المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

أوربا الأخرى… مقاطع من نقد العقل الهووي

بواسطة | نوفمبر 1, 2019 | الملف

تمهيد إشكالي- عصر كانط

إنّ خوف أوربا على نفسها من «الآخرين» ليس جديدًا؛ إذْ له عمر حيرة الفلاسفة الأوربيين المعاصرين(1) أمام ظاهرة «الدولة- الأمة» التي تجمع في مفهومها بين «أوربا الدول» (الجمهوريات) و«أوربا الشعوب» (القوميات) جمعًا هشًّا وإشكاليًّا على الدوام، وهو ما جعل نيتشه يصف الدولة الحديثة (بعد انهيار العالم المسيحي والممالك الدينية) بأنّها «الصنم الجديد» الذي يؤدي دور «الغول» في الأزمنة الحديثة قائلًا في كل مكان: «أنا هو الشعب».(2)

فمن كانط إلى نيتشه، ومن هوسرل إلى هابرماس، ظلّ الفيلسوف الأوربي يحذّر من النزاع الأصولي بين «الدولة» و«الشعب»، بين القانون «الجمهوري» والهوية «القومية»، بحيث قد يؤدّي ذلك النزاع إلى انفجار الكينونة الأوربية الحديثة بما هي كذلك، إمّا في الداخل (في الحروب القومية بين الأوربيين) أو إزاء الخارج (في أزمة التعايش مع «الأجانب» بمختلف أشكالهم الهووية، أكانت عرقية أو دينية أو ثقافية).

بالطبع قبل كانط، كان قرن التنوير قد بكّر إلى البحث الحثيث عن تصوّر الطرق المناسبة التي تجعل «أوربا» أفقًا سياسيًّا جامعًا بين دول الأوربيين. وأفضل مثال هو ما كتبه بشكل مبكّر رئيس دير القديس بطرس (1658- 1743م) تحت عنوان مشروع من أجل جعل السلم دائمًا في أوربا المنشور سنة 1713م، حيث بيّن أنّ عد «التوازن بين القوى في أوربا» هو الحل الأفضل من أجل السلم هو مجرد وهم. وهو مشروع نقده روسو بوصفه يقف في صف الأمراء وليس في صف الشعوب، لكنّ كانط رحّب به واستلهم منه مقالته مشروع السلم الدائم (1795م). وفي الواقع فإنّ كانط(3) قد كان أوّل من ضبط الإطار الذي يجدر بنا أن نفكّر داخله في مستقبل «أوربا» في تنازعها المعياري الداخلي بين بُعديهما المشار إليهما، نعني، أوربا- الدول (التنويرية) وأوربا- الشعوب (الرومانسية)، وذلك في نصوصه الأخيرة، ولا سيّما من خلال فكرة «القانون الكسموسياسي» (القائم على مواطنة عالمية) الذي يسمح ببلورة ضرب من «الضيافة الكونية»(4) بين البشر بعامة؛ إذ هو قد ميّز بين «قانون مدني» (داخلي للدول)، و«قانون للشعوب» (خارجي بين الدول)، و«قانون كسموسياسي» (يجمع بين مواطني العالم). وحسب الباحثين في المثالية الألمانية فإنّ كانط هو الذي فتح الطريق نحو تناول فلسفي لفكرة أوربا يخرجها من نطاق الصلة الكنسية اللاهوتية ويعيد تأسيسها على «المماهاة بين هذه القارة وبين العقلانية»(5).

بالطبع كان ذلك أفضل ما قدّمه عصر التنوير من وعود أخلاقية حول مستقبل أوربا الذي انشطر بعدُ في أواخر القرن الثامن عشر بين «الثوريين» المبشّرين بالعصر «الأوربي» الذي يقوم على المعاهدات القانونية ويمحو الفروق القومية ويوحّد الأذواق والأخلاق (مثل روسو كما في نصّه «مقتطفات من مشروع السلم الدائم للسيد رئيس القديس بطرس، 1761م، كما في نصّه «اعتبارات حول الحكم في بولونيا وحول إصلاحه المنشود» 1771-1772م)(6) وبين «المحافظين» الذين بدؤوا بعدُ في قرع طبول السخط القومي وإحصاء الكوارث المعيارية التي قد تنجم عن ثورات التنوير فيما يتعلق بشرعية الحكم التي يجب أن تكون شرعية هووية بالشعب وبالتقاليد وليس تعاقدية بالقوانين الكونية للإنسانية (مثل إدموند بوركا ضمن تأمّلات في الثورة الفرنسية 1790م)(7). إنّ نكتة الإشكال في السؤال عن أوربا منذ نهاية عصر التنوير إلى اليوم هي نفسها: إنّها تتعلق بالنزاع التأويلي والمعياري بين فكرتيْن متنافستين عمّا يجب أن تكون عليه «أوربا»: «أوربا الثورية» التي تصوّرها التنويريون، أم «أوربا المحافظة» التي دافع عنها نقاد التنوير الرومانسيون.

تشخيص نيتشه- نقد العقل القومي

في سنة 1886م استجمع نيتشه في الفصل الثامن من كتابه ما وراء الخير والشر. مقدّمات إلى فلسفة المستقبل، الذي يحمل عنوانًا ذا دلالة هو «الشعوب والأوطان»، كلّ عناصر الإشكال الذي تمثّله «أوربا» إلى «نفسها»: إنّها مكوّنة من «شعوب» هي لم تستقرّ ماهيتها التاريخية بعدُ في «أوطان» ذات هوية قادرة على الاستمرار الهووي.

قال في الفقرة 240 من الكتاب: «[…] ما أعتقده عن الألمان هو: أنّهم من ما قبل الأمس ومن ما بعد الغد- فهم ما زالوا لا يوم لهم»(8).

هذا الحكم هو الذي بنى عليه نيتشه تشخيصه الفائق لوضعية «أوربا» في أواخر القرن التاسع عشر: كونها «هوية» لا توجد في «الشعوب» التي لا «حاضر» لها بل في مستوى آخر من التشريع الروحي لنفسها بوصفها «وطنًا» يقع ما وراء «الدول» القومية. ذلك أنّ «اليوم» الهووي الذي تدّعي كلّ دولة قوميّة في أوربا أنّها قادرة على تأسيسه بمعزل عن بقيّة الدول الأوربية هو حسب نيتشه مجرّد ادّعاء سياسي لا يفي بوعوده. ولذلك هو ينقل مشكل «الهوية» التي يمكن لشعب أوربي أن ينتمي إليها من مستوى «قومي» إلى مستوى أعلى رتبة هو ما يسمّيه «الأوربيّة الجيّدة» كانتماء لا قوميّة له إلا عرضًا.

قال: «نحن الأوربيون الجيّدون»: نحن أيضًا لنا ساعات حيث نسمح فيها لأنفسنا بهوس أرض الأجداد، بسقطة وانتكاسة في الأهواء والرؤى الضيّقة القديمة (…)
ساعات من الفورات القومية والهواجس الوطنية، وجميع أنواع الفيضانات العاطفية القديمة. أمّا الأرواح الأثقل منّا، فهي ربّما لا تستطيع أن تأتي على ما هو محصور عندنا في ساعات وينتهي في ساعات، إلّا في مدد زمنيّة أطول، في نصف سنة عند بعض، وفي نصف حياة إنسان عند بعض آخر، وذلك حسب السرعة والقوّة التي بها تستطيع هضمه و«تغيير مادّته». أجل، أنا يمكنني أن أتخيّل أعراقًا مملّة ومتردّدة هي حتى في أوربتنا المسرعة سوف تحتاج إلى نصف قرن من أجل أن تتغلّب على هكذا هجمات وراثية من الهوس بأرض الأجداد والالتصاق بالتراب، وأن تعود إلى رشدها، نعني إلى «أوربيّتها الجيّدة»(9).

لقد رسم نيتشه ملامح المشكل والحل في الوقت نفسه: إنّ «أوربا» هي انتماء وليس مجرّد إقليم قانوني للسكّان. ولذلك لم يتردد في نسبتها إلى «نحن» معيّنة وصريحة قائلًا «أوربتنا»، وبهذا المعنى هو يثبت قصدًا أنّ أوربا «هوية» ولها منتمون إليها، وليست فكرة، كما كان يجول في خاطر كانط الكسموسياسي. نلاحظ كذلك أنّ مُثل التنوير قد انطفأت وعوّضتها سردية تؤرّخ لهويّة أوربية معيشة أكثر ممّا تؤمثل فكرة تنويرية منشودة. وبدلًا من البحث عن «سلم دائمة» كما كان ديدن القرن الثامن عشر، يصرّ نيتشه على التمييز بين «أوربيين جيّدين» و«أوربيين سيّئين». وهذا إقرار خطير بأنّه لا وجود لشيء مثل «أوربا الواحدة» بل هناك أوربتان اثنتان، واحدة «جيّدة» وأخرى «سيّئة». ولأوّل مرة تصبح الحداثة اختيارًا سرديًّا وموقفًا نقديًّا من سردية تاريخية قائمة. ما يراهن عليه نيتشه هو أن تكون «الأوربيّة الجيّدة» هي الاختيار الذي سوف يأخذ به المعاصرون. وحسب التشخيص الذي قدّمه فإنّ أوربا السيّئة واضحة المعالم: إنّها أوربا المصابة بهوس أرض الأجداد، وهو معنى يبدو أنّ نيتشه قد نحت له عبارة خاصة للتعبير عنه تبدو مثل رطانة زائدة للتوكيد، نعني عبارة «Vaterlaenderei»، ووجه النحت يكمن في الفرق بين «Vaterland» (أرض الآباء أو الوطن) وبين «Vaterlaenderei» أي «الهوس بأرض الآباء» الذي يتحوّل إلى «نزعة قومية» (Nationalismus) قائمة على كراهية «الآخر».

ما يعيبه نيتشه على الأوربيين السيّئين ليس أنّهم يحبّون أرض الأجداد، أي ليس كونهم «وطنيين»، بل كونهم يقعون في «هوس» (وهو معنى نهاية اللفظة الألمانية التي تفيد التحقير-rei)، بأرض الأجداد هو لا يعدو أن يكون حسب نيتشه سوى «سقطة وانتكاسة» في تجارب حبّ وضيق أفق قديمة عاشتها الشعوب الأوربية وتقاتلت باسمها لقرون عدة. ولذلك هو يرى أنّ الأوربي الجيّد هو ذاك الذي لا يسمح لنفسه بالسقوط مرة أخرى في الهوس بأرض الأجداد والانتكاسة في تلك الأنواع من الحب القائم على النعرات القومية إلَّا «ساعات» فقط. وإنّ إقحام معنى الزمن هنا في تخريج انفعالات الهوية هو موقف فلسفي طريف جدًّا: إنّ الأوربي الجيّد لم يعد يؤمن بالانتماءات طويلة الأمد، الانتماءات القائمة على نعرات قومية متطاولة في الزمن؛ لأنّ ذلك الطول ليس فضيلة معيارية لفهم نفسها؛ إذْ هي مجرّد عرَض سيّئ على أنّ ذلك الانتماء هو مجرّد «روح ثقيلة» تجرّ نفسها في انتماء لم يعد يحقّق ذاتها بل صار يعوقها عن التقدّم. ولذلك يفترع نيتشه تراتبًا بين أرواح الشعوب بحسب قدرتها على الشفاء من الهوس القومي بأرض الأجداد عند تحديد معنى الوطن. فمن يُشفى من هوسه القومي في «ساعات» هو أوربيّ جيّد، أمّا الأوربيون السيّئون فهم درجات: منهم من يُشفى في «نصف سنة»، ومنهم في «نصف حياة إنسان»، ومنهم في «نصف قرن». هذه ليست مجرّد تكميمات إجرائية للمدد الزمنية التي يستغرقها الانتهاء من المشاعر القومية الحزينة أو التغلّب عليها بل هي درجات هووية للأوربيين القادمين. لقد رسم نيتشه برنامجًا علاجيًّا لتأسيس نزعة «أوربيّة جيّدة»، أي لتأسيس نموذج انتماء لا يحتاج إلى الانفعالات القومية الحزينة إلَّا لساعات فقط. وهذه الساعات ليست مجرد ضعف بشري كان يجب على نيتشه الاعتراف به، بل هي تلميح رشيق إلى أنّ الشعوب تظل دومًا في حاجة إلى الانتماء، ومن ثمّ فما اقترحه نيتشه هو «ترشيد» الشعور بالانتماء؛ لأنّ «العودة إلى الرشد» هي لدى نيتشه موقف لا يمكن تصوّره إلَّا بوصفه عودة إلى «الأوربيّة الجيّدة». إنّ الرشد الهووي ليس قوميًّا بالضرورة؛ إذْ بدلًا من الهوس بأرض الآباء يقترح نيتشه أن يكون الأوربيّ الجيّد قادرًا على «النسيان» النشط، ألّا يكلّفه السقوط في المشاعر القومية والفياضات العاطفية «العرقية» إلَّا «ساعات» فقط، وهو وقت لا يصلح إلَّا للنسيان، ولا يمكن لشعب أن يعوّل في بناء هويته على هواجس لا تدوم إلَّا لساعات.

وحسب نيتشه فإنّ أصل الإشكال الهووي في أوربا هو أنّها تعيش في «عصر الجماهير»، في معنى «الكتل البشرية» التي لا تميّز لها سوى ما هو كمّ «متكتّل» من السكّان الذين فقدوا توقيعاتهم الخاصة وتحوّلوا إلى كمّ هائل من الناس، من السهل لأيّ «متغوّل في الملك والسلطة» أن يصبح لهم «عظيمًا»(10). وضدّ هذا التجمهر المحموم وراء الأبطال القوميين المتغوّلين يدعو نيتشه إلى العودة إلى الاعتقاد القديم بأنّ «الفكرة الكبرى وحدها هي التي تمنح العظمة لفعل ما أو قضيّة ما»(11). وهكذا يميّز نيتشه بين أوربا «القومية» التي يقودها رجل دولة يفرض على شعبه أن «يمارس السياسة» بناءً على نعرات هوويّة قديمة خاوية من أيّ عظمة روحية كبيرة؛ وبين أوربا جيّدة لا تحفل بالنعرات القومية؛ لأنّها تطمح إلى ممارسة «سياسة كبرى»، أي سياسة ما بعد قومية لا تقودها الفيضانات العاطفية لهذا العرق أو ذاك، بل تقودها «فكرة كبرى» عن نفسها أو عن ماهية الإنسانية أو عن الحضارة.

وحسب تشخيص نيتشه فإنّ الأوربيين قد دخلوا في «مسار فسيولوجي»(12) خطير حيث أخذوا يتحرّرون من خصائصهم القديمة (المناخ، العرق، الطبقة، الوسط،…) التي تخلق هوية واحد تقوم بـــ«نقش» جملة من «المطالب المتطابقة في النفس والجسد»، وفتحوا الباب أمام «نشأة نوع من الإنسان ما بعد القومي والمترحّل في ماهيته»(13) يتميّز فسيولوجيًّا بقدرة هائلة على التأقلم. ومن ثمّ فإنّ ما يسمّى «الشعور القومي» هو لا يعدو أن يكون سوى «سقطة كبيرة» لا تؤدي إلَّا إلى «الفوضى القادمة». ولا يتردد نيتشه في التصريح بشكّه الحادّ في أن تكون «دمقرطة أوربا» هي الحلّ فهو يتوجّس من أن تكون هي أيضًا سببًا غير مقصود لظهور «الطغاة»(14). لم يكن نيتشه مطمئنًّا إلى قدرة معاصريه على فهم ما يقول عن مستقبل أوربا، لكنّه قد خمّن المدة المطلوبة لذلك حين اعترف ضمن رسالة كتبها سنة 1886م إلى صديقه بأنّ ما قاله في كتابه ما وراء الخير والشرّ لن يصبح قابلًا للقراءة إلَّا بعد قرن على الأقلّ نحو سنة 2000(15).

لكنّ السؤال عن فكرة أوربا ومستقبلها لم ينقطع في الفلسفة القارية. وأفضل مثال على ذلك هو بالطبع ما كتبه هوسرل وتلاميذه والمتأثّرون بفكره خاصة جان باتوشكا. وكان المقام الفلسفي الهادي هو هذا النوع من التساؤل: «ما معنى أوربا؟»(16). وعلى الرغم من أنّ هوسرل قد حاول تشخيص «أزمة الإنسانية الأوربية»(17) و«أزمة العلوم الأوربية»(18) في إطار استشكال حول «فقدان المعنى» الذي قاد الحضارة الغربية منذ اليونان، فإنّه قد حصر نقده في تشخيص «أزمة العلم» الأوربي في معنى أنّه «فقد دلالته بالنسبة إلى الحياة البشرية». ومن ثمّ كان هوسرل بعيدًا من بناء سؤال مركزي حول مستقبل «الدولة- الأمة» الأوربية. حتى عندما حاول باتوشكا أن يقحم التأويل «السياسي» في فهم معنى أوربا فإنّه ظلّ هوسرليًّا أي باحثا فينومينولوجيا في «إشكالية» المعنى، وليس في أزمة الدولة- الأمة الحديثة. بل أكثر من ذلك هو قد أعاد المشكلة إلى جذورها الروحية لدى أفلاطون(19)، وبخاصة فكرة «العناية بالنفس» كفكرة استثنائية خاصة بالأوربيين دمرّها التصوّر التكنولوجي للعالم(20).

وعلينا أن نسأل: ما الذي حوّل أوربا من «فكرة» تنويرية «عقلانية» (جيل كانط) وسؤال فينومينولوجي عن «المعنى» (جيل هوسرل) إلى خوف هوويّ مريب من «الآخر» بمختلف تعريفاته (جيل بيتر سلوترديك)(21)؟ هل ظهور العوالم المنافسة في أنحاء الأرض وعودة «الغرب» إلى نفسه كحضارة متعبة وذاتٍ متصدّعة ومنافس قلق على تفوّقه الذي نجح لمدة طويلة في تمريره باسم «الحداثة» كشكل كولونيالي غير مرئيّ يأخذ لبوس نشر الحضارة بعد اليأس من مواصلة التبشير؟ وبعبارة واحدة: كيف أصبحت أوربا شعبويّة في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين؟

حلول هابرماس- البحث عن مواطنة ما بعد قومية

في مقالة حول «هابرماس وأوربا»(22) يشير أحد شرّاحه ومترجميه الفرنسيين الكبار إلى أنّ اهتمام هابرماس بأوربا هو موقف فلسفي متأخّر في مسيرته. وكان لا بد من انتظار سنة 1990م الذي دشّن نقاشًا خطيرًا حول «الهوية الألمانية» حتى ينخرط هابرماس في تمييز حاسم بين «المواطنة والهوية القومية»، وهو عنوان مقالة ظهرت له بالنسبة إلى القارئ الفرنسي ضمن مجموع نُشر سنة 1992م، وله عنوان مثير إلى بحثنا، وهو أوربا في عشيّة القرن. الهوية والديمقراطية.(23) ما ينبغي الاحتفاظ به من مقدّمة هذا الكتاب هو تأسيس «فكرة أوربا» بشكل جديد انطلاقًا من أنّها لا تعدو أن تكون في أواخر القرن العشرين سوى فكرة «طوباوية» على الأوربيين إعادة بنائها في نطاق «مشروع أوربي» يمكن أن يكون أساس «الوحدة الأوربية» المنشودة. ولكنّ المعيار الأكبر لهذا النقاش لا يجب أن يكون شيئًا آخر غير «الديمقراطية». قال محرّرو الكتاب: «إنّ النقاش حول أوربا يجب أن يكون نقاشًا حول الديمقراطية»(24)؛ ولذلك فإنّ هابرماس لم يأت إلى مسألة أوربا إلَّا عندما قرر الأوربيون الانخراط في بناء وحدة أوربية لم يجدوا لها من تبرير عميق سوى قيمة الديمقراطية وجملة القيم الإنسانوية التي أفرزها التنوير. وهو مشكل لا يمكن حلّه إلَّا متى وجدنا العلاقة المناسبة بين «الهوية القومية» ومطلب الديمقراطية، وهو معنى «المواطنة».

يورغن هابرماس

ليست الهوية الأوربية هي المشكل الذي أثار هابرماس بل «الإرادة السياسية لبناء وحدة أوربية»: هابرماس لم يكن قط «أوربيانيًّا»(25) بالمعنى الهووي لكنّه حرص على التدخّل في النقاش حول أوربا بوصفها كيانًا من الدول في حاجة إلى تأسيس قانوني وأخلاقي مناسب. لم يكن تدخّله مجرّد موقف مثقّف ملتزم من سجال عمومي بل كان موقف الفيلسوف الذي يريد الإسهام في تأطير مفهومي للنقاش وتأسيسه. وهو ما نشهده ضمن مقالة كتبها هابرماس سنة 2001م، تحت عنوان: «لماذا تحتاج أوربا إلى إطار دستوري؟»(26) وفي واقع الأمر فإنّ هابرماس قد ظلّ يفكّر طيلة مدة تمتد من 1990م (في كتاب ثورة التدارك(27) حيث طرح السؤال عن «الهوية الألمانية» وأنّه لا حلّ لها إلَّا الانخراط في «وطنية دستورية» للشفاء من المرض «القومي» الدفين) إلى 2011م (مع كتاب دستور أوربا(28) حيث عرض الحل الدستوري للمسألة الأوربية)، وذلك مرورًا بسنة 2008م (تاريخ نشر كتاب الشكوى آه، أوربا(29)، الشكوى من انسداد أفق الحل الأوربي إلى الدولة- الأمة في ظل غموض مربك لدور المثقف في معالجة «القضية الأوربية»، وإلحاح السؤال حول علاقة «أوربا ومهاجريها»(30)، والإقرار الصريح بأنّ «السياسة الأوربية في أزمة»(31))، قد ظلّ يفكّر في نطاق إشكالية «أوربية» واحدة لديه: ألا وهي كيف نؤسّس «الحاجة إلى أوربا» بشكل دستوري بحيث يجري الانتقال المعياري من الدولة- الأمة إلى «الوحدة الأوربية» انتقالًا ديمقراطيًّا من دولة «الهويات القومية» إلى دولة «المواطنين- الغرباء» أو ما بعد القوميين أو ما بعد الهووين.

كان السؤال حتى 2011م: «هل يمكن للوحدة الأوربية أن تصبح دولة فيدرالية؟»(32). وكانت عناصر الإجابة لا تعدو أن تكون «دستورية»: ما يوحّد الأوربيين هو السوق المشتركة بصفتها «كوكبة ما بعد قومية» تبحث عن مصالحة قانونية ما بين العولمة الاقتصادية ومحدودية سيادة الدولة- الأمة. حتى أطروحة المتشكّكين حول «عدم وجود شعب أوربي يسوِّغ الوحدة الأوربية فإنّ هابرماس قد تغلّب عليها بالتمييز بين «وطن المواطنين» وبين «الشعب» أو الهوية الموروثة من لغة أو تاريخ ما، أي بين المواطنة الجمهورية والهوية القومية. ومن ثمّ قد رأى المشكل في التساؤل عن الطريقة الأنسب للمصالحة بين «أوربا الدول القومية» و«أوربا المواطنين»، وذلك بحثًا عن «تصوّر مدني للوطن»(33) بعيدًا عن الهوس الهووي للشعوب.

وفي هذا الصدد كان هابرماس يريد أن يكون بمنزلة «بيداغوجي أوربا في نطاق العولمة»(34)، ذاك الذي يعلّم الهوويين كيف يخرجون من قمقم الدولة- الأمة ويتحوّلون إلى مواطنين، وقد عمل على فتح الطريق نحو ما يسمّيه «التضامن المواطني بين الغرباء» (staatsbürgerliche Solidarität unter Fremden) في نطاق دولة ما بعد قومية(35).

لكن، منذ عام 2014م حتى اليوم أخذ هابرماس، وبانشغال شديد، يطرح أسئلة من نوع آخر: أسئلة غير مثالية أو «تواصليّة»، ولا تتعلق فقط بالإطار «الدستوري» الذي ينبغي رسمه في أفق التصوّر ما بعد السيادي الذي عرضه في كتابه الكوكبة ما بعد القومية الذي نشره سنة 1998(36)، وتُرجم إلى الفرنسية تحت عنوان: ما بعد الدولة الأمة، وختم به حقبة كاملة من مسيرته تجد أوجها في كتابه إدماج الآخر. دراسات في النظرية السياسية(37)، حيث طرح السؤال عن حاجة أوربا إلى دستور ما بعد قومي(38). إنّ المشكل الذي صار يعترض أوربا ويشغلها ليس العلاقة «ما بعد القومية» مع شعب مجاور، ولا إدماج «الآخر» الذي يتقاسم مع المواطنين الأوربيين مساحة «المجتمع المتعدد» القوميات، بل خطر من نوع آخر. ولا يبدو لنا أن هابرماس قد طرح السؤال عن هذا النوع الآخر من الخطر إلَّا في حقبة متأخّرة وقريبة جدًّا، وهي على الأرجح بعد سنة 2011م، تاريخ نشر كتابه دستور أوربا(39)، حيث لا يزال يبحث عن حلّ «دستوري» يسمح بنقل أشكال السيادة القومية إلى هيئة ما بعد قومية، وإن كان على وعي تام بالتصادم الصامت بين البعد الكوني لحقوق الإنسان واختزالها في حقوق المواطن، أي بين العدالة الاجتماعية والديمقراطية؛ وبأنّ الديمقراطية غير ممكنة إلَّا ما وراء مستوى «الأمّة» (nation)، أي بشكل ما بعد قومي يمكن أن يصالح بين المفهوم «الكوني» (اليوناني/ الكانطي) للحقوق وبين التصور «المساواتي» (الإبراهيمي /المسيحي) للكرامة. حتى سنة 2012م كان هابرماس لا يزال يعتقد أنّ «أوربا مشلولة من الخوف»(40) كما يقول عنوان مقالة له، لكنّه خوف متأتٍّ من «أزمة الوحدة الأوربية» في نطاق البحث عن «الدستور» المناسب لها بشكل ما بعد قومي. وليس من شيء آخر.

وفي الواقع فإنّ وضعًا راهنًا ولكن غير فلسفي هو الذي قاد هابرماس سنة 2013م إلى نقل «خوف أوربا» من مجرّد الحجاج الدستوري حول مستقبل التعايش ما بعد القومي إلى الخشية الواقعية من خسارة الانتخابات الأوربية سنة 2014م أمام الأحزاب اليمينية ووقوع تهديد حقيقي لنمط الحياة الذي يتمتع به المواطنون إلى حدّ الآن. ففي المؤتمر الدولي للفلسفة المنعقد في أثينا سنة 2013م، تحت عنوان: «الفلسفة بما هي بحث وفن للعيش»، أطلق هابرماس صيحة فلسفية كبيرة يحثّ فيها أوربا على الحذر من صعود «الشعبويّة» قائلا في نبوءة لم يقع تكذيبها:

«يجب الابتعاد من المشروع النخبوي، الذي تصوغه نخب سياسية اليوم في أوربا، وتشريك المواطنين… وإلّا فإنّ الأحزاب الشعبوية سوف تنتصر في الانتخابات الأوربية [في مايو 2014]…أنا لست رجل سياسة، ولكنني أعتقد أنّ الشعبوية أمر خطير. والنزعة القومية لم تكن فقط مسألة القرنين التاسع عشر والعشرين، بل هي حاضرة في كل البلدان».

يعتقد هابرماس بذلك أنّه لا يمكن الاحتراس من «أوربا الشعبوية» إلَّا بالدفاع عن «أوربا المواطنين»، تلك التي يكون بإمكانها نقل رهان الانتخابات الأوربية من المخاوف القومية إلى ملامح الإطار الدستوري الذي يضمن التعايش بين هويات ما بعد قومية؛ لأنّها قائمة على تصوّر مدني لشكل «الجماعة التذاوتيّة» التي سيشيّدونها معا بواسطة الفعل التواصلي.

وفي مقابلة له سنة 2014م انتقل هابرماس بشكل حاد من نغمته الهادئة للبحث الفلسفي عن «إطار دستوري» لتأمين أوربا- المواطنين، إلى نبرة ساخطة حيث يعترف بشكل حزين قائلًا: «لقد عادت النزعات القومية في أوربا إلى الظهور»(41).

ما يثير الانتباه هو أنّ هابرماس لا يحذّر من النزعات القومية إلَّا من جهة صدورها عن «التشكيك في أوربا»(42) بسبب أزمة اقتصادية اندلعت منذ عام 2008م تدور حول الصعوبات المالية والديون العمومية. وهذا يعني أنّ سبب الخوف هذا ليس غياب إطار دستوري لحل مشكل الانتقال من الهوية القومية إلى المواطنة، بل إنّ المواطنة نفسها تعاني أزمةً اقتصادية تهدد شكل الحياة الذي تفتخر به أوربا. وحسب هابرماس فإنّ السياسيين تنقصهم الشجاعة؛ كي يجعلوا من «الوحدة المصرفية» (منطقة الأورو) «وحدة سياسية». إنّ العلاقة بين السوق والسياسة غير متجانسة، حيث إنّ المخيف حسب هابرماس هو التخلي عن مشروع الديمقراطية ما بعد القومية والتضحية بالنموذج الاجتماعي الذي قامت عليه أوربا. وأنّ الضغط الاقتصادي سوف يدفع الدول القومية إلى التضحية بمكاسبها الاجتماعية.

وهنا يعترف هابرماس أنّ ثمّة شعورًا سائدًا اليوم حول «انكفاء الدول- الأمة حول نفسها»، ومن ثمّة «عودة القوميات التي لا تمسّ السكان فقط، بل الحكام أيضًا»(43). لكنّ الخوف من انهيار النموذج الاجتماعي لا يتحوّل من نفسه إلى كراهية ضد أوربا أو ضد القوميات الأخرى، بل هو حسب هابرماس نتيجة مباشرة لتأويل سيّئ للأزمة الاقتصادية، وهو ما يطلق عليه هابرماس اسم «شعبويّة اليمين». وبدلًا من إرساء «تضامن ما بعد قومي» بين المواطنين، ما يقع هو «انكفاء المصالح القومية على نفسها».

أمّا الحلّ الأنسب حسب هابرماس في مقاومة النزعات القومية الانفصالية فهو بناء «أوربا المواطنين» بحيث أنّ الوحدة الأوربية ليست مشكلًا أحاديًّا خاصًّا بالشعوب والدول، بل بمجموع المواطنين. ثمّة إذن مصدران للسيادة هنا: الشعوب والدول من جهة، والمواطنون من جهة أخرى. ولذلك هناك مطلبان متضافران: «وحدة سياسية» ما بعد قومية للصمود الاقتصادي أمام العولمة المتوحشة، ولكن أيضًا الاحتفاظ بالدول القومية من خلال «مواطنيها»؛ لأنّهم هم الذين سوف يدافعون عن الحقوق والحريات التي حققوها تاريخيًّا.

إنّ المطلوب حسب هابرماس هو «إعادة التفكير في أوربا»(44) بشكل جديد في ضوء الأزمة الاقتصادية ولكن باسم نوع سياسي من «التضامن» ما بعد القومي علينا أن نميّزه جيّدًا عن «الإحسان» أو محبّة الجار.(45) وذلك أنّ المشكل أكثر خطرًا من علاقة أخلاقية بين الشعوب. وتشخيص هابرماس هو أنّ أوربا مهدّدة بأمرين اثنين: أزمات عالمية وغرب منقسم على نفسه. وهو يعتقد أنّ وجه أوربا تغيّر بعد الحرب في سوريا وأزمة أوكرانيا وتخلّي الولايات المتحدة عن دور السلطة التعديلية العالمية. إنّ أوربا بذلك قد أصبحت وحيدة في الدفاع عن القيم الكونية للحداثة.

قال: «وفي النهاية فإنّ الحكومة الأميركية الجديدة تهدّد ليس فقط بتقسيم الغرب فيما يخصّ التجارة العالمية والسياسة الاقتصادية. بل إنّ الأحكام المسبقة القومية والعنصرية والمعادية للإسلام والمعادية للسامية التي هي بفضل أسلوب الحكومة الأميركية في التواصل والأيديولوجيا قد اكتسبت وزنًا سياسيًّا كبيرًا، إنّما تشكّل، مع التطوّرات التسلّطية في روسيا وتركيا ومصر وبعض البلدان الأخرى، تحدّيًا غير متوقّع إلى الغرب، سواء على المستوي السياسي أو الثقافي. فإذا أوربا ترى نفسها فجأة متروكة لنفسها في دور الحارس المدافع عن المبادئ الليبرالية الذي يناصر الأغلبية المهمّشة في الانتخابات الأميركية».

خاتمة: العودة المفاجئة للشعوب

لم تصبح أوربا شعبويّة «فجأة»، ومن ثمّ علينا أن نسأل: إلى أيّ مدى يصح تشخيص هابرماس أنّ «الشعبويات اليمينية هي متأتية من غياب الإرادة السياسية في أوربا»(46)؟ أليس تاريخ الحداثة السياسية نفسه قائمًا على توتّر هيكلي بين مفهومي «الحق» و«السيادة» في صلب نظرية الديمقراطية؟ فإنّ الشعبوي والديمقراطي يشتركان في أنّ الشعب هو مصدر الشرعية(47). ولا بد لنا أن نقرّ بوجود «التصويت الشعبوي» الذي يتم رغم أنف الديمقراطيين. وكلّ رهان الدولة- الأمة المعاصرة هو في التمييز بين مكوّنين موجودين في صلب الحداثة الأوربية نفسها: المؤسسات الدستورية من جهة، والشخصيات الكاريزماتية من جهة أخرى. فالشعبوي يرفض الوساطة «المؤسساتية» للفعل الديمقراطي ويريد سيادة مباشرة من خلال قائد ملهم يقود الجماهير. في حين أنّ الديمقراطية غير ممكنة من دون مؤسسات، وبخاصة أنّها عمل يقوم به «مواطنون» غير محتاجين إلى زعماء كاريزماتيين. لكنّ الأزمات الاقتصادية سرعان ما تنقلب إلى أزمات هووية، ومن ثمّ تصبح السياسة تربة خصبة للشعبوية وتنحسر الديمقراطية من الداخل. وما وقع في أوربا حالة نموذجية: لقد ظهر التصويت الشعبوي من أجل إزاحة المؤسسات التي جعلت الديمقراطية ممكنة. فتصبح أوربا-المواطنين غير متاحة وتأخذ مكانها أوربا هووية يتحدث كل قومي فيها عن شعب «مؤمثَل» و«استيهامي» بلا طبقات؛ لأنّ مصادر ذاته قد أصبحت من نوع آخر من قبيل العرق واللغة القومية والطائفة، إلخ… كلّ شعبوية هي شعبوية هووية، بمعنيين: هي تشكّك في أيّ وحدة أعلى من فكرة «الشعب» (وهذا موقف «المتشككين في أوربا»)، ومن جهة، هي تتعادي كل نوع من «الهجرة»؛ لأنّ المهاجرين هم عندها «غرباء» بالمعنى القومي. ولذلك تنخرط أوربا الهووية في بناء خطابات مزيّفة للمشاكل الحقيقية (الأزمة الاقتصادية الناتجة عن العولمة) وتعوّضها بنزاعات اعتراف زائفة (كراهية الأجانب، فوبيا الإسلام،…). ويصبح الدفاع «المادي» عن مستوى العيش والقدرة الشرائية والوظائف دفاعًا هوويًّا و«لامادّيًّا» عن أسلوب الحياة وروح الثقافة والهوية…

إنّ أهمّ النتائج في هذا النقاش هي أنّ أوربا فكرة يجب مراجعتها(48). لكنّ وجه القلق في هذا المقترح هو أنّه لم يجد من طريقة أخرى لخوض مهمّة «إعادة تأسيس أوربا» سوى العودة إلى التفكير في تقاليد التنوير الأوربي بوصفها التربة المناسبة لإعادة طرح مشاكل الحاضر من أجل خلق مثل أعلى «روحاني» جديد لا يكون «مادّيًّا» فقط(49). وكأنّ «العقل الشعبوي»(50) ليس خاصية متأصّلة في تاريخ الحداثة السياسية نفسها، أي في «منطق تكوّن الهويات الشعبية»، ومن ثمّ فإنّ إلغاء الشعبويّة سوف يعني في نهاية الأمر إلغاء العنصر «السياسي» نفسه؛ إذ لا معنى لسيادة شرعية من دون شعب حقيقي منتج للهويات. وهذا يعني أنّ «أوربا الشعبوية» (التي انتخبتها الأحزاب اليمينية) هي ليست «أوربا ما بعد-ديمقراطية» تقع «ما بعد الحقيقة» أو «الوقائع» الدستورية؛ لأنّ التصويب الشعبوي هو جزء لا يتجزأ من عملية الديمقراطية. إنّ نقد العقل الشعبوي الذي يمكن أن يساعد أوربا المنكفئة على ذاتها لا يبدو أنّه يستفيد كثيرًا من العودة إلى مبادئ التنوير، بل لا بد أن يُطرح على مستوى آخر. ذلك أنّ العودة المفاجئة للشعوب قد أربكت فكرة أوربا التنويرية وحوّلتها إلى حكم مسبق هووي ضد نفسها.

______________________________________________________________________________________________________

حوامش :

(1) Françoise Dastur, « L’Europe et ses philosophes : Nietzsche, Husserl, Heidegger, Patočka », in Revue Philosophique de Louvain n. 1, 2006 ; Nicolas Weill (dir.), Existe-t-il une Europe philosophique ? 16e forum « Le Monde ». Le Mans, 22 au 24 octobre 2004, Rennes, Presses Universitaires de Rennes, 2005.

(2) Fr. Nietzsche, Also Sprach Zarathustra. Erster Theil. Vom neuen Götzen.

– ف. نيتشه، هكذا تكلّم زرادشت. ترجمة علي مصباح ( كولونيا ألمانيا/ بغداد: منشورات الجمل، 2007م) ص 102 «عن الصنم الجديد».

(3) Monique Castillo, « L’idée d’Europe chez Kant », in : ENS Éditions, 2010. https://books.openedition.org/enseditions/4456?lang=fr

(4) Yves Charles Zarka, « Cosmopolitisme et hospitalité chez Kant », in : Kant cosmopolitique (Paris : Editions de l’Eclat, 2008), pp. 17-30.

(5) Bernard Bourgeois, L’Idéalisme allemand, Alternatives et progrès, Librairie Vrin, Paris, 2000. Chap. XIII ‘’Philosophie de l’Europe’’, pp. 213-233.

(6) Jean-Jacques Rousseau, « Les considérations sur le gouvernement de Pologne et sur sa réformation projetée » (1771-1772).

(7) Edmund Burke, Reflections on the Revolution in France, And on the Proceedings in Certain Societies in London Relative to that Event. In a Letter Intended to Have Been Sent to a Gentleman in Paris (1790).

(8) Nietzsche, Jenseits von Gut und Bose, § 240 : « (..) was ich von den Deutschen halte: sie sind von Vorgestern und von Uebermorgen, – sie haben noch kein Heute.

(9) Ibid. § 241.

(10) Ibid.

(11) Ibid. « (..)es sei allein der grosse Gedanke, der einer That und Sache Groesse giebt. »

(12) Ibid. § 242

(13) Ibid. « … die langsame Heraufkunft einer wesentlich uebernationalen und nomadischen Art Mensch,..“

(14) Ibid.

(15) Nietzsche, Briefe– An Malwida von Meysenbug, 24.9.1886 « Nehmen wir an, daß es gegen das Jahr 2000 gelesen werden darf...“

(16) Cf. Mathieu Cochereau, « L’Europe a-t-elle encore un sens ? De Husserl à Patočka », in : Cahiers philosophiques 2014 /2 (n° 137), pp. 50-66.

(17) E. Husserl, Die Krisis der europäischen Menschentums und die Philosophie (1935)

(18) E. Husserl, Die Krisis der europäischen Wissenschaften und die transzendentale Phänomenologie (1936).

– إدموند هوسرل، أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية. ترجمة إسماعيل مصدق (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008).

(19) J. Patočka, Platon et l’Europe, Lagrasse, Verdier, 1983.

(20) J. Pato?ka, « La civilisation technique est-elle une civilisation de déclin, et pourquoi ? », dans Essais hérétiques sur la philosophie de l’histoire, trad. E. Abrams, Lagrasse, Verdier, 2007, p. 180-181.

(21) Cf. Peter Sloterdijk, Si l’Europe s’éveille. Réflexions sur le programme d’une puissance mondiale à la fin de l’ère de son absence politique (1994), traduit de l’allemand par Olivier Mannoni, Mille et Une Nuit, 2003 ; Réflexes primitifs : Considérations psychopolitiques sur les inquiétudes européennes. Paris, Payot, 2019.

(22) Christian Bouchindhomme, ‘’Habermas et l’Europe’’, in : Allemagne d’aujourd’hui, 2014L1 (N° 207), pp. 157-169.

(23) Jürgen Habermas, « Citoyenneté et identité nationale », in : L’Europe au soir du siècle. Identité et démocratie. Paris : Esprit, 1992, pp. 17-38.

(24) Ibid. p. 9.

(25) Christian Bouchindhomme, ‘’Habermas et l’Europe’’, op. cit. p. 9.

(26) J. Habermas, « Pourquoi l’Europe a-t-elle besoin d’un cadre constitutionnel ? », in : Cahiers de l’Urmis [En ligne] Juin 2001.

(27) J. Habermas, Die nachholende Revolution. Kleine Politische Schriften VII (Frankfurt am Main: Suhrkamp, 1990), p. 157 sq.; 205 sqq.

(28) J. Habermas, Zur Verfassung Europas. Ein Essay (Frankfurt am Main : Suhrkamp, Berlin 2011)

(29) J. Habermas, Ach, Europa. Kleine politische Schriften XI. (Frankfurt am Main: Suhrkamp, 2008)

(30) Ibid. p. 88 sqq.

(31) Ibid. p. 96 sq.

(32) Ibid.

(33) Ibid.

(34) Denis Goeldel, « Jürgen Habermas, pédagogue de l’Europe dans la mondialisation », in : Allemagne d’aujourd’hui 2014/1 (N° 207), p. 181 -203.

(35) Ibid.

(36) J. Habermas, Die postnationale Konstellation. Politische Essays, Suhrkamp, Frankfurt am Main 1998.

(37) J. Habermas, Die Einbeziehung des Anderen. Studien zur politischen Theorie, Suhrkamp, Frankfurt am Main 1996

(38) Ibid. p. 185 sq. « Braucht Europa eine Verfassung ?“

(39) J. Habermas, Zur Verfassung Europas. Ein Essay. Suhrkamp, Berlin 2011

(40) J. Habermas, « L’Europe paralysée d’effroi – La crise de l’Union européenne à la lumière d’une constitutionnalisation du droit international public », in : Cités, 2012/1 no 49, p. 131-146.

(41) J. Habermas, « En Europe, Les nationalismes sont de retour ». Propos recueillis par Pascal Ceaux, in : L’Express. Publié le 17/11/2014.

(42) Ibid.

(43) Ibid.

(44) J. Habermas, « Rethinking Europe », in : Blätte für deutsche und internationale Politik, 2018.

(45) Ibid. „Solidarity is not charity.».

(46) Jürgen Habermas : « Les populismes de droite proviennent de l’absence de volonté politique en Europe », in : Journal Le Monde, Juillet 30, 2018.

(47) Marine Hurard, « La montée des populismes en Europe », in : Think tank européen Pour la Solidarité (asbl), Septembre 2011.

(48) Yves Charles Zarka (dir.), Refaire l’Europe (avec Jürgen Habermas), Paris, P.U.F, 2012.

(49) Yves Charles Zarka, « Pour un nouvel idéal de l’Europe », in : Cités 2017/3 (N° 71), pp. 3-8.

(50) Ernesto Laclau, La raison populiste, Seuil, 2008.

المنشورات ذات الصلة

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *