد يأتي من جانبهم. أليست هذه هي طبيعة إشكالية علاقتنا مع الآخرين؟ بين عدم الثقة بالآخرين والحاجة للثقة فيهم؟ فسيرورة خلقنا لهويتنا الذاتية المستقلة والمتمايزة من الآخرين، تتطلب في الوقت ذاته الآخرين، فمن خلالهم نتعرف إلى هويتنا، نتلمسها، نختبرها، لنصدقها بعد ذلك. فالآخرون وفقًا لهيدغر هم «الحقيقة الذين لا يميّز المرء نفسه عنه. إنهم استكمال لهوية الذات وتشكلها. إنها «هويّة تستوعب الآخر في اللحظة التي تلغي فيها آخريّته عنّا»، كما يشرحها فتحي المسكيني. ولعلنا ننهي هذه الفقرة ببقية اقتباسنا من المسكيني، لنرى كيف يمكن إسقاط طبيعة علاقتنا مع الآخر على رؤيتنا وتناولنا للسيلفي، وذلك من خلال هويتنا المنفصلة المتصلة عن الآخر. يناقش المسكيني كيف يشكل التعايش مع الآخر مدخلًا لسبر الذاتية: «ها هنا يمكن للتعايش أن يأخذ أشكالًا غير مسبوقة فلسفيًّا: من قبيل «وجهيّة» الوجه البشري، التي تسبق معرفتنا له كموضوع، إذ نفهم أن «حضور الآخر هو تعبير» محض؛ الوجه البشري لا «يظهر» بل «يعبر»، وهكذا يجد «التعايش» مقامه المناسب: هو «أن نتلقى الغير فيما أبعد من قدرة الأنا» من منطلق أن حضور الآخر لا يدمر حريتي بل «يستثمرها». إن التعايش في جوهره هو نوع من «الأخوّة» بين البشر: أي هو محض علاقة مع «وجه الغير» ليس بوصفه شيئًا ينضاف إلينا من خارج، بل بوصفه علاقة «تشكّلنا» من الداخل. إنّ معنى التعايُش غير ممكن من دون الإقرار بنوع ما من «أوّلية الآخر» علينا».

           

السيلفي.. مشهديًّا

من جهة أخرى، ولأن السيلفي أحد معطيات عصرنا فأيضًا لا يمكن قراءته بمعزل عن طبيعة المجتمعات التي نعيش فيها. في «مجتمع الفرجة» الذي نقيم فيه كما وصفه جي ديبور، الفرد يعيش فيه مبتعدًا من ذاته مفوضًا بديله وصورة عنه، «إنه المجتمع الذي يَستبدل مقتطفًا من الصور التي توجد فيه بالعالَم المحسوس». فهنا، كما يرى عبدالسلام بنعبدالعالي «تأكيد واقعية المظهر، والتسليم بأنّ كلّ حياة بشرية مجرّد مظهر، إلا أنّه مظهر خضع لتنظيم اجتماعيّ». وهذا أنتج الفكرة بأن «ما يظهر أصبح جيّدًا، وما هو جيّد غدا مظهرًا. مجتمع الفرجة أحال وكرس مفهوم استعراض الذات، لا لمن طبيعة مهنهم تتطلب ذلك من عارضي أزياء وفنانين ومشاهير، بل من جانبنا نحن، الناس العاديون، لتمسي بعض العلاقات الاجتماعية في عصرنا الحالي لا يروج لها عبر الصور فقط، بل تنشأ وتتشكل عبرها، في صور تتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويكفي مراقبة عوالم السنابشات للتأكد من هذا الفرض.

مع سيطرة واقتحام التقنية حياتنا أصبحنا محاطين بالصور لنتحول أكثر وأكثر إلى مجتمع بصري. أصبحت الصورة جزءًا من المعطى اليومي الذي نتلمس فيه واقعنا وذواتنا. فالسيلفي ليس بالضرورة نرجسية وبحثًا عن تمجيد شخصي، ولعلنا هنا نستشهد بالكاتب جايمس فرانكو في مقال نشرته مجلة نيويورك تايمز، بقوله: «إنّه لا ينبغي مقاربة السيلفي كعمل يتّسم بالأنانية وحبّ الظهور، بل كاللحظات التوثيقية التي ينتهجها الصحافي؛ لأنها تعمّق الثقافة البصرية، بعدما تعكس الحالة النفسية بشكل أوضح لصاحب الصورة، ومكانه، وماذا يفعل». هذا التوثيق اليومي كسر حواجز وتابوهات اجتماعية من دون خوض معارك شرسة، بل بمعارك ناعمة، فأصبحنا نرى بكثافة أكثر من السابق، صورًا لنساء لا يخشين نشر صورهن في مجتمعات تكرس ممارسات تهدف لإخفاء وجه المرأة، ولا بد من التوقف عند ملاحظة أن الصور تظهرهن بشكل عابث وضاحك وبسيط وجريء، لا بصورة رسمية أو بصور ضبابية تظهر بعض أجزاء الوجه. فمن يستطيع أن يجابه الكاميرا مباشرةً بكامل وجهه الضاحك والبسيط، إلا شخص استطاع أن ينال درجة حرية أعلى، وأن يتجاوز بعض التابوهات الداخلية. أيضًا، السيلفي لم يكن فقط مجالًا للنساء القابعات خلف الأبواب ليُظهرن صورهن وذواتهن، بل كبار السن استطاعوا كسر هيبة العمر، حتى بعض المسؤولين أظهر جزءًا إنسانيًّا بسيطًا يكسر رتابة صورة المسؤول.

فن عابر سريع الزوال

جانب آخر لا بد من تناوله في معرض النقاش عن السيلفي، وهو هل السيلفي فن؟ للإجابة، علينا مقارنة السيلفي بفن مشابه: البورتريه الذاتي. فلا شيء يظهر من العدم، ومن هنا لا مناص من التاريخ للعودة إلى جذور ما قد تسهم في إلقاء ضوء إضافي لفهم السيلفي. فهل السيلفي هو امتداد لفن البورتريه الذاتي؟ كلاهما عبارة عن عمل يقوم أحدهما بتقديم صورته الذاتية على الآخرين وعرضها باستخدام التقنية. سابقًا كانت التقنية: الألوان والقماش والمرآة، أما حديثًا فالهواتف الذكية. فهل كثافة السيلفي مقابل ندرة البورتريه بما يتطلبه الأخير من مهارة عالية للتمكن من الإجادة؛ ما يجعل البورتريه فنًّا والسيلفي محض استعراض نرجسي للذات؟  فنسنت فان غوخ وفريدا كاهلو، أشهر من قدم البورتريه الذاتي بصور متعددة تتجاوز العشرات، ولم تقرأ أعمالهما تحديدًا بوصفهما تجسيدًا لنرجسية ورغبة في التحكم، لماذا؟ هل لأن فان غوخ في كل تلك الأعمال يستعرض حزنه ووحدته، في حين فريدا كاهلو تستعرض إشكالية الجسد والمرض لديها. أيعني هذا أننا نتسامح إن كان استعراض الذات يتم عبر استعراض للحزن والألم، ولكن نرفض استعراض الفرح والتباهي الذي يغلب وجوده مع السيلفي؟ هل نُعلي من قيمة التراجيديا في حياتنا مقابل بخس مشاعر الفرح والعبث. بالعودة إلى حديث الدكتور أبتر، يرى أن كليهما، البورتريه الذاتي والسيلفي، يقومان على الاستعراض والمبالغة، لكن ما يفرقهما بشكل أساس أن البورتريه يتطلب أن تكون مشهورًا لتفعل ذلك، أما السيلفي فحتى المجهولون يستطيعون عرض ذواتهم للآخرين. فهل البورتريه فن نخبوي والسيلفي فن شعبوي؟ وهل عبر السيلفي تمت دمقرطة البورتريه الذاتي، أم حُوِّل لمنتج استهلاكي كما كل شيء من حولنا الآن؟ قبل الإجابة عن هذه التساؤلات علينا تذكر إجابة فريدا كاهلو حين سُئلت: لماذا البورتريه الذاتي؟ فقالت: «أريد أن أظهر نفسي بشكل جيد». ألا يشابه هذا قول الصديقة التي فضلت السيلفي على تصوير الآخرين لها؟

لعل شعبوية السيلفي مقابل نخبوية البورتريه الذاتي هي ما جعلت بعض الباحثين يفرق بينهما، بكون البورتريه وإن كان يقدم صورة للذات لكنه يطرحه ضمن محتوى يتضمن تساؤلات عميقة حول الهوية والذات والوجود، في حين السيلفي كل ما يريده الفرد من خلاله، أن يظهر للآخرين بشكل جميل. في السيلفي الصورة واضحة بأبعاد محددة لا تسمح بتعدد القراءات والتفسيرات، أما البورتريه فهو فن تأويلي يطرح نفسه كسؤال، على المشاهد أن يتداخل معه ليجد بعض الإجابات التي تناسبه. في السيلفي على المشاهد فقط أن يحدد إن كانت الصورة جميلة أم لا، من دون تأويل تتداخل فيه الذات مع العمل المشاهد. وبهذا فإن البورتريه خُلق ليبقى، ليكون شاهدًا على مرحلة وعلى وجود لذات الفنان وتساؤلاته، وتساؤلات عصره أيضًا، في حين السيلفي فن عابر سريع الزوال. لكن أليس في هذا انتقال من الزمن الديمومي إلى زمن اللحظة. ومن ثم يصبح السؤال؛ هل يقلل هذا من احتمالية أن يكون السيلفي فنًّا؟ فإن كان أحد تعاريف الفن، هو تقديم الفنان أعمالًا تختزل العصر الذي يعيشه الفنان وتطرح تساؤلاته وإشكالياته، فبهذا يكون السيلفي فنًّا يعبر عن واقعنا، الواقع الذي تُمَجَّد فيه اللحظة. فكلٌّ مطالب بأن يعيش لحظته، لذا وُجد في السيلفي تثبيت لهذه اللحظة، اللحظة فقط.

وأخيرًا، كل ما عرضناه وما غفلنا عن عرضه يظل احتمالات لتفسير تولعنا بالسيلفي. لكن لعل من الملائم الاستعانة ختامًا بالشعر لإضاءة زاوية أخرى في معرض قراءة دلالات السيلفي. تقول فيرونيكا فوريست تومسون: ‏«الحب هو آلة التصوير الأكثر قدمًا.. خذ لي لقطة بعينيك». فهل السيلفي في جوهره فعل نقوم به بحثًا عن الحب؟ فإن لم نكن محظوظين بمصادفة الحب في طريقنا، فيكفي أن نحب نحن أنفسنا، ولنأخذ بأعيننا صورة لنا، نُعلن بها هذا الحب. فلنلتقط مزيدًا من السيلفي.

المنشورات ذات الصلة

البحث عن ريبورتاج شخصي ريتشارد كابوشنسكي: عملي ليس مهنة، إنه مهمة وأكثر من مجرد صحافة

البحث عن ريبورتاج شخصي

ريتشارد كابوشنسكي: عملي ليس مهنة، إنه مهمة وأكثر من مجرد صحافة

ريتشارد كابوشنسكي صحفي بولندي، صُوِّتَ له كأعظم صحفي في القرن العشرين بعد حياة مهنية لا مثيل لها. حوَّل البرقيات...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *