المقالات الأخيرة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

جائزة العويس تكرم الفائزين في فروعها المختلفة

 احتفلت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، الخميس الماضي، بتوزيع جوائز الفائزين في الدورة الـ 18 بحضور شخصيات فكرية وثقافية إماراتية وعربية، بينهم الشيخ سالم بن خالد القاسمي وزير الثقافة، والدكتور أنور محمد قرقاش رئيس مجلس الأمناء، ومحمد المر رئيس مجلس أمناء مكتبة...

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

عبدالسلام بنعبد العالي… بورتريه صيني لفيلسوف مغربي!

لو كنتُ بورتريهًا، فلأكُن بورتريهًا صينيًّا ليست كتابة البورتريه بأقلّ صعوبةً من رسمِه، في الحالتين كلتيهما نحن مهدّدون بأن نخطئ تقديرَ المسافة، أن نلتصق بالمرسوم إلى درجة المطابقة، بحيث نعيد إنتاجَه إنتاجًا دقيقًا يخلو من أيّ أصالةٍ؛ أو أن نجانِبه، فنرسم شيئًا آخر......

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

الموريسكيون ومحاولات محو الذاكرة

تظل قضية الموريسكيين واحدة من أبرز القضايا المتعلقة بتاريخ الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وهي التي شهدت كثيرًا من الأحداث الدراماتيكية منذ سقوط غرناطة عام 1492م حتى طردهم من الأندلس عام 1609م في عهد الملك فيليب الثالث، فالأحداث التي ترتبت على سقوط «غرناطة» آخر...

الاغتراب والرواية المقيّدة

الاغتراب والرواية المقيّدة

تتوزع حياة الإنسان على وضعين: وضع أول يدعوه الفلاسفة: الاغتراب، يتسم بالنقص والحرمان، ووضع ثان يحلم به ويتطلع إليه وهو: عالم التحقق أو: اليوتوبيا. يتعرف الاغتراب، فلسفيًّا، بفقدان الإنسان لجوهره، وتوقه إلى استعادة جوهره المفقود بعد أن يتغلب على العوائق التي تشوه...

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

نص الصحراء واللامفكر فيه عند إدمون جابيس وبلانشو ولفيناس

يصف موريس بلانشو الأدب كمنفى في الصحراء، حيث يصبح الكاتب ضعيفًا تسكنه المخاوف مثل تلك المخاوف التي سكنت بني إسرائيل عندما قادهم النبي موسى، امتثالًا لطلب «يهوه»، في رحلتهم عبر صحراء سيناء إلى أرض كنعان؛ فالصحراء فضاء هندسي مناسب لاحتواء مفاهيم من قبيل العزلة...

رولان بارت والتحليل النفسي الكتابة بيدين

بواسطة | مارس 3, 2019 | دراسات

نفترض أن هناك علاقةً وثيقةً بين أعمال رولان بارت والتحليل النفسي، وهي علاقةٌ طالَــها الإهمالُ، ولم تنلْ بعدُ ما تستحق من البحث والدرس. قد يعود هذا الإهمالُ إلى أن صاحبَ هذه الأعمال كان معروفًا بموقفه السجاليِّ من أيديولوجية التحليل النفسي التي يرى أنها تقوم على أساسِ خِــطابيةٍ خاصةٍ ذات شكلٍ شموليٍّ وكليانيٍّ totalitaire. ومع ذلك، فإن هذه المسافة النقدية التي اتخذها بارت من أيديولوجية التحليل النفسي لم تمنعه من أن يستخدم مفهومات التحليل النفسي وموضوعاته ومرجعياته النظرية والتطبيقية، انطلاقا من مؤلَّــفِهِ النقدي «عــن راسين» (1960م)، وصولا إلى مؤلَّــفِهِ «لذة النص» (1973م)، لكن وبالأساس مع مؤلَّـفه «ص/ ز» (1970م)؛ وفوق ذلك كله، يمكن أن نزعم أن كتابات بارت الإبداعية التي صدرت في وقت لاحق «رولان بارت بقلم رولان بارت» (1975م)، «شذراتٌ من خطابٍ عاشقٍ» (1977م)، هي كتاباتٌ تمارسُ التحليل النفسي بشكلٍ من الأشكال، وبخاصة ما يُـسمَّـى بالتحليل الذاتي.

قد تبدو هذه العلاقة بالتحليل النفسي مزدوجة ومتناقضة، فبالنظر إلى أعمال بارت النقدية والإبداعية، سنلاحظ أن هناك علاقة وثيقة، لكن بارت يُـعبِّـر في الوقت نفسه عن مواقف ضد أيديولوجية التحليل النفسي؛ واللافت للنظر أن العلاقة نفسها يمكن أن نلاحظها في علاقته بالماركسية التي يُدمجها في نسقه الفكري والنقدي، مثل التحليل النفسي، لكنه في الوقت نفسه يرفض أيديولوجيتها الكليانية الشمولية. وفي الواقع، لا يمكن أن نفسِّــر هذا النوع من العلاقة المزدوجة المتناقضة، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الكتابة عند رولان بارت هي هذه التي تنفتح على خطاب التحليل النفسي (أو على خطاب الماركسية) من دون أن تلتزم بكل إكراهاته والتزاماته، كأنها تريد أن تكون «كتابةً بيدين: تثيرُ هنا ما ترفضه هناك، وهي لا ترفض إلا من أجل أن تكون الإثارة على الوجه الأفضل»، أو كأنها تريد أن تكون كتابة بيدين: تنتقد هذه اليدُ ما ترغبُ فيه تلك اليدَ الأخرى؛ وهي بكل ذلك، لا ترى نفسها إلا في صورة ذلك الذي خصَّــه بارت بدروسه سنة 1978م: المحايد: والحياد هنا ليس بمعنى الضعف أو العجز أو البحث عن تسوية، بل بمعنى الانفلات من ذلك اللوغوس الضاغط للتحليل النفسي، سعيًا إلى تحقيق تلك القوة القادرة على خلخلة خطاب التحليل النفسي في مفهوماته وبنياته وقيمه؛ والحياد ليس بمعنى الوسطية والاعتدال، فأن تتذوق معنى المحايد، عند بارت، هو أن تنفر من التوسط والاعتدال، وأن تجعل من الحياد مقولتك الأخلاقية الضرورية من أجل أن تزيل عن المعنى تلك الخاصية التي لا تقبل بالتسامح، تلك الخاصية الاستبدادية التي لا تُحتمَــل. وبإيجازٍ شديدٍ، فإن رولان بارت، في علاقته بالتحليل النفسي، يبدو مثل ذلك البطلِ الإغريقيِّ الأسطوريِّ أورفيوس، فهو يعود إلى ما يحبُّ، لكنه يغادرُ من دون أن ترافــقَــه حَـبيبَـتُـــه؛ أو لنقل إن بارت يعود إلى التحليل النفسيِّ، لكنه قد يغادره عائدًا بخطابٍ تحليليٍّ آخرَ غير الذي رجع إليه.

سنحاول أن نرى كيف يعود بارت، وبخاصة في كتابه «عن راسين» (1960م)، إلى المعلِّــم الأول، مؤسِّــس التحليل النفسي، سيغموند فرويد (ويمكن أن نتساءل: كيف يعود بارت، وبخاصة في مؤلَّــفـه «ص / ز» إلى المعلِّــم الثاني أيضًا، إلى مجدِّد التحليل النفسي، جاك لاكان؟)، وما ينبغي له أن يشدَّ أنظارنا هو: ما معنى أن يمارسَ بارت التحليلَ النفسيَّ بيدين في كتاباته النقدية؟ ما معنى أنه يرغبُ في ممارسة التحليل النفسي لكنه في الوقت نفسه يرفضه؟ وإذا كان بارت يعود إلى فرويد، فهل يعود منه بخطابٍ تحليليِّ مختلف؟

بارت وفرويد

يبدو أن مؤلَّــفًا «عن راسين» هو الذي يُـعبِّــر، بشكلٍ أفضل، عن هذه العلاقة الوثيقة والمزدوجة بمؤسِّـس التحليل النفسيِّ سيغموند فرويد، وبخاصة في الدراسة الأولى من هذا المؤلَّــف التي تحمل عنوان: الإنسانُ الراسيني. ففي هذه الدراسة الأولى، تأتي اللغة -يقول بارت نفسه- نفسانيةً، لكن المعالجةَ قـلَّــمـا كانت كذلك»؛ ونفهم من ذلك أن رولان بارت يستخدم مفهوماتِ التحليل النفسي وموضوعاتِـــه، لكنه يرفض أن يقوم بالمعالجة النفسانية، منبِّهــًا إلى أن هناك معالجةً نفسانيةً ممتازةً لراسين أنجزها شارل مورون الذي يدين له بالشيء الكثير؛ لكن السببَ الحقيقيَّ الذي لا يخفيه بارت، هو أن التحليلَ الذي يقدمه في هذه الدراسة الأولى لا يهمُّ راسين مطلقًا، بل إنه تحليلٌ منشغلٌ بالبطل الراسيني؛ فالأمر يتعلق بدراسة تتفادى أن تكون استنتاجاتُـها وليدةَ ذلك الذهابِ من العمل الأدبيِّ إلى المؤلِّــف، ومن المؤلِّــف إلى العمل الأدبي»، ويعني ذلك أن بارت يرفضُ أن يمارسَ ذلك النقدَ النفسيَّ البيوغرافيَّ الذي يفسِّـــر العملَ الأدبيَّ بالصراعات اللاواعية للكاتب أو الشاعر كما يكشفها تاريخُ طفولته؛ ولا يريد لمعالجته في هذه الدراسةِ أن تكون استنساخًا لمفهوم معينٍ للمعالجة النفسانيةِ التي تهدف إلى اكتشاف عناصرِ صدمةٍ مكبوتةٍ وإلى إبراز الصراعات الغرائزية، وإلى البحث في العمل الأدبيِّ عن العناصر المسببةِ للأمراض التي تكشفها بعضُ المعطيات البيوغرافية، وإلى إقامة علاقةٍ بين المظاهر الباثولوجية (المَـرَضية) لشخصية المبدع ومحتوى الأثر الأدبي.

جان راسين

هذا النوعُ من المعالجة النفسانيةِ الذي يرفضه بارت كان قد أسسه فرويد نفسه في عددٍ من الدراسات، وكان هو الأكثرُ ازدهارًا في النقد الأدبيِّ عند أتباع فرويد من الثلاثينيات إلى الستينيات؛ وهو نقدٌ نفسيٌّ بيوغرافيٌّ ينطلق من أن الأعمالَ الأدبيةَ ليست مستقلةً عن الحياة الشخصية للمبدع، ولا تجد تفسيرَها إلا بالعودة إلى طفولته، فَــمَــهَــمَّــةُ الناقد النفسي، من هذا المنظور، هي دراسةُ ذلك الرباط بين العمل الأدبيِّ وحياة الأديب، من خلال التركيز على الموضوعات اللاواعية: وبهذا، فإن أعمالَ الشاعر ووثائقَــه لا تصلح، عند ناقدٍ نفسيٍّ من مثل رونيه لافورج، إلا لإجراء وصفٍ كلينيكيٍّ لِــعُــصــاب الفشل عند بودلير صاحب «أزهار الشر» .

وأن يرفضَ رولان بارت أن يقوم بهذا النوع من المعالجة النفسية ليس معناه أنه يرفض هذا النوعَ من النقد النفسيِّ الذي كان سائدًا في عصره فقط، بل إنه يعني أنه يرفض فرويدَ نفسَـه عندما يطبِّـق هذا النوعَ من المعالجة النفسانية على الإبداع والمبدعين؛ لكن ذلك لا يعني أنه يرفض فرويد كلَّــه، بل إنه، في افتراضنا، سينطلق من فرويد آخرَ يستجيب أكثرَ للأسئلة الجديدة التي بدأت تفرض نفسَها منذ بداية الستينيات من القرن الماضي، وبخاصة بعد أن بدأ الدرسُ اللسانيُّ البنيويُّ يحتل الصدارةَ في العديد من المجالات المعرفية. ويمكن أن نذهب بعيدًا، فنقول: إن الحوارَ الذي لم يقع بين كبيرين من كبار ذلك العصر، فرويد ودوسوسير، هو ربما بالضبط ما يريد أن يحققه بارت في هذه الدراسة المكرَّسة للتراجيدي الحديث جان راسين، بالطريقة التي تسمح بمعالجةٍ هي الوقت نفسه نفسانيةٌ وبنيويةٌ؛ لنقرأ هذا التصريح الذي يحدد نوعيةَ التحليل الذي يطمح إليه بارت، رابطًا بين فرويد ودوسوسير، بين التحليل النفسي والتحليل البنيوي: «إنه تحليلٌ مغلقٌ بطريقةٍ إراديةٍ: أخذتُ مكاني داخل عالَــم راسين التراجيدي، وحاولت أن أصفَ ما فيه من ساكنةٍ (يمكننا أن نجعلها ببساطةٍ مجرَّدةً بواسطة مفهوم الإنسان الراسيني)، من دون أيِّ إحالةٍ على مصدرٍ من هذا العالَــم (على مَـصدرٍ مُـتَـحدِّر من التاريخ أو البيوغرافيا مثلًا). وما حاولتُ إعادة بنائه هو نوعٌ من الأنثروبولوجية الراسينية التي تأتي بنيويةً وتحليليةً: هي بنيوية في العمق؛ لأن التراجيديا تُــعَــالَـــج هنا بوصفها نسقـــًا من الوحدات «الصور» والوظائف؛ وهي تحليليةٌ في شكلها؛ لأني أظن أنَّ اللغةَ الوحيدةَ القادرةَ على التقاط ما في هذا العالَــم من خوفٍ هي التحليلُ النفسيُّ، هذا الذي يبدو لي ملائمًا لمقابلة هذا الإنسان المسجون».

لن نقولَ الكثيرَ عن دوسوسير؛ لأن ما يشغلنا هنا هو هذا الـــفرويد» الجديدُ الذي بدأ يظهر من أجل أن يحلَّ محلَّ ذلك الــ«فرويد» الذي وظفه النقادُ النفسانيون البيوغرافيون السابقون. وهذا الوجهُ الفرويديُّ الجديدُ يتقدم من خلال صورتين متراكبتين متعالقتين: صورة فرويد الذي قدَّم أعمالًا تحليليةً دَرَسَ فيها العملَ اللغويَّ أو العملَ الأدبيَّ في حدِّ ذاته من دون الرجوع إلى مصدرٍ خارجيٍّ، بطريقةٍ تجعلُ تحليلاتِه أقربَ من التحليل البنيوي؛ وصورة فرويد الذي قدَّم دراساتٍ لا تربط بين الإبداع وذاتٍ مبدعةٍ معينةٍ (ذات المبدع)، بل تريد أن تربطَ بين الإبداع والذات الإنسانية من منظور نفسانيٍّ أنثروبولوجيٍّ: ففرويد هو هذا الذي استطاع أن يستخلصَ من النصِّ التراجيديِّ الإغريقيِّ: أوديب ملكًا، المفهومَ المركزيَّ الذي يفسِّــرُ البنيةَ النفسيةَ الأساسَ للإنسان؛ ومؤسس التحليل النفسي هو هذا الذي عَدَّ الأساطير، في مؤلَّفه «مقالات في التحليل النفسي التطبيقي» عبارةً عن بقايا مشوَّهةٍ من استيهامات الرغبة عند الأمم كاملةً، وعبارةً عن أحلام عريقةٍ عند هذه الإنسانية الفَـتِــية؛ وهو هذا الذي أثارَ عددًا من الأسئلة حول المواد التي وفرها الإثنوغرافيون في عصره، وبخاصة في مؤلَّــفـه: الطوطم والتابو (1912م)؛ وهو مَـن شجَّـعَ بعضَ تلامذته الأوائلِ على متابعة الأبحاث في هذا الاتجاه.

إعادة النظر في مهمة المحلل النفساني

وبصفةٍ عامةٍ، نفترض أن رولان بارت قد أعاد الاعتبارَ لأعمالٍ عند فرويد طالها الإهمالُ، وأعاد النظرَ في مَـهَـمَّــة المحلِّـل النفساني، مفضِّـلًا ذلك الذي يمارس التحليلَ البنيويَّ في تحليل النصوص، ويمارس التحليلَ الأنثروبولوجيَّ، لا التحليلَ البيوغرافيَّ، في تحليل العلاقة بين الأدب والإنسان. وفي هذا الإطار، لا بد أن نعودَ إلى موقف بارت المزدوج من شارل مورون: فهو لا يريد أن يكرر عملًا سبق إليه هذا الناقدُ النفسي، لكنه في الوقت نفسه يصرِّح بأنه مدينٌ له بالشيء الكثير؛ ولا يمكن أن نفهم هذا الموقفَ المتناقضَ إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن شارل مورون قد كان سباقًا إلى معالجة النصوص الأدبية من الداخل، وهذا شيء يستحسنه بنيويٌّ مثل بارت، فقد كان شارل مورون يلتقطُ الاستعاراتِ الملحاحةِ داخل عملٍ أدبيٍّ بوسائلَ جديدةٍ، ليس من أجل إعطائها ترجمةً رمزيةً بالضبط قدر ما هو من أجل إبراز الشبكة التي تتكون من العلاقات اللاواعيةِ التي توجد بين هذه الاستعاراتِ الملحاحة، التي تجعلنا نَـعبُــر إلى أنساقٍ من الصور الدرامية الواسعة جدًّا والمعقدة جدَّا تؤلِّــف ما يسميه مورون بالأسطورة الشخصية»؛ لكن شارل مورون هو في الوقت نفسه هذا الناقدُ النفسيُّ الذي يَعمِد في النهاية إلى الاستعانة بحياة المبدع وبيوغرافيته على طريقة النقد النفسي البيوغرافي، وهو ما يرفضه رولان بارت بالطبع. وبعبارةٍ واحدةٍ، نفترض أن بارت كان من الأوائل الذين دشنوا نوعًا جديدًا من النقد النفسي يتقدم بديلًا عن ذلك النقد النفسي البيوغرافي التقليدي، وهذا النوع الجديد من النقد قد ازداد تطورًا في العقود اللاحقة، فأنتج قراءاتٍ تتصف بالنوعية والجِدَّة في التصورات النظرية والمنهجية؛ لأنها قراءاتٌ تَـعمل من أجل تحرير النقدِ النفسيِّ من تلك القيود التي كانت ترى النصَّ مجردَ وسيلةٍ لتحليل لاوعي المؤلِّـف والكشف عن عقده ومكبوتاته وصدماته وهواجسه، بطريقةٍ تُـحوِّل النصَّ الأدبيَّ إلى ذاتٍ مطابقةٍ لذات المؤلِّــف مطابَــقــةً تؤدي إلى إلغاء خصوصية النص الأدبي واستقلاليته الذاتية.

والخلاصة أنه مع كتاب: عن راسين بدأ يتضح أن مستقبلَ الأبحاث والدراسات في التحليل النفسيِّ للأدب لا بد أن يكون بعيدًا من المؤلِّــف، فمؤلِّــف النص الأدبي ينبغي له أن يوضَـعَ خارج اللعبة.

لاشك في أن رولان بارت قد استعان، في هذه الدراسة الأولى من الكتاب، بمجموعةٍ من الموضوعات والمفهومات النفسانية (الإيروس، والاضطراب، والمشهد الإيروسي، والعلاقة، والعدوانية، والانقسام، والأب، والخوف)؛ بقصد إنجاز تحليلٍ للشخصية التراجيدية عند راسين، حتى إنه يبدو أحيانًا كأنه يقوم بتلك المعالجة النفسانية التي سبق أن رفضها، والفرق أنه هنا لا يطبقها على راسين بل على شخصياته: فالشخصية التراجيدية عند راسين هي، في نظر بارت، شخصيةٌ مصابة بمرضٍ عصبيٍّ névropathe، يسكنها الخوف من العلامات، ويطاردها هذا الخوف من الأب… والعلاقة الأساسُ بين الشخصيات تتأسس على علاقة السلطة والعنف، بحيث لا يمكن الحديث إلا عن الجلاد والضحية.

لكن إذا أردنا البحث عن مفهوم يحيل بالأساس على تلك الأنثروبولوجية الراسينية التي صرَّح بارت في تصديره لكتابه بأنه سيعيد بناءَها، فإن المفهومَ الأكثرَ ترجمةً لهذا الطموح هو، في افتراضنا، مفهومُ العصبة البدائية La horde primitive الذي لم يكرِّس له بارت إلا بعض الصفحات القليلة من دراسته (ص20 22).

وهكذا، يوضح رولان بارت أن فرويد قد استعار مفهومًا أساسًا من داروين وأتكينسون هو مفهوم: العصبة البدائية؛ وهما يذهبان إلى أن الناسَ قد كانوا، في أزمنةٍ بعيدةٍ جدًّا، يعيشون داخل عُـصباتٍ متوحشة؛ وكانت كلُّ عُـصبةٍ خاضعةً للذَّكَــر الأكثر قوةً وشدةً الذي يملك كلَّ شيءٍ من دون تمييز، يملك النساءَ والأطفالَ والممتلكات؛ وكان الأبناءُ مجرَّدين من كلِّ شيءٍ، فقوَّة الأب تمنعهم من الحصول على ما يشتهونه من النساء، الأخوات أو الأمهات؛ وإذا حَدَثَ أن أثاروا غيرةَ الأب، فإنهم يُقتَلون أو يُعذَّبون أو يُطردون من دون رحمة. وهكذا، انتهى الأمر بهؤلاء الأبناء إلى الاتحاد من أجل قتل الأب والحلول محله؛ لكن ما إن مات الأب، حتى شَبَّ الخلاف بين الأبناء، ليتنازعوا حول إرثه ووراثته؛ وإنه بعد وقتٍ طويلٍ من الصراعات، سينتهي الإخوةُ الأعداءُ إلى أن يتعاهدوا على عهدٍ معقول: أن يتنازلَ كلُّ واحدٍ عن اشتهاء الأمِّ أو الأخوات، ومن هنا تأسس تابو المحارم.

وينطلق بارت من أن «هذه الحكاية، ولو أنها ليست إلا روايةً، هي مسرحُ راسين كلُّه»، فسواء جعلنا من كل تراجيديات راسين، الإحدى عشرة، تراجيديةً واحدةً أساسية، أم جمعنا بين هذه الشخصيات الخمسين التي تسكن تراجيدياته، فإننا لن نجد إلا وجوهَ هذه العُـصبة البدائية وأفعالَـها: الأبُ، ذلك المالكُ المطلقُ لحياة الأبناء؛ والنساءُ، وهنَّ في الوقت نفسه أمهاتٌ وأخواتٌ وعشيقاتٌ، ومُشتهَياتٌ دومًا، والحصولُ عليهن نادرٌ؛ والإخوةُ، وهم أعداءٌ يتصارعون دومًا حول إرثِ أبٍ ليس ميتًا تمامًا، وهو يعود من أجل إنزال العقاب بهم؛ وأخيرًا، الابنُ المتمزِّق حدَّ الموت بين إرهابِ الأب وضرورةِ أن يعمل على التخلص من هذا الأب، وفي كلمةٍ واحدةٍ، فإن زنا المحارم، وتنافسَ الإخوة، ومقتلَ الأب، وفسادَ الأبناء، هذه هي الأحداثُ الأساسُ في مسرح راسين».

اللافتُ للنظر أن بارت لم يذهب بعيدًا في هذا التحليل النفسيِّ الأنثروبولوجيِّ، بل إنه سيصرح بأنه لا يعرف بالضبط بِمَ يتعلق الأمر في هذا الإطار، متسائلًا ما إذا كان الأمرُ متعلقًا بفرضية داروين التي تتحدث عن أساسٍ فُلْكلوريٍّ قديم جدًّا، وعن حالةٍ للإنسانية ما قبل الاجتماعية؛ أم أنه متعلقٌ بفرضية فرويد التي تذهب إلى أن حكايةَ العصبة البدائية هي الحكاية الأولى للحياة النفسية، وأن كلَّ واحدٍ منا يُعيد إنتاجها في طفولته. وكلُّ ما يدركه بارت جيدًا هو أنَّ المسرحَ الراسينيَّ لا يجد انسجامَـه إلا على مستوى هذه الحكاية القديمة التي تعود إلى هذا الجزء الخلفيِّ البعيد من التاريخ ومن النفسية الإنسانية». وباستثناء بعض الملاحظات التي لا تخلو من أهمية (ومنها أن الأمر لم يعد يتعلق بشخصيات personnages؛ لأن هذه الأخيرة قد تحولت عند راسين، بفضل استلهام تلك الحكاية القديمة، إلى ممثِّلين acteurs، أي إلى وجوهٍ وأقنعةٍ، والاختلاف بين هؤلاء الممثلين لا يعود إلى الحالة المدنية، بل إلى موقعها داخل ذلك الترتيب العام الراسخ في تلك الحكاية القديمة)، فإن بارت لم يذهب بعيدًا في تحليله النفسي الأنثروبولوجي، بالطريقة التي تضيء ما يريد أن يقوله راسين، لا عن نفسه، ولا عن شخصيةٍ من شخصياته التراجيدية، بل عن الإنسان، أي بالطريقة التي تكشف عن الإنسان كما يتصوره راسين في تراجيدياته، وبخاصة أن بارت قد أعلن أن ما يهمُّه هو هذا الإنسان الراسيني». ونزعم أن بارت لم يستطع التخلص من تأثير فرويد في هذا الإطار: ففي هذه الحكاية القديمة، نجد فرويد لا يهتم إلا بمقتل الأب، وبالصراع المرير بين الابن والأب؛ وبارت نفسه سيعود في هذه الدراسة إلى موضوعة الأب، وسيشير في أكثر من مكان إلى هذا الصراع بين الابن وأبيه. لكن هل ذلك وحده ما كان يَـهُـمُّ راسين ويَـشغَـله؟

صراع الأب والابن

الملاحظ أن فرويد -وبارت من بعده- لم يلتفت في هذه الحكاية القديمة إلا إلى هذا الصراع بين الأب والابن (الأبناء)، وذلك أمرٌ مفهومٌ ومقبولٌ من مؤسِّـس التحليل النفسي الذي ينطلق من أن عقدةَ أوديب هي العقدةُ الأصليةُ التي يتأسس عليها الجهازُ النفسيُّ للإنسان؛ لكن هذه الحكايةَ القديمةَ لا تتحدث عن هذا الصراع فقط، بل ربما تركز أكثرَ على ذلك الصراع اللاحق بين الأبناء الذين قتلوا أباهم، وهو الصراع بين الإخوة الأعداء الذي لم يمنحه فرويد ولا بارت اهتمامًا ملائمًا، ربما لأن الافتراضَ الأساسَ في التحليل النفسيِّ الفرويديِّ هو أن جريمةَ قتل الأب هي الجريمة الأصلية، سواء في تراجيدية سوفوكل: أوديب الملك أو في هذه الحكاية القديمة التي تُـحدِّثنا عن تلك العصبة البدائية المتوحشة.

سيغموند فرويد

ومع ذلك، يمكننا أن نتساءل: ماذا لو التفتنا إلى هذا الصراع بين الإخوة الأعداء، ليس لأن هذه الحكاية القديمة تركز عليه أيضًا، بل لأن أولَ مسرحيةٍ تراجيديةٍ سيؤلفها راسين نفسه سنة 1664م، هي: مأساة طيبة أو الشقيقان، وكانت بالضبط عن الإخوة الأعداء: فهو سيعيد كتابةَ التراجيدية الإغريقية، وبالضبط تراجيدية سوفوكل التي سيستند إليها فرويد مؤسِّس التحليل النفسي في زمنٍ لاحقٍ، لكن إعادة الكتابة هنا ليست من أجل الحديث عن أوديب وأبيه، أي عن الابن وأبيه، بل من أجل التركيز على أبناء أوديب، أي على العلاقة بين الإخوة، وكيف اقتتل الأخوانِ على المُــلك، وكيف قتل إيتيوكليس أخاه بولينيس؛ وكأن راسينَ كان يعيد الاعتبارَ للمسرحية الثالثة عند سوفوكل: أنتيغون التي لن يوليها فرويدُ عنايةً كبيرة، مركِّزًا على المسرحية الأولى التي تدور حول قتل الابن لأبيه.

ماذا لو ركزنا على هذا الصراع بين الإخوة الأعداء؟ ماذا لو افترضنا أن قتلَ الأخ جريمةٌ تستحق الانتباه؟ ماذا لو قمنا باستخلاص عقدةٍ أخرى، وسميناها عقدةَ الأُخُوَّةِ وقارنَّـا بينها وبين عقدة أوديب؟؛ ألم يكن ذلك ليسمحَ بتحليلٍ نفسيٍّ أنثروبولوجيٍّ أكثرَ تحررًا من مسلمات فرويد؟ ماذا لو استحضرنا أن أولَ جريمةٍ، وأولَ حكايةٍ، في تاريخ الإنسان، تبعــًا للكتب الدينية والتاريخية، هي جريمةُ قتلِ الأخ: قتل قابيل لأخيه هابيل؟ ماذا لو استحضرنا الصراع بين النبي يعقوب –عليه السلام- وأخيه عيص، والصراع بين يوسف –عليه السلام- وإخوته؟ ماذا لو انتبهنا إلى أن حكايةَ الإخوة الأعداء قد كانت حاضرة، قبل عصر راسين، في العديد من المحكيات الأسطورية والدينية والأدبية؛ وأنها بقيت حاضرة، بعد زمن راسين، في الآداب الحديثة: فمن القرن التاسع عشر، يمكن أن نستحضرَ روايةَ الكاتب الروسي دوستويفسكي: الإخوة كارامازوف (على الرغم من أن الدراسات النفسانية منذ فرويد تركز على جريمة قتل الأب في هذه الرواية، فإن الصراع بين الإخوة بشخصياتهم المتعارضة على مستويات عديدة شيءٌ لا يمكن إغفاله)؛ وهناك روايةُ الكاتب الفرنسي كي دو موباسان: بيير وجان التي تجسِّد صراع الأخوين، بيير وجان، حول الإرث والنسب؛ وهناك روايةُ الكاتب الفرنسي ألكسندر دوما: السيدة الشاحبة التي تروي حكاية أخوين يتصارعان على حبِّ امرأة؛ أما من القرن العشرين، فمن الممكن أن نذكرَ روايةَ الروائي اليوناني كازانتزاكي: الإخوة الأعداء؛ ورواية الكاتب الجزائري محمد ديب الذي يكتب باللغة الفرنسية، وهي بعنوان: هابيل؛ ومن القرن الحادي والعشرين، وبعد رحيل بارت، يمكن أن نستحضرَ روايةَ الروائي البرتغالي ساراماغو: قايين (2009م)، وروايةَ ماكس جالو: قايين وهابيل، الجريمة الأولى (2011م)؛ وروايةَ الروائي السوري فواز حداد: السوريون الأعداء (2014م).

ونحن نفترض أن عقدةَ الأُخُوَّة تسمح لنا بأن نتجاوزَ التصورَ الفرويديَّ، الذي يركز على النمو النفسيِّ – الجنسيِّ القائم على ديناميةٍ نفسيةٍ داخليةٍ، إلى تصورٍ نفسيٍّ يحاول أن يؤسسَ تحليلًا نفسيًّا قادرًا على وصف هذا الفضاءِ العِـلاقِـــيِّ التفاعليِّ بين الذوات في فضائها العائليِّ الاجتماعيِّ المشترك:

أولًا- لأن وظيفةَ الأُخُوَّة أخطرُ من وظيفة الأمِّ أو وظيفة الأب، فإذا كانت وظيفةُ الأمومة هي الرعاية وبخاصة في مراحل النمو الأولى، وإذا كانت وظيفةُ الأُبُوَّة هي فصلك عن الأمِّ والدفع بك إلى العالم، فإن وظيفةَ الأُخُوَّة هي أن تتعلمَ التواصلَ مع الآخرين، وبناء روابط عائليةٍ واجتماعية، ومعالجة العناصر السلبية المدمرة (المنافسة، والغيرة، والكراهية، والعنف)، أي أن تتعلمَ تدبيرَ العلاقة بين الذات والغير، داخل نسقٍ من الروابط الاجتماعية والثقافية والرمزية، لما فيه خير الجماعة وصلاحها.

ثانيًا- يبدو واضحـًا أنه في الأُخُوَّة تستقر تجاربُ التواصل مع الآخر، ويجري اختبارُ القَــبول بالآخر، وامتحانُ الأنا في قدرتها على قَبول التقاسُم والتبادل والتضامن والتعاون بعيدًا من الغيرة والحسد والكراهية؛ والأخطر من ذلك أنه بروابط الأُخُوَّة تتأسس الروابطُ الاجتماعيةُ وتنتظم، فالجماعةُ الإنسانيةُ ليست ممكنةً إلا بتجاوز أنانيتنا وغيرتنا إلى التماهي مع الآخر، ذلك الأخ الشبيه، وباعتبار أن القوةَ لا يمكن أن تتحقق إلا في وجودنا بطريقةٍ جماعيةٍ، يطبعها التواصلُ والتماسكُ والتعاون، وتحتفي بقيم الحب والخير والحياة.

وإجمالًا، فنحن نفترض أن مسرح راسين قادرٌ على أن يساعدَ المحلِّــلَ النفسيَّ الأنثروبولوجيَّ على بناء تصوُّرٍ مغايرٍ للذي كرَّسته الأعمالُ الفرويدية، وأن بارت لم يتخلص تمامًا من التصور الأنثروبولوجي الفرويدي؛ وذلك لأن الإنسان الراسيني» لا يجد تفسيره في عُقدة أوديب فحسب، بل إن عُقدةَ الأُخُوَّة، في افتراضنا، هي التفسيرُ النفسيُّ الأنثروبولوجيُّ الجديدُ الذي يقدمه مسرحُ راسين.

ومع ذلك، يبقى أن بارت قد استطاع أن يتخلص، نسبيًّا، من ذلك النقد التقليديِّ الذي يجعل من العنصر البيوغرافيِّ مفتاحـــًا لقراءة الأعمال الأدبية، وأنه إذا كان يرفض فرويد الذي يربط بين الإبداع وحياة المبدع، فإنه قد جعَلَنَا ننفتح على هذا التفسير النفسيِّ الأنثروبولوجيِّ الذي ينطلق من داخل النصوص الأدبية من أجل أن يربطَ بين الأدب والإنسان، ولو أنه -أي بارت- لم ينجح، في افتراضنا، في العودة من الأنثروبولوجية الفرويدية بتحليلٍ نفسيٍّ أنثروبولوجيٍّ مختلفٍ عن الذي وضعه مؤسِّـسُ التحليل النفسي.

المنشورات ذات الصلة

الكشف عن روح الشعب الأدب المترجم بوصفه ممارسة للدبلوماسية الثقافية

الكشف عن روح الشعب

الأدب المترجم بوصفه ممارسة للدبلوماسية الثقافية

استيراد وتصدير المنتجات الأدبية بوصفها عنصرًا من عناصر سياسة الشؤون الخارجية هو الأساس الذي تقوم عليه هذه المقالة. ومن...

0 تعليق

إرسال تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *